٢
في كل صباح كانت «تيني» تذهب للمدرسة قبل أن أستيقظ، وكانت تعود عند منتصف النهار حاملة لوح الكتابة، كانت ترتدي الزي الكاكي، مثل كل الأولاد الذين كانوا يتحركون في شكلٍ دائري بغير نظام حول البيت، منذ الصباح وحتى ما بعد الظهر، مشغولين باللعب أو الدرس.
كان أحدهم في ساعة الصباح يشد السلسلة المتدلية من جرس المنزل فيبدأ الجرس في الرنين، وتبدأ التحركات حول مبنى المدرسة، وثمَّة بهلوانيات وسباق وشجار بين التلاميذ حتى ينقسموا إلى مجموعاتٍ كثيرة، وعندما يسود النظام يظهر الأب من حيث لا أدري بخطواته الكبيرة ويخطب فيهم ثم ينتحَّى جانبًا، فيتقدم أحد أعضاء المجموعة الكبيرة للأمام ويغني بينما الآخرون إلى مبنى المدرسة في صفَّين على إيقاع الأغنية.
كانت الأغنية تتغير كل يوم وكنتُ أطرب لأغنية بعينها كانوا يغنُّونها بمتعة أكثر من بقية الأغاني، حتى إنهم كانوا يرقصون عليها بدلًا من المشي، ولم يكن ذلك يضايق المدرسين وإنما كانوا يبتسمون في وجوههم، ويشيرون إلى التلميذ الذي يقرع الطبول وهو يخفض أكتافه بطريقة ملفتة للنظر.
كانت الأغنية باللغة الإنجليزية، لكن الكورس كان يُغَنَّى بلغة اليوروبا، واستطعتُ فقط أن أسمع الكلمات الأخيرة.
لم أسمع من قبلُ مثل ذلك الغناء المليء بالحياة في أي مدرسةٍ أخرى، لكنني سمعتُه فقط في تلك المدرسة التي التحقَت بها أختي، وبدأَت غَيرتي تزداد يومًا بعد يوم، فشعرَت أختي بتلك الغَيرة، وراحت تراوغني بعدم الإجابة على أسئلتي، أو إشباع رغبتي في التعرف على الأجزاء الناقصة من تساؤلاتي.
«أنا ذاهبٌ إلى المدرسة»، هكذا أعلنتُ في يوم ما فانطلقَت الضحكات في الحال، وقالت أمي في هدوء: انتظر حتى تكبر مثل أختك.
ذات مرة اختلستُ النظرات داخل مبنى المدرسة، فكانت همهمات التلاميذ ذات نغماتٍ غاضبة لم أستطع أن أتبيَّنها، ومن خلال الشبابيك المفتوحة لفصول المدرسة شاهدتُ رءوس التلاميذ في حالة من التركيز، وكان المدرس بهيئته الجليلة يتحرك في حجرة الدرس جيئة وذهابًا وهو يتحدث إلى التلاميذ الذين يستمعون بانتباهٍ شديد، وكانت تتبادر إلى سمعي أغنياتٌ مختلفة من أجزاءٍ متفرقة من كل مبنًى، وفي بعض الأحيان كنتُ أسمع غناءً مباشرًا بمصاحبة موسيقى الهارموني، وبعد ممارسة الطقوس الداخلية والشعائر الدينية كانوا يخرجون في مجموعاتٍ مختلفة يلعبون ألعابًا كثيرة، ويقفزون في كل مكان، ويلتقطون الأوراق والأغصان التي تكسو الأرض، ويكنسون الطرق، ويقلِّمون المروج والأشجار، كانوا يطوفون هنا وهناك يجرفون الأرض بالسيوف والمكانس والعِصِي، وينحتون الخشب الخيزران، ويقومون أيضًا بتشكيل الطين والصلصال إلى أشكالٍ كثيرة وغريبة.
كنتُ أرى تلك النشاطات المختلفة من فوق رصيف منزلنا؛ حيث ألعب وحدي بينما كانت العمة «لاوانل» تُراقبني بعينَيها القلقتَين، كانوا يلعبون لعبة الدوائر ويتشاجرون على الكرة، ثم يعودون إلى كتبهم وتمارينهم وألواحهم التي يكتبون عليها، كانوا يضعون الكتب في صناديقَ صغيرة من القصدير أو الخشب، أو في حقائبَ مصنوعة من ليف النخل، وكان بعضهم يربطها بحبل ويحملها فوق رأسه، أو يعلِّقها فوق كتفه، وهم ذاهبون إلى فصولهم للدرس وممارسة طقوسهم الدينية الغامضة.
كنا ما نزال نلعب معًا، لكن «تيني» وزملائي صار لهم عالمٌ جديد في اللعب بدخولهم المدرسة، أصبح لتيني مكانٌ جديد تلعب فيه وترسم فيه، وكانت تستيقظ مبكرًا عني في كل صباح؛ حيث يقودها واحدٌ من الأولاد الكبار في منزلنا إلى المدرسة، فأصبحَت ألعابي كلها بلا قيمة، لكنني كنتُ أضحك رغم وحدتي، ولم أعُد أطلب اللحاق بتيني في المدرسة، غير أنني استيقظتُ ذات صباح مع تيني، واغتسلتُ في نفس الوقت الذي تغتسل فيه، ثم تناولتُ إفطاري، وقررتُ بإصرارٍ شديدٍ أن أرتدي تلك الملابس التي هي أقرب إلى زي المدرسة، وتناولتُ بعضَ الكتب من فوق مكتب أبي، ثم انتظرتُ في الحجرة الأمامية حتى ذهبَت «تيني» مع رفيقها، وما هي إلا بضع دقائق حتى حملتُ الكتب وتسللتُ وراءهما بخفة حتى وصلتُ المدرسة، انتظرتُ قليلًا عند الباب، ورأيتُ المقعد الذي تجلس عليه «تيني»، ثم اندفعتُ متسلقًا المكان، ووجدتُ نفسي إلى جوارها.
كانت «لاوانل» هي التي اصطحبَت «تيني» إلى المدرسة في ذلك الصباح، وعندما رأَتني صرخَت بتحذير ودهشة: ما هذا الذي تفعل؟
لم أهتم بها، وكان أن سمع المدرس تحركاتٍ غريبة بين التلاميذ، وعند دخوله الحجرة كان جميع التلاميذ يضحكون من وجودي، تطلَّعوا نحوي وهم يشيرون بأصابعهم من الأمام والخلف دون أن يتوقفوا عن الضحك.
كان المدرس المسئول عن قسم الأطفال صديقًا لأبي، وغالبًا ما كان يأتي لمنزلنا، فلم أجد صعوبة في التعرف عليه، وكم راقني أنه لم يكن يضحك مع الآخرين.
وقف أمامي وسألني: هل جئتَ لمرافقة أختك؟
– لا، بل جئتُ من أجل المدرسة.
نظر إلى الكتب التي تناولتُها من مكتب أبي، وقال: أليست هذه كتبَ أبيك؟
– نعم، هي كذلك، وأنا أريد أن أتعلم منها.
– لكنك ما زلتَ صغيرًا يا «وول»!
– إن عمري ثلاث سنوات.
قاطعَتْني «لاوانل»: ثلاث سنوات يا «وول»؟! لا عليك يا أستاذ، إنه سيبلغ الثالثة في يوليو القادم.
قلتُ: تقريبًا ثلاث سنوات، وعلى أية حال فلقد جئتُ إلى المدرسة ومعي الكتب.
توجَّه الرجل إلى مدرس الفصل قائلًا: سجِّل اسمه في القائمة.
ثم بادرني بقوله: وبالطبع فإنك لست مضطرًا للمجيء كل يوم، تعالَ فقط حين تشعُر برغبة في المجيء؛ فقد تستيقظ غدًا صباحًا وتشعر بأن رغبتك في اللعب والبقاء في المنزل أكبر من رغبتك في المجيء إلى المدرسة.
نظرتُ إليه بدهشة، وكانت الخرائط الملونة والصور والأشياء المعلقة على الحائط وتلك الشبابيك والأحجار الإردوازية وزجاجة الحبر ذات الثقوب الدائرية والأقلام وكتب الرسم ورسوم الحيوانات والإنسان والسبورة والطباشير، إنها حجرةٌ جميلة للعب، وسرعان ما فكرتُ في أشياء كثيرة غامضة، وارتبطَت المدرسة في ذهني بكَومةٍ من الكتب التي كان أبي يتحدث عنها باهتمام في الحجرة الأمامية من المنزل، والتي كانوا يخطفونها مني فور أن تمتدَّ يدي إليها.
كل ذلك جعلَني أعلن بثقة: سوف أحضُر كل يوم.
تملَّكَتْني الدهشة حين سمعتُ أمي تقول: هذا الولد سيكون مثل أبيه، إنه يأتي بالأصدقاء إلى المنزل في وقت الطعام دون أن يُخبرَنا.
تعجَّبتُ وقلتُ لنفسي: لا أرى سببًا لإخبار أحدٍ بذلك، إنه لشيءٌ طبيعيٌّ في العالم أن يأتيَ الواحدُ بصديقٍ إلى المنزل في وقتِ الطعام.
وكانوا يبدَءون في الغناء فور أن يشاهدونا معًا وكلٌّ منا ممسكٌ بيد الآخر في طريق عودتنا من المدرسة.
كانت البطاطا اختبارًا أوليًّا لصداقتنا.
– كنا نقضي ساعات المدرسة المنتظمة دون أي شعورٍ بالملل؛ لأن الاختلاف كان كبيرًا بين فصل المدرسة والمكان الذي نعيش فيه، كانت المدرسةُ بما فيها من شخصياتٍ وأشكالٍ مختلفةٍ تُعَد اكتشافًا جديدًا بالنسبة لي، أنا الذي يهوى الجديد، مما جعلَني أتأخر بعد ذهاب كل التلاميذ متوقفًا عند الأشياء التي تأخذ أشكالًا ومعانيَ وأبعادًا مختلفةً لم أرَها من قبلُ، أحيانًا كنتُ أتسلق الصخور الممتدة، وكان «أوزيكي» يفتقدني حين يتقدمني كثيرًا ولا يجد لي أثرًا.
في الثالثَ عشرَ من يوليو، عام ١٩٣٨م، كان الجميع مستعدِّين، اتجهتُ فورًا من المدرسة إلى المنزل بصحبة أعز الأصدقاء، وعلى رأسهم «أوزيكي»، خلعوا أحذيتهم في الحجرة الأمامية، وتوجَّهوا إلى الردهة، وكان الضيوف جميعًا في أحسن حالاتهم، ينتظرون بشغفٍ الطعامَ والشرابَ وسماعَ الموسيقى من الجرامفون وبعضَ الألعاب والتسلية، ولأنني أنا الذي وجَّهتُ لهم الدعوة كنتُ أتصرف وكأنني ربُّ البيت، ثم جلستُ بينهم، وانتظرتُ بداية الحفل. كان المنزل هادئًا فلم يكن إسحاق قد جاء من المدرسة بعدُ، وكانت أمي ما تزال في دكانها مع «ديبو»، الذي كان مربوطًا بشريطٍ إلى ظهر العمة «لاوانل»، ولكن أين الآخرون؟ كان من الواجب أن تتواجد أمي لترحِّب بأصدقائي، إن «تيني» أيضًا لم تكن بالمنزل، وقد كانت تستطيع القيام بخدمتنا؛ لأنها الآن قد كبرَت بما يكفي.
خرجتُ إلى الحوش الخلفي لعلي أجد واحدًا من أبناء عمي، أو أرى ما يدُل على الإعداد لعيد الميلاد، لكن أحدًا لم يكن هناك، وكان المطبخ فارغًا لم أستطع أن أشم فيه رائحةً توحي بالطعام، ناديتُ بأعلى صوتي معلنًا عن وجودي مع الضيوف، ثم صَحتُ: أين أنتم، أين أنتم؟
أصابني الارتباك، وعُدتُ أتفحص الدولاب والمائدة في حجرة الطعام فلم أجد شيئًا على الإطلاق، لم أجد كئوسًا من تلك التي يتبادلون بها التحية ولا أكوابًا ولا حلَّة الكعك أو الأرز، كيف أتصرَّف إزاء عيد ميلادي؟ لم يكونوا في حاجة إلى من ينبهم بذلك، راجعتُ التاريخ في النتيجة مرةً أخرى لأطمئن نفسي فكان هو نفس اليوم، ثم جلستُ مع ضيوفي في انتظار حدوث شيءٍ ما.
جاءت أمي بعد لحظات و«ديبو» فوق ظهرها، ثم تبعَتْها «لاوانل» وآخرون حاملين الأشياء التي يأخذونها معهم كل صباح إلى الدكان، هزَّت أمي رأسها، وحرَّكَت عينَيها بطريقةٍ غريبة، ثم توقفَت عند الردهة وأطالت النظر إلى أصدقائي، ورمقَتْني بنظرةٍ خاصة دون أن تتوقف عن هزِّ رأسها وسارعَت إلى الطبخ؛ حيث سمعتُها تُصدر أوامرها بسرعة تجهيز الأواني، أومأتُ للضيوف برأسي، وشعرتُ بالرضا، ثم قلتُ لهم: سوف نبدأ الاحتفال بعد قليل.
تقدَّمَت «تيني» وأخبرتني أن أمي تريدني في المطبخ، كانت يداها تغوصان في الدقيق الذي تعجنه، وقالت دون أن تنظر لي: والآن يا «وول» أخبرني لماذا جاء أصدقاؤك؟
كان السؤال غريبًا، لكنني أجبت: إنه عيد ميلادي!
قالت بتهكم: عيد ميلادك!
بينما كانت «لاوانل» والآخرون يضجُّون بالضحك حيث استطردت أمي: أتعرف بأنكم كنتم ستنتظرون طويلًا لو لم تكن «تيني» قد جاءت وأخبرتني؟!
أشرتُ إليها بأن اليوم هو عيد ميلادي فقالت بنفاد صبر: لا أحد ينكر هذا، لكنني كنت أنوي أن أصنع شيئًا خاصًّا هذه الليلة ولكن، استمع، لا يجب أن تدعو أحدًا إلى البيت دون إخبارنا، ها نحن لا ندري ماذا نفعل، يجب أن تقول لنا.
أزعجَني ذلك التوبيخ، وصرتُ قلقًا بضع لحظات، ولم أجد أعذارًا أتقدم بها، ففقَد عيد ميلادي كثيرًا من بهجته التي افتقدتُها أيضًا في بيت القس، يوم وقعتُ فوق رأسي من على الأرجوحة.
عندما جاء دوري في التسلية رحتُ أغنِّي، وكانوا يردِّدون ورائي بينما «أوزيكي» يطرق فوق المائدة بمهارة طرقاتٍ متناغمة: «كو، كو، تي، كو، كو».
سألَته أمي بمزاح: هل عملتَ طبَّالًا من قبلُ مع المتنكرين؟
تعجَّبتُ لكونهم يعرفونني، فشرح لي جوزيف بأنهم يعرفون كل شيء عن كل الأحياء، كما أنهم يعيشون مثلنا، وفي حفل عيد ميلادٍ تزاحمنا حول «أوزيكي» وسألتُه: أريد أن أراهم.
قلتُ متجاهلًا إيَّاها: «أوزيكي»، هل ستأخذني؟
أجابَتْ: «أوزيكي» لن يأخذك، ومن الأفضل ألَّا يسمعك أبوك.
– ولِمَ لا؟ هو أيضًا يستطيع أن يأتي، نستطيع أن نأخذه يا أوزيكي، أليس كذلك؟ إنه رجل، والنساء فقط هن اللاتي لا يستطعن الذهاب إلى هناك.
سألتُ «أوزيكي»: هل أقدرُ أن أعودَ مثلهم إذا متُّ؟
– هل يتحدَّثون الإنجليزية في عالمهم؟
– إنهم مسيحيون وليسوا متنكرين.
رحتُ ألفُّ وأدور حول «تيني» بفرحٍ شديد، وتملَّكَني شعور بالنصر، ثم قلتُ: هل ترَين، أستطيع الآن أن أتحدث إليهم من شُباك الكنيسة حين يأتون، إنني متأكد يا «تيني» أنهم يتحدثون الإنجليزية.
– أنت لا تعرف عما تتحدث، أنت طفلٌ صغير.
ثم نظرَت تيني إلينا باحتقار وتركَتْنا وحيدين.
قلتُ لأوزيكي: لا تشغل بالك بها؛ فهي تعرف بأنني أحب ذلك الذي في الوسط، إنه القديس بطرس.
قال «أوزيكي» ساخرًا: بوجهه المكشوف مثل هذه الصورة؟
فقلتُ: لا، بالطبع لا، إن هذه صورته فقط، لكنه عندما يأتي من الأرض سيكون مرتديًا ملابسه، وسأكون قادرًا على محادثته.
حاول «أوزيكي» أن يشرح: لم يكن نفس الشيء.
ثم اعترف أخيرًا بأنه حقًّا لا يفهم، فقلتُ له إن ضابط المنطقة كان مسيحيًّا وذا لونٍ أبيض.
كان «أوزيكي» خائفًا، وشعرتُ بخيبةِ أملٍ شديدةٍ لعدم معرفتي إحضار الروح الخاصة بالقديس بطرس بدون خبرته.