مقدمة

بقلم المترجم

يضُم الأدب الأفريقي كثيرًا من الأعمال الجيدة التي ينبغي التوقف عندها؛ إذ لا تقل أهميةً وإبداعًا عن الأدب الغربي الذي تزخر به مكتباتنا العربية، وباستثناء بعض المحاولات الجادة والقليلة التي قام بها كُتابنا وأدباؤنا، في التعريف بهذا الأدب وهؤلاء المبدعين، فإننا نُعاني نقصًا في هذا الصدد لا يتناسب مع ما يحتويه الأدب الأفريقي من أعمالٍ عظيمة في شتَّى مجالات الإبداع (القصة – الرواية – الشعر – المسرح)؛ إذ إن اختلاف الثقافات قد ساهم بشكلٍ مباشرٍ في إبداعات تلك القارة السوداء، إلى جانب الاستعمار الأوروبي، الذي لا يخلو أيُّ عملٍ أدبي من الإشارة إليه، كما أن التراث والبيئة والطقوس الخاصة، التي يتميز بها ذلك العالَم الأفريقي الأسود، قد انعكسَت على الفنون والآداب، وأكسبَتْها مذاقًا خاصًّا، ونستطيع أن نرى ذلك بوضوحٍ في معظم الأدب الأفريقي إن لم يكن جميعه.

يُعد سوينكا أهم وأبرز كاتب أفريقي، وُلد عام ١٩٣٤م، في مدينة «أبيوكوتا» بجنوب نيجيريا، قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، التي أشاعت في نفسه وهو صبيٌّ كثيرًا من الأفكار والمشاعر، انعكسَت في أعماله فيما بعدُ، وبخاصة في هذه الرواية الهامة «آكية … سنوات الطفولة»، وهي عبارة عن سيرةٍ ذاتيةٍ مُبهِجة، كتبَها سوينكا بأسلوبٍ أخَّاذ ورشيق، وتحكي قصة طفولته وصباه قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية، في مدينة «آكية»، بغرب نيجيريا؛ بحيث يصعُب على من كانوا في عمره أن يكبَروا دون أن يتذكَّروا كلَّ شيء، أولئك الذين شاء لهم أن ينشَئوا في تلك البيئة وذلك المكان المتعدِّد الثقافات.

التَحَق «وول سوينكا» بمدرسة «أبادان» الحكومية، وأتم تعليمه بجامعة «أبادان»، ومع بداية التحاقه بالجامعة أُذيعَت له أول قصة في الإذاعة عام ١٩٥١م، فكان ذلك حدثًا مثيرًا بالنسبة له.

يعمل الآن أستاذًا للأدب المقارن بجامعة «آيف» بنيجيريا، وقد حصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب من جامعة «ييل»، وكذلك العديد من الجوائز الأدبية، كان آخرها جائزة نوبل العالمية عام ١٩٨٦م.

مبدعٌ وفنانٌ شامل!

المتتبع لأعمال سوينكا المتنوِّعة لا بد أن يقف كثيرًا أمام سؤالٍ محيِّر بعضَ الشيء: هل هو كاتبٌ مسرحي أم روائي أم أنه شاعر؟

والإجابة على هذا السؤال هي كل ذلك معًا، بالإضافة إلى أنه ناقد، وممثل، ومخرج إذاعي، ومسرحي، وكوميديان، ومدرس جامعي، ومصمم أقنعة، فكان لهذه التركيبة الفنية الثرية والمتنوعة أثرها في أسلوبه الأدبي.

في فترة السجن كتَب كثيرًا من القصائد والمخطوطات التي تناوَل فيها تجربته، والتي تجسَّدَت في عمله الشهير «مات هذا الرجل»، الذي كتَب فيه عبارته الشهيرة: «يموت الرجل في كل إنسانٍ يلتزم الصمت في وجه الطغيان.»

بدأ «وول سوينكا» إنتاجه عام ١٩٦٠م، برواية «رقصة الغابات»، تلاها في عام ١٩٦٥م برواية «المفسِّرون» التي تعرَّض فيها لمشاكل المثقفين وقضاياهم في عالمٍ أفريقيٍّ متميز بإحدى المدن النيجيرية، من خلال علاقةٍ قوية تربط بين أربعةٍ من الأصدقاء (مهندس – صحفي – فنان تشكيلي – مدرس جامعة). كتب أيضًا في عام ۱۹٧٣م «موسم الفوضى»، وتبعها بكتابه «داخل القبو»، و«الأسد والجوهرة»، و«العِرق القوي»، و«ثورة كونجي»، و«الموت»، و«أناس المستنقع»، و«العمالقة»، و«سنوات الحزن»، و«محاكمة الأخ جيرو»، و«أتباع باكوس»، وأوبرا «ونيوس»، و«مكوك في السرداب».

أصدر سوينكا ديوانَين من الشعر؛ أولهما عام ١٩٦٧م، والآخر عام ١٩٦٩م، وتُعَد قصيدتُه «محادثة تليفونية» من أشهر قصائده، وفي هذا الصدد أودُّ أن أذكُر أن كل أعماله مكتوبة بالإنجليزية، فيما عدا معظم أعماله الشعرية، التي كتبها بلغته الأصلية، وهي لغة اليورويا.

المسرح عند سوينكا

نتوقف قليلًا عند السؤال التالي: ماذا عن مشاريعك المستقبلية؟

أجاب سوينكا قائلًا: من الأفضل أن نُسرع بتشغيل المسرح بكل ما لدينا من حب وعطاء، وكم أتمنَّى أن أتفرَّغ طوالَ حياتي للمسرح؛ فأنا أستطيع بالمسرح أن أحقِّق وجودي إلى أقصى درجة.

إن هذه الإجابة كافيةٌ تمامًا لتوضيح مدى عشق سوينكا للمسرح.

إن إعجاب سوينكا بالمسرح يكمُن في حرِّيته الكاملة في التعامل مع أدواته، غير أن هدف المسرح — كما يقول — لا يعنيه؛ أي إنه ليس ملزمًا بالتعليم والتنوير وبث الأفكار في عقول المشاهدين، لكنه في نفس الوقتِ يضع التزامًا لنفسه أمام الجمهور، وهو ألا يغادروا المسرح قبل أن يكون قد قال شيئًا.

من أهم أعماله المسرحية

  • «الأسد والجوهرة»، أولى مسرحياته.

  • «رقصة الغابات»، كتبها عام ١٩٦٠م، وتناول فيها احتفالات الاستقلال، وعلاقة نيجيريا بماضيها، وقد نال عنها جائزة، وعند عرضها على المسرح لاقت نجاحًا كبيرًا.

  • «العشيرة القوية»، مسرحية من فصلٍ واحد، وهي أحب الأعمال إلى نفسه.

  • «الطريق»، استخدم في كتابتها دلالة القناع.

  • «محاكمة الأخ جيرو»، مسرحية كوميدية من فصل واحد تحكي حكايةً خفيفةً عن الشر الإنساني، وهنا أودُّ أن أشير إلى أن الكوميديات تُعَد بالنسبة لكاتبنا أصعب الأعمال.

دوافع الإبداع عند سوينكا

بقراءة أعمال سوينكا المسرحية أو الروائية أو الشعرية نستطيع أن نتلمَّس فكرةً بعينها تستولي عليه، وهي أن البشر في كل مكانٍ بالعالم متوحِّشون يدمِّر بعضُهم بعضًا، أو كما قال هو نفسه: «إن الجنس البشري ببساطة جنسٌ متوحش.»

ربما كانت هذه بعضَ الأفكار والمشاعر التي أشرنا لها في البداية، والتي انعكسَت على رُوحه حين كان صبيًّا أثناء الحرب العالمية الثانية، ونستطيع أن نلمسَها بوضوحٍ في إبداعاته المختلفة، إلى جانب البشاعة المستترة والشرور التي يرى سوينكا أنها سمةٌ من سمات العالم الأوروبي.

وكما كان الألم مثيرًا للإبداع الفني عند «ديستوفيسكي»، والضمير الإنساني المعذب عند «تولستوي»، وكانت عقدة الاضطهاد عند «فرانز كافكا»، فإن التوحُّش والشرور والبشاعة هي دوافع الإبداع عند سوينكا، الذي لا يفكر في المتلقي حين يكتب، ولا يبالي بالجمهور حين يؤلف عملًا مسرحيًّا؛ إذ لا يهمه ما إذا كان ذلك الجمهور من نيجيريا أم من أي بقعة في العالم، إنه يكتب وفي ذهنه أن القاعة مليئة بالناس، وأن هؤلاء الناس يحسون ويشعرون، وأن الكاتب لا يمكن أن يكتب عن لا شيء.

هكذا يكتُب «وول سوينكا» داسًّا فكرتَه بين طيَّات أعماله، وعليك أن تكتشف هذه الفكرة أو تلك، التي في معظم الأحوال لا تخرج عن كونها فكرةً إنسانيةً شاملة، وهكذا شأن الكاتب المبدع الذي يتجاوز نفسه وبيئته إلى رؤيةٍ أبعد، وإلى آفاقٍ أكثر شمولًا.

سمير عبد ربه

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥