٣
كان السور الحديدي عاليًا بالنسبة لي أنا الصغير، ولم أستطع قط أن أتسلقه كما يفعلون وهم واقفون عليه متطلعين إلى الخارج معلقين على ما يشاهدون، حاولتُ كثيرًا أن أتسلق إلى جوارهم لكنني كنتُ أحتاج لجهود عظيمة، وكان من الخطر أن أفعل.
شاهدني «جوزيف» ذات يوم وقرأ في عيني تلك الرغبة فرفعني عاليًا فوق أكتافه، واستطعتُ من فوق سور الفناء أن ألقي بأول نظرة، كانت مجموعة من الراقصين تعبُر الطريق المؤدي إلى النصب التذكاري خلف الكنيسة هي أول ما وقعَت عليه عيناي.
قال «جوزيف»: إنه القصر.
كنتُ قد تعرفتُ على الكنيسة والنصب التذكاري وبعض ملامح الأرض الممتدة ثم البوابة الكبيرة للبيت الكبير، وأدركتُ أن الأسوار الخارجية لبيت القس كانت متصلة ومتلاحقة، وعن طريقها يمكن الوصول إلى البوابة والشبابيك، ولما كنتُ ما أزال فوق كتفَي «جوزيف» رأيتُ سور المخزن حيث يحفظون أواني الطهي وأدوات الحديقة وسور المخزن الآخر الذي يحتوي على خشب الحريق والدجاج، وتوقفَت عيناي أمام منزل القس المنتهي بسياجٍ صغير يؤدي إلى بوابة البيت عبْر مدرسة البنات المنخفضة متعامدًا مع المكتبة.
كانت المكتبة هي المبنى الوحيد في البيت الكبير الذي يواجه الشارع.
بامتداد السور كانت بعض النوافذ القليلة للتهوية وتجديد الهواء، وغالبًا ما كانت تغطِّي السور أشكالٌ مختلفة من أوراق الموز المنسابة والجوافة وأوراق النبات الشائكة التي جرحَتْني في وجهي، وكان واضحًا أننا هنا في هذا البيت الكبير نعيش مع أنفسنا في مدينة منفصلة عن «آكية»، تلك المدينة المتصلة بأسقفٍ صدئة، كانت بقية الأشياء غامضة تتخللها بعض الشقوق.
في المرة التالية حين سمعتُ نفس الأصوات لم أضايق نفسي بمحاولة تسلق السور، كنتُ أعرف أنني لم أستطع على أية حال، وأنني قد عرفتُ مكان البوابة، فأستطيع عندئذٍ المرور من خلالها إلى الطريق المؤدي إلى الكنيسة بمساعدة «لاوانل»، أو بالإمساك بيد «جوزيف» أو يد ماما؛ حيث يمكنني خارج البوابة الرؤية بوضوح أكثر، دون أن أبذل مجهودًا كبيرًا لمشاهدة كل الأشياء من السور.
عند البوابة تعجَّبتُ، وأصابني قلق كبير؛ فلم يكن بمقدوري أن أصل إلى المسمار الخشبي الذي يفتحون به القفل، طرقتُ بيدي فوق البوابة طرقاتٍ قوية متتالية فقام شخصٌ ما بفتحها.
كانوا جميعًا غرباء؛ فلم يسبق لي رؤية تلك الوجوه من قبلُ، ثم سألتُ نفسي: هل هم مجرد عابرين بالمكان جاءوا إلى البوابة من أجل رؤية أوضح؟
نظروا نحوي بطريقة غريبة، لكنهم أفسحوا لي الطريق إلى المقدمة، ومما أثار دهشتي أنهم كانوا يرتدون زي البوليس وطربوشًا أحمر تتدلَّى منه الأزرار، وكان أحدهم يربط حول خصره طبلة كبيرة جدًّا حتى قلتُ إنه سيقع، لكنه كان متماسكًا بجلده الأبيض، وكانت نظراته مثبتة بإحكام إلى الأمام وذراعاه تلوحان في الهواء ضاربًا بالعصا فوق الطبلة، وكان قائدهم يرتدي صولجانًا كبيرًا يقذف به في الهواء عاليًا في حركة دائرية ثم يقوم بإمساكه بين يدَيه وهو ينزل في نفس المكان، وفي إحدى المرات سقط منه دون أن يتمكن من إمساكه، فأصبح غاضبًا، وأصدر أوامره إلى الفرقة الموسيقية بارتفاع الموسيقى.
لاحظت أن الأولاد الصغار يسيرون خلف الجوقة الموسيقية، وعند نهاية الطريق أبصرتهم صغارًا مثلي فسارعتُ باللحاق بهم، وعند مرورنا بالمكتبة كانت كما رأيتها تمامًا من فوق كتفَي «جوزيف»، شاهدتُ أيضًا المحال التجارية وبعض المباني وكثيرًا من النقوش المكتوبة مثل: «استوديو أكينز. بورتريه لندن» كانت الصور معلَّقة على جانبَي الباب بينما يجلس المصوِّر فوق مقعد خارج الاستوديو واضعًا قدمَه اليُمنَى فوق اليسرى معلقًا الوشاح فوق رقبته وهو يدخِّن البايب، وحين أمعنتُ النظر في المصور عرفتُه على الفور؛ فقد جاء إلى منزلنا يوم مولد «ديبو» لالتقاط بعض الصور، ولم يكن قد خطر يبالي أن أولئك المصوِّرين يملكون استوديوهاتٍ خاصةً بهم، وإنما يعملون بالتصوير في المنازل فقط.
أبصرتُ كلماتٍ محفورةً فوق حائط من الأحجار تقول: «عيادة السيدة ماكتر للأطفال»، إنها السيدة البيضاء ذات القلنسوة المنشاة، التي كانت تزورنا أحيانًا في البيت حاملةً حقيبتَها المربَّعة، وكنا نعرفها بالسيدة «ماكوتا»، تمنيتُ لو أراها مع زائرٍ أو مريض، لكنني خشيتُ ألَّا أتمكن من اللحاق بالفرقة الموسيقية.
شاهدنا كثيرًا من المنازل التي كانت تشبه الكنيسة والنصب التذكاري، ولقد تعجَّبتُ مرة أو مرتين لابتعادي عن المنزل، ولم أكن أعرف سببًا لذلك الخوف الذي تملَّكَني في كل خطوة.
بعد خطواتٍ من عيادة السيدة «ماكتر» كنا قد وصلنا إلى قسم البوليس، وتخيلتُ أن الفرقة سوف تتوقف، لكنهم دون أن ينظروا باتجاه القسم واصلوا سيرهم، علا صوت النفير، وتلألأَت الأبواق في الشمس، وعند أول تقاطع للطريق وصلنا إلى لافتة تقول: «السيدة ت. بانجوكو – أستاذة الحياكة – لندن»، وعند نفس التقاطع كانت لافتاتٌ أخرى تقول: «إلى لافينوا»، «إلى إيجبين»، «إلى إيبارا»، اتجه الموكب نحو«إيبارا» وعند المدخل كان السوق حيث تنتظر النساء على طول الطريق وأكوام من البضائع المصطفة فوق العربات، حدثَتني نفسي: إن العالم مليء بأشياء كثيرة!
كنتُ قد تأخرتُ في السوق حين تخللَت أنفي رائحة البطاطا، ورأيت الخضروات والسمك المجفف وجراد البحر واللحوم فوق الطاولة، ولولا أصوات الفرقة الموسيقية لما استطعتُ اللحاق بهم، كان القصاب ماهرًا في عمله مثل رجل البوليس الذي كان يرمي بالصولجان إلى أعلى ويمسكه بيده، وكان يبدو في كل لحظة وكأنه سيقطع أصابعه، لكن السكين كانت تنغرز بين أصابعه فوق الطاولة لتقطع اللحم إلى قطعٍ صغيرة متساوية.
وبعد قليلٍ كان قسم الملابس وأدوات الحياكة ولعب الأطفال، وأيضًا حوامل الكتب والأقلام الصغيرة والمطاط والحبر والكراسات، ثم توقفتُ فجأة حين رأيتُ رأس حيوانٍ محنطة كانت متدلية من رفٍّ خشبي وجمجمة بيضاء بدون جلد أو لحم، وذات تجاويف وثقوب كبيرة فارغة في الأنف، ثم ورق الشجر المجفف، وكان قسم آخر يحتوي على مجموعة من الأحجار والعقود وقطع من الحديد والبودرة الملونة في أكوام صغيرة وثمة زجاجات مملوءة بسوائل غريبة، وزجاجات أخرى كان من الممكن رؤية أوراق الشجر بداخلها، عرفتُ أنها مثل التي كان يُحضرها أبي، وكنا نستخدمها كعلاج حين يشعر أحدنا بالمرض.
كانت أيضًا الثعابين والفئران المحنطة، وكان زبائن هذا القسم من النساء العجائز اللاتي كن يجلسن دون خوف، حتى إنهن لم يتأثرن بموسيقى الفرقة التي اهتز لها الجميع.
كانت لافتةٌ أخرى تقول: «مدرسة أبيكوتا» فتذكرتُ «رانسوم كوتي» الذي يعيش مثل أبي في إرسالية المدرسة، كان «كوتي» رئيسًا، وحاولتُ أن أستعيد ما قاله أبي عن الفرق بين الرئيس والناظر، ولم يهمني شيء سوى أنني كنتُ متأكدًا من ذهابي إلى هذه المدرسة بعد انتهائي من مدرسة القديس بطرس، وبمحاذاة الأسوار الحجرية للإرسالية لم أرَ سببًا لانتظاري، كان مبنى الإرسالية الرئيسي والطريق الواسع النظيف باتجاه ذلك المنزل الحجري ذي الأعمدة المنحنية محاطًا بأشجار «اليوجينفيلايا» مثل فناء الأساقفة في بيت القس، لكنه كان أكثر تأثيرًا في النفس، وضعتُ وجهي بين حديد البوابة قائلًا: لماذا لا أدخل الآن وأبدأ تعليمي؟ ثم تذكرتُ أنه يوم السبت حيث إجازة المدرسة، وعندئذٍ قلتُ لنفسي: على أية حال فإن يوم الاثنَين مختلف، وسوف أعود دون صعوبة بعد أن عرفتُ الطريق.
عندما لحقتُ بالموكب اعتقدتُ أنني فهمتُ الفرق بين الرئيس والناظر، إن الرئيس هو من يرأس المدرسة ويُشرِف عليها، مثل الرجل الذي لم يمنعني من الحصول على مكانٍ يوم أن تسلَّلتُ خلف أختي «تيني» خاصة وأنني ابن الناظر، إن الرئيس على أية حال ضيفٌ دائم في منزلنا وتدعوه أمي بالعم، وكنا نملك الشجاعة لمناداته بالمثل غير أنني كنتُ أفضِّل اسم «داودو» الذي يلائم مظهر الرجل وصوته العميق وإشاراته المليئة بالطاقة والحركة، كان يركب دراجة لم يحدُث أن رأيتُها من قبلُ، وذاتٍ يوم إلى جوارنا في «آكية» وقع من الدراجة وارتطم بالأرض بينما كنا نطلق الصفير من فوق السور، فجاءوا به إلى منزلنا، وراحت أمي تغلى الماء وتُعِد الضمادات والقطن، ثم جاءت الممرضة التي دخلَت الحجرة، وقالت لأبي: يجب أن يذهب إلى المستشفى؛ فالجرح في فخذه كبير.
سمعتُ أبي يُتمتِم بكلام عن الآلة التي وقعَت عليه، وأصابته بذلك الضرر، وبعد خروج «داودو» من المستشفى اشترى سيارة ولم يعُد يستخدم الدراجة قط.
كان «كوي» ابنه الأول، وكنتُ أنا و«تيني» ندعوه بالعم «كوي»؛ لأنه كان أكبر منا بكثير، وبعد تلك الحادثة كان يداوم على زيارتنا في المنزل، ثم عرفنا أن سيارة «داودو» هي السيارة الثالثة فقط في كل المدينة؛ إذ إن «آلاك» نفسه كان يملك واحدة، وكانت الثانية للرئيس الغني الذي يعيش في «أوتوكو»، حتى إن ضابط المنطقة الإنجليزي لم يكن يملك سيارة، كان يقود موتوسيكلًا أو يتنقل على ظهر حصان.
شعرتُ بالتعب، وفكرتُ بالجلوس إلى جانب الطريق لأنعم بقسطٍ من الراحة، أصدر الشاويش أمرًا بدخول الفرقة الموسيقية إلى الإرسالية، وفجأة توقفَت الموسيقى ودقات الطبول وصليل الصنج الصاخب.
اكتشفتُ عندئذٍ أنني وحيدٌ تمامًا، اختفت مجموعة الأطفال التي كانت تتبع الفرقة وتقلِّدها وتوقَّف صدور الأوامر، ولم أعُد أبصِر أحدًا أو أسمع صوتًا، كانوا جميعًا قد اختفَوا وبقيتُ وحدي، ثم أدركتُ عن يقين بأنني لم أكن أعرف أين أكون، أدركتُ فعلًا أنني لا أعرف!
كان الشاويش يعدِّل من كعب حذائه حين تحدث بلغةٍ غريبة إلى شخصٍ ما كان مختفيًا خلف المبنى، وعند خروجه رأيته يرتدي زيًّا أنيقًا، وكان أول ما شد انتباهي أنه رجلٌ أبيض البشرة والشعر، وله مشيةٌ تشبه مشية رجال البوليس، كان يرتدي حذاء من الكاوتش وزيًّا كاكي اللون، ثم عرفتُ أيضًا أنه رجل بوليس، وقف بخطواتٍ جامدة، واستدعى أحد أفراد الفرقة الموسيقية بينما كان الشاويش يُصدر الأوامر استطعتُ أن ألتقط منها بعض الكلمات الإنجليزية القليلة، تفرَّق العرض وذهبوا كلٌّ في طريق ما عدا الشاويش، الذي بقي مع الضابط الأبيض يتبادلان الحديث حتى شاهداني.
كنتُ في الحقيقة أحسُّ بتعبٍ شديد، وعندما شاهدني ذلك الرجل الأبيض وراح يتملقني انتابتني فكرة الهرب.
أشار نحوي وقال شيئًا للشاويش فتلاشت فكرة الهرب؛ إذ لم يكن باستطاعتي أن أفعل ذلك، بالإضافة إلى عدم معرفتي أي الاتجاهات التي يمكنني الهرب نحوها، تطلع الشاويش أيضًا نحوي، وراح يمشي ناحيتي، وعندئذٍ كان من المحتمل أن أجري رغم إحساسي الشديد بالتعب.
قلت لنفسي: يجب أن أجري، ها هو الرجل قادم.
عرفتُ الكلمات التي هي لغتي الخاصة، لكن طريقة نطقه بها جعلَتني لا أحسُّها، فنظرت إلى الشاويش مناشدًا إياه المساعدة، ثم قلتُ: أنا لا أفهم. ماذا يقول؟
تلألأَت عيون الضابط بوميضٍ غريب، وقال: أوه، أنت تتحدث الإنجليزية!
أومأتُ برأسي قائلًا: نعم.
– حسنًا، كنتُ أسألك عما تريد، وهل يمكنني مساعدتك؟
– أريد الذهابَ إلى المنزل.
تبادل النظرات مع الشاويش، وقال: نعم، نعم، وأين المنزل؟
لم أستطع أن أفهم السبب في أن ذلك الضابط كان يتحدث من أنفه، مما جعلَني أفهمه بصعوبة، وكنتُ فقط أخمِّن ما يقول.
قلتُ له: أنا أعيش في «آكية».
ثم أضفتُ: تُوجد في «آكية» كنيسةٌ كبيرة خارج الأسوار.
قال ولم يزل يتحدث من أنفه: آه، آه، بالقرب من الكنيسة، نعم، وما اسمك إذن؟
كانت الطريقة التي نطق بها سؤاله عن اسمي أكثر غموضًا، لكنني استطعتُ أن أفهم السؤال.
وأجبتُ: اسمي «وول»
– «وونلي» «هكذا نطق اسمي»، حسنًا، وما اسم والدك؟
– الناظر.
– ماذا؟
– الناظر، هذا هو اسم أبي، وأحيانًا يكون اسمه إسحاق.
ظل يضحك، ولم أعرف سببًا واحدًا في اسم أبي يبعث على ذلك الضحك، أما الشاويش فقد خرجَت عيناه تقريبًا من رأسه، واكتسى وجهُه بملامح غريبة تختلف تمامًا عن الرجال الذين نقابلهم في «آكية»، وعندما تكلَّم كان صوته يشبه التجار الذين يُحضِرون البضائع إلى منزلنا ويُبادلونها بالملابس القديمة، كانوا ذوي أشكالٍ نحاسية، كانت الجياد والإبل والأطباق والصواني والسلاطين وأيضًا الزخارف والحلي، كانت الحقائب والشباشب التي يحملونها تملأ المنزل برائحة الجلد الطازج، والشيء الذي لم أستطع نسيانه قط هو تلك الزجاجات من العطر ذات الأسماء الأجنبية، وبعض زجاجاتٍ أخرى كانوا يلصقون عليها ورقةً مكتوبًا عليها: «السودان»، وتحتها صورةٌ لمحارب يرتدي عمامة، وإلى جواره جملٌ راكع وفتاةٌ عذراء تقدِّم له باقةً من الزهور.
كانت أصواتُ التجار جميعًا متشابهة وهم يُنادون على بضائعهم، وهكذا كان صوتُ الشاويش الذي سألَني: هل أنت ابن ناظر «آكية»؟ وماذا تفعل هنا إذن؟
ظل الشاويش والضابط الأبيض ينظران نحوي، ولم أجد إجابةً على السؤال حتى سألني الرجل الأبيض: هل أنت تائه؟
قلتُ: كنتُ أسير خلف الفرقة الموسيقية.
أومأ الضابط برأسه، وقال للشاويش أن يأتي بدرَّاجته، قدَّم الشاويش التحية ومضى، لكنَّ شيئًا ما كان يدور بذهن الضابط، الذي وضع يدَيه فوق كتفي وقادني إلى المكتب.
كم عمرك؟
– أربع سنوات ونصف.
صاح مندهشًا: ماذا؟
ثم صمت لحظة، وعاود النظر إلى وجهي قائلًا: هل أنتَ متأكد؟
هزَزتُ رأسي بالإيجاب.
اقترب مني أكثر وقال: نعم، طبعًا، طبعًا وقد مشيتَ، من «آكية»، من أي نقطةٍ بدأت؟
قلتُ: من النصب التذكاري، وكان معي أطفالٌ آخرون، لكنهم تركوني.
عند وصولنا إلى المكتب رفعَني بيدَيه، ووضعَني فوق الكرسي، وسألني: هل أنت عطشان؟ ثم تناول زجاجةً من عصير البرتقال، ووضَع عليها بعض الماء الموجود فوق الطاولة، فشربتُ حتى آخر قطرة.
سألني مرة أخرى: هل تريد كوبًا آخر؟
وقبل أن أجيبَ كان قد صنَع كوبًا آخر من عصير البرتقال بالماء، وناولَني إياه، فسارعتُ بشرابه كاملًا، كما فعلتُ مع الكوب الأول، شعرتُ بتحسنٍ شديد، ورحتُ لأول مرة أتجوَّل بنظراتي في المكتب، مدَدتُ قدمي وأثارت دهشتي تلك الأوراق فوق المكتب، وكنتُ أعرف هذه الجريدة التي كانت تأتي لأبي كل أسبوع.
نظرتُ إلى الرجل باهتمامٍ كبير، وقلتُ له: أنت تقرأ جريدة أبي.
قال بفزع: أية جريدة؟
أشرتُ إليها قائلًا: هذه، هل تقرؤها في وقت الفراغ؟
– حقًّا، هل قلتَ إنها جريدةُ أبيك؟
– نعم، إنه يملك واحدةً جديدةً كل أسبوع.
فتح الجريدة بسرعة ونظر إلى شيءٍ ما بين الصفحات، وقال: هل تعني أن أباك هو رئيس التحرير؟
لم أستطع أن أفهم فكرَّرتُ: إنه يحصُل عليها كل أسبوع.
وعندئذٍ كشَّر الرجل بوجهه، وأومأ برأسه: أعرف، أعرف.
– استيقظتُ بعد قليل، وعرفتُ أين أكون، وشعرتُ أن معدتي تتلوَّى من الجوع، فقفزتُ من السرير إلى المطبخ، وعندما فتحتُ الباب فوجئتُ بكثيرٍ من الناس، وكانت الحجرة الداخلية الأمامية مزدحمةً بالكبار الذين يتبادلون الحديث باهتمام، توقَّفوا فجأة وساد السكون عندما دخلتُ، ثم تطلَّعوا جميعًا نحوي، وسألتُ نفسي: ماذا يحدث؟ لماذا كل أولئك الناس؟
وفي ظل ذلك السكون قلتُ: إنني جائع.
كان كل ما يدور في ذهني أنني جائع، ذلك كل ما في الأمر.
أصابتهم الدهشة، وفتحوا أفواههم عن آخرها، ثم أعلنَت زوجة بائع الكتب وهي تضرب قبضتَها بالأخرى في دهشة: هل تسمعون؟ إنه جائع!
تبادلوا اللغو والهمهمات، ولم أفهم السبب في أن جوعي يبعثُ على كل ذلك الاهتمام والإثارة.
كان الوقت مساءً ولم أكن قد تذوَّقتُ الطعام منذ الصباح.
قال أبي مبتسمًا: حسنًا، إنه لمن الطبيعي أن يكون جائعًا بعد أن مشى من «آكية» إلى «إيبارا»، أليس كذلك يا «وول»؟
ارتميتُ بين أحضان زوجة بائع الكتب التي صاحت في وجه أمي: أحضري الطعام لطفلي، أوه، ماما لماذا تتركينه جائعًا؟ قالوا لكِ بأنه جائع ولم تقفزي على الفور لتأتيه بالطعام، سوف يأتي معي إلى منزلنا وأقدِّم له الطعام.
قبل أن أفهم ما يحدث رفعَتْني إلى ظهرها وهي تتناول عباءتها، ثم راحت تُغنِّي وترقص، وفجأة أصبحوا جميعًا يغنُّون معها بأعلى أصواتهم.
كانوا يغنُّون ويضحكون، لكنَّ شخصًا واحدًا كان يجلس فوق مقعده دون أن يتحرك أو يُغنِّي، إنها أمي التي كانت جالسة وذقنها فوق قبضة يدها، دون أن تفعل شيئًا سوى التحديق في وجهي وهي تهزُّ رأسها من وقتٍ لآخر متنهِّدة.
قالت زوجة بائع الكتب لأبي: انظر لها، كانت تتمنَّى لو التهمَتْه حيوانات «أبيكوتا» المفترسة، هاآآم، أعطِني العصا من فضلك.
ضحك أبي وقال: فكرةٌ طيبة.
تناول العصا من مكانها بجوار مقعده في الركن، وأعطاها لزوجة بائع الكتب، فسارعَت أمي بالجري في الردهة.
كانوا جميعًا يتمتعون بروحٍ عالية، وكان غريبًا بالنسبة لي أن أرى الرجال والنساء يقفزون ويمرحون في المنزل مثل الصبية الصغار.
من فوق ظهر زوجة بائع الكتب شعرتُ مرةً ثانيةً بالنوم، فلم أعرف متى سأتناول طعامي.
استيقظتُ في صباح اليوم التالي من فوق سريرها مبتهجًا لا أعاني أية متاعب، وجلسنا إلى مائة الإفطار الكبيرة، وأبدًا لم أستطع أن أتذكَّر شيئًا مما حدث بالأمس، ربما كان حُلمًا لكنه كان مختلفًا عما حدث لي من قبلُ.