١

آكية، أرضٌ متموِّجة ومترامية الأطراف، وهناك عند مرتفعات «أوتوكو» كان إصطبل القسِّ قريبًا من رأس التل، ثم ذلك الطريق المتعرِّج الصاعد من سوقٍ صاخب إلى سوقٍ آخر يُطل على أكثر مداخل الدير سرِّية.

كانت كنيسة القديس بطرس التي يؤدُّون فيها صلوات الصباح والمساء باللغة الإنجليزية، وكانت موسيقى الأرغن تُدوِّي في تلك الأمسيات.

كان القس متبلِّد الحس مثل بيته المربَّع الشكل، ذلك البيت المشوَّه بشبابيك ذات إطارٍ خشبي أسود؛ حيث يحلُّ ضيوف الأسبوع للإقامة، وكان فِناء الأساقفة في أحد الأدوار، ومن الطابق العلوي كان من اليسير رؤية قمة «أوتوكو»، غير أن رؤية البوابة كانت متعذِّرة بعضَ الشيء.

كانت فصولُ المدرسة الابتدائية فارغةً في الليل يُحيط بها بستان الفاكهة؛ حيث كنا نختبئ، وكانت الخبيزة طازجةً والهواء مشبعًا برائحة أوراق الليمون والجوافة والمانجو، وممتزجًا برائحة أشجار «البوم بوم» وإفرازات المطر المتساقط على الأوراق الظليلة الواسعة الانتشار، لكن شجرة الأناناس فوق الآكاسيا وغابات البامبو دائمًا ما كانت تجعلنا غاضبين؛ إذ لم تكن تصلُح إلا سكنًا مثاليًّا للثعابين إذا ما كان للثعابين ثمَّة اختيار.

كان بستانُ الفاكهة في الجانب الأيسر لبيت القس وملعبُ المدرسة بما فيه من نباتاتٍ وفاكهة مكانَين لرجال الدين ودروس الكنيسة وتلك المواعظ المُمِلَّة، وكان نبات «كاناليلي» بأوراقه المزركَشة باللون الأبيض والأحمر مُبقعًا ببقعٍ بيضاء كثيرة، ولم يكن أحدٌ يستطيع أن يفسِّر وجود هذه البُقع، ولمَّا كان المسيحُ مُسمَّرًا إلى الصليب وجراحُه تتدفَّق بالدم، فقد قيل بأنها ربما كانت نوعًا من رجم الخطايا في دم المسيح.

لكن شجرة الرمان كانت هي سيدة البستان، لم تكن تنمو كثيرًا من بذور الكنيسة بقَدْر ما كانت تراتيل أيام الآحاد تساعد في نموها. كان البستانيُّ بيده المعروفة ووجهه المألوف لدينا هو الذي يعتني بشجرة الرمان مرةً واحدةً كل حين؛ ولذلك فقد كان إنتاجها قليلًا.

قال البستاني: إنها تنمو هنا فقط، هنا فقط تنمو شجرة الرمان!

كان من الغريب أن تنموَ في هذه التربة، لكنَّ مطرانًا سابقًا من الرجال البيض جاء معه بالبذور وزَرعَها في البستان.

تساءلنا عما إذا كان تفَّاحًا.

ضحك وأجاب بالنفي، ثم أضاف: وهل يُوجَد التفاح في تربة الرجل الأسود؟

قبل الفجر بقليلٍ كان تغريد الطيور يملأ البيت، وكانت أسرابٌ من الخفَّاش تسكن شجرة التين، التي كانت تنتشرُ بذورها فوق الأحجار والخضرة والممرَّات والشجيرات.

كنتُ أستلقي فوق الخضرة أمام منزلنا متطلعًا بوجهي إلى السماء ورأسي باتجاه فِناء الأساقفة بينما قدمي إلى السياج الداخلي لبيت القس، وكنتُ أرى من تلك الفضاءات المنخفضة نصفَ مدرسة البنات الإنجليزية والنصفَ الآخر من فِناء الأساقفة، كانت المنطقة المنخفضة تحتوي على فصول الصغار وحجرات نوم الطلبة وحديقة فاكهة صغيرة من الجوافة والخيزران وبعض النباتات الأرضية، وفي موسم الأمطار كانت تُوجَد دائمًا تلك القواقع بأشكالها المختلفة، وفي المنخفض الآخر حيث كنا ننام من وقتٍ لآخر كان بائع الكتب، وهو رجلٌ ضعيفٌ متغضِّن له زوجةٌ هادئة وجميلة، كنا نستمتع ببعض التأملات في ذلك المكان الفسيح الذي يقطع الطريق المؤدي إلى «إيبارا»، وكان هو المكان الوحيد في بيت القس الذي تُوجَد به بئرٌ للمياه، فكان في موسم الجفاف مزدحمًا بالناس، كما كانت أشجار جوز الهند تنمو في ذلك المكان.

كان الأسقف «أجايي جروثر» يظهر أحيانًا من بين مجموعة نباتات الزينة بزيِّه الرسمي ووجهه الخرافي وعينَيه الجاحظتين وهو يحدِّق فينا.

قال المدرِّس: منذ أن عاش في بيت الأساقفة وهو يحدِّق من خلال النباتات المتسلِّقة.

كلما مررتُ ببيت الأساقفة في مهمةٍ إلى عمتي الكبرى «مسز ليجادو» عرفتُ أنه لم يعُد سوى منزلٍ لبنات المدرسة وملعبٍ إضافيٍّ لنا أثناء الإجازات.

جلس الأسقف بهدوء على مدرجٍ خشبي عند المدخل، وكانت ملابسُه مثل النبات المعترش، تحرَّكتُ بالقرب منه، وحين رمقَني بعينَيه تعجَّبتُ لتلك الصورة التي يبدو عليها بردائه الكهنوتي، وأيضًا لتلك السلسلة الفضية التي تصل حتى الجيب.

ابتسم ابتسامةً عريضة، ثم قال: اقترِب أكثر، سأجعلُك ترى.

كانت السلسلة تنتهي بساعةٍ للجيب تُومِض بالفضة، وحين تحركت باتجاه الشرفة رسم الأسقف على السلسلة حلقةً دائريةً كاملة وضغط على مفتاح الساعة فظهرَت إلى جانب الزجاج سحابةٌ عميقة ملأَت الفضاء، وعندئذٍ طرف بعينٍ واحدة فسقطَت السحابة من وجهه إلى تجويف الساعة، ثم طرف بالعين الأخرى فسقطَت سحابة أخرى إلى الساعة، وأعاد غلق الغطاء فجأة وهو يُومئ برأسه الأصلع، اختفت أسنانه وشد جلده حتى تكشَّفَت العظام، ثم وقفَ وخَبَّأ الساعة في جيب المعطف، تحرَّك خطوةً ناحيتي فهربتُ باتجاه المنزل.

كان بيتُ الأساقفة أكثر جمالًا وروعةً من بيت القس، كانت تُحيطه الأحجار البيضاء النظيفة والزهور الجميلة، وكانت الصخور المظللة منتشرة في كل مكان تزيد السحب من فتنتها وروعتها، وعند هبوب العواصف القوية كانت أوراق الشجر تروح وتجيء مع الرياح حتى تتدلى فوق بيت الأساقفة.

كذلك كان واضحًا أن الأساقفة لا يعملون على تحدِّي الأرواح مثلما كان القساوسة يفعلون، وكانت رؤية الأسقف «أجايي جروثر» متجولًا خارج بيت القس تُخيفني.

أشارت أمي إلينا قائلة: لماذا تجلسون هنا؟ أليس هذا وقتَ حمَّام المساء؟

ثم نادت بصوتٍ عالٍ: «لاوانل.»

أجابت الخالة «لاوانل»: «ما؟»

كنتُ أسأل كثيرًا عن الخال «سانيا» وعن الأشباح والأسقف «جروثر».

قالت أمي: ألن تكُف عن الأسئلة؟

دخلَت «لاوانل» قائلة: هيَّا إلى الحمام يا أطفال.

لكنني أجبتُ: لا، انتظري أيتُها الخالة.

أمسكتُ بذراع كلٍّ منا وأنا أصرخ: هل كان الأسقف «جروثر» شبحًا؟

ضحكَت أمي قائلة: إنه لا يتوقَّف عن الأسئلة.

كان «جي – جي» ابن عم أمي مسافرًا في إحدى جولاته الكثيرة، التي يقوم بها راكبًا أو سيرًا على قدمَيه من أجل الدعوة إلى كلمة الله، وليبقى على اتصالٍ دائمٍ بكل فروع الأبرشية، كانوا يستقبلونه في كل مكان، ولم يكن ثمَّة شيء يمنعه من القيام بمواعظه.

تلاشَى بستانُ الفاكهة وقضَى الماعز على صفوف الليمون الذي كانت أعشابه علاجًا للحُمَّى والصداع، كنا نتناول قطعةً من الأسبرين أو قطعتَين مع فنجان من الشاي بعشب الليمون الساخن قبل النوم كعلاج، وكانت رائحتُه العطِرة نوعًا من التغيير كبديلٍ عن الشاي المعتاد.

مع الوقت تلاشَى أيضًا ذلك النصب التذكاري الأبيض بشكله المربع، الذي كان يحاذي الصخور المطلة على بيت القس، والذي من خلاله كنتَ ترى الزائر وهو يدخل البوابة.

كان سيد ذلك البيت قويًّا مثل الصخور، كان أسود ضخمًا، وله رأسٌ جرانيتي وأقدامٌ هائلة، ويدعونه غالبًا بالقس أو الكاهن أو المحترم، أو كما كانت تدعوه أمي «باديلومو»، كنا كثيرًا ما نخرج مع أمي في حملَتها الشرائية، أو لزيارة الأقارب، أو لبعض أغراضٍ أخرى لم نكُن ندركها، ودائمًا ما كنا نعود بانطباعاتٍ غامضة عن رؤية شيءٍ ما، وكان الابتهاج يتملَّكُنا دائمًا رغم شعورنا بالإجهاد الشديد؛ لأننا غالبًا كنا نسارع في إعداد أنفسنا وارتداء ملابسنا وتمشيط شعرنا، بالإضافة إلى أننا كنا نسير على أقدامنا معظم الطريق، وحدث ذاتَ مرةٍ أن تسلَّقنا الطريق العالي، وتجاوزنا مدخلًا رائعًا وأعمدةً بيضاء، وكان مكتوبًا على اللوحة: «المقر»، كان من الواضح أن رجلًا أبيضَ يعيش هنا، وكانت البوابة في حراسة شرطي يرتدي شورتًا فضفاضًا، ويُحملِق في وجوهنا، كان المنزل خلف التل تغطِّي الأشجارُ جزءًا منه، وقد وقعَت عيناي على خرطومَين أسودَين ثقيلَين مسنودَين بعجلاتٍ من الخشب، وواقفَين على أعمدة وكأنهما يشيران إلينا، مما أثار انتباهي، كانت كومة من الكرات المعدنية الدائرية بحجم كرة القدم إلى جانب كل خرطوم.

قالت أمي: إنها مدافع تُستخدَم في الحروب.

قلت: لكن بابا يدعو «باديلومو» بالمِدْفع، لماذا؟

شرحَت لنا الفارق، لكنني كنتُ قد عرفتُ الإجابة الخاصة بي، إنها الرأس، إن رأس «باديلومو» يشبه كرة المدفع؛ ولهذا كان يدعوه بابا بالمدفع، وكان كل شيء عن المدافع يستدعي وجود الرجل، وقوَّته وصلابته، كانت المدافع غير قابلة للتحرُّك أو التخريب، وكذلك كان هو، وكأنه قادر على قهر أي شيء، عند زيارته لنا كان يشغَل الحجرة الأمامية بكاملها، ولم تكن تُناسبه سوى الردهة الواسعة والكرسي ذي المسندَين، شعرتُ بالأسف على كتبه الدينية، وعلى القس الأعظم، وراعي الأبرشية ومساعديه؛ فقد كانوا تافهين مثله وفقراء الروح مثل فأر الكنيسة.

كان العم «رانسوم كوتي» أحد الرجال الذين يأتون إلى منزلنا يرتدي قلادة دائرية، وكانوا جميعًا ينادونه «داودو»، وكان دائمًا يتفوق على نفسه.

كان «باديلومو» يُفزِعني بوجوده؛ إذ لم يكن يسيطر على بيت القس وإنما على آكية بأَسْرها، وكان أكثر نشاطًا من «كابينزي».

كانوا في الغالب يتمدَّدون على الأرض، وكان أحدهم الأسقف «هاولز»، الذي يعيش في عزلة ليست ببعيدةٍ عن منزلنا.

كان القسُّ دائمَ الحضور للنقاش مع أبي، وأحيانًا كانت تبدو المناقشة خطيرةً وهامة، وفي أحيانٍ أخرى كنتُ أسمع ضحكاته تسري في المنزل، لكنه وأبي ما كانا يختلفان، نعم، لم أسمعهما قَط يختلفان في مناقشتهما عن الله كما كان يفعل أبي مع بائع الكتب وأصدقاء آخرين، وكنتُ في البداية أخافُ كثيرًا من تلك المناقشة في أمور الدين، وخاصةً حين كان يتحدث بائع الكتب بصوته العالي ورقبته التركية، وهو الذي كان طبيعيًّا، على عكس القس الذي كان يبدو قويًّا، فكانت المنافسة غير متكافئة، وتُعَد خطرًا على بائع الكتب.

في كل المناقشات كان «إسحاق» مدافعًا شريرًا، في البداية كانوا يدعونه S.A، أو H.M، أو السيد، ولأسبابٍ أخرى كان أصدقاؤه يدعونه «إس – إيه – شو»، وقليلون من كانوا ينادونه باسمه، تعجَّبتُ لكثرة أسمائه، غير أنني في نهاية الأمر لم أستطع أن أقتنع بذلك الكلام المنتقى وتلك المناقشات العقيمة.

كان خطُّ «إسحاق» جميلًا، وكذا كانت ملابسُه، أما عن عاداته في الأكل فقد كان مصدر تعجُّب من الأم، ولم يكن يشرب قَط بين الأكل، ولا حتى رشفة واحدة، وكان يثور أحيانًا أثناء المناقشة مثل بائع الكتب، وحين كان يطرفُ بعينَيه الصغيرتَين فإنه يكون أكثر حِدَّة.

كانت زوجة بائع الكتب إحدى أمهاتٍ لنا كثيرات، وكان جمالها بليدًا، وبشرتها سوداء فاحمة، وطيبة إلى حدٍّ كبير، كانت هي وأمي أول من يُجيب علينا إذا ما اختلفنا حول سؤالٍ ما، ولم تتسبَّب قط في إزعاجي، خاصةً فيما يتعلق بأفكاري وتساؤلاتي، وكانت على النقيض من زوجها ذات قلبٍ كبير، وكان ظهرُها الكبير أكثر أمانًا وراحةً من ظهور نساءٍ كثيراتٍ حمَلْنَني فوق ظهورهن، كان ظهرُها ناعمًا يبعث على الأمان والهدوء والطيبة التي ترتسم على وجهها.

حين كنا ننام في منزلها كانت تسأل الخادمة أن تعتنيَ بطعامنا ونومنا، وكانت تعمل على حل أيِّ مشكلة نقع فيها، ولمَّا كانت ماما تُلاحِقنا بالعصا كانت تدافع عنا قائلة: لا، لا، اضربيني بدلًا منهم، يا لها من امرأةٍ طيبة! كانت طيبةً ورقيقة.

كانت «بوكولا» ابنتها الوحيدة، ولم تكن «بوكولا» من عالمنا؛ فقد كانت تبدو لي أنها أحدُ ساكني العالَم الآخر، كانت «بوكولا» مقيَّدة إلى الأرض بتلك التعاويذ والأحجية والخلاخيل التي ترتديها في ركبتها وأصابعها وخصرها، وكانت تعرف بأنها àbikú١ ولم يحدث أن تجرَّأ والداها على توبيخها لمدةٍ طويلة أو بشكلٍ حاد.

انسحبَت عينا «بوكولا» فجأة نحو الداخل، ولم يظهر منهما سوى البياض، فبادرَت «تيني» بالجري، ووقفَت بالقرب منا، ورحتُ أسأل «بوكولا»: هل ترَين ما تفعلينه بعينَيك؟

– إنه الظلام، ظلام فقط.

– هل تتذكَّرين أي شيءٍ عن العالم الآخر؟

– لا، لكن ذلك يحدث حين أكون في حالةٍ من النشوة.

– وهل تقدرين أن تكوني في هذه الحالة، أعني حالةَ النشوة؟

كانت «تيني» تهدِّدني من بعيدٍ أن تخبر أبي وأمي إذا لم أتوقَّف عن تساؤلاتي.

أجابت «بوكولا» بأنها تستطيع فقط إذا كنتُ قادرًا على إعادتها إلى حالتها الأولى، لكنني لم أكن متأكدًا من قدرتي على ذلك، فنظرتُ إليها بإمعان، وتعجَّبتُ لقدرة أمها على التحكُّم في ذلك المخلوق الميت.

كانت الأجراس في ركبتها تُصدِرُ أصواتًا كالخشخشة وهي تحادث أصدقاءها من العالم الآخر!

– هل تسمعينهم فعلًا؟

– غالبًا.

– ماذا يقولون؟

– لا شيء، إنني فقط أذهب وألعب معهم.

– ألا يجدون مَن يلعب معهم؟ ولماذا يضايقونك؟

هزت كتفَيها في لا مبالاة، وأحسستُ بالأسى، ثم خطرَت ببالي فكرة.

– لماذا لا تأتين بهم إلى هنا؟ حين يستدعونكِ في المرة القادمة قدِّمي لهم الدعوة للحضور ومشاركتنا اللعب.

هزَّت رأسها قائلة: إنهم لا يستطيعون.

– ولِمَ لا؟

– لأنهم لا يقدرون على الحركة كما نفعل نحن، كما أنك لا تستطيع الذهابَ إليهم.

لم تكُن «بوكولا» تُشبه «تيني» أو تُشبهني أو حتى أصدقاءها في العالم الآخر، كانت وحدها التي تستطيع العبور بسهولة من عالم إلى آخر.

شاهدتُها ذات مرة وهي تعاني نوبة دُوار، كانت عيناها جاحظتَين وأسنانها مطبقة بينما كان جسدها يترنح وأمها تبكي وتقول: ساعدني، إنها تعاني بردًا شديدًا.

ثم راحت بيأسٍ تدلك جسدها كي تعيد إليها الحياة حين سارع والدها بالحضور من المكتبة عبْر الباب المجاور وفتح فمها بقوة، انتزعَت الخادمة الزجاجة من الدولاب، وصبت بعض السائل في حلقها، لكن «بوكولا» ظلت على حالها، لكنها بعد لحظات تجاوزَت الخطر، وقل التوتر بين أهل البيت، تمدَّدَت على السرير، وعادت إلى وعيها تمامًا، واكتسى وجهها بجمال أخَّاذ فجلستُ أنا و«تيني» بجوارها نتأملها حتى استيقظَت، كانت أمها مشغولة بإعداد شوربة السمك، وفي العادة كنا جميعًا نأكل من نفس السلطانية، لكن زوجة بائع الكتب وضعَت هذه المرة بعضًا من الشوربة في إناءٍ صغير، وأضافت إليه سائلًا ثقيلًا من الزجاجة، وكان مالحًا وذا طعمٍ رديء ورائحةٍ كريهة، رفعَت رأس ابنتها تساعدها في احتساء مشروبها الخاص، وقُمنا نحن باحتساء الشوربة، شربَت «بوكولا» جرعتَها بدون أية شكوى؛ فقد كانت تعرف ذلك المشروب، وحين تجاوزَت «بوكولا» الأزمة بادرنا بالخروج كي نلعب، لكن أمها أصرَّت على بقائنا.

أخبرتُ «بوكولا» عن الأزمة التي مرت بها وقلتُ: هل كان زملاؤك ينادونك أثناء ذلك؟

قالت: لا أتذكَّر.

– لكنك تستطيعين فِعل ذلك وقتما تشائين!

– نعم، خاصة حين يفعل أبي أو أمي أو الخادمة شيئًا يضايقني.

– ولكن كيف يحدث ذلك؟ كيف فعلًا يحدث ذلك؟ إن عينَيك تتحولان إلى اللون الأبيض.

– حقًّا! هل يحدث ذلك؟ كل ما أعرفه أن …

توقفَت برهة عن الحديث ثم استطردَت: عندما يرفض أبي أو أمي طلبًا لي، أو يقولان لي لا، فإنني عندئذٍ أسمع زملائي الآخرين يقولون: «هل ترَيْن؟ إنهم لا يريدونك معهم، وهذا ما قُلناه لك.»

فيُخامرني شعورٌ جارف بالذهاب بعيدًا، وأقول لأبي وأمي: سوف أذهب، سوف أذهب إذا لم تفعلوا كذا وكذا، وإذا لم يفعلَا بالفعل فإنني أشعر بالإغماء، ويُصيبني الدُّوار.

– وماذا يحدث إذا لم تعودي كما كنت؟

– لكنني دائمًا أعود.

لم تكن زوجة بائع الكتب تنزعج من طفلتها الخرقاء، كانت امرأةً طيبةً ورقيقة، وكما عرفنا فيما بعدُ أن «بوكولا» لم تكن قاسية؛ فهكذا شأن اﻟ Àbikú؛ إذ ليس بمقدورها التحكُّم في نفسها.

فكَّرتُ في كل الأشياء التي كانت «بوكولا» تسأل عنها، والأشياء التي يعجز الوالدان عن تحقيقها، فقلتُ لها: ماذا لو عجزوا عن تلبية طلبٍ مثل سيارة فاخرة مثلًا؟

قالت بإصرار: لا بد أن يقوموا بما أطلبه.

قلت: لكن ثمَّة أشياء ليست في مقدورهم؛ إذ إن الملك نفسه لا يملك كل شيء.

قالت: حدث في آخر مرة أن طلبتُ عمل سهرة، فرفض أبي قائلًا: كانت لنا سهرة منذ وقتٍ قريب فأصابني الدُّوار والإغماء.

اعترضَت «تيني» وقالت: لكن الواحد منا لا يستطيع القيام بسهرة كل يوم.

أجابت بعناد: أنا لا أقوم بعمل سهرة كل يوم، ويومها لم أكن أطلبها لي؛ فقد كانت لزملائي حين أخبروني أن أرتِّب لهم سهرةً ما دمتُ لا أستطيع الذهاب معهم.

كنتُ ألاحظها بدقة حين هزت كتفَيها بلا مبالاة، وتغيَّر وجهها الدائري الجميل، فهل كانت تدبِّر رحيلًا آخر؟!

١  Àbikú الطفل الذي يُولد، ثم يموت، ثم يُولد، ثم يموت، وهكذا. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥