١٥

صدر الأمر بإغلاق الأسواق ودكاكين النساء ومصادرة بضائع من لا يلتزم بالأمر، وإرسالها إلى فِناء القصر، حاصَروا النساء اللاتي رحن يتجولن في أرجاء المدينة، وانضم الرجال إليهن نحو مزيد من التشجيع والتغلب على الخوف الذي أصاب بعضهن.

غضب بعض الرجال من زوجاتهم الخائفات، ودفعوا بهن للمشاركة؛ لأن ما يحدث من أجلهن.

ذات صباحٍ أمر أحدُهم زوجته بالذهاب إلى القصر، بعد أن قدَّم لها نقودًا لإنفاقها في طعام الأخريات، مؤكدًا لها أنه سوف يعتني بالأطفال حتى ينتهي كل شيء.

تصاعدَت الحركة في اتجاه «آفين»، فترك بعض الرجال الآخرين مزارعهم للانضمام إلى الحركة، بينما توجَّه بعضهم إلى المزرعة لإحضار البطاطا والفاكهة والنبيذ لتقديمها للنساء.

كانت «بيير» والمجموعة يتناقشن مع الضابط الجديد، بعد أن قدَّم الضابط الأسبق استقالته، وكانت الاجتماعات مع مجلس القصر لا تتوقف ولكن دون الوصول إلى حلٍّ من الحلول، وعند نهاية كل اجتماع كن يُخبرن بقية النساء والرجال بعدم التوصل إلى حل، فيجيبون بالغناء والرقص نحو مزيدٍ من التحدي.

في الصباح التالي، بعد أحداث الشغب الأولى، أرسلوا من لاجوس قوةً مسلحة من البوليس راحت تراقب الموقف من بعيد وهم يمارسون التدريبات بثقة، بينما كانت بعض النساء يسخَرن منهم بتقليد حركاتهم في التدريب، وكان قائدهم متصببًا بالعرق في شمس الصباح، ويُجاهد لاستعادة كرامته أمام النساء اللاتي يسخرن منه.

كان «آلاك» مذعورًا ووحيدًا مع حوضه المائي وأسماكه الكهربائية لا يستطيع إيقاف الهتافات والأغاني التي تندِّد به، وتحطُّ من قدره، ولم أستطع أن أفهم رفضه التسليم بمطالب النساء، فقلتُ لنفسي: ربما كان عبدًا لضابط المقاطعة الحالي، أو لذلك الحقير الذي كان قبله!

كانت السيدة «كوتي» ورفيقاتُها قد عرفن تمامًا بأنه لا شيء يمكن الحصول عليه من خلال الاجتماعات والمناقشات مع القصر، فاندلعَت حرب الإرادة والتصميم، ورحن يتصرفن بطريقةٍ أخرى قد تثمر بعض النتائج، ولسوء حظِّي لم أستطع أن أتبيَّن تمامًا تلك الطريقة الأخرى.

بعث كبار الأجبوني برسالة إلى السيدة «كوتي» تقول نحن أبناء Majeobaje١ لا نستطيع أن نرى الأشياء وهي تتطور إلى الأسوأ دون أن نفعل شيئًا، سوف تُصيبكِ الدهشة عندما تعرفين أننا نقف إلى جواركن، لقد أعدَدْنا قائمةً بطلبات النساء.

أثناء الغداء في اليوم التالي أخبرَت المسيحية المتوحشة إسحاق بما قالوه، وكان الغداء الأول الذي يجمعنا منذ أيامٍ عديدة وربما أسابيع عديدة.

قالت ماما: كانوا غاية في اللطف، ولم يطلبوا منا أن نعتذر عن معاملتنا القاسية لهم، لكنهم قاموا بتحذيرنا مما قد نصل إليه، وقالوا لنا بأنهم لم يندهشوا.

وأضافت ماما: قالوا أشياء كثيرة وغريبة، وكان أهم ما قالوه أنهم لن يتركوا الخراب يسود «إيجبالاند»، ولن يسمحوا لنا بإتلاف أي شيء.

واصلت المسيحية المتوحشة حديثها مع إسحاق تلك الليلة مدةً طويلة، كانا يتحدثان بصوتٍ منخفض، ولم أكن أعرف أن أمي تعاني المرض، وأن رأسها يعاني اضطرابًا شديدًا.

اقتربتُ قليلًا لأستمع، فعرفتُ أن الأجبوني قوم لا يبالون، وأنهم كثيرو النسيان، وإذا كانوا حقيقة قد تنبَّئوا بكل شيء، وعرفوا كل شيء كما قالوا، فلماذا لم يسارعوا بالحل ويساندوا النساء؟

لم أستطع أن أصدق ادعاءات الأجبوني بأنهم يعلمون الغيب.

كانت الاضطرابات ما تزال مستمرة حين استدعَوني للمقابلة مرةً أخرى لامتحانات كلية الحكومة، فراح إسحاق يتابعني بلا شفقة، قلتُ له كي يطمئن: لا تقلق، سوف أحصل على المنحة الدراسية هذه المرة، إنني متأكد من حصولي عليها.

وبخني لتلك الثقة المبالغ فيها، ولم أعرف كيف أفسر له أن ما أريده يصبح مؤكدًا بطريقةٍ ما، كان حريصًا على أن أظل بالمقعد الأمامي في المنزل بعد عودته من المدرسة، فكنتُ أجلس وأذاكر دون أي إحساس بأنني افتقدتُ شيئًا ذا أهمية.

كان إسحاق ينظر إليَّ بعد عودته بومضة من السخرية والأمل، ثم يسأل: كيف تُواصِل النساء حربهن بدونك؟

وكنتُ أجيبه بلا تفكير: أوه، لا شيء يحدث حتى الآن، ولا شيء سيحدث ليومَين آخرَين.

لم أعرف قَط لماذا أجبتُ هكذا، لكنني غالبًا ما كنتُ أقول الصواب، كنتُ أملك إحساسًا يصيب إسحاق بالحيرة.

بعد اجتماع نهاية الأسبوع في المدرسة صَعِدتُ إلى الطابق العلوي كي أودِّع «داودو» و«بيير» قبل أن أغادر إلى «أبادان» في اليوم التالي، كانوا في اجتماعاتهم السابقة يغنُّون نشيدَين؛ أحدهما نشيد «إيجبا» الوطني، والآخر «حفظك الله أيها الملك»، كان الملك هو «آلاك» وليس ذلك القابع في الجانب الآخر من المحيط، فتم إلغاء النشيد الثاني منذ أسابيعَ عديدة، ثم سمعتُ أنه يتردد مرةً ثانية عن طريق مجموعاتٍ مستقلة غير رسمية، فاعتقدتُ أنه نوع من تحدي «داودو»، لكنني حين سمعتُ الكلمات عرفتُ أنها تغيَّرت، كانوا يردِّدون:

Kabiyesi, oba on’ike
Ademola K’eran
Omo eran j’ogun ila
Ono ote Lo l’obe
Kabiyesi, baba iran
Kabiyesi o
Kabiyesi oba ´win
Kqbiyesi o٢

قلتُ لنفسي: أوه، «آلاك»، يا لك من مسكين! إن هزيمتك مؤكدة.

عندما صعدتُ السلالم كانت «بيير» تتحدث في التليفون الذي كان أحد أربعة تليفونات في «أبيوكوتا» كلها، كانت تتحدث بغضب، ولم أشاهدها من قبلُ بمثل هذه الثورة والغضب.

كانت تقول: كنتم مجبَرين على إسقاطها فوق اليابان، أليس كذلك؟

لماذا لم تُسقِطوها فوق ألمانيا؟ أخبِرني على سؤالي إذا كنتَ تستطيع، لماذا اليابان وليست ألمانيا؟

توقفَت قليلًا وهي تسمع إجابة الطرف الآخر على التليفون، ثم ضحكَت بأسًى، وقالت بصوتٍ تملؤه المرارة: أنت تعرف تمامًا لماذا؛ لأن الألمان جنسٌ أبيض؛ لأنهم أقاربكم، أما اليابانيون فهم قومٌ قذرون ذوو لونٍ أصفر، هذه هي الحقيقة ولا تنكرها، لقد قمتم بإسقاط تلك الأسلحة غير الإنسانية فوق قومٍ إنسانيين، وفوق أكثر المدن كثافة بالسكان.

كانت تسمع الرد حين ازداد غضبها وانفجرَت قائلة: نعم، أنتم تُجيدون تمامًا ما تفعلون، وتُدينون أنفسكم أمام العالم، كان بمقدوركم إسقاطها فوق أحد الجبال أو في البحر، إنني أعرفكم، أعرف العقلية البيضاء، نحن الأفارقة واليابانيون والصينيون في أذهانكم قومٌ لا قيمة لهم.

سمعتُ عندئذٍ ضحكات الطرف الآخر من السماعة الذي تحدث طويلًا بينما ظلِلتُ أراقب التغييرات المختلفة فوق وجه السيدة «كوتي»، التي استراحت قليلًا وابتسمَت، ثم توتَّرت فجأة وقطَّبَت عن وجهها وهي تقول: لا، لم أتصل بك من أجل ذلك وإنما لتبليغ رسالة إلى الذين يُسمُّون أنفسهم بالحلفاء، وأنت أحدُ ممثليهم الأقرباء، والآن دعني أخبرك أن ملككم، أعني الموجود هنا، لا، لا تقاطعني؛ فأنا أملك الحق في التعبير، إنه ملك لكم أنتم، وأنتم الذين أنقذتم رأسه، استمع لي، لقد أرسلت لك قائمة بمطالبنا، وكان يتراجع في كل كلمة وكل وعد، فقط أخبِره عما بدر مني إذا لم يكن قد تعلَّم الدرس من هتلر، أخبره بضرورة أن يتعلم الدرس من هتلر، وأنت كذلك، وأيضًا الحكومة الاستعمارية، توقفَت وظلَّت تستمع مدةً أطول، ثم هزَّت أكتافها وقالت: حسنًا، لقد حذَّرتُك، إلى القاء.

ثم وضعَت سماعة التليفون.

اتجهَت ناحيتي وحدَّقَت طويلًا وهي تقول «نعم، أعرف أنك ستغادرنا وتذهب إلى كلية الحكومة، انتظر هنا، عندي شيء لك.»

اختفت في حجرة النوم، وعادت بلفافة صغيرة مسطحة كان يبدو أن ما بداخلها قميص، لكنني لم أهتم برؤيته؛ لأنني كنت مضطرًّا للتصحيح حين قلت: لا، لن أغادر وإنما أنا ذاهب فقط للمقابلة؛ فالمدارس لا تبدأ العام الجديد قبل يناير.

فكَّرَت قليلًا وقالت: طبعًا، ذلك صحيح، ولا أعرف كيف أنني لم أنتبه لذلك، وإذن لا أستطيع أن أقدم لك هذه اللفافة الآن.

سألتُها: لنفترض أنهم لم يختاروني بعد كل شيء؟!

ابتسمَت وتظاهرَت بأنها تفكِّر: هاآم، سيكون ذلك صعبًا؛ فأنا أحتفظ بهذه اللفة إلى يوم رحيلك، دعنا نرى، نعم، فلنبدأ من البداية، كم من الوقت ستُمضي هناك من أجل هذه المقابلة؟

– ثلاثة أيام.

قدمت لي ستة بنساتٍ قائلة: إنها لك، اشترِ بها شيئًا، وافترِض أنت أنهم قبلوك.

أومأتُ برأسي، ثم استطردَت حديثها: رائع، إذا قبلوك ولم تحصل على المنحة فسوف أعطيك القميص، أما إذا حصلتَ على المنحة فتستطيع أن تخمِّن ما سوف أقدمه لك.

أجبتُ بسرعة: زوج من الأحذية.

صاحت قائلة: ماذا؟

ثم تذكَّرَت وضحكَت مستطردة: أوه، نعم، زوج من الأحذية.

سألتُها فجأةً عن سبب غضبها وتوتُّرها بشأن إسقاط القنبلة فوق اليابانيين، وأضفتُ قائلًا: أليسوا هم أصدقاء هتلر؟

قالت: إن الرجل الأبيض رجلٌ عنصري، وأنت تعرف تاريخك عن تجارة الرقيق، حسنًا، إن الرجل الأسود بالنسبة لهم إنسانٌ متوحش وعبءٌ ثقيل، وكذلك الآسيويون بمن فيهم الهنود واليابانيون والصينيون وغيرهم، لكنهم يعتبرونهم أفضل منا درجةً صغيرة، وهكذا كان إسقاط تلك الأسلحة المدمرة فوقهم لا يعني شيئًا بالنسبة للرجل الأبيض؛ لأنهم ليسوا من الجنس الأبيض، كانوا يجرِّبون أسلحتهم فوق أولئك الملوَّنين وكأنهم أغنام.

عاد «داودو» أثناء حديثي مع زوجته، ووضع بعض الملفات فوق الرف، اقترب وصنع لنفسه كوبًا من الشاي، ثم قال: لن أرسل «كوي» وإخوته إلى مدرسة يديرها الرجل الأبيض، وعليك أن تفهم هذا، ليس فقط بسبب بشرتهم البيضاء، ولكن أيضًا لأنهم مستعمرون، إنهم يعملون على تدمير شخصية أولادنا، تذكَّر ما قلتُه لك في العام الماضي عندما كنتَ ذاهبًا للمقابلة الأولى، هل تذكُر؟

– نعم يا عمي.

– حسنًا، هل كنتُ على صواب أم لا؟

– لكنني أخبرتُك يا عمي أن المدرسة في إجازة، وأننا لا نفعل شيئًا سوى الاستعداد للمقابلة.

توجَّه بحديثه إلى «بيير»: هل تعرفين ما اكتشفتُه؟ إن أولئك المدرِّسين لا يصنعون جيوبًا في بنطلوناتهم!

أصاب الذعر «بيير» فسألَتْني: هل هذا حقيقي؟

قلتُ: نعم.

ثم استطرد «داودو»: الآن، هل تعرف السبب؟ لماذا يكون في العالم شبابٌ يرتدون بنطلوناتٍ بدون جيوب؟

هزَّ رأسه بقلقٍ وأضاف: هل تعرف؟ إن الرجل الأبيض مخلوقٌ غريبٌ في بلده، إن التلاميذ في بلدهم يرتدُون الحُلَل ذات الجيوب، فلماذا يأتي أحدهم إلى هنا كمديرٍ ومسئولٍ عن المدرسة ويمنع الجيوب عن أولاد مدرسته السود؟ لماذا؟

فكَّرتُ قليلًا، ولاحظتُ شيئًا في «داودو»، و«بيير»، لم أكن مع كلامهما في حاجةٍ لأسئلتي الكثيرة؛ فقد كانا دائمًا على استعداد للتحدث معي أو مع أي طفل، كان «داودو» غالبًا ما يُطوِّقني بذراعه حتى وأنا جالسٌ أقرأ في هدوء، وكان يسألني عن متابعتي للأخبار الحديثة من لاجوس أو أي مكانٍ آخر، وفي حال عدم سماعي أيَّ شيء كان يُوبِّخني ويهزُّ رأسه قائلًا: يجب أن تهتمَّ بمتابعة الأخبار؛ فلا يكفي أن تضع أنفك في هذا الكتاب الميت.

كرَّر القول: لماذا؟ لماذا يمنع المديرُ الأبيض الجيوبَ عن بنطلونات أولاد مدرسة الحكومة؟

قالت «بيير»: ذلك ما كنتُ أقوله للضابط قبل أن تأتي، إسقاط القنبلة الذرية فوق هيروشيما وليس ألمانيا البيضاء، إن كل رجلٍ أبيض هو عنصريٌّ كبير.

تنهَّد «كوتي» بوقار، وكان الحزن مرتسمًا فوق وجهه، فبدأتُ أتساءل عن الخطأ في ذهابي إلى مدرسة الحكومة.

سألني «داودو»: ماذا عنك الآن؟ ما عمرك؟ كم عمرك الآن؟

أجبتُ: أحدَ عشرَ عامًا.

– حسنًا، سوف تبلغ الحاديةَ عشرةَ والنصفَ عندما تذهبُ إليهم في يناير المقبل، ولقد أمضيتَ عامَين في مدرستنا، ذلك ما ينبغي التفكير بشأنه على ما أعتقد، ألا تعتقد أنت كذلك؟

اتجه ببصره إلى «بيير» طالبًا الرأي فقالت مؤكِّدة: أوه، نعم، نعم، ولا ننسى أنه ابن «آيو» و«إينيولا»، فأعتقد أنه سيكون قادرًا على مواجهتهم هناك.

أشار «داودو» برأسه بابتهاج، وقال متحديًا: نعم، سوف نرى، إنهم لا يضربون بالعصا إلا قليلًا جدًّا، كيف نعلِّم أولادنا بهذه الطريقة؟ إنهم أيضًا لا يسمحون بارتداء الأحذية.

أصبحتُ خائفًا فقلتُ: عمي، هل أنت متأكد؟

قال: بالتأكيد.

ثم ضغط على شفتَيه مستطردًا: لا أحذية، إنهم يتبنَّون أفكارًا غريبة في بناء الشخصية، لا أحذية إلا للرؤساء، لماذا تكون سياسة المدرسة هكذا؟

لم أعُد أهتم، وكانت نظراتي تخترق عينَي «بيير» التي كانت تلوِّح بحاجبَيها في استهزاء، فضحكتُ كثيرًا، ولحقَتْني «بيير» بضحكاتها.

ظل «داودو» يحدِّق في كلَينا متجهمًا لمعرفة السبب في ضحكاتنا.

قالت «بيير» بصوتٍ منخفض متعجبة: لا أحذية!

ثم قلتُ متنهدًا: لا أحذية!

وفكَّرتُ في عمري، أحدَ عشرَ عامًا، أحدَ عشرَ عامًا.

كان الوقتُ مناسبًا لبدء مرحلةٍ عقليةٍ جديدةٍ بالدخول إلى عالَمٍ آخر غير معقول، عالَم من المراهقين البالغين سنَّ الرشد.

(تمَّت)
١  جماعة تؤمن بالسلام ولا تترك الأشياء تصل إلى حد الحرب.
٢ 
الملك الأحدب،
أديمولا تتحمل المتاعب،
ابن الحيوان الذي يرث أوكرو،
ابن المؤامرة الذي يستولي على إناء الشوربة،
والد الحيوانات والبهائم،
الملك الخشبي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥