خامسًا: الخلافة والإمامة والنبوة
وتأتي النبوة في النهاية لأنها تشريعية في حين أن الخلافة تنفيذية، والإمامة تأويلية. فالترتيب الطبيعي النبوة فالخلافة فالإمامة، حين أن الترتيب الفعلي النبوة فالإمامة فالخلافة. فالإمامة أقرب إلى النبوة، والخلافة أبعد عنها. إذا اجتمعت الخصال في واحدٍ كان هو النبي أو الإمام بعده، وإذا اجتمعت في جماعة كانت هي خليفة من بعده.
وعند الإخوان خلفاء الأنبياء الأئمة، ظاهرون في الدور الأول وهو البدن، ومستورون في الدور الثاني وهو النفس. فقد عقدت النبوة للإمامة باللواء.
والخلافة عند الإخوان نوعان؛ خلافة النبوة وخلافة الملك، الخلافة الدينية والخلافة السياسية؛ ومن ثَم أصبح الملك والسلطان من موضوعات الخلافة. الملك النبوي بمنزلة الخلافة، نموذج الرئاسة في الدولة، لا فرق بين نبوة وإمامة.
(١) الخلافة والإمامة
عند الإخوان الإمامة خلافة النبي، وهي ألصق بالنبوة من الخلافة، والخلافة أبعد عن النبوة من الإمامة. والإمام عند مسكويه هو الحاكم بالسوية، وهو الذي يقضي على أنواع الجور، هو نموذج وقدوة، لا يُعطي نفسه أكثر من غيره.
واللفظان يدلَّان بالضرورة على التقابل بين السنة والشيعة؛ الخلافة عند أهل السنة، والإمامة عند الشيعة. صحيحٌ أن الشيعة لا يستعملون لفظ الخلافة، ولكن الإمامة مصطلحٌ سُني أيضًا في علم أصول الدين وفي الفقه، الإمامة الكبرى أو الإمامة الصغرى.
(أ) الخلافة في الأرض
والخلافة عند الإخوان أقرب إلى الثيوقراطية، خلافة الله على لسان المُعارض وتأصيل ذلك في القصص القرآني. آدم أول خليفة، وإبليس أول عدو، طبقًا لثنائية الخير والشر. اعتراض إبليس على آدم ورفضه السجود، ووصية آدم لذريته، تدل على خلافة النبوة في الإمامة، وهو بيت التوحيد. الخلافة في الأرض تكرار واستئناف لخلافة السماء؛ لآدم والعِصيان. فتاريخ الملوك هو تاريخ العِصيان، خلافة صورة الإنسان في الأرض، في المعادن والنبات والحيوان. ملوك الحيوان قوة وبطش وعُدوان، في حين أن ملوك النبات والمعادن حسن خلق.
والخلافة عند مسكويه تُطهر الإنسان؛ فهي سلطةٌ تربوية عكس ما هو شائع في هذا العصر من أنها مفسدة.
والمؤهَّلون للخلافة أربعة، من أعلى إلى أدنى؛ الحكماء، ثم أهل الحسب والنسب، ثم أصحاب الثروة، ثم العامة. الخليفة هو الحكيم أولًا، ثم الشريف ثانيًا، ثم الغني ثالثًا، ثم الشعبي رابعًا. ومن ثَم يصعب أن يكون الخليفة من عامة الناس. يتقدم عليه الغني والشريف، ويتقدم الحكيم على الجميع.
والسؤال هو: هل الإمامة أصل من الأصول كما هو الحال عند الشيعة، أم فرع من الفروع كما هو الحال عند أهل السنة؟ هي عند الإخوان فقهيات من أمهات مسائل الخلاف بين العلماء. ومع ذلك تبدو من الألفاظ المستعمَلة مثل المفسِّر والإمام والوحي. ووظيفة الإمام أنها أقرب إلى الأصول منها إلى الفروع. ويضرب الإخوان المثل بالإمامة لبيان الاختلاف في الآراء والديانات. تاهَ فيها الخائضون إلى حُججٍ شتَّى، وكثُر فيها القيل والقال، وتقاتل الناس حولها، وبدت البغضاء، وسُفكت الدماء، واستُبيحت الأموال بسببها حتى عصر الإخوان، بل وحتى الانقلابات العسكرية في العصر الحاضر، وتشعَّبت فيها الآراء إلى ما لا نهاية.
(ب) وظائف الإمام والداعية
والأصل فيها احتياج الأمة إلى إمام، خليفة للنبي، وحفظًا للشريعة، وإحياءً للسنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما تحتاج الأمة إلى خلفاء الإمام لجبابة الخراج وأخذ الأعشار والجزية، وتفريقها على الجند والحاشية، وحفظ الثغور وتحصين البيضة وقهر الأعداء، وحفظ الطرقات من اللصوص والقُطاع، ودفع المظالم وردع القوي عن الضعيف، يُنصف ويعدل بين الناس. يرجع إليه فقهاء المسلمين وعلماؤهم لحل مشكلاتهم في أمر الدين، ويكون حكمًا بينهم حين الخلاف في الفقه والأحكام والحدود والقصاص والصلوات والجمعات والأعياد والحج والغزو وتولية القضاء والعدول والفتاوى. ويمكن تطوير هذا الجزء وجعله تحصين الثغور والذب عن البيضة والدفاع عن الأوطان.
وهناك مراتب أربع للمدعوِّين؛ الكفار، لا ظاهر ولا باطن. والمنافقون، ظاهر دون باطن، تصديق باللسان وتكذيب بالقلب. والمسلمون، ظاهر دون باطن، إيمان باللسان وشك بالقلب. والمؤمنون ظاهرًا وباطنًا. وهي قسمةٌ رباعية بين الإيجاب والسلب كما هو الحال في أحكام التكليف الخمسة باستثناء المُباح.
والحقيقة أنه ليست من وظائف الإمام وضع العقائد، بل وظيفة عملية تقنينية خالصة، ولا وضع الشرائع، بل استنباط الفروع من الأصول. وواضحٌ من نسق العقائد ابتداءً من التوحيد ونهايةً بالإمامة إسقاطُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وبالرغم من أهمية انتشار الإسلام في أفريقيا وأمريكا عن طريق دعاة الشيعة إلا أن الشهداء أرفع الناس درجة؛ فالشهادة من الشاهد والشهيد.
وعند ابن سينا، الإمام هو العلني ظاهرًا أو باطنًا كما هو الحال عند أهل السنة، وليس الإمام الخفي المستور كما هو الحال عند الشيعة. تجب له الطاعة، وليس النصح أو العزل أو الثورة عليه. وإذا افترق الناس أو تنازعتهم الأهواء أو اجتمعوا على غير ما يستحق فقد كفروا، مع أنه لا يجوز اجتماع الأمة على ضلالة، ولا يجوز تكفير أحد من المسلمين، والأولى تكفير الجماعة. تتركز السياسة في شخص الحاكم. ويغيب دور المؤسَّسات والنُّظم السياسة إلا في إشاراتٍ قليلة في المعاملات.
وكيفية تنصيب الإمام طريقان؛ الأول طريق النبي، والثاني طريق إجماع السابقين على من يتَّصف عند الجمهور بثلاث صفات؛ الاستقلال في السياسة وليس التبعية للسلطان، أصالة العقل والاتصاف بالأخلاق مثل الشجاعة والعفة وحسن التدبير، والعلم بالشريعة؛ أي الاتصاف بالعلم.
- (١)
فرض العبادات في أمور التعظيم مثل الأعياد والاجتماعات، والتمسك بالجماعة والدعاء للناس، والدعوة للشجاعة والمنافسة لإدراك الفضائل ونزول البركات. وكأن الفيلسوف الإشراقي قد تحوَّل إلى صوفي خالص. وظيفة الإمام هنا احتفالية شكلية مواسمية خالصة.
- (٢)
الاشتراك في المعاملات التي تقوم عليها المدينة مثل المناكحات والمشاركات الكلية، وهي الأحوال الشخصية. وكأن الإمام يتدخل بشخصه فيها، وليس عبر المؤسسات القضائية وأحكام الشريعة والنُّظم التشريعية مثل العقود والخراج. وتشمل أيضًا المعاملات التي بها الأخذ والعطاء، وفرض السنن التي تمنع من وقوع الظلم مثل المعاملات التجارية. يمنع المعاملات الظالمة مثل الصرف والنسيئة كما هو معروف في الفقه، ويسن القوانين لمعاونة الناس بعضهم لبعض ووقاية أموالهم، مثل القوانين الاجتماعية التي تُنظم الجمعيات الأهلية. ويُقاتل الأعداء ويُبيح أموالهم وفروجهم؛ لأنها ليست من المدينة الفاضلة. وهي تشريعاتٌ قديمة ارتبطت بعصرها؛ فمعاملة المُحاربين والأسرى والأراضي تحت الاحتلال تحكمها القوانين الدولية. وواضحٌ هنا الجمع بين السياسات الداخلية والخارجية في المعاملات.
- (٣)
تأمين حماية البلاد في الخارج وأمانها في الداخل. قد تكون للمدينة سنةٌ حميدة، فإذا أوجب الوقت التصريح بأنه لا سنة غير السنة النازلة فإنها قد تسنُّ على الأمم الضالة، وتحمل على العالم بأسره. وإذا رأت المدينة الحسنة هذه السنة محمودة، وأن في تجددها إعادة أموال أمم فاسدة إلى الصلاح، ثم صرَّحت بعدم قبول هذه السنة وكذبت بأنها نازلة على المدن كلها، كان ذلك وهنًا عظيمًا عليها، ويكون للمُخالفين الاحتجاج في ردها بامتناع أهل المدينة عنها. حينئذٍ يجب تأديبها ومجاهدتها دون مجاهدة أهل الضلال أو إلزامهم غرامة، ويكونون من المُبطلين لإنكارهم الشريعة النازلة، فإما أن يهلكوا عن استحقاق إفسادًا لأشخاصهم وبقاءً لصلاحهم، خاصة وأن السنة الجديدة النازلة أفضل. واضحٌ أن ابن سينا يُحاول تعقيل فقه الحرب والسلم، والجهاد والفتح، الإسلام أو الجزية أو القتال. ويعترف بوجود سنن فاضلة بالفطرة وبحكم العقل، شرع من قبلنا، والشرائع السابقة، وسنن الأمم، الصابئة أو المجوس أو البراهمة، أو شرائع الأنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى. يخشى عليها من الأمم الفاسدة؛ فالعقل في حاجة إلى نقل، والنقل في حاجة إلى عقل. ومهمة الشريعة الكاملة صلاحها وإكمالها، والأوجب تأديبها لأنها أخذت نصف الحق دون النصف الآخر؛ فهم ليسوا من أهل الضلال الصِّرف. ويمكن مسامحتهم على فداء أو جزية دون اعتبارهم من المدن الضالة.
- (٤)
توقيع العقوبات، وإقامة الحدود للزجر والمنع من معصية الشريعة؛ إذ لا ينزجر كل إنسان خشيةً من الآخرة. العقوبة المادية العاجلة ضرورية؛ إذ لا تكفي الخشية من العقوبة المعنوية الآجلة. والأفعال التي يُعاقَب عليها هي تلك الأفعال المُخالفة للسنة، المؤدية إلى فساد المدنية، مثل الزنا والسرقة والتواطؤ مع العدو. أما إضرار الشخص لنفسه فجزاؤه التأديب فحسب. وقد وُضعت السنن على حد الاعتدال في العبادات والمزاوجات والمزاجر دون تشدُّد أو تساهُل.
- (٥)
الاجتهاد في المعاملات؛ لأن الأحكام تتغير بتغير الأوقات، ولا يمكن ضبطها في صياغةٍ واحدة منذ البداية وحتى النهاية، ويتطلب ذلك تطوير التشريع طبقًا لتطور الزمان. ولا يجوز فرض الأحكام الجزئية أو الكلية لأن الزمان مُتغير، ويُترَك ذلك إلى أهل الشورى والعلم. وهي مهمةٌ جماعية وليست بالضرورة وقفًا على الإمام.
- (٦)
تنظيم المدينة في الداخل والخارج؛ أي التجارة الداخلية والخارجية، وتسليمها وتقوية التطور. تلك مهمة السايس من حيث هو خليفة بمعرفة الحفَظة؛ أي جهاز الدولة. وهو ما استبقاه عمر بعد فتح فارس من تدوين الدواوين. مهمة الإمام إذن الاقتصاد والحرب، التجارة والدفاع، البضاعة والسلاح.
- (٧) سن الأخلاق والعادات، مع أنها مجرد أعراف جماعية أو عادات فردية تدخل ضِمن إطار الحريات الاجتماعية والحقوق الفردية. ويعتمد الإمام في ذلك على تعريف الحكماء للفضيلة بأنها وسط بين طرفَين؛ وذلك من أجل كسر غلبة القوى النفسية، وإزكاء النفس وتخليصها من أواصر البدن ومفارقتها له واستعلائها عليه، ثم استعمال القوى للمصالح الدنيوية، والاستفادة من الملذَّات لبقاء البدن واستمرار النسل، وتوظيف الشجاعة للمحافظة على المدينة.٨ ويجب تجنُّب الإفراط في المصالح الإنسانية والتفريط لضررها على المدينة. والحكمة النظرية لا توسط فيها، بل التوسط في الحكمة العملية وحدها، في الممارسات العملية وسلوك الناس دون الوقوع في «الجريرة»؛ أي الانشغال بالدنيا والحرص عليها. يُحقق الإمام إذن الفضائل الثلاث؛ العفة والشجاعة والحكمة، والعدالة هي التوسط بين هذه الفضائل الثلاث في فضيلةٍ رابعة. فالدواعي ثلاثة؛ شهوانيةٌ تدفع إلى فضيلة العفة، مثل لذة المنكوح والمطعوم والملبوس والراحة. وغضبيةٌ تدفع إلى فضيلة الشجاعة، مثل الخوف والغضب والغم والأنفة والحقد والحسد. وتدبريةٌ تدفع إلى فضيلة الحكمة.٩ والسعادة هي اجتماع الحكمة النظرية والعملية. والرب الإنساني اجتماع الفضائل النظرية مع الفضائل العملية مع النبوة، تكاد تحل عبادته بعد الله. سلطانه العالم الأرضي، وخليفة الله فيه، اقترابًا من التصور الشيعي الإمام الذي يصل إلى حد الألوهية.١٠
والحقيقة أن المؤلف من علماء القرن الحادي عشر، أي من المتأخرين، يريد إرجاع الحكمة إلى الكلام باعتباره العلم المستمر بعد نهاية الفلسفة بموت ابن سينا في العالم السني، وبصدر الدين الشيرازي في العالم الشيعي، وتحويلها إلى فرع من فروع علم الكلام. فابن سينا شيعي، يتم تحويله من حكيم إلى أحد رؤساء الفِرق الكلامية، واستمرار المشكلة إلى هذا القرن المتأخر. وقد يكون السبب استمرار تكفير الفلسفة والفلاسفة وإخراجهم من دائرة المركز، أهل السنة. وقد يكون دفاعًا مبطَّنًا عن ابن سينا لإخراجه عن حكم الغزالي بتكفير الفلاسفة، وإثبات أنه ليس زيديًّا ولا سنيًّا ولا كافرًا، بل موحِّد مؤمن إمامي. وقد يكون الحكم على ابن سينا على هذا النحو هو تبادل علوم الحكمة في مرحلة الموسوعات (ابن سينا) بعد مرحلة الأشخاص (الكِندي والفارابي).
(٢) الملك والسلطان
وهما تعبيران مُتداخلان، ولفظان قرآنيان. الملك هو الملك النبي مثل داود وسليمان، والسلطان هو الملك الذي يجد شرعيته في الدين. في الملك النبي الأولوية للنبوة على المُلك، فالنبوة بلا ملك مثال بلا واقع، دين بلا دولة، عقيدة بلا شريعة. وفي السلطان الأولوية للمُلك على النبوة، فالملك بلا نبوة سلطةٌ جائرة، واقع بلا مثال، شريعة بلا عقيدة.
(أ) الملك النبي
والملك عند الإخوان هو صاحب السلطة التنفيذية. يعمل لدى الإمام خليفة النبي. مهمته أخذ البيعة وترتيب الخاص والعام، وجباية الخراج والعُشر والجزية، وتفريق الأرزاق على الجند والحاشية، وحفظ الثغور، وتحصين البيضة، وقبول الصلح والمهادنة، وإعطاء الهدايا لتأليف القلوب.
ويظهر من القصص الرمزي أن الملك هو النبي كما قال داود وسليمان. الدين دولة، والدولة دين. والتوحيد بين النبوة والملك ليس حرصًا على الدنيا، بل حرص على الدين؛ فالملك عارض لأسبابٍ عديدة. فلو كان الملك في غير أمته لردَّهم عند دينهم أو عذَّبهم كما فعل فرعون مع بني إسرائيل. وقد قال أردشير إن الملك والدين توءمان. والناس بطبائعهم لا يرغبون إلا في دين الملوك، ولا يرهبون إلا منهم. والناس على دين ملوكهم كما لاحظ ابن خلدون فيما بعد. والسؤال هو إذا كان الملك عارضًا، فكيف يمكن تأسيس الدولة وتحقيق الدين كنظامٍ شرعي للعالم؟ السلطة تنشأ في المجتمع أولًا أي الدولة، ثم تبحث بعد ذلك عن شرعية بالدين أولًا، وبالمذاهب السياسة ثانيًا. وإذا كان في طبيعة الناس الرغبة في دين الملوك، كيف يمكن إذن تفسير ثورة الأنبياء على دين الملوك، مثل ثورة موسى ضد فرعون، وعيسى على اليهودية، ومحمد على دين قومه، وإبراهيم على قومه عبَدة الأصنام؟ بل إن تاريخ الأنبياء هو تاريخ الثورات على ديانات الملوك.
ويُعطي الإخوان تأويلًا لحكاية الملكَين ببابل هاروت وماروت على أن ملكًا من ملوك الفُرس عليه نعمةٌ ظاهرة، مُنغمس في الدنيا، ووزيره عاقل طبقًا لثنائية الخير والشر، ثم مرِض الملك وعز الطبيب والدواء. ويكثر الخروج على الملك والرغبة في الانقضاض عليه إذا علِم الناس مرضه؛ مما يدل على جو القلق السياسي، وخاف الوزير من السؤال، في حين كان الملك يتوقع السؤال كما هو الحال في أسباب النزول.
والشيخ البعيد له اثنا عشر تلميذًا مثل حواري المسيح. أرسل رسولَين إلى الملك لتعليمه العلم الرياضي والعلم الإلهي؛ العلم الإلهي ملك، والعلم الرياضي وزير. ولم تنجح وصايا الشيخ. وقد حاول الرسولان الجمع بين السعادتين، الدنيا والآخرة، واستحال ذلك، وفرض الواقع نفسه، اختيار أحد النقيضَين، وهو أقرب إلى النموذج المسيحي منه إلى النموذج الإسلامي.
كما تدخل الصداقات والرياسات في الخيرات في مقولة الإضافة؛ فلا رئيس بلا مرءوس، ولا صديق بلا صديق. الرياسة ضد الغاية في ذاتها، بل غايتها عملية، في التدبير والإدارة والحكم.
والسلطان له أيضًا تضييقاتٌ أكثر من العامة لأنه قدوة، وحفاظًا على الصحة مثل تعامله مع الأضداد والحُساد، وحاجته إلى المؤن في الإصلاح، ولومه باستمرار واستبطائه، واستزادة الأهل والأصدقاء منه، وتحريم ذلك على أهله وحريمه وخاصته، وحصاره بين الفقراء والأغنياء.
(ب) سلطان العصر
ويُصور التوحيدي أحوال العصر، وهو الوحيد من بين الفلاسفة الذي يخرج من أحكام الحكمة النظرية المجردة، بنت العقل الخالص، إلى الواقع الاجتماعي بكل أزماته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وممارساته الأخلاقية؛ فكل فكر هو رد فِعل على ظروف العصر. فالتأليف ليس كتابًا مقررًا كما هو حادث في هذا العصر، بل تعبير عن أزمة مجتمع، وبؤس مؤلِّف، وحياة مفكِّر، ووجود كاتب.
وآفة العصر الحسد والفساد؛ فالمجتمع مجموعة من الطرَّارين، أي النشَّالين، وقُطاع الطُّرق والخائفين المُستلقين الذين يضربون على القفا، والذين يُكفرون بعضهم بعضًا في الميادين العامة وفي أجهزة الإعلام بلغة هذا العصر، والدس على الآخرين لإفساح المجال للنفس. وتنحسر الأمة في الطبقة، والولاء للجماعة هو ولاء للطبقة؛ فالإنسان ابن طبقته. كما تتلخص أزمة العصر في انتشار الفحشاء، وفساد العلماء، وانتشار الجهل، وظهور البغي، وفساد الدين، وسطحية الناس، وفقدان الصديق. زادت الإباحية، وأصبح ذكر الله لغوًا على الألسنة، وظهور القلب من الفكر، وكدر الوقت، وعكر الأمر، وقذر الحال، وتكرار القول، ونكران الفعل، وخوار البناء، وقبح الوجه، وغلبة الغفلة.
والرعية وديعة من الله عند السلطان، يرعاها ويستثمرها، ويدبِّر أمورها، ويبحث عن أسباب شكواها. فلا شكوى بدون سبب يوفِّرها لها العمل أو الإعانة من بيت المال مع ملاطفة المُعترض واستئناسه. ومع ذلك يُعطي أبو سليمان الحق للرعية في مراجعة السلطان، في حين أن البطانة تريد عقاب الخارجين عليه والمُناوئين له بالقتل والسجن والتعذيب. ويستحيل ترك خدمة السلطان إلا بدينٍ متين ورغبةٍ شديدة في الآخرة، وفطامٍ صعب من الدنيا، ولسانٍ يلغ بالحلو والحامض. والسلطان ضرورة للفكر والأدب، وليس فقط للسياسة والرياسة، مدحًا له وتقربًا إليه، وشحاذة من الدنيا؛ فهو المفكِّر الأول والمُناظر الأول والمُحاجج الأول. والسؤال هو: هل السلطان يسوس الناس وهو المُطيع لله كالقطيع؟ وماذا لو عصى الناس السلطان؟
وإذا كان التملُّق سلوكًا فإنه يتوجه لله وللسلطان والوزير ولأي رئيس، ولا فرق بين الراعي لله والسائل للسلطان والساعي للوزير. وبقدر اتساع الأمل عند المدَّاحين بقدر ما يجدون القدر للممدوحين على الجفاء، وعدم العطاء بكثرة الانشغال. والحقيقة أن شكوى الزمان ليست لله أو للسلطان أو للوزير، بل هي من ضعف النفس، في حين أن التراث القديم ينعى المدَّاحين قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ؛ مما دفع بأبي موسى المردار من شيوخ المعتزلة إلى تكفير كل من جالس السلطان كرد فِعل على من حرَّم نقد بَغلة السلطان. ويظل الأفغاني في حياتنا المعاصرة حدثًا عندما يجعل السلاطين أحد أسباب انهيار الأمة.
ويتعرض أبو حيان على لسان الفيلسوف لبعض الموضوعات الاقتصادية مثل الغنى والفقر، وهو ما تعرَّض له أيضًا علم الكلام ضِمن موضوعات العدل، ويُعطيه المعنى الصوفي. الغنى والفقر في النفس وليس في الوضع الاجتماعي والمستوى الاقتصادي، في الداخل وليس في الخارج. وتُساعد في ذلك ثنائية الجوهر والعرَض. الغني ماليًّا غني بالعرَض فقيرٌ بالجوهر، والفقير ماليًّا غني بالجوهر فقيرٌ بالعرَض. وقد يكون الغنى والفقر في الأخلاق؛ فالغني هو القادر على التمسُّك بالأخلاق والامتناع عن الشهوات، والفقير هو المُنكب عن الشهوات، العاجز عن السيطرة على الأهواء والانفعالات. وقد يكون الغنى والفقر في السلوك الفاضل، في الصدق والغش؛ أي في العاجلة؛ فالغني غشًّا فقير صدقًا، والفقير غشًّا غنيٌّ صدقًا. وقد يكون الغنى والفقر في علاقة الدنيا بالآخرة؛ فالغني في الدنيا فقير في الآخرة، والفقير في الدنيا غني في الآخرة. هذا مع الاعتراف بأن الغنى عز، والحاجة ذل، والخروج من المستوى النفسي الأخلاقي الديني إلى المستوى الاجتماعي الاقتصادي.
كما يتعرض لبعض موضوعات التوافق الاجتماعي، ووحدة الأمة فيما يتعلق بأهل الذمة، والسلام عليهم مبادرةً أو ردًّا، كما يتم التعرُّض لبعض الموضوعات العسكرية مثل الحرب والحزم والتيقظ وقلة الاستهانة بالخصم؛ فالعساكر لا تُساس بالتواني، والحروب لا تُدبَّر بالاعتزاز. ومن آفات العصر تحوُّل الحرب من الفتح والجهاد إلى القتل والغزو والنهب.
(٣) النبوة والتشريع
وتبلغ قمة الفكر السياسي في النبوة والتشريع؛ فالشريعة هي حلقة الاتصال بين الله والعالم، بين الوحي والواقع، بين النبوة والمجتمع. والتشريع ليس فقط للمجتمع، بل أيضًا للكون كما هو الحال في الناموس الربَّاني عند الإخوان، ثم يأتي النقيض في إبطال النبوَّات عند الرازي وإثبات القانون الطبيعي للبشر، ثم يأتي الجمع بين الدعوى ونقيضها في التشريع الاجتماعي للأسرة والمجتمع عند ابن سينا في جدلٍ ثلاثي تاريخي وبنيوي في آنٍ واحد.
(أ) الناموس الربَّاني
وعند الفارابي معقولات الأشياء الإرادية التي تُعطيها الفلسفة العملية توجد في النواميس، ويمكن استنباطها لتحقيق السعادة القصوى منها. وواضع النواميس قادم للفيلسوف إلا إذا كان هو فيلسوف فلا رئيس ولا خادم. النواميس هي الشريعة، والفلسفة هي الحقيقة. واضع النواميس هو الفقيه أو النبي، وواضع الفلسفة هو الحكيم أو الفيلسوف. وتتحول الأشياء النظرية إلى أشياء عملية، إما مخيَّلة في نفوس الجمهور، أو برهانية في نفس الفيلسوف؛ فهي ملَكة في نفس الجمهور، وفلسفة في نفس واضع النواميس. النواميس خارج الخيال تنظيرًا للموروث؛ فالشرع ليس به مجاز.
والسؤال هو: من هو واضع النواميس؛ الفقيه أم النبي؟ وهل الفلسفة أعلى من الناموس، والناموس خادم لها، إلا إذا كان هناك الفيلسوف المُشرع أو الحكيم النبي؟ ربما كان المقصود أنه لا نظر بلا عمل، ولا عقيدة بلا شريعة، ولا دين بلا دولة، تنظيرًا للموروث. وكل الرؤساء ماهيَّتهم الرياسة لا الخدمة، وكأن الخدمة عيب، وهو ما يحدث في هذا العصر على السلطة؛ أي السياسة الرئاسية. وهل الفارابي إمامي شيعي مثل ابن سينا، أم إنه فقيه السلطان كما هو الحال عند أهل السنة، الفارابي وسيف الدولة، وابن سينا والدولة البويهية، والغزالي ونظام الملك، وابن رشد والمنصور؟
(ب) القانون الطبيعي
وفي مُقابل الناموس الربَّاني عند إخوان الصفا والفارابي، يضع أبو بكر الرازي القانون الطبيعي. وبالرغم من أن موضوع النبوة عند الرازي يدخل في تناسخ الأرواح؛ مما يستحيل معه التفرقة بين النبوة الصادقة والنبوة الكاذبة، كما يدخل في موضوع العقل والمناظرة، إلا أنه يدخل أيضًا في موضوع الاجتماع والسياسة، يُبطل النبوات ويؤسِّس القانون على الإلهام الطبيعي.
ويُدافع أبو حاتم عن النبوة، وبالتالي عن الإمامة، وضرورة التخصيص بأن العالم مُنقسم إلى إمام ومأموم، عالم ومُتعلم. هذا حال جميع المِلل والديانات والمقالات من أهل الشرائع وأصحاب الفلسفات. يحتاج الناس بعضهم البعض، ولكنهم لا يستغنون عن الأئمة والعلماء كما يدل على ذلك إلهامهم. يتعلمون من العلماء، ويهتدون بالأئمة، ويقتدون بهم، برياضاتهم لهم. ويُبرر ذلك تفاوت الناس فيما بينهم، وتراتبهم في طبقات، وتفاضلهم في الصناعات، وفي كل طبقة من الناس فاضل ومفضول. ولا يستطيع أحدٌ أن يُدرك بفطنته وكياسته ما يشاء إلا بوجود مُعلم يُرشده ومُعاون يرجع إليه، وإمام يُقتدى به ويأتمر بأمره؛ لذلك يتعلم الناس من بعضهم البعض، ويحتاجون إلى بعضهم البعض في جميع أمور الدنيا والدين، وكما يشهد بذلك العيان. ولقد خصَّ الله البشر وقسَّمهم هذه القسمة ليقوم الأمر والنهي، وتظهر الطاعة والمعصية، ويثبت الاستعباد، ويقع الثواب والعقاب طبقًا للأعمال؛ لذلك يجوز أن يختصَّ الله بحكمته ورحمته قومًا يختارهم من خلقه ويجعلهم رسلًا إليهم، يؤيِّدهم بالآيات، ويفضِّلهم بالنبوات، ويُعلمهم بوحي منه ما لا يستطيع البشر تعلُّمه من أنفسهم، ويُرشدونهم إلى صلاح أمورهم في الدين والدنيا، يسوسون الخلائق، خاصة وعامة، علماء وجهلاء، أذكياء وبُلداء، فيستقيم أمر العالم بهذه السياسة، وهي الشرائع التي تُغني البليد عن النظر في دقائق العلوم الفلسفية التي يتبحر فيها الفلاسفة، وتبهر عقولهم، وتعجز عن ضبطها بكل ما لديهم من قوًى عقلية على النظر والاستدلال.
ويردُّ أحمد بن عبد الله الكرماني على حجج الرازي بحججٍ مُشابهة لحجج أبي حاتم ردًّا على حجة التخصيص؛ فقد ثبت التخصيص بحكمة الحكيم. والحقيقة أن هذا الدفاع عن النبوة يقوم على حجةٍ لاهوتية وليس على حجةٍ مصلحية، وهروب من تأسيس النبوة في العقل، حاجة الإنسان إلى المعرفة، وفي الواقع، حاجة المجتمع إلى التشريع.
أما التخصيص في الكون فهي حجةٌ أكثر إقناعًا لقيامها على مبدأ التفرد في العالم. والعيب هو الانتقال من التخصيص في الطبيعة إلى التخصيص في البشر قياسًا، واعتبار أن الطبيعة هي الأصل والبشر هم الفرع، وإغفال مبدأ المساواة بين البشر، والذي على أساسه يمكن أيضًا قياس الطبيعة التي تقوم في بعض جوانبها على المساواة في الخلق والتسبيح للخالق. وعلى فرض وجود التخصيص في الطبيعة وفي البشر يظل السؤال قائمًا: لمَ تخصيص هذا الفرد بالنبوة دون الآخر، وهذا الشعب دون ذلك الشعب؟ وإذا كانت القدرات الفردية والخصائص الجماعية هي سبب الاختيار، فالإنسان والجماعة ليسا مسئولَين عن القدرات والسمات الفطرية، تلك مسئولية الخالق. وإذا كانت الصفات مكتسَبة من التربية في المجتمع، فالتخصيص إذن يقوم على اختيارٍ إنساني حر، وجهدٍ إنساني خالص في إطار ضرورة العصر وجدل النقل والإبداع فيه.
أما أن الله قد أودع في البشر عقلًا بالقوة، وأن النبوة هي التي تُخرج هذا العقل من القوة إلى الفعل عن طريق تهذيب الله للنبي، وإخراج ما فيه من القوة إلى الفعل حتى يقوم هو بنفس الدور مع المُرسَل إليهم، فإن هذا التحول لا يحتاج إلى مُحول؛ أي إلى عامل خارجي، بل يمكن أن يتم ذلك عن طريق التعليم والتربية والتدريب والاكتساب؛ أي عن طريق القوى الذاتية والعوامل الداخلية.
- الأولى: أن الدين يأخذ أصل الشرائع بالتقليد وترك النظر والبحث عن الأصول، حتى أصبح نقد الروايات والجدل في الدين مِراءً وكفرًا. ومن عرض دينه للقياس لم يزَل الدهر في الْتِباس، وتحريم النظر في الخالق، والاكتفاء بالنظر في المخلوقات، والقدر سر الله لا يجوز الخوض فيه، والتعمق في الدين كان سبب هلاك الأمم السابقة. يُدافع الرازي عن العمق في الفكر والبحث والنظر ضد العلم الجاهز والمعارف المسبقة. وهي حجةٌ ضعيفة؛ إذ تدعو الآيات إلى النظر والاجتهاد ونبد التقليد؛ فالتقليد ليس مصدرًا من مصادر العلم، والاجتهاد مصدر من مصادر التشريع، والعقل أساس النقل، وأول الواجبات هو النظر، وما لا دليل عليه يجب نفيه.٥٩ وفي العقل يتساوى الناس بشرط الاجتهاد والنظر. وتفاوت الناس فيه لعدم صرف هِممهم إليه وليس لنقص فيهم. واختلاف الألفاظ بين الأنبياء يُبيَّن عن طريق تأويل كلامهم المرموز الاتفاق في معانيها. واختلاف الفلاسفة وتقليد بعضهم لبعض ليس بأقل مما يقع بين الأنبياء.
- والحجة الثانية: اعتماد الأنبياء على المعجزات تعميم لا يصدُق على كل مراحل النبوة. كانت المعجزة في مراحل النبوة السابقة دليلًا على إثبات وجود الله، وتدخلًا مباشرًا في الطبيعة لنصرة الأنبياء وإنقاذ المؤمنين، البقية الصالحة. فلما اكتمل الوعي الإنساني، وأصبح الإنسان قادرًا بعقله على الفهم والتمييز، وبإرادته على الاختيار الحر، توقَّف دور المعجزات، وتحوَّل إلى إعجاز؛ أي إلى استنفاد قدرات البشر على التحدي والإبداع الفني والعلمي والتشريعي؛ فقوانين الطبيعة ثابتة لا تتغير كما لاحظ ابن رشد دفاعًا عن السببية، وكما أثبت الأصوليون في التعليل.٦٠
- والحجة الثالثة: أن كرامة الإنسان في العلم وليس في الدين، فيما يعلم وليس فيما يجهل، فيما يُبرهن بحواسه وعقله وليس فيما يفترض، قياسًا للغائب على الشاهد؛ فالرازي يُدافع عن العلم وقدرته اللانهائية. وقد برع الفلاسفة في الطب ومعرفة طبائع العقاقير، ومعرفة حركات الأفلاك والكواكب وحساب النجوم وعلم الهندسة، ومعرفة عرض الأرض وطولها والمسافة بين السموات، استنباطًا بدقة النظر ولطافة الطبع. والحقيقة أن العلم تحقَّق لافتراضات الأنبياء، وأن علم الفلك إنما نشأ بتوجيه الوحي العقل نحو الطبيعة، وأن علم الطب إنما كشف عن الحكمة في الجسد والعناية في الطبيعة؛ فالعلم نشأ من ثنايا الدين وليس مُناقضًا له أو بديلًا عنه.٦١
(ﺟ) القانون الاجتماعي
وإثبات النبوة ينتهي إلى إثبات الشريعة، مع أن حاجة المجتمع إلى الشريعة لا تتطلب بالضرورة حاجته إلى النبوة؛ لأن الشريعة وضعية تعبِّر عن المصالح العامة. فالسنن لا تحتاج إلى معارف نظرية كلامية؛ لأنها سنن وضعية بتعبير الشاطبي في «أحكام الوضع». وهل يلزم الحد الأولي من المعارف الإلهية، التوحيد، أم يكفي العدل؟ صحيحٌ أن ابن سينا يرفض الخوض في دقائق نظرية الذات والصفات والأفعال، ويكتفي بالمبدأ العام للتوحيد، وجود مبدأ عام شامل يتساوى أمامه الجميع، هذا المبدأ العام هو الضامن لمعيارية القوانين التشريعية من ناحية العقل ومن ناحية الطبيعة، ويحتاج العامة إلى الرموز والأمثلة للإيضاح من أجل تمثيل المعاد وإمكان تصوره قياسًا للغائب على الشاهد.
والسؤال هو: إذا كانت العلاقات الاجتماعية تتطلب سنة وعدلًا، فلماذا تشخيص ذلك في ضرورة وجود سانٍّ ومُعدِّل؟ لماذا لا يتم ذلك عن طريق القانون الطبيعي أو العقد الاجتماعي غير المدوَّن دونما حاجة إلى مُشرِّع أو عاقد مُشخصين؟ والحديث عن السانِّ والمشرِّع كما تحدَّث الأصوليون عن الشارع، أي واضع الشريعة، لا يعني التشخيص، بل يعني الشريعة الوضعية بمصطلح الشاطبي؛ أي واضع الشريعة افتراضًا.
وصفة التعاون والاجتماع لا تُميز الإنسان فقط عن الحيوان؛ إذ يتعاون النحل في بناء المخابئ وتخزين الغذاء، والنحل في صنع خلايا العسل، وهي حاجةٌ طبيعية دون أن تُحيل بالضرورة إلى مظاهر العناية الإلهية والتدبير والمبدأ الأول. والتحليل الطبيعي يتَّفق مع مبدأ اقتصاد الفكر أكثر من التحليل الديني، والافتراض الأقل يجبُّ الافتراض الأعظم؛ فلا حاجة بالضرورة إلى إدخال عوامل خارجية غير اجتماعية في تحليل حاجة المجتمع إلى التشريعات وقوانين مثل علم الملائكة؛ إذ تكفي في ذلك معارف الإنسان الطبيعية، وقدرته على معرفة الخير، وكيفية تحقيقه؛ لذلك ليست المعجزات ضرورية لإثبات النبوة، وابن سينا حكيم وليس مُتكلمًا.
وإذا كانت الغاية من النبوة معرفة القوانين الاجتماعية، فلماذا تكون غايتها عبادة المعبود؛ أي دينية صوفية عبادية؟ وإذا كانت الغاية المنفعة في الدنيا، فلماذا إضافة المنفعة في الآخرة، والعودة من علوم الحكمة إلى علم الكلام؟ وإذا كانت معرفة الخير والشر والحسن والقبح لمنفعة الدنيا، فلماذا الثواب والعقاب؟ واضحٌ أن الحكمة لم تستطع بعدُ الانتقال بالفكر الفلسفي من مستوى الإلهيات إلى مستوى الإنسانيات.
وبالرغم من أهمية هذا التأصيل النظري للعبادات العملية، وضرورتها للتذكير بالعقائد النظرية، إلا أن قِسمتها إلى ما يُحقق منافع أخروية وما يُحقق منافع دنيوية مثل الجهاد والحج يُغفل أن كل عبادة تُحقق منافع دنيوية؛ فالشهادة تحرير للوجدان الإنساني من الخوف من سلطان البشر وأدعياء القوة، والمُتكبرين والمتسلطين على الرقاب، مثل منافع الجهاد والحج. ليست الشهادتان مجرد ألفاظ ونوايا وخيال، بل شهادة على العصر وتحرير للوجدان الإنساني بفعل السلب «لا إله»، ثم إثباته بفعل الإيجاب «إلا الله»، والإعلان عن نهاية تطور الوحي وتحقيق آخر مرحلة فيه التي أعلنها الرسول، وهي الإسلام.
ويركِّز ابن سينا على الصلاة والحج دون الشهادة والصوم والزكاة، وتصور الحج على نحوٍ مكاني وأفعال قرابين كما هو الحال في الديانات السابقة، مثل القدس وذبح الأضاحي في اليهودية. والحج عادةٌ عربية قديمة منذ وضع إبراهيم قواعد البيت احترامًا لجد العرب وتقديرًا للحنفاء، وجمعًا للعرب في مكان لتبادل المنافع استعدادًا للسلطة المركزية لمكة وسط الحجازيين الشمال والجنوب.
ولماذا أغفل ابن سينا الزكاة؟ هل لأنه صوفي، أم لإغفال القضية الاجتماعية واعتبار أن الوضع الاجتماعي من الله؟ وهل أفعال الطهارة لمحاسبة النفس أم لمحاسبة المجتمع عمليًّا على الاستغلال؟
وعيوب هذا التصور أنه يقع في ثنائيةٍ مُتطهرة بين البدن والنفس، ومصير كل منهما وغايته المستقلة، سعادة البدن في اللذة الحسية، وسعادة النفس في النعيم الروحي. كما تسود النظرة الصوفية الإشراقية الباطنية، وجعل غاية الأفعال السموَّ والتعاليَ دون الاهتمام بشئون الدنيا ورعاية مصالح الناس، وجعل عالم السعادة فقط هو العالم العُلوي، الله والملائكة، وليس عالم البشر وأوضاعهم الاجتماعية؛ ومن ثَم يتحول الإسلام إلى مسيحية مع أنه كان رد فِعل عليها، «لا رهبانية في الإسلام». يريد ابن سينا تحقيق الوحدة بين البشر في طهارة النفس، وليس في أفعال الدنيا ورعاية مصالح الناس. وهي وحدة الخاصة دون العامة؛ فللعامة العبادات، وللخاصة أفعال النفس.
ثم يبدأ ابن سينا بتحليل القوانين الاجتماعية قبل قانون الأحوال الشخصية. ومعظمها واجبات وليست حقوقًا، تبرير للشريعة وليس تطويرًا لها، دفاع عن الوضع القائم من أجل الثبات والاستقرار وليس رفضًا له من أجل التغير والحراك الاجتماعي. ويستعمل ابن سينا ألفاظًا قهرية مثل العقد والسنن، وليس الدين أو الشريعة أو العقائد أو النُّظم.
ثم يدخل الاقتصاد مع الاجتماع المهني في صورة المال، وكما هو الحال في المجتمع التجاري والاقتصادي الربحي القائم حتى اليوم في دول النفط. فالمال المشترك له مصادر ثلاثة؛ الأول الخراج، وهو حقوق تُفرَض على الأرباح المكتسَبة الطبيعية كالثمرات والنتائج. والثاني العقوبات دون تحديد عقوبات من ولأي سبب. ويبدو أنها الغرامات التي يدفعها أصحاب الجنايات وذووهم لعدم ردعهم لارتكابهم أخطاءً لا عن عمد، وتكون مخفَّفة مع إطالة المُهلة للسداد. والثالث الغنائم، وهي أموال المُعاندين للسنة. وقد توقَّفت بتوقُّف أسلاب الحرب وتوزيعها على المُحاربين، وتصرف في المصالح المشتركة، وإعطاء مرتبات الحفظة الذين لا يعملون بصناعة، والصرف على المُعوقين والقعَدة. ويرفض ابن سينا إنهاء حياة الميئوس من شفائه من المرضى؛ لأن مؤنته لا تُجحف بالمدينة. وقد يتكفل به الأقارب.
ويحرِّم ابن سينا عدة صناعات في المدينة مثل القمار؛ لأنه نقل للأموال من غير مصالح أو منفعة أو مقابلة. ويحرِّم السرقة واللصوصية والقيادة لنفس السبب. وقد تكون القيادة قطع الطريق أو السطو المسلَّح. كما يحرِّم المُراباة لأنها تُغني من تعلُّم الصناعات الداخلة في الشركة، وزيادة مال دون صرفه. ويحرِّم الزنا واللواط لأنهما يؤديان إلى الاستغناء عن الزواج، وهو أحد أركان المدينة؛ فقد كان اللواط سائدًا مثل الزنا في المجتمعات القديمة، ومستمرًّا حتى الآن في بعض المجتمعات الحديثة في شبة الجزيرة العربية وفي الغرب الحديث. ويمكن قياسًا على ذلك تحريم أفعال حديثة مثل السمسرة والأعمال الطفيلية والمضاربات والعمولات والرشاوي والكسب السريع الذي لا ينتج عن جهد أو زيادة إنتاج.
ولما كان المجتمع حِرفة وأسرة يعرض ابن سينا للأسرة وموضوعها الرئيسي الزواج؛ فغاية الزواج النسل؛ لذلك يجب تشجيعه والتحريض عليه لبقاء الأنواع. وهو تصورٌ بيولوجي خالص يُغفل الأُنس والمحبة والسكن إلى النفس بين الزوجَين، وهو أيضًا دليل على وجود الله بالرغم من عدم وضوح الدليل وعدم الحاجة إليه؛ أي إلى إثبات وجود إله من خلال الزواج على هذا النحو المُتسرع، إلا إذا كان المقصود أنه لولا البشر لما عُرِف الله طبقًا للحديث المشهور: «كنت كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أُعرَف فخلقت الخلق؛ فبه عرفوني.» الموضوع شرط إثبات الذات. وإذا تم اختزال موضوع الأسرة في الزواج فإنه يتم اختزال الزواج مرةً ثانية في النسل، ثم يتم اختزال النسل في المواريث، والتحوُّل إلى موضوع المال والاقتصاد.
وللزواج شرطان؛ العلانية ضد الزواج العُرفي، والدوام ضد زواج المتعة الخالي من الأولاد والنفقة، مع أن ابن سينا شيعي إمامي. فهل يُهاجم ابن سينا موقف الشيعة أو السنة التي تقول بإخفاء المناكحات؟ وهل الإعلان عن الزواج هو وسيلة الترابط الاجتماعي أم هناك وسائل أخرى أقوى وأشد؟ والقصد من علانية الزواج اتضاح الأنساب، وعدم وقوع خلل في المواريث، وهي أصول الأموال، والأموال أصل المعيشة؛ فبسبب خفاء المناكحات يقع خلل في الأنساب؛ مما يُسبب خللًا في أوجه النفقة. فنفقة البعض على البعض الآخر، ومعاونة البعض للبعض الآخر، وتشتُّت الشمل الجامع للأولاد، وتجدُّد الحاجة إلى المزاوجة، يؤدي إلى ضياع الأُلفة والمحبة؛ فالعواطف تأتي في النهاية وليس في البداية، نتيجةً للمواريث والأموال وليست مقدمة لهما. يؤسِّس ابن سينا الترابط الاجتماعي على أساسٍ اقتصادي؛ فالمصلحة هي أساس المحبة، والأُلفة لطول العِشرة والمخالطة. وأكثر أسباب المصلحة المحبة، والمحبة من الأُلفة، والأُلفة من العادة، والعادة من طول المخالطة؛ فالعواطف تأتي استقراءً وليس استنباطًا، من أسفل وليس من أعلى، عكس الحب «الرومانسي» الذي لا يعرف علة أو سببًا إلا عشق الأرواح ووحدة النفوس.
ويُبرر ابن سينا تعدُّد الزوجات للرجل وليس تعدُّد الأزواج للمرأة بأن الشركة في الرجل حسد لا يُلتفت إليه، من طاعة الشيطان، في حين أن الشركة في المرأة عار. والمرأة أشد انخداعًا وأقل طاعة للعقل؛ ومن ثَم كان تعدُّد الأزواج لها مضرَّة، وأحادية الزوج لها حماية.
