١٤

بعد عودة السيدة «كوتي» أقاموا مهرجانًا كبيرًا في مدرسة «أبيوكوتا» والمنطقة المحيطة بها، أصدر «داودو» الأمر بإحضار مئاتٍ من المصابيح، وكانت قوائم الخيزران منتصبةً بامتداد الطريق، جهَّزوا مطبخًا كبيرًا حول الحقول مضاءً بالمصابيح، وكذلك كانت عوارض الأعمدة الكبيرة متلألئة بالإضاءة التي انعكسَت على المقاعد والموائد في الحديقة، فبدا الليل وكأن ملايين الحشرات المضيئة العملاقة قد غزت الإرسالية.

كانت الصواني الضخمة والأواني والأطباق والسلال تتحرَّك عبْر الضوء محمَّلة بالطعام، وكانت الأغاني تتردَّد في المكان، وكلما ظهَر «داودو» أو «بيير» في أي جزء من أجزاء الإرسالية كانت الهتافات تردِّد: «داو… و… و… و… و… ﺑﻴ… ﻳ… ﻳ… ﻳ…»

تدفقَت مجموعات النساء إلى الإرسالية دون انقطاع، وكانت دقات الطبول تتقدم بعض المجموعات التي سرعان ما انتشرت في المكان، معبِّرةً عن اختفائها بقدوم «بيير» بالرقص والغناء.

لم يسبق أن رأيتُ «داودو» فخورًا بنفسه هكذا، كنتُ ألاحظه بدقة كلما اقتربتُ منه، فبدا لي وكأنني أرى حدثًا نادرًا، كان رجلًا كبيرًا تبدو عليه السعادة دون خجل، ولأول مرة أشاهده يتقدم بصدره للأمام متجولًا من جانب إلى آخر وهو يمسك بالعصا الضخمة بين يدَيه.

كان يبقى كثيرًا في الدور العلوي مكتفيًا بالنظر من النافذة، ولم يكن يهبط إلا قليلًا لإصدار الأوامر والتعليمات، وللإشارة إلى بعض الأشياء الخاصة.

كان من الواضح تمامًا أن «داودو» صديقٌ كبيرٌ لاتحاد النساء.

اتسمَت اجتماعات النساء بالجدية والسرعة، وكان إسحاق يُعيد صياغة ما يكتبنه بخطه الجميل، ويدفع بالورقة ناحية المسيحية المتوحشة قائلًا: لماذا لا تناقشين هذا غدًا مع النساء؟

أصبحتُ أقوم بدوري كرسول متنقلًا بسرعة ونشاط بين «إيجبين» و«آكية» والدكان وماما «أدوني» وماما «إيجبور» و«كيمبيري»، واستعادت المجموعة دروس القراءة والكتابة، وبدأتُ أسأل نفسي: ألا تُوجَد بين تلميذاتي زوجةٌ أجمل من السيدة «أدوفوا»؟ كانت أصغر النساء وأجملهن وأكثرهن حياة وفتنة، ثم عرفتُ أنها لم تكن متزوجة، فقررتُ الزواج منها، خاصة وأن بعض النساء كن يتهامسن عن ضرورة زواج مدرسهم الصغير — بعد أن أصبح طبيبًا.

خصَّصَت النساء في اجتماعاتهن ساعةً للقراءة والكتابة وعلم الحساب، وساعةً أخرى لتبادل الأسئلة عن الصحة، وبعضَ الوقت لمناقشة مشاكل الضرائب، كن قد رفضن الطلبات الكثيرة التي تقدَّمن بها للإعفاء من الضرائب، فاختارت المجموعة وفودًا جديدة، وكتبَت النساء مزيدًا من الطلبات حتى امتلأ مكتب ضابط المقاطعة بالطلبات والعرائض والتهديدات.

سافرَت السيدة «كوتي» مراتٍ عديدةً إلى لاجوس للحصول على مزيد من التأييد، حتى سمعنا بعد فترةٍ طويلةٍ عن تكوين «اتحاد النساء النيجيري».

أصبح الاتحاد معروفًا على أوسع نطاق، وكان الكل يشارك في وضع نهاية لحكم الرجل الأبيض في البلاد، فكان السجن عقابًا لكل من يطالب بمغادرة الرجل الأبيض، اعتقَلوا بعضًا من الشباب القوميين وكثيرًا من الأسماء الجديدة التي انضمَّت للحركة.

كان البعض يُعِد نفسه لزيارة إنجلترا كما فعل «داودو» و«بيير»، وكانوا أيضًا يطالبون بضرورة الانتهاء من حكم الرجل الأبيض، فراح الناس يتجوَّلون في كل البلاد يجمعون النقود، ولم يبخل اتحاد النساء بمساندة تلك المجهودات بكل قوَّته وإمكانياته، عقد كثيرًا من المؤتمرات والمشاورات، وكان من اليسير أن نساهم نحن الصغار بمصروف جيوبنا الصغير إدراكًا منا لأهمية الهدف الكبير.

كن يناقشن مشكلة الضرائب حين نهضَت سيدةٌ عجوز بمساعدة أخريات، تقدَّمَت بجسدها الضعيف نحو المجلس، وقالت: سمعتُ أن بعضَ الناس هنا يفعلون شيئًا لإنقاذنا من المعاناة التي تُثقِل كاهلنا، والتي يفرضُها رجال الضرائب.

كانت أصابعُها تتردَّد فوق عقدة اللفافة، وحين نجحَت في فكِّها أخرجَت قطعةً من الورق واستطردَت: ها هي، إنها سببُ كل المشكلة، سأحكي لكم، كان لي ولدٌ وحيدٌ مات منذ ثلاثة أعوام وله ثلاثة عشر طفلًا، هل تسمعون؟ ثلاثة عشر طفلًا من زوجاتٍ مختلفات، أحضَروهم عندي وكلهم صغار فقلتُ لنفسي: ماذا أفعل بأولئك الأطفال وأنا وحيدةٌ بدون زوج؟ كان لا بد بالتفكير في كيفية الحياة، فتذكَّرتُ مزرعة ابني التي كان يعيش منها، وقالوا لي: «إيا»، يجب أن تفعلي شيئًا، اذهبي لتعتني بالمزرعة، بمساعدة إحدى زوجات ابنك، وعندئذٍ تستطيعين الإنفاق على الأطفال وتعليمهم.

قلتُ: ذلك شيءٌ جيد؛ فالعمل أفضل من التوسُّل.

ثم سارعتُ إلى المزرعة من أجل العيش، حتى لو تعثَّر تعليم الأطفال، كان العمل شاقًّا جدًّا بالنسبة لي كامرأة عجوز، لكن رجال الضرائب حضروا منذ أسبوعَين، وأعطَوني هذه الورقة قائلين: أنت تملكين مزرعةً كبيرة.

لكنهم لم يقولوا شيئًا عن الأطفال الثلاثة عشر، والنساء الأربعة اللاتي يعتمدن على المزرعة، ويتطلعن إلى إنتاجها.

ها هي الورقة أمامكن، من أين لي الحصول على تلك النقود المكتوبة في هذه الورقة، أخبروني أين توجد النقود لأذهب وأبحث عنها؟ إنني لم أرَ قَط في حياتي مثل هذه النقود الكبيرة.

كن ينصتن في هدوء، ثم راحت الورقة تتحرك من يدٍ إلى أخرى، حتى استقرت أمام السيدة «كوتي» فوق المنصة.

اندفعَت «كيمبيري» فجأة من خلف المنصة، دفعَت الكرسي بجسدها وقالت: كفى، لقد سمعنا بما فيه الكفاية O ya, e nso L’AKE!١

نهضن محلقاتٍ بأياديهن فوق رءوسهن، وقد فكَّت كل واحدة منهن رباط رأسها، وربطَتْه حول خصرها.

كانت «كيمبيري» تقود الطريق وهن خارجاتٌ من الإرسالية، فامتلأَت الشوارع المؤدية إلى القصر في «آكية».

كان الممر الواسع المربع يتصدر قصر «آلاك»، ويفصل بين أسوار القصر والشوارع العامة، وكان دكان المسيحية المتوحشة يقع في نهاية ذلك الممر في الجانب الآخر من الشارع، كان الممر نظيفًا ومحاطًا بالأحجار البيضاء والأشجار، وكانت البوابة المقوسة تؤدي إلى مبنى القصر ويجلس فوقها تمثال لأحد الأفيال كان رمزا لملكية «إيجبالاند»، وعند أطراف الممر على اليمين كنا نلمح أشكالًا من الخشب والطين الخزفي.

كنا من خلال الدكان نشاهد الأجبوني وهم يسارعون طوال ساعات النهار للالتحاق باجتماع الرؤساء، كانوا يسيرون بخطًى سريعة وبقوة تشير إلى صحتهم العفية، وهم يرتدون الثياب الواسعة التي تتدلى من أحد كتفيها الأشرطة، كان البعض منهم يرتدي شباشب من الجلد أو القماش وقبعةً من القماش يتدلى منها فوق إحدى الأذنَين جرابٌ أو كيس، ويمسكون في يدهم اليُمنَى بمجموعة من حديد أو نحاس المكتب، كان الخدم يتولون حملها نيابةً عنهم، وكانت أيضًا تلك المراوح الكبيرة من الجلد المقوَّى، لكن أكثر ما كان يميِّزهم هي تلك القبَّعات ذات الحواف العريضة المصنوعة من الجلد والمزيَّنة بالألوان والقشور والخرز.

كانوا يمشون في «آكية» هادئين كأرواح الموتى تبدو على وجوههم سيماء الحكمة، وكنا نخاف منهم، وننظر إليهم بمزيج من الرعب والافتتان.

كانت المباني تحتوي بداخلها على المكاتب وحجرات مجلس الإدارة البلدي، وبداخل المبنى الكبير كان ثمَّة سردابٌ طويل يؤدي إلى الفِناء؛ حيث الانفصال الكامل عن العالم الخارجي، كان السور المنخفض على شكل نصف دائرة يحيط بالفنِاء، وكان مزخرفًا بالتماثيل على شكل الإنسان والحيوان.

عند ظهور «آلاك» في الشرفة كان الرجال ينبطحون على الأرض بينما تركع النساء على أرجلهن ويزحفن على الأرض، ثم ينادي رؤساؤه على مقدِّمي الطلبات وأصحاب الشكوى، وينتهي الأمر بإصدار الأحكام، وتقديم النصائح وبعض الوصايا.

عرفتُ الوقت الذي يظهر فيه «آلاك»، فكنتُ أخاطر بالذهاب لمشاهدة مختلف الناس المتوسلين، وحدث أن رآني ذات مرة فأشار لي وتملَّكَني الرعب، قفزتُ من مكاني واتجهتُ ناحيته بهدوء، لكنه كان ظريفًا معي، وكان الخدم يضحكون في السر، غير أنني لم أملك الشجاعة الكافية لإغراقه بأسئلتي.

اكتشفتُ ذات مرة أحد الممرات، المؤدي إلى دهليزٍ منحنٍ يؤدي بدوره إلى حجرات الحبس؛ حيث يقف رجال البوليس الذين يتظاهرون بأنهم حراسُ القصر، كانوا يفتحون باب ذلك الممر فتخرج مجموعة من المذنبين والمذنبات، يُلقون بهم في تُراب الفِناء أسفل «آلاك» الذي يطل من الشرفة، ويسألهم بصوتٍ رفيعٍ حزين: لماذا أيها الناس لا تدفعون الضريبة حتى لا تجبرونا على فعل ذلك؟

تزاحم الناس عند بوابات القصر، وكم أدهشَتْني ماما «إيجبور» بوصولها السريع مع الأخريات، انحنَت المسيحية المتوحشة احترامًا عند ظهور «آلاك» وكذلك فعلَت ماما «أدوني» والأخريات، ومنهن «كيمبيري»، وكان واضحًا أن «آلاك» يستقبل الوفود بلطف ومجاملة، فراح يتحدث إليهن بطريقةٍ مهذَّبة توحي بالأبوة، وبدا وكأنه مقتنعٌ بكل ما تحدثن بشأنه، كان يتحدث إليهن وكأنهن بناته أو صديقاته أو قريباته.

ركعَت «كيمبيري» مرةً ثانية، وقدَّمَت له التحية قائلة: «كابينزي»، أوه «كابينزي»، إنني أتوجه إليك اليوم باسم كل النساء اللاتي تركن منازلهن وأطفالهن والمزارع والشئون الصغيرة لزيارتكم اليوم، إنهن متجمعاتٌ في الحديقة الأمامية، ويمكنك أن تشاهدهن بنفسك «كابينزي»، إنهن نساء «إيجبا» ولقد جئن للقول: كفى، كفي.

إن السيدة «كوتي» هي التي سألَتني أن أخبرك بشأن النساء المجتمعات بالخارج، إنهن جائعات وأطفالهن جوعى، وليس لديهن أيُّ أمل في التعليم أو الحلم بمستقبلٍ أفضل.

كانت الأسواق قديمًا تنعم بالهدوء والاحترام والأمان، وكنا طوال فترة بقائنا في السوق نُحس وكأننا في بيوتنا، أما الآن فإن رجال الضرائب ورجال القصر يضايقوننا ويضعون أياديهم على الملح والخضروات والمحصول والزيت وكأن ذلك من حقهم، يقولون بأنهم مُجبَرون على فعل ذلك من قِبل الرؤساء والمجلس، ونحن نقول: كفي، كفي، لا نريدهم في الأسواق بعد اليوم، يجب أن يرحلوا بعيدًا عنا، إنهم يرسلون البوليس للقبض على نسائنا وحبسهن وجلدهن بالسياط، لا نريدهم في الأسواق بعد اليوم.

أخبرَتْني السيدة «كوتي» أن أخبركم بأننا نكتب الطلبات، ونعقد الاجتماعات، ونتقدم بالاحتجاج في كل مكان ضد ذلك الظلم في فرض الضرائب.

ارتفع صوت «كيمبيري» وهي تواصل حديثها، حتى سمعَته النساء في الفِناء، فنهضن على الفور، وارتفعَت صيحاتهن حتى ملأَت سماء «آكية»: «لا مزيد من الضرائب، لا ضرائب بعد اليوم.»

كان «آلاك» جالسًا يتأمل المشكلة في ذهول، انتظر حتى يسود الهدوء، ثم قال: «إميليا»، أشكرك جدًّا، أشكركن جميعًا، وأتوجه بشكري للسيدة «كوتي» التي لا توجد هنا الآن.

قاطعَتْه «كيمبيري» قائلة: إنها قادمة في الطريق.

بدا عليه القلق، لكنه سرعان ما عاد إلى طبيعته، وقال: هل هي قادمة؟ آه، حسنًا، إن رائدةً جديدةً ستنضم إلى الجمع، ولكن دعوني أسألكن أيتها النساء: هل تعتقدن بأننا نستطيع؟ إن الضرائب قديمة قِدَم المجتمع الإنساني، ولا يستطيع أحدٌ أن يلغيها هكذا ببساطة.

أجابت المسيحية المتوحشة: «كابينزي»، أتوسل إليك أن تتأمل الأمر. فكِّر في الأمر بعناية فليس الوقت مناسبًا لمعرفة أن أجدادنا كانوا يدفعون الضرائب، إننا نتحدث اليوم عن نسائنا اللاتي لا يستطعن دفع الضرائب.

قال «آلاك»: قد يكون ذلك حقيقيًّا، وأنا أعلم مدى الورطة التي تعاني منها النساء لكن سؤالي ما زال مطروحًا: هل يمكن ذلك؟ وعلى أية حال فإنني لا أستطيع اتخاذ قرار في هذا الشأن؛ فلستُ أنا الذي أفرضُ الضرائب وإنما مجلس الحكومة، فيجب أن يتحول إليهم الأمر، لكنني أسألكن مرةً أخرى: هل تعتقدن أن ذلك ممكن؟

نهضَت «كيمبيري» من مكانها مذعورة، وهزت رأسها بقوة قائلة: لا، لا، أوه «كابينزي»، لقد جئنا إليك كأبٍ لنا، جئنا إلى الشخص الذي نعرفه؛ فنحن لا نعرف مجالس أو حكومات غيرك أنت، أنت الحكومة والحكومة هي أنت، ولقد جئنا لنتحدث إليك، ولا نريد الحديث مع أحد غيرك، وكما قالت زوجة الناظر يجب أن تفكِّر في الأمر وتتأمله بعنايةٍ شديدة.

قال «آلاك» مؤكدًا: سوف أفعل، سوف أفعل لكنني مضطرٌّ لاستدعاء المجلس، وقد أصدرتُ أمرأ باستدعاء أعضائه منذ قليل؛ فالأمر لا يتعلق بالقصر وحده، ولا يمكن الانتهاء منه في ليلةٍ واحدة، أعطونا بعض الوقت، وأخبروا الناس بأنني وعدتُ بالنظر في الموضوع، سوف نضع في اعتبارنا كل شيء في اجتماع المجلس.

تنهَّد قليلًا، ثم اتجه ناحية المسيحية المتوحشة بلهفة وضيق قائلًا: دعيني أسألك شيئًا، أنت زوجة ناظر المدرسة، وإنه المسئول عن المدرسة وأنشطتها المختلفة، وهو الذي يقرِّر سياسة المدرسة، ويتولى شئونها، والآن تخيلي معي بأنه يجب أن يتخذ قرارًا هامًّا خاصًّا باتجاه المدرسة، مثل زيادة أو نقص مصاريف المدرسة، أو تغيير مناهج التعليم، فهل يستطيع الناظر أن يفعل هذه الأشياء بمفرده؟

أجابت ماما: لا، «كابينزي»، لا بد أن يعقد اجتماعًا يضم المسئولين في المدرسة، أومأ «آلاك» برأسه قائلًا: نحن إذن متفقون، والآن لنفترض أن أولئك المسئولين رفضوا اقتراحات الناظر التي يؤمن بها، ويرى أنها ضرورية، فماذا عليه إذن أن يفعل؟

كانت المسيحية المتوحشة تنظر إلى الأرض حين هزَّت رأسها بأسًى، وقالت: «كابينزي»، إن من تتحدث عنهم هم agba-igba٢ وليسوا مثل الأطفال الذين جئنا من أجلهم الآن.

أومأَت كل النساء برءوسهن في حزن، وراح «آلاك» يتطلع في الجمع المُحتشِد في الفناء، ثم تنهَّد ومضى إلى الداخل.

ارتفعَت الصيحات في السماء مردِّدة: «ﺑﻴ… ﻳ… ﻳ… ير» معلنة عن قدومها، أحاطوها من كل الجهات، وأصبح الممر المؤدي إلى الفِناء مزدحمًا.

شعَروا أن شيئًا خطيرًا قد يحدث، فأرسلوا في طلب ضابط المقاطعة ورجال البوليس، حاول الضابط أن يشقَّ طريقه وسط الزحام، لكن النساء كن يضايقنه، حتى صار وجه الرجل الإنجليزي أكثر احمرارًا، وعرف أنهن يضحكن عليه، فأصدر الأمر لرجال البوليس أن يُفسِحوا الطريق بالقوة، وعندئذٍ وصل إلى حيث تُوجد السيدة «كوتي»، المحاطة بقلق النساء وأسئلتهن الكثيرة.

ثار غضبُ النساء عندما ضغط عليهن رجال البوليس لإفساح الطريق، فرحن يطلقن صيحات السخرية من الضابط، الذي أصبح وجهه ورقبته بلون الخشب الأحمر، وتجاوَزَ الإهانة حتى دخل فِناء القصر.

شعرتُ تمامًا أن إحساسه بالإهانة والتحقير جعله يحتمي بالقصر إلى الشرفة المُطِلَّة على الفِناء، ثم صاح في السيدة «كوتي»: انظري هنا أيتها السيدة، جئنا هنا لنعقد اجتماعًا هامًّا، فهل تتكرَّمين بإبعاد نسائك؟!

أجابت السيدة «كوتي»: ونحن أيضًا نعقد اجتماعًا هامًّا، أم إنكم تعتقدون أننا هنا لنلعب؟!

صاح الرجل بغضب: حسنًا، أخبريهن إذن بالتزام الصمت والهدوء.

صمتَت السيدة «كوتي» لحظة، ثم قالت: معذرة، عليك بمحادثتي أنا.

نعم، بالطبع أنا أتحدَّث إليك، قولي لهن أن يلتزمن الصمت·

ساد الهدوء بعد صياح الرجل، لكن السيدة «كوتي» أجابته بطريقةٍ غاضبة ظل صداها يتردد في «أبيوكوتا» لأسابيعَ طويلة.

قال الضابط بعد غضب السيدة «كوتي»: هل تتحدثين إلى أمك بمثل هذه الطريقة؟

تقهقر الضابط فاتحًا فمه وسط تذمُّر وغضب النساء، وارتفعَت الهتافات في الأفق مطالبة «آلاك» بالتخلص من ذلك الرجل الأبيض الوقح، وتقطيع أعضائه التناسلية لإرسالها إلى أمه.

تراجعتُ إلى حافة الفِناء خوفًا من أن تدوسَني الأقدام الكثيرة، وحين مررتُ بجوار السيدة «كوتي» وسط الزحام رأيتُها لأول مرة تبتسم وتقول:

Hm, I’oogun, o ti ya de’bi.٣
جاء رجلٌ أبيضُ من مقاطعة «إيجبا»، كان يبدو متغطرسًا وهو يمشي في الممر، أثارت ثورةُ النساء غضبه، فراح يؤكد سلطته وهو يصفِّر مختالًا وقال بصوتٍ أجشَّ مثل شكله: هاآآم، لقد فسد العالم، إن العالم يوشك على نهايته عندما تحاول تلك اﻟ agb’eyin - to٤ محاصرةَ القصر وإثارةَ القلق.

ثم ارتفع صوتُه أكثر وهو يقول: اذهبن إلى منازلكن للعناية بالمطبخ وإطعام الأطفال فماذا تعرفن عن شئون الدولة؟ ألا ترغبن في دفع الضرائب؟ أنتن بحاجة للضرب بقوة فوق أردافكن.

تظاهرَت النساء مرةً ثانية، وعلَت الصيحات والهتافات، فلم يعُد أحدٌ يشك في قوة النساء الروحية وقوة «بيير» العظيمة.

أُصيب الرجل في فخذه وهو يواصل تهديداته، ولحقَتْه ضربةٌ أخرى من أحد الاتجاهات فبدأ يترنح، وارتسمَت على وجهه علامات الحَيْرة، ثم سارع بالزحف وهو في حالةٍ متدهورة، ثم هجمَت النساء على واحدٍ من الستة الذين جاءوا معه، ومزَّقن شاله والمروحة والبرنيطة، وكرَّرن نفس الشيء مع الآخرين تاركين إياهم بملابسهم الداخلية فقط، فلاذوا إلى القصر بينما هُرع البعض عائدين إلى منازلهم.

أسرعتُ إلى الدكان للاحتماء بالمسيحية المتوحشة، التي كانت قلقة بشكلٍ ما من ذلك العنف، لم أصدِّق قَط أنها تكره العنف.

كانت ترتِّب البضائع أمام الدكان حين شاهدَت واحدًا من الأجبوني يمشي بثقة نحو «آفين» ولا يعرف شيئًا عما يحدث، فصاحت قائلة: بابا، بابا، إلى أين أنت ذاهب؟

أجاب: إلى «آفين»؛ حيث تم استدعاؤنا من أجل بعض المشاكل هناك، ها أنا ذا أسمعها من هنا.

– بابا، ارجع بسرعة، إذا شاهدَتْك النساء …

ثم اندفعَت إلى الخارج، وسحبَتْه إلي داخل الدكان، وأغلقَت عليه ضلفةً واحدة من الباب، وقالت: بسرعة بابا، انزع عنك هذه الأرواب، وتخلَّ عن ملابس الأجبوني.

شعر الرجل بالاضطراب من سرعتها وصوتها وحركتها فقال لها:

Enh? Ewo tl tun de yi? enh?٥

توجهَت ماما خلف الباب، وتناولَت شاله وقبعته وألقت بهما خلف الشباك، وقالت: بابا، تخلَّص أيضًا من العباية واقذف بها إلى الخلف مع بقية الأشياء، واحتفظ فقط ببنطلونك.

بعد لحظاتٍ قليلة كانت النساء قد اقتربن من الدكان، وشاهدن الرجل الأجبوني، لم تحاول المسيحية المتوحشة أن تنكر وجود الرجل، وقالت: إذا كان هو هذا العجوز الذي تبحثن عنه فإنه بالداخل، لكنه ليس أجبونيًّا.

قلن باستنكار: آه، ماما «وول»، كيف تقولين ذلك وقد شاهدناه بعيوننا؟

– لقد كان كذلك، أما الآن فلقد تغيَّر، لقد قلتُ له أن تخلَّ عن ملابس الأجبوني لعدم القدرة على احتمالهم اليوم.

قالت إحداهن مقاطعة: إنهم ما زالوا أعداء سواء بملابسهم السخيفة أو بدونها، أليسوا هم الذين يفرضون علينا الضرائب؟ دعينا ماما ننال من هذا الرجل قبل أن يذهب.

هتفَت الأخريات بصيحات التأييد، فأضافت أخرى: اليومَ يومُ حسابهم جميعًا، فدعيه يخرج يا ماما.

قالت المسيحية المتوحشة: أنا لا أعرفه، وتستطيع واحدةٌ منكن أن تدخل وتسأله، إنني أعرف اثنَين أو ثلاثةً منهم فقط، فأرجو ألا تفهمن أنني أقوم بحمايته لأنه ibatan٦ ولكنني لا أحب المتاعب، ولا أحب كل ذلك العنف؛ لأننا لم نُعِد أنفسنا له.

هدأَت ثورتهن قليلًا، لكن إحداهن قالت: دعيه يخلع كل ملابسه، ويتخلى عن كل أشيائه؛ فلا نريد رؤية أيٍّ منها في شوارع «أبيوكوتا» اليوم أو غدًا، وأيضًا للأبد.

هزَّت ماما رأسها قائلة: بابا، اطوِ ثيابك بعناية، واربطها جيدًا، ثم اذهب إلى منزلك.

تنهَّد الرجل قائلًا: آه، لستُ في عجَلة من أمري، سأبقى هنا حتى يهدأ كل شيء.

قالت المسيحية المتوحشة للنساء: ماذا تُرِدن أكثر من ذلك؟ إنه خائفٌ منكن، فاذهبن أولًا ليغادر هو بعد ذلك، قالت النساء: دعينا نتأكد أنه ليس واحدًا من أولئك الذين يجب أن نحذر منهم.

اضطُر الرجل العجوز أن يقدِّم نفسه، ثم أقسَم أنه طوالَ حياته لم يكن ضد النساء، وأنه كان يطالب بإلغاء الضرائب، وكثيرًا ما أخبَر «كابينزي» عن أولئك الطفيليين، كما أن زوجته شاهدةٌ على ما يقول؛ لأنها أيضًا كانت تتاجر في السوق.

انصرفَت النساء، فانحنى الرجل العجوز عدة مراتٍ مُعبِّرًا عن شكره وامتنانه للمسيحية المتوحشة، ثم أسرع ببنطلونه مخلفًا وراءه ملابس الأجبوني قائلًا لنفسه: يمكنني إحضارها غدًا.

قبل الغسق بقليلٍ ساد الهدوء، لكن النساء كن قد قرَّرن محاصرة القصر حتى يحصلن على كل المطالب، فبدأَت الفرقة الموسيقية تتحرك في كل الطرق والممرات المؤدية إلى القصر، تدفقَت النساء من كل صوب قبل ساعة من غروب الشمس، ووسط كل ذلك الزحام كانت امرأة تعاني آلام المخاض فشاهدتُ، لأول مرة ميلاد طفل، أسرعَت السيدة «كوتي» نحو المرأة، ورأتني واقفًا في هدوء وسط حلقة من النساء، شاهدتُ إحداهن تدفن الخلاص تحت شجرة في الحقل، وراحت تنظِّف المولود، وتربط الحبل السُّري.

اشتد الزحام بعد وصول كثيرٍ من القوافل الأخرى، فهزَّت ماما «إيجبور» رأسها، وقالت: كأن السموات فتحَت أبوابها، وتفجَّرت القبور عن الموتى، فجاءوا جميعًا لمشاركتنا.

ارتفع صوتٌ بالغناء، وكان الجميع في حالة من الذهول والنشوة والابتهاج، كان الجميع يغني في الليل:

La - illah - il - allah
Anobi gb’ owo owa
On’ise nla gb’ owo owa
Anobi gb’ owo wa
Ate’ le ni ma ya gb’ owo owa
Anobi gb’ owa o wa٧
١  حان الوقت، دعونا نسير نحو آكية.
٢  أطفال أكبر سنًّا وحالتهم جيدة.
٣  هاآآم، هل يُوجَد الرجل المكافح هنا؟
٤  النساء اللاتي يتبوَّلن من المؤخرة.
٥  ما هذه التطورات الجديدة؟
٦  أحد الأقرباء.
٧ 
لا إلَه إلا الله
ساعدنا أيها الرب
رب الأعمال الكبيرة، ساعدنا
أنت الذي تقف بجانبنا، ساعدنا
أيها الرب، ساعدنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥