١١

أصبح إسحاق يقضي كثيرًا من الوقت في حجرته، وعرفتُ أن طعامه أصبح قليلًا، ولما كنا نراه خارجًا من حجرته كان ينظر إلينا بقوة لم نتعوَّدْها من قبلُ وهو يهزُّ رأسه بحزن، كان يبدو طبيعيًّا ولا شيء قد تغيَّر في مظهره، وكان الزائرون كالعادة يتردَّدون على المنزل في أوقاتٍ مختلفة من النهار والليل، لكنهم كانوا أقل عددًا وأحيانًا كانوا يعودون دون رؤية إسحاق وهم يقولون: إن الناظر نائم الآن، يجب أن نتركه ليستريح!

أصبحَت المسيحية المتوحشة على غير العادة تقضي وقتًا أطول في البيت، تاركة شئون الدكان للخادمة أو أولاد العم، وكانت تُمضي الوقت في الدخول والخروج من الحجرة تقدِّم لإسحاق الطعام أو الشاي، وكانا يتبادلان الحديث بصوتٍ منخفض، ولم يكن وقتهما كافيًا لمعاقبتنا على ما نسبِّبه من مضايقاتٍ قليلة، كأنا مشغولَين بما هو أهم.

ظلت مضايقاتنا تقل تدريجيًّا حتى لم يعُد ثمَّة شيء يمكن أن يعاقبونا عليه، تلاشت رغبتنا في الخروج أو التسكع في نزهاتٍ قصيرة ومشاركة زملائنا اللعب، وبعد الانتهاء من المدرسة كنتُ أسارع إلى المنزل لأن شعورًا غامضًا كان يجتاحني بأن أكون مع العائلة لأشاركهم المودة واللمسات الهادئة والنظرات الجميلة والأحاسيس البسيطة الرائعة.

دخلتُ ذات يوم حجرة إسحاق فشاهدتُ الزهور وتحديقه الدائم في الأشياء وعندئذٍ استطعتُ أن أفهم، كانت نظراته تصل إلى أبعد من جدران الحجرة، وكم كانت دهشتي عظيمة حين رأيتُه يهزُّ رأسه في ضيق ويحدِّث نفسه برقَّة قائلًا: «أوه يا عزيزي، يا له من موتٍ يثير الشفقة!»

سمعتُه كثيرًا وهو يردِّد نفس الكلمات، فلم يعُد يساورني شك فيما سمعت، وكانت ابتسامةٌ غريبةٌ ممتزجة بالأسف والضيق والترقب ترتسم فوق وجهه الهادئ، الذي كانت ملامحه تُوحي بشيءٍ ما غامضٍ لم أستطع التعرُّف عليه، لكنني أدركتُ عن يقينٍ أن الابتسامة لا تعني بالضرورة الفرح والسرور.

كان يترنح أحيانًا برأسه ويميل بها ناحية اليسار ثم ناحية اليمين وهو يبتسم في رفق، غير أن عينَيه كانتا غارقتَين في التساؤلات والدهشة والغموض.

«نعم، يا له من موت يثير الشفقة!»

استدعاني ذات مرة إلى حجرته، وكان جالسًا فوق السرير حين طلب مني أن أجلس في مقعده بجوار الشباك، وكانت المرة الأولى التي أراه فيها يبتسم كثيرًا وبإصرار.

بادرني بقوله: لا تدَعْ شيئًا يقهرك؛ فأنت رجل هذه العائلة، فإذا لم تكن قويًّا فما بالك ﺑ «تيني» والآخرين، إن تفكيرك يجب أن ينحصر في التعليم، ولا تهمل تعليمك.

تحيَّرتُ وأحسستُ بالتعب، ولم أستطع أن أفهم شيئًا، لكنني أومأتُ برأسي قائلًا: نعم.

قال: أنت الآن في مدرسة القواعد، وعليك بالاستمرار حتى تجتاز كلية الحكومة لتحصل على منحةٍ دراسية، إن كليات الحكومة لديها الكثير من المنح الدراسية لمن يستحقها، وهذا ما يجب أن تكافح من أجله، وليكن أحد أهم أهدافك أن تجد مكانًا في كلية الحكومة، هل تسمعني؟ إن الحكومة تساند التلاميذ، ودائمًا لا بد أن تفكِّر بذلك.

قلتُ له: أعدُك بذلك.

كان ما قاله هو ما يطمح فيه، وفجأةً غمَرني إحساسٌ مفاجئٌ وحادٌّ بأن انتقالًا هامًّا في حياتي لا بد سيحدث بعد ذلك الوعد الذي ألزمتُ نفسي به، وكان من العسير أن يقفَ أيُّ شيءٍ حائلًا بيني وبين الوفاء بذلك الوعد، الذي تم بين اثنَين في ظروفٍ غير عادية، لكنني حتى تلك اللحظة لم أكن قد فكرتُ في خطة بعينها.

هزَّ رأسه وكأنه عرف ما دار بذهني وأصبح مسرورًا ثم استطرد: إن الأشياء لا تحدث دائمًا كما تخطط لها؛ ففي الحياة كثيرٌ من خيبات الأمل، ودائمًا ما تُفاجئك أشياء غير متوقَّعة، هكذا هي الحياة، ونحن لسنا آلهة، هل تفهمني؟ إن الواحد منا لا يستطيع معرفة ما سوف يحدث في الغد، وهكذا يجب ألَّا نفعل شيئًا سوى التصميم والإرادة، الإرادة الخالصة، وكذا الإيمان بالله، فلا تُهمِل صلواتك، خاصة وأنك رجل العائلة، وأن الآخرين سيتطلعون إليك، سوف تكون مسئولًا تجاه نفسك وتجاه الآخرين فلا ينبغي أن تخيِّب ظنونهم.

هزَّ رأسه مؤكدًا: أبدًا، أبدًا، لا تخيِّب ظنونهم!

أصابتني الحمَّى ذلك المساء، وطوال الليلة واليوم التالي كان جسدي ساخنًا، ولم أكن خلال الهذيان أرى شيئًا سوى وجه أبي وأمي بالقرب من السرير، وعندما شُفيتُ في اليوم الثالث سمعتُ المسيحية المتوحشة تقول: ماذا حدث؟ هل كانت الحمَّى سببًا لما دار بينك وبين أبيك من حديث؟

كنتُ أعرف أن ما قالته هو الصواب؛ فلقد أثقل حديثُه رأسي، لكنني قلتُ: لا شيء، لا شيء.

وفشلتُ أن أعرف كيفية أن يؤدي أحدُ الأشياء ببساطة إلى شيءٍ أخر! بسبب مرضي تأخر التقاط الصور، وبعد شفائي جاء المصور، وبدأ بهدوء في عمله، ارتَدَى إسحاق أجمل ثيابه، وتم تصويره بمفرده مع شجيرات الحديقة والزهور والأغصان الجميلة، ثم مع المسيحية المتوحشة، وبعد ذلك مع كلٍّ منا على حدة، وأخيرًا جمعَتْنا صورةٌ واحدة.

عاد إسحاق إلى حجرته وقد تغيَّرت ملامحه، وتم تصويره بين جدران الحجرة وهو جالس مرةً وواقف مرةً أخرى، دون أن تفارقه ابتسامته العريضة، ثم طلب من المصور الإسراع في الانتهاء من الصور الليلة.

تعجَّب المصور واعترض قائلًا: لا أستطيع إلا غدًا مساء.

عدتُ إلى السرير متعبًا؛ فثمَّة آثارٌ خفيفة كانت متبقية من الحمَّى راحت تزول تدريجيًّا، وبدأت أنظر شيئًا فشيئًا عودة الروتين القديم؛ الضوضاء، الابتهاج والسرور، النكات والمرح، زيارات الحجرة الأمامية وغياب المسيحية المتوحشة الدائم من المنزل وبقائها في الدكان.

أصبح المنزل طبيعيًّا، وعادت الأشياء إلى ما كانت عليه، ففكرتُ أن كل ما حدث كان فقط من تأثير هذيان الحمَّى.

كنتُ أراقب إسحاق فأبصرتُه متحيرًا بشدة، كان متعجلًا الحصول على الصور، وها هي الآن معلقة فوق الحائط في إطاراتٍ من الخشب.

عُدتُ بذاكرتي إلى الخلف قليلًا، فعرفتُ أن ثمَّة شيئًا قد تأجل، وأحسستُ بأنني أقدِّم الشكر والامتنان للقوى غير المرئية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥