الفصل التاسع والثلاثون

ندرة البطولة

كتب العالم الفاضل الأستاذ أحمد أمين بك مقالًا في الرسالة ذهب فيه إلى أن البطولة قد ندرت في العصر الحديث، فلا تجد في الشعر أمثال بشار وأبي نواس وابن الرومي، ولا في النثر أمثال ابن المقفع والجاحظ وسهل بن هارون، ولا في السياسة أمثال عمر بن الخطاب وعمر بن العزيز، ولا في الغناء أمثال إسحاق الموصلي وإبراهيم بن المهدي، وعلل ذلك على الجملة بانتشار التعليم وكثرة المتوسطين بين الناس.

وقد ناقشه صاحب الكتاب بالمقال الأول من المقالين التاليين، فنادى الأستاذ قائلًا: «إن كثرة العلماء والفنانين في عصرنا الحاضر حجة لي لا عليَّ؛ وهي السبب في أننا لا نعدهم نابغين ولا أبطالًا.» إلى أن قال: «فعصرنا الحاضر طابعه طابع المألوف والمعتاد لا طابع النابغة والبطل، وإن كان مألوفنا ومعتادنا أرقى من نابغة القرون الماضية وبطل القرون الماضية.»

وفي المقالين التاليين بيان لوجهة النظر الأخرى في هذا الموضوع:

١

العالم الفاضل الأستاذ أحمد أمين يروي ما يتحدث به فريق من المتشائمين حين ينعون على العصر الحديث ندرة البطولة، وقلة النبوغ، ويسأل معهم: «هل تجد في الشعر أمثال بشار وأبي نواس وابن الرومي وابن المعتز وأبي العلاء؟ وهل تجد في النثر أمثال ابن المقفع والجاحظ وسهل بن هارون وعمرو بن مسعدة؟! وهل تجد في الغناء أمثال إسحاق الموصلي وإبراهيم بن المهدي؟» وقس على ذلك بطولة الحرب والسياسة والزعامة وسائر البطولات.

ثم يعقب الأستاذ على ذلك قائلًا: «يظهر لي مع الأسف أن الظاهرة صحيحة، وأن الجيل الحاضر في الأمم المختلفة لا يلد كثيرًا من النوابغ، ولا ينتج كثيرًا من الأبطال، وأن طابع هذه العصور هو طابع المألوف والمعتاد، لا طابع النابغة والبطل.» ثم يستعرض الأسباب ويختمها بقوله: «ما أحق هذا الموضوع بالدرس وتناول الكتاب له من وجوهه المختلفة!» والموضوع — كما قال الأستاذ النابه — حقيق بالدرس والتناول من وجوه مختلفة، وليس له أوان يفوت بفواته، فإذا شغلتنا موضوعات أخرى عن تناوله في الأيام الماضية، فليس ما يمنع اليوم أن نبدي الرأي فيه.

رأينا أننا نخالف الأستاذ مخالفة النقيض للنقيض، ونعتقد أن العصر الحديث أغنى بالبطولة والنبوغ من كل عصر سلف بغير استثناء ولا تحفظ ولا تغليب للظن والاحتمال، وأنه ليس أسهل ولا أقرب من ظهور خطأ المتشائمين فيما وصلوا إليه من نتيجة؛ لأنه ليس أسهل ولا أقرب من ظهور الخطأ فيما اعتمدوه من قياس.

إن الوجه في المقارنة بين جيل وجيل أن نحصر الزمن وأن نحصر المزايا، وأن نحصر العناصر التي تقوم عليها شهرة الأدباء أو الأجيال.

وهذا الذي ينساه المفاضلون بين عصرنا الحديث والعصور الغابرة كل النسيان.

فمن أمثلة ذلك: «هل تجد في الشعر أمثال بشار وأبي نواس وابن الرومي وابن المعتز وأبي العلاء؟»

فالذين يسألون هذا السؤال يحسبون الماضي كله عصرًا واحدًا يقابله عصر واحد من الحاضر هو العصر الذي نعيش فيه … وينسون أن الزمن الذي نشأ فيه بشار والمعري يمتد من أواسط القرن الثاني للهجرة إلى أواسط القرن الخامس؛ أي نحو ثلاثمائة سنة!

وينسون أن المكان الذي نشئوا فيه يمتد من العراق إلى الشام، ومن الحضر إلى البادية.

وينسون أن العصر الحاضر الذي نعيش فيه لا يمتد إلى أكثر من أربعين أو خمسين سنة، وهو الزمن الذي يبدأ بفتوة الشاعر وينتهي بوفاته.

وإنما الوجه أن يحضروا أربعين أو خمسين سنة من العصور القديمة، ثم يعقدوا المقارنة بين هاتين الفترتين، فإنهم ليدركون إذن حقيقة التفاوت بين عصرنا الحاضر وبين كل عصر من تلكم العصور.

كذلك ينسى النعاة على المحدثين أن يسألوا أنفسهم: ما هي المزية التي كان بها النابغ القديم «أنبغ» من قرينه الحديث؟ فلا يسألون مثلًا: ما هو كتاب الجاحظ الذي يستعجزون أبناء عصرنا عن الإتيان بنظيره؟ فإن لم يكن كتاب، فما هو الموضوع، وإن لم يكن موضوع، فما هو المقال أو الجملة أو العبارة؟! ولو كلفوا أنفسهم سؤالًا كهذا لمالت معهم كفة الميزان، وعلموا أن الجاحظ ومن هم أكبر من الجاحظ يحتاجون إلى أن يتتلمذوا على أناس من المتخلفين، وقلما يعتزون بمزية واحدة لا يعدلها نظير من مزايا المتأخرين.

وأعجب من ذلك حديثهم عن الموصلي وإبراهيم بن المهدي، ومن جرى مجراهما من المطربين في العصور الأولى، فماذا سمعوا من هذا أو ذاك؟ ومن أين لهم أن الموصلي يبلغ شأو سلامة حجازي أو السيد درويش أو أم كلثوم، فضلًا عن السبق الذي لا يجارى والبون الذي لا يدرك؟

أما أنا فأغلب الظن عندي أن الأمر معكوس، وأن ألحان الموصلي لا تعدو أن تكون مزيجًا من تنغيم البدو وصبغة الحضارة المستعارة والآلات الناقصة، وكل ما يأتي على هذا الخط معروف الأصول، معروف النطاق، وإن يكن معروفًا بحروف النوطة وأصوات السماع.

كذلك ينسى المتشائمون أن يتقصوا عناصر الشهرة في العصور القديمة قبل أن يعقدوا المقارنة بينها وبين نظائرها في العصور الحديثة.

فدع أنهم ينسون أن يرجعوا إلى وقائع قائد مثل يوليوس قيصر أو الإسكندر المقدوني أو جنكيز خان قبل أن يرجحوهم في فنون الحرب على فوش وهندنبرج ومصطفى كمال، ولو أنهم رجعوا إلى تلك الوقائع لما أكبروا من شأن الانتصار فيها كل ذلك الإكبار.

ودع أنهم ينسون أن كل حرب لا بد فيها من ظافر ومن مهزوم، وأن الظفر وحده ليس بشيء إن لم ننظر معه إلى عوامله ودواعيه، ونتبين أنها صالحة للتكرار في كل وقعة وكل حين.

ودع أنهم ينسون أحكام المصادفات والعوارض، وأنها تندر في الزمن الحديث وتكثر في الزمن القديم.

دع هذا جميعه، فقد يكون في نسيانه بعض أعذار لمن ينسون، ولكن كيف تراهم يجارون الأقدمين في مبالغاتهم عن هؤلاء العظماء، وهي قائمة على دعاوى وأكاذيب، نحن على يقين من بطلانها كل البطلان؟ ألم يكن هؤلاء العظماء أربابًا وأنصاف أرباب وقديسين وأشباه قديسين في رأي الأقدمين؟ فكيف نقابل بينهم وبين خلفائهم في عصرنا قبل أن نسقط في الميزان تلك المبالغات وتلك الدعاوى والأكاذيب، إن هذا لخليق أن يضيف إلى فضل المتأخرين، لا أن يغض معه ويحيف عليه؛ لأنهم — وهم آدميون ليس إلا — يوضعون في الميزان أمام أرباب وأنصاف أرباب.

ليس في تاريخ بني الإنسان منذ بدايته إلى يومنا هذا عصر يعرض لنا من عجائب الحوادث والأمم والأفراد مثال ما يعرضه لنا العصر الذي نحن فيه.

ليس في تاريخ بني الإنسان عصر برز فيه من البطولة والمغامرة والدهاء والقدرة، والصبر على النصر والهزيمة مثل ما برز أمامنا في الحرب العظمى.

وليس في تاريخ بني الإنسان عصر تولى فيه عروش القياصرة والخواقين والأكاسرة وقبض فيه على أعنة السلطان رجال من «أبناء الشعب» كمصطفى كمال، ورضا بهلوي، وستالين، وموسوليني، وهتلر، وكابللرو، وكرديناس، وماذا عندنا من الأدلة على أن العصاميين في الزمن القديم كانوا أعجب وأدنى إلى البطولة في صنيعهم من هؤلاء؟

وليس في تاريخ بني الإنسان عصر واحد عرض لنا من نخوة الحب وفروسية العاطفة مثل ما عرضه لنا العصر الحاضر في غرام ملك الإنجليز السابق، وصديقته السيدة سمبسون، فماذا عندنا من الأدلة على أن غرام هيلانة في طروادة المزعوم كان أعجب وأدنى إلى البطولة من هذا الغرام؟ وليس في تاريخ بني الإنسان عصر واحد عرض لنا من أطوار الشعوب ما عرضته لنا الثورة الإسبانية، والثورة الروسية من قبلها، وعرضته معها الثورات في مصر والهند والصين، فماذا عندنا من الأدلة على أن عصر الثورة الفرنسية، أو عصور ثورات اليونان والرومان كان لها نصيب من العجب، وجلائل الخطوب أوفى من هذا النصيب الذي شهدناه؟

وليس في تاريخ بني الإنسان عصر أنجب في كل أمة نموذجًا يمثلها، كما أنجب عصرنا سعد زغلول وغاندي وسون ياتسن وشيان كاي شيك وفيصلًا وابن سعود.

وليس في تاريخ بني الإنسان عصر فيه ما في عصرنا من الحقائق التي تشبه الخيال والعبر التي تشبه نوادر الأمثال، والشواهد التي تتعدد على كل ملاحظة من ملاحظات النفس الإنسانية، والبواعث القومية، والطوارق السياسية … فعندنا وعلى مسمع ومشهد منا مصداق كل رأي حام في ذهن فيلسوف، وتطبيق كل مذهب دعا إليه داعية قديم أو حديث في عالم النظريات، وليس في تاريخ بني الإنسان مخاطرات أهول ولا أنبل من مخاطرات ركاب الطيارات والمظلات والغواصات المتفجرة، والسفن المدمرة التي يقع فيها الخطر كل يوم ويقع فيها الإقدام كل يوم، ولا مبالاة بالموت ولا بالخطر كأنهما رياضة من اللهو، أو لعبة من ألعاب الرهان.

فإن كنا لا نسمي ما نبصره ونسمعه عجائب وروائع، ولا نحسبها معارض للبطولة والنبوغ، فقد غيرنا الأسماء وقد بدلنا اللغة، وقد أصبحنا مطبوعين على النظر إلى البعيد دون النظر إلى القريب.

نعم إننا ننظر حولنا إلى عظيم في الشعر من طراز شكسبير، فلا نرى له ندًّا بين الشعراء المعاصرين، ولكن النوابغ من طراز شكسبير تتساوى فيهم جميع العصور، ولا يستأثر بهم القرن الذي نبغوا فيه، وهكذا كان أبناء القرن السادس عشر خلقاء أن يبحثوا في زمانهم عمن يضارعون نوابغ القرن العشرين في العلم والاختراع والموسيقى والفن كافة، فلا يجدوا بينهم أندادًا لهم يضارعونهم كثرة وقيمة … وإن العصر الحديث مع هذا ليفهم قصائد شكسبير خيرًا مما فهمها معاصروه، ويقدره خيرًا مما قدروه، ويمثل رواياته أكثر وأجمل وأبرع وأكفل بالإقبال والإعجاب مما كانوا يمثلونها في حياته.

أذكر أنني رأيت منذ سنوات في إحدى الصحف الإنجليزية صورًا لبعض العظماء الغابرين في أزياء العصر الحديث شفعتها الصحيفة بهذا السؤال: هل تعرفهم؟

وحق للصحيفة أن تسأل سؤالها الآن؛ لأن الصور التي رأيناها لأولئك العظماء قد سلبتهم كثيرًا من الهيبة، وبدلت ما حولهم من هالات الفوارق والمسافات التي يوحيها اختلاف المظاهر والأزياء.

وإن حاجتنا اليوم لشديدة إلى متحف يستعرض لنا عظماء الأمس في أزياء اليوم، وعظماء اليوم في أزياء الأمس؛ لنعرف مقدار ما نضيفه إلى الغابرين من هيبة الفوارق والمسافات، ومقدار ما نسلبه المعاصرين من جراء الألفة والمقاربة.

فإن تعذر علينا أن نرسم ذلك المتحف عيانًا فلنرسمه بالظن والتقدير، ولنرجع إذن إلى مقاييسنا وموازيننا نلمس مواضع الزيادة والنقصان فيها، ونصلح جوانب الغلو والبخس في كفايتها، ونغنم تصحيح الميزان في الحكم على الرجال والأزمان؛ لأن هذا التصحيح غنيمة أنفس وأجدى من تفصيل نابغ على نابغ، أو ترجيح جانب على جانب، إذ لا ضرر ولا قصور في اختلاف التفضيل والترجيح متى صحت النظرة واستقام القياس، تلك هي الحقيقة فيما يقال عن ندرة البطولة والنبوغ بيننا كما أراها، أما تواتر القول بندرتها بين جماعة من الناقدين، منهم أناس فضلاء محبون للإنصاف، فله أسباب قد تعود إلى تفصيلها ومناقشتها.

٢

إن كان هذا — يا أخي — هو الذي أردتُ فأظن أنه لا يرد عليَّ بمزايا العصر الحاضر، وعلم العصر الحاضر، وفن العصر الحاضر، وإذا كان النبوغ في السبق وكانت المقارنة بين عصرين بقياس مسافتي البعد، فأرجو أن نكون على وفاق فيما ذكرتَ وذكرتُ.

وموضع الوفاق بين ما قال الأستاذ وما قلت: أننا لا ينبغي أن نقيس علم السابقين إلى علم المحدثين، فليست المقارنة بين مقدار ما نعلم ومقدار ما يعلمون، وإنما المقارنة بين الملكات في الزمن الماضي، والملكات في الزمن الحاضر، وهذا ما نختلف عليه؛ إذ لا موجب عندي لأن تكون ملكات النابغين في عصرنا أقل مما كانت في عصر الأقدمين.

إن النبوغ صفة في أصحابها وليست صفة في غيرهم، فإذا تعلم غير النابغين أو لم يتعلموا، فصفة النبوغ باقية في أصحابها سواء ظهروا بين المتعلمين أو ظهروا بين الجهلاء، وكل ما هنالك من فرق أن النابغة الذي يظهر بين المتعلمين أنبغ من زميله الذي يظهر بين الجهلاء، وتلك شهادة للنابغين في العصر الحديث تضاف إلى ميزان الحسنات والمرجحات.

ومسافة البعد بين النابغ القديم ومعاصريه هي مسافة البعد بين نابغينا، وأبناء عصرنا إذا نحن تجاوزنا مسألة التعليم ووفرة المتعلمين؛ لأن النبوغ ملكة مطبوعة، والمسافة بين المطبوعين وغير المطبوعين اليوم هي هي المسافة بين الفريقين قبل مائة عام أو ألف عام، فليس فضل إديسون في زماننا أنه يعرف في علم الضوء وعلم الصوت ما ليس يعرفه أبناء عصره، ولكنما فضله أنه نابغ وهم غير نابغين، فأفاد بالعلم اليسير ما لم يفده الآخرون بالعلم الغزير، وظلت المسافة بينهم وبينه في النبوغ كالمسافة بين أرخميد ومن عاصروه من غير النابغين، وإن اختلف العصران في شيوع العلم وكثرة المتعلمين.

يقول الأستاذ الفاضل: «مقياس النابغة في نظري أن يفوق أهل زمانه، ويسبقهم في فنه أو علمه أو أدبه حتى لا يدركوه إلا بعد أزمان، وعلى مقدار هذا السبق يكون النبوغ، فسيبويه نابغة في النحو؛ لأنه رأى من قواعده ما عجز أهل زمانه عن النظر إليه.»

وأنا أقول كما يقول الأستاذ: إن النابغة يفوق أهل زمانه في معرض من معارض العلوم والفنون، ولكني لا أقول: إن عصرنا لم ينحب أمثال سيبويه، بل أقول: إن سيبويه لو عاش في عصرنا لما فاق نوابغه الأحياء، وإن نوابغنا الأحياء لو عاشوا في عصره لما قصروا عن شأوه؛ لأن الملكات التي تعرف وحدة الأسماء والأفعال بين لغات أوروبا ولغات آسيا لا تقل عن الملكات التي تعرف الوحدة أو الاختلاف بين قبيلة وقبيلة من أبناء البادية؛ لا لأن الأمر يرجع إلى كثرة المتعلمين عندنا وقلة المتعلمين قبل نيف وعشرة قرون.

وعندي أن المعاصرين ينظرون إلى نوابغهم وأبطالهم، كما كان الأقدمون ينظرون إلى النوابغ والأبطال في عصورهم، إلا من كان منهم موسومًا بسمة الدين أو محوطًا بهالة الإيمان، فالأستاذ يقول: إن نابليون ظهر «فاستبعد الناس وأجرى الدماء أنهارًا، وقلب الممالك رأسًا على عقب ودوخ الدنيا، فكان نابغة حقًّا في ناحية، وبيننا الآن في عصرنا من هم أعلم منه بفنون الحرب، ومن هم أقوى منه إرادة وأبعد نظرًا، ولكن من الصعب أن نسميهم نوابغ؛ لأن الناس ليسوا مغفلين كما كانوا أيام نابليون؛ ولأنه وحده كان هو القاهر المريد، ومن حوله كانوا المنفذين المأمورين، فظهر ولم يظهروا ونبغ ولم ينبغ بجانبه إلا قليل.»

فليت الأمر كما يبشرنا الأستاذ من هذه الناحية، إنما الواقع أن أحدًا من أبناء القرن الثاني عشر لم يناد بأن الإمبراطور معصوم، كما ينادي الفاشيون من أبناء القرن العشرين بعصمة «الدوتشي» وطاعته بغير تفكير ولا امتعاض.

والواقع أن نابليون لم يجسر يومًا على صنيع كالذي صنعه «الفوهرر» قبل ثلاث سنوات من «تطهير» البلاد بلا محاكمة ولا سؤال.

وقد كان «لنين» ينحي على القديسين، ولا يعترف للعظماء بأثر في توجيه التاريخ إلا الأثر الذي يعترف به الشيوعيون، فلما مات أقاموا له ضريحًا لم يحلم به كاهن ولا راهب في عهد القياصرة أو عهد الكنائس والقديسين.

وإننا لنسمع كل يوم عن الألوف التي تندفع حول نوابغ الصور المتحركة للظفر بتوقيع بطاقة أو صورة شمسية، كما نسمع بالألوف التي تندفع من أجل هذا حول أبطال الألعاب الرياضية، وأبطال السياحة والطيران، وأشباههم من أصحاب الشهرة في كل ميدان يتصل بالجماهير. أما العلماء والأدباء فمن نبغ منهم واشتهر فليس نصيبه من الإعجاب والجزاء بأقل من نصيب أمثاله قبل أجيال وأحقاب، ومن لم ينبغ ولم يشتهر فله قرناء يماثلونه بؤسًا وغبنًا وشظفًا في أقرب العصور وأبعد العصور.

لا، بل نحن لا نستثني أصحاب المكانة الدينية على إطلاق الاستثناء، فما يربحه الدعاة باسم الدين اليوم لا يقل عما كانوا يربحونه في الأيام الخالية، والثقة بأغاخان اليوم وهو يعيش في أوروبا عيشة المترفين المتطلقين لا تقل عن الثقة بإمام زاهد عاكف على العبادة كان يعيش في صومعته قبل عصر الكشف والاختراع.

ولم ننفرد نحن بإكبار البعيد في الزمان أو المكان، وترجيحه على أنداده وقرنائه الذين نراهم رأي العين، ونعرفهم بالمصاحبة واللقاء، فقديمًا كانوا يقولون: إن زامر الحي لا يحظى بإطراب، وقديمًا كان الجاحظ يكتب الرسائل وينحلها الكتاب الأسبقين ليحظى بالإصغاء والتقريظ.

وأحسب أن إيثار الماضي على هذا النمط له علة شائعة، بل علل شائعات لا تنحصر في وقت ولا يخلو منها قبيل.

فالماضي يشبه المثل الأعلى؛ لأنه غائب عن الأنظار كالمثل الأعلى في هالاته وخيالاته، أما الحاضر فهو كالواقع المحسوس الذي نحب أبدًا أن نتجاوزه ونطمح إلى ما وراءه.

ولقد كان المشركون ينكرون النبي — عليه السلام — ولا ينكرون منه إلا أنه «يأكل الطعام ويمشي في الأسواق»، ترى، هل كان الأنبياء فيما مضى لا يأكلون طعامًا ولا يمشون في سوق؟ كلا بل كانوا يأكلون ويمشون، ولكنهم بعدوا واحتجبوا فخيل إلى غير معاصريهم أنهم مختلفون.

ومن العلل التي تجنح ببعضهم إلى تهيب «السلف الصالح» أننا ننظر إليهم كما ننظر إلى الآباء والأجداد، كأنهم كبار ونحن صغار؛ لأنهم ولدوا قبلنا بمائة عام أو مئات من الأعوام، وينسى المتهيبون أن السابقين كانوا أطفالًا في سن الطفولة، وأننا سنصبح شيوخًا مع السنين أو نربي في الشيخوخة على أولئك الآباء والأجداد.

ومن تلك العلل ما أومأنا إليه في مقالنا الأول عن سهو الذين يقارنون بين الماضي والحاضر، فيجعلونهما كفتين تتساويان في نطاق الزمان والمكان، مع أن الحاضر زمن واحد، والماضي حاضر قد تكرر عشرات ومئات.

وعندنا — نحن الوارثين للثقافة العربية — سببان آخران لا يلحظان بهذه القوة في جميع الشعوب: أحدهما أن العربي يعتز بالأنساب وينوط الفخار كله بماضيه؛ لأنه من سلالة القبائل التي تغلب فيها العصبية، وترسخ فيها الأصول.

والثاني أن الماضي أقرب إلى منشأ الدين، فيخيل إلينا أن الأقدم فالأقدم هو الأصلح، فالأصلح والأعلم فالأعلم، وإن لم تدلنا الدلائل على اطراد هذا القياس.

•••

تلك الأسباب كلها خليقة أن تضاعف احتراسنا كلما عمدنا إلى الموازنة بين حاضر وغائب وقريب وبعيد، فهي صنجة تؤخذ من كفة الأقدمين، وتضاف إلى كفة المحدثين في ميزان الإنصاف، ومما لا شك فيه أن ملكات النبوغ لا تقل في عصرنا، بل هي أحجى أن تزيد وتنشط، بل هي قد زادت ونشطت فعلًا باتساع مجال السعي والمنافسة والتفكير والاستنباط … ومما لا شك فيه أن الأقدمين لم ينظروا إلى معاصريهم إلا كما ننظر نحن إلى معاصرينا، وأنهم لم يشعروا قط بتلك المهابة التي نضفيها عليهم الآن، ولا بذلك الترجيح الذي نمخضهم إياه. أما أنهم كانوا يرون نوابغهم وأبطالهم كما نراهم الآن فذلك ما نخالف فيه الأستاذ؛ لأنه خلاف المعهود والمروي والمسطور، وهبهم أكبروا معاصريهم لأنهم قلائل، وأصغرنا معاصرينا لأنهم كثيرون لا نادرون كما يقول الأستاذ الفاضل، فإنما يكون ذلك كالذهب الذي يكثر تداوله فيرخص سعره وهو ذهب لا شك فيه، وإنما يكون النبوغ نبوغًا ولا يكون شيئًا آخر مهما يكن حظ الناس من التعليم؛ لأنه ملكة في الطباع لا يختلف كنهها، وإن اختلفت أنظار الناس إليها، ولا تزال الإنسانية بحاجة إلى الكثير منها والقليل.

وخلاصة القول: أننا نستطيع أن نقول مع الأستاذ الكبير: إن النبوغ في عصرنا كثرة لا ندرة، ولا نستطيع أن نقول معه: إن المسافة بين النابغ وسواد الناس تقترب في العصر الحديث؛ لأن ازدياد التعليم يزيد نصيب المتعلم من المعرفة، ولا يخوله فطرة أخرى ولا ملكة مطبوعة، كتلك التي يخلق بها النابغون الممتازون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤