١٠

لم يكن رنين ساعة الكنيسة أو أصوات فرقة البوليس أو مدَّخرات السوق هي وحدها ما نسمع، وإنما أيضًا كانت أجراس الفرق الإلكترونية التي يحملونها ويساومون بها في بيع البضائع المستوردة، امتلأ الطريق الذي يتوسط سور فِنائنا الخلفي وسور الكنيسة ببضائع الباعة الجائلين، شالات وأمشاط ومرايا، إيريال للراديو، رغاوٍ بألوانٍ مختلفة وقطع غيار من المطاط، قوارير وأكواب للشراب وأخرى لوضع الزهور، مفارش شرقية للموائد مصنوعة في مانشستر، ساعات ومجوهرات، براويز للصور وأخرى لصور راكيل وولش ومارلين مونرو وديانا دورس وجين راسل وجريتا جاربو وبعض صور نجوم العالم من الرجال بشواربهم الفظة.

كانت «آكية» مليئة بالأصوات والتحركات الغريبة منذ الفجر وحتى الغسق، ثم تلك الأحاديث والروايات المختلفة التي كنا نسمعها ونحن فوق حصائرنا فتزيد من حَيْرتنا، ونحن نقاوم النوم والبقَّ والصراصير والحشرات ذات الأجنحة الشفافة القادمة من كنيسة القديس بطرس.

عند زيارة العمة «ليجادو» أو القيام بنزهة في الليل كنتُ أغنِّي طوال الطريق خوفًا من أخطار الظلام والعفاريت وأرواح اللصوص، وذات يومٍ سمعتُ مَن يغنِّي بأعلى صوته:

«أنا الساحر،
يجب أن تعرفوا جميعًا؛
فسوف تسمعون عني أينما ذهبتم،
يمكنكم رؤية اسمي بحروفٍ كبيرة،
وتستطيعون رؤيتي وأنا ألتهم دجاجة كبيرة،
أنتوني بيتر زخاري الأبيض،
الرجل الذي يهب السرور دائمًا،
أصدقائي، تعالَوا وشاهدوا،
أي نوعٍ من السحرة أكون،
تعالَوا جميعًا، مرةً واحدة،
والتحقوا بالجمع،
ارفعوا أصواتكم بالشكر والثناء.»

لماذا الدجاج؟ كان سؤالًا يبعث على الحَيْرة؛ فلم تكن قوة الساحر غريبة لكنها غامضة، وكان أولئك السحرة الذين تلقَّوا تدريبًا في الهند يقومون بأعمالهم دائمًا في الصالة المئوية؛ حيث يحرقون البخور ويُتمتِمون بمئاتٍ من التعاويذ والكلمات الغامضة ويرشُّون المياه الروحية.

أصبحَت الأغاني هي حارسي الدائم وأنا أعبُر الطريق بين سور فِنائنا الخلفي وفِناء الكنيسة، كما كنا نغنِّي النشيد الوطني مع الكورس في المواسم، مما ساعد في تقوية صوتي، فكانت النغمات تخرج من حنجرتي واضحة، لكن الكلمات كانت تبدو وكأنها لغةٌ غريبة هي خليطٌ من الإنجليزية ولغة اليوروبا، كتلك التي يتحدث بها طفلٌ جميل من خلال زجاج النافذة.

كنا أحيانًا نشاهد السيد «أوريجا» عازف الأرغن وهو قادم من بوابة الكنيسة الخلفية، اتجهتُ ناحيته ذات يوم وأنا أُنشِد بعضًا من الشعر الوجداني الغامض.

كان رجلًا متهدلًا يبدو كالشبح، ودائمًا ينظر حواليه وهو يمشي بخطًى واسعة نحو الكنيسة كي يلحق بالصلاة، توقفتُ وقلتُ له بفزع: مساء الخير يا سيدي.

تمنَّيتُ ألا يكون في غنائي ما يمسُّ الدين حتى لا يخبر إسحاق في اليوم التالي، لكنه جاء لزيارتنا ومعه ديك كي يسأل إسحاق أن ألتحق بالكورس، وليس لإخباره بأية مخالفة كما تصوَّرت.

تناقَش مع إسحاق طويلًا، وكان ثمَّة إحساسٌ غريب قد تملَّكَني منذ اللحظة الأولى التي رأيتُه فيها وهو يقترب من الباب الأمامي.

قال إسحاق: إنه ما يزال صغيرًا.

لكن السيد «أوريجا» كان مصرًّا على أن صوتي صالح للسوبرانو، وأخيرًا تمَّت الموافقة.

كان «أودون» يقيم في الجانب الآخر من سوق «إيبارابا»، وقد تم اختياره معي للكورس، وكم سعدنا بذلك الاختيار؛ لأنها فرصةٌ أخرى للتحرر من قيود أهل البيت، إلى جانب الدروس والكشافة وبعض القصص الخيالية، أصبح لدينا ما يُبرِّر خروجنا؛ فكان يكفي أن نقول: نحن ذاهبون إلى تدريبات الكورس، لكنني بالرغم من أنني أعيش بالقرب من الكنيسة حيث التدريبات إلا أنني كنتُ أعبُر الطريق بين ميدان «آكية» وسوق "إيبارابا" متجولًا خلال السوق حتى أصل إلى «أودون»، لأعود معه في نفس الطريق قاصدًا الكنيسة للتدريبات.

لم يكن سوق الصباح يثير اهتمامي، فقرَّرتُ تغيير طريقي إلى سوق المساء، في الجانب الآخر من الطريق المؤدي إلى «إيبيريكودو»، وكان هذا يعني أن مسافة السير ستزيد عشر دقائق أو خمس عشرة دقيقة، فرحتُ أخرج قبل موعدي حتى أصل في نفس الموعد، كانت رائحة الورود في السوق تنعش الأنوف في المساء وكأنها تشير إلينا أن ننفقَ نصفَ ما نجحنا في توفيره طوال الأسبوع.

وقفنا في السوق ذات مرة نتأمل الأصابع الرقيقة للمرأة العجوز وهي تغرف عجينة الفول البيضاء من الطبق بكمياتٍ متساوية وتلقي بها في الزيت المغلي؛ حيث تغوص في الزيت وتترنح فوق السطح، ثم تتحول إلى اللون القرنفلي وتصبح كالفقاعة، كانت قشرة العجينة من الخارج يابسة ذات لون يميل إلى الأسمر، وكانت عجينة الفول من الداخل مختلطة بالخضروات والفلفل الأحمر، لكن النقود لم تكن كافية لإشباع كل الرغبات التي كنا نتغلب عليها بالرؤية والشم.

أصبح تدريب الكورس سببًا أساسيًّا للنزهة عبْر «إيبارابا» والتمتع بروائح المساء الفاخرة، وما هي إلا شهورٌ قليلة حتى أصبحنا من المرتِّلين الجيِّدين فلم نعُد تحت التمرين، لكنني ظللتُ أغادر المنزل مبكرًا في أيام الآحاد وأعياد الكنيسة الأخرى لاستدعاء «أودون» لتراتيل الصباح والمساء.

لم يكن سوقُ الصباح يعمل في أيام الآحاد، لكن امرأة كانت تأتي وتصنع الطعام من جراد البحر والفول والأرز ومختلف أنواع البطاطا، كانت تقف وحيدة تواصل عملها، لكن إفطار المنزل كان كافيًا فلم تستطع أن تثير شهيتنا، كنت أضع الرداء الكهنوتي الأبيض فوق كتفي وأسارع بإحضار «أودون» مناشدًا الله أن أصلَ بأقصى سرعة إلى «إيبارابا»، كي ننفق كل النقود التي أعطَونا إياها، في الكبدة التي تصنعها المرأة العجوز، إلى أن تدق أجراس الكنيسة مشيرة إلى بدء الصلاة وملاقاة الرب، كنا نغنِّي ونرتِّل الأناشيد بطريقةٍ أفضل بعد قضاء وقتٍ طيب عند المرأة العجوز، كانوا يتضايقون لتبديد تلك النقود في يوم الأحد، لكنَّ أحدًا لم يعاقبنا.

كان الباعة المتجولون ينادون بالغناء على بضاعتهم، وأيضًا كانت المحلات المضاءة بمصابيح النيون الخضراء إلى جوار محلات «ماكدونالد هامبورجر»، و«كنتاكي فرايد تشيكن»، ومحلات السجق ذات الشكل الهندسي المنتظم مثل شرائح الصابون، والذي كان الأغنياء يضيفون إليه البيض والأسماك المعلبة القادمة من البرتغال والبلوبيف القادم من الأرجنتين، كانت آلة لصنع الفشار المنتفخ كالقنفذ بجانب تلك المحلات المضاءة، وكان الفشار ملفوفًا في أكياس نظيفة من البلاستيك معلقة في مواجهة العابرين الذين يتوقفون للشراء بعيونٍ جاحظة وأسنانٍ متحركة، كانت أذرعهم تتسابق في الشراء ملوِّحين بها إلى أعلى وأسفل مثل الدجاجة، وكانت أصوات الراديو والكاسيت تدوِّي من تلك المحلات المتلألئة.

كانوا يتوجهون إلى بوتيكات الزينة لشراء الدهانات الخاصة بتحسين الوجه أو الشعر في حالة من الانبهار بكل ما هو جديد، ويتوقفون عند «ماكدونالد» لالتهام السجق، ثم يشربون الكوكاكولا.

كان الزحام والضوضاء والتنافس في الشراء أو المشاهدة؛ فهكذا تبدو الأشياء في بداياتها، لكنها للأسف كانت تقليعةً أجنبية.

كان أبناء الأطباء والمحامين والمهندسين والبيروقراطيين يمرون عبْر «داييزي» يتطلعون إلى القبعات، ويتجمعون عند «كنتاكي فرايد تشيكن»، أما البنات فكن يتوقفن عند الكوافير؛ حيث موسيقى الديسكو ورائحة المشط الساخن، الذي يتخلل شعر الزبونة الشابة دون أن يحرقه.

كان التجول في «داييزي» يتسم أحيانًا بالقلق حين يصبح ميدان «آكية» مليئًا بالروائح في موسم المانجو، فتنتشر أسراب النحل والفراشات، وفي أحد المواسم كانت شجرة المانجو خصبة تكسوها الظلال، فكان بائعو الطماطم يقفون تحتها بسرور، وكان عمال وموظفو الحكومة وأولاد المدرسة والمسافرون في اللوري يحيطون الشجرة من كل الجوانب، يقدمون الطعام وأحيانًا الملابس إلى «سوروانك» التي كانت تثير الانتباه.

كانت «سوروانك» تعيش بالقرب من شجرة المانجو في كوخٍ من الكرتون المقوى، ولم يكن حبيبها «يوكولو» يملك مسكنًا ثابتًا، كان يتسكع في طول وعرض «أبيوكوتا»، وكم كان يسيرًا أن تلقاه في كل الأوقات بأي ركن من المدينة، وحدث أن رأيناه ذات يوم يشارك «سوروانك» الطعام، كان يأتي إليها كثيرًا، وعرفنا من تلك الخِرق البالية التي كانت تنشرها خارج الكوخ بعد غسيلها أهمية الرجل بالنسبة لها، أصبح «يوكولو» يقضي معظم الوقت حول شجرة المانجو، بعد أن توقف قليلًا عن جولاته في المدينة، ولم يتوقف عن مشاركة «سوروانك» الطعام.

ظل الناس منتشرين حول شجرة المانجو يتحدثون بشأن تلك العلاقة الغريبة بين «سوروانك» و«يوكولو»، وأصبح التلاميذ يعودون كل يوم بأخبارٍ جديدة عن تطور العلاقة الغرامية بين هذَين المنبوذَين، وكنا نسمع عنهما الكثير من بائعي الطعام وزبائنهم.

رغم ظلال شجرة المانجو الكثيفة فقد تحرك بائعو الطعام بعيدًا نحو الكنيسة، وتركَت «سوروانك» وحبيبها المكان إلى موقعٍ جديد عند الشجرة، وكان من السهل مشاهدتهما عند الظهيرة مستلقيَيْن بظهرهما على الشجرة، كانا يستخدمان خشبَ الشجرة في التدفئة، وأحيانًا في طهي الطعام، كان طعامهما لا يقلُّ حلاوةً عن لحم الخنزير المشوي والبطاطا والليكي، وكل الأشياء الطيبة الأخرى التي كان بائعو الطعام يعملون بها.

لم تعُد «سوروانك» تتكلم كثيرًا، وبدأ بطنها يكبر شيئًا فشيئًا، لم تعُد تثرثر عن العالم والكون ورحلات «يوكولو» الغامضة حول العالم، وإنما صارت تتمتم وتتلو التعاويذ التي لا يستطيع أحد أن يفهمها، وعند اختفاء رفيقها انطوت على نفسها، وكانت تنظر إلى الأرض دائمًا وهي تتمتم، يبدو أنها كانت تتحدث إلى الانتفاخ في بطنها.

ذات صباحٍ سمعنا فجأة بعض الصيحات والصرخات، تسلَّقتُ السُّلم مع الآخرين فرأينا بعضَ زملائنا في المدرسة يرجمون «سوروانك» بالحجارة والعصي، ولم يوقفهم إلا مرور الباعة المتجولين وبعض الرجال الذاهبين لأعمالهم، وكانت قبل ذلك بأيامٍ قليلةٍ قد عادت إلى الكوخ، بعد غيابٍ غير عادي لم يدُم طويلًا، فوجدَته محترقًا بالنيران، وكانت أشياؤها مبعثرة في أماكن متفرقة بعيدًا عن الشجرة، أصبحَت تجلس في وضعٍ واحد لا يتغير، ونادرًا ما كانت تأكل؛ فلم تكن تملك طعامًا أو نقودًا.

كانت تتجنب الأحجار والهراوات بيدَيها، لكنها سقطَت فجأة فوق جزع الشجرة وهي تترنح، فسارع الأولاد ببعثرة ما يحتويه موقد النيران من خرقٍ بالية وورقٍ مقوًّى.

كان الباعة يواصلون أعمالهم، وما هو إلا أسبوعٌ واحد حتى اختفت تمامًا من ذاكرة الناس في «آكية» صورة تلك المرأة المجنونة، المرأة الحامل، «سوروانك».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥