١٢
كانت مدرسة «أبيوكوتا» الثانوية عالمًا جديدًا لم أتعوده من قبلُ، كانوا كبارًا، وكان من الصعب التفرقة بينهم وبين المدرسين إلا بالقمصان الزرقاء والزي الكاكي، أوه، كان الأب على حق، إنهم يبدون كالرجال، بل إن بعضهم كذلك فعلًا.
كانت كتبي الجديدة جميلة وشيقة، وكذا الكراسات والأقلام الرصاص ونشَّافة الحبر وبعض الأدوات الأخرى، لكنني فقدتُ نصف هذه الأشياء في الأسبوع الأول، وكانت الآلة الحاسبة المتلألئة هي أفدح الخسائر، وأيضًا كان الفرجار والمربع والمثلث ونصف الدائرة الشفافة ذات العلامات الغريبة، آه، إن عقاب الخسارة سيكون مؤلمًا.
سرق الولد الكبير الحقيبة بعد أن تجاهلتُ كل النصائح ولم أحفر اسمي على الحقيبة المعدنية المسطحة، كانوا جميعًا يعرفون أن الولد الكبير هو الذي سرق الحقيبة، وكذلك كان هو يعرف بأننا نعرف.
لاحظتُ أفعالًا وتصرفاتٍ غريبةً في ذلك العالم الجديد، كان وسطًا مليئًا بالحكايات ولم يكن معقولًا أن يسرقوا أدواتي الهندسية هكذا أمامي وأثناء الدرس.
رحتُ بالغريزة وحب الاستطلاع أدرس زملائي الجدد عن قرب، ابتكرتُ طرقًا مختلفة للحياة بينهما، وكنت أتطلع بشغف لزيارتي القادمة إلى «إيسارا» لمقابلة الرجل العجوز العالم بالأمور، وشعرتُ بوجوب معرفة زملاء مدرسة «أبيوكوتا» القادمين من منازلهم من أجل العلم والمعرفة.
قبل انتهاء العام لم أكن في حاجة إلى ملاحظات المسيحية المتوحشة كي أعرف بأنني كنتُ أجنح كثيرًا إلى أحلام اليقظة.
عند التحاقي بالمدرسة كان «داودو» مسافرًا في بلاد الإنجليز، كمسئولٍ تربوي عن غرب أفريقيا، فتولى السيد «كوفوريجي» مدرس الرياضيات إدارة المدرسة، كان معروفًا باسم «وي، وي»، ولم يكن هذا الاسم يعني شيئًا بالنسبة لنا حتى أصبح مديرًا للمدرسة، وراح يتجوَّل بحُلَّته الأنيقة في أرجاء المدرسة، كان ذا صوتٍ رفيع يُحدِّق بعينه هنا وهناك، وكانت قامتُه كالدجاجة التي تلتقط المحصول حين يظهر فجأة في الفصول لمتابعة الدرس والعصا دائمًا في يده.
كان «وي، وي» نشيطًا يحب النظام ولا يكُف عن المتابعة.
مدرسة «أبيوكوتا» الثانوية، وعنبر النوم الكبير، والمخابئ، والطرقات، والأشجار الكبيرة والصغيرة حول الملاعب، وتلك السياج الكئيبة التي تفصلنا عن العالم الخارجي، كانت الرغبة في تحطيم تلك السياج جامحة، وكذلك الرغبة في الهرب تنتابني أثناء فترات ممارسة الرياضة وفترات الراحة فقط، لكنها لم تكن تتولد في الفصول أو في صالة الاجتماعات أو في مكتب مدير المدرسة.
كان المشرف يواصل جولاته الليلية فتصيبه الحَيْرة أحيانًا حين لا يجد الطلبة، أو يبصر سريرًا خاليًا من صاحبه.
كان الولد الكبير الذي سرق حقيبة أبيه، كان أبوه ثائرًا حين جاء إلى المدرسة متوجهًا إلى مكتب المدير، وما إن عرف الولد بوجود أبيه حتى حزم حقيبته وهرب دون أن يعود مرةً أخرى، ولقد سمعنا فيما بعدُ أنه لم يعُد إلى المنزل، ذهب إلى «لاجوس»، والتحق هناك بإحدى الوظائف، وكان من وقتٍ لآخر يأتي إلى المدرسة القديمة مرتديًا أحدثَ الأزياء وأفخمَ الملابس، مقدمًا لزملائه العون، جاء في يومٍ ما إلى المدرسة ليقول وداعًا؛ لأن والده سيرسله للدراسة في إنجلترا.
كانت الفضيحة الكبرى تتمثل في الفتاة الحامل، وكان شيئًا عاديًّا أن يتسبب «أ. كينزي» فيما حدث للفتاة، لكنها المرة الأولى التي يصمِّم فيها والد الفتاة على طرد الجاني من المدرسة، اهتمَّت الإدارة بالأمر، وتناقشَت مع والد «أ. كينزي» الذي كان من عائلةٍ هامة في «أبيوكوتا»، كان «أ. كينزي» محبوبًا من الجميع ومتأنقًا حتى في زي المدرسة، وكان يمشي بخُيلاء، مما جعل الأولاد الأصغر سنًّا يقلدونه بطريقةٍ لطيفة، كان يختال في سيره فوق الرصيف وكأنه يعلن عن اسمه، أو يعلن عن وصوله، لكن السيد «كوفوريجي» كان يجد صعوبةً في طرد أي طالب، وخاصةً إذا كان في عامه النهائي، وكان يرى أن يصبح العقاب شديدًا من أجل العِبْرة.
كان العقابُ شديدًا في مدرسة «أبيوكوتا»، ستة وثلاثون ضربة.
اصطفَّ الحاضرون في الصف الأمامي من القاعة العمومية، وصعد السيد «كوفوريجي» المنصة معلنًا عن سبب الاجتماع، ثم عبَّر عن الصدمة التي أصابت المدرسة كلها من جرَّاء تلك الفضيحة، وما أصاب عائلة الفتاة من تعاسة، أعلن عن اسم الجاني، وأمره بالوقوف والمجيء إلى المنصة، ثم اتجه ناحيته، وأخبره أن يختار بين طرده من المدرسة وتلطيخ اسمه للأبد أو ضربه ستةً وثلاثين ضربة بالعصا أمام الحاضرين، اختار الرجل الصغير الضرب، فأصدروا إليه الأمر بالانحناء حتى يلمس أصابع قدمه، وكان أحد المدرسين يعُد الضربات بينما «وي، وي» بدأ في تغيير العصا عند نهاية الاثنتَي عشرةَ ضربةً الأولى دون أن تتحرك عضلةٌ واحدة من «كينزي»، وكان «وي، وي» أثناء ضربه الاثنتَي عشرةَ ضربةً الثانية يمسح العَرقَ المتصبِّب فوق وجهه، وبدأَت ضرباتُه تفقد قوَّتها عند بداية الضربة الرابعة والعشرين، فشعَرتُ أن «كينزي» سيدخل التاريخ، كانت كلُّ الأنظارِ متجهةً إلى جسد «كينزي»، ولم يستطع أحدٌ أن يصدِّق أنه تحمَّل أربعة وعشرين ضربةً فوق ظهره وأردافه بدون أن يغيِّر ولو مرةً واحدة من وضعه، أو بدون أي رعشة في عضلاته.
تعجبتُ وقلت لنفسي: ربما يحشو جسده بشيءٍ ما، لا بد أنه يضع شيئًا تحت ملابسه.
سارع «وي، وي» برفع ظهره، وشد بنطلونه للتأكد من عدم وجود أي شيء، ثم واصل ضرباته الأخيرة بكل قوَّته، وكان العرق يتدفَّق منه بغزارة حين نهض «كينزي» بهدوء وهو ينحني برشاقة مرتلًا بعضَ الأناشيد الدينية.
قال «كينزي»: شكرًا سيدي.
انصرف الجميع وتفرقوا.
– عاد «وي، وي» مدرسًا للرياضيات بعد عودة «داودو» من مهمته في إنجلترا، استقبلَه الناس في «أبيوكوتا» بالترحاب، كان يمتطي حصانًا أبيض في «آكية» في طريقه لكنيسة القديس بطرس، وكان نافخو البوق يُحيطون به، وكذلك حاملو الطبول وصفوف من الكشافة، مما يوضح أهميته غير العادية بعد أن أصبحَت أعماله ومآثره في إنجلترا معروفة على نطاقٍ واسع، كانوا يتحدثون عن كفاحه ضد الخطط البريطانية التي طالبت بإنشاء جامعةٍ واحدةٍ فقط لمستعمرات غرب أفريقيا، وكيف أنه أصرَّ على إنشاء جامعة في كل مقاطعة.
لم يهتم «داودو» بغواصات هتلر التي لم تفرِّق بين السفن الحربية وغيرها من السفن، وعاش بعد قنابل هتلر الشيطانية، وعبَر البحر مرتَين برغم الأخطار، كان يمتطي الحصان في «آكية»، وكان وجوده يبعث على الرهبة حتى لضابط المقاطعة، وعند مروره في أي مكان كان الرجال ينبطحون، وكانت النساء تركع، ويبدَءون جميعًا غناء النشيد الوطني بمساعدة مدرس الموسيقى.
دائمًا ما كنتُ أغنِّي ذلك النشيد في المنزل.
كان «داودو» بارعًا في إشرافه على إقامة النشيد الوطني في المدرسة، كان يبذل مجهودًا كبيرًا في المعالجة الموسيقية حتى يتصبَّب العرق من تحت إبطه على شكل دائرة تأخذ في النمو إلى أن تصل صدره، كان بسهولة يلتقط بأذنَيه أي صوتٍ خطأ، ويعرف الصف المخطئ أو الفصل المتسبِّب في الخطأ، فيعاقبهم بضرب العصا.
بعد ظهر أحد الأيام كنتُ أعبث بالبيانو، فسألني «داودو»: لماذا لا تتعلم العزف على البيانو جيدًا؟
كنتُ خائفًا من عصاه حين كذبتُ عليه قائلًا: إن أبي قد بدأ في تعليمي.
كانت مجموعة من النساء تتجمع عند السيدة «كوتي»، وكن يناقشن مشاكلهن وما يتعرضن له في المنازل، وكانت المسيحية المتوحشة واحدةً من أعضاء تلك المجموعة، كنتُ أنتظرها بعد المدرسة لأعود معها، وكن يتجاهلن وجودي وهن يتحدثن ويشربن الشاي، كن زوجاتٍ لرجال الأعمال والمدرسين والصيادلة والقساوسة، وجميعًا كن مسيحياتٍ يتحاورن أحيانًا حول أسعار السلع والبضائع والنقص الناتج فيها، وكانت مسئوليات الخدم تشغل مساحةً كبيرةً في أحاديثهن، وكثيرًا ما كن يكرِّرن: إن الخدم لا يعرفون ما يفعلون، ولا يفهمون وضعهم في المجتمع، وبعضٌ منهم لا يحسن ترتيب الأشياء أو رعاية الأطفال.
قال «داودو» ذلك، ثم راح يواصل جولاته.
تطلَّعَت السيدة ذات الشعر الأبيض نحوهن بوقار، وقالت: إن «داودو» لم يقل غير الحقيقة، وعلى كل واحدةٍ منا أن تُحضِرَ معها في المرة القادمة واحدةً على الأقل من الفقيرات.