٤
جاهدتُ في اختطاف الإسفنجة من يد «نوبي»، التي كانت تُعاوِد رشَّ الماء فوق جسدي، وتدلكني باللوف الخشن والصابون، قاومتُها في البداية، ودفعتُ يدها بعيدًا عني مرةً إثر أخرى، ورغم محاولاتي الجادة في إبعادها عني إلا أنها لم تفعل، وظلت ترشُّ الماء.
قلت لنفسي: آه، لو أنها جوزيف!
كانت عيناي غارقتَين بالصابون، فقمتُ بإزالته من فوق عينٍ واحدة أبصرتُ بها «نوبي» واقفة ورائي تنظر نحوي باستياء وتقول: هل ستساعدني في تنظيفك أم لا؟
قلتُ: ولكن دعيني أغسل وجهي بنفسي.
ضحكَت بسخرية وقالت: أنت، ها، نعم، فلتضع يدك إذن فوق رأسك.
فعلتُ ما طلبَت مني؛ فقد كان واضحًا أنه نوع من الاختبار إذا ما نجحتُ فيه فسوف تتركني أغسل وجهي.
وضعتُ ذراعي فوق قمة رأسي محاولًا قَدْر استطاعتي أن أفعل مثلها، كانت أصابعها تداعب حلمة أذنها اليسرى ثم أخفت الأذن تمامًا بقبضة يدها وقالت: والآن هل ترى الفَرق؟
وهل لا أفعل مثلما تفعلين؟
ضحكَت بسخرية أكثر: ألا تلاحظ أي فَرق؟
– ما الخطأ فيما أفعل؟
– أنا لا أتحدث عن الخطأ الذي تفعله وإنما عن الذي لا تفعله أبدًا، انظر إلى يدي، إنها تصل إلى رأسي وتغطي هذه الأذن بكاملها، هل ترى؟ والآن انظر إلى يدك التي لا تصل إلى قمة رأسك، هذا الفرق ضروريٌّ لمساعدتك في حمامك أم أنك تعتقد بأنك صرتَ ولدًا كبيرًا؛ لأنهم سمحوا لك بالذهاب إلى المدرسة؟ هنا في المنزل ما زال الكثير لتتعلمه؛ إذ إن المدرسة لا تستطيع أن تعلمك كل شيء.
تقدَّمَتْني وهي تمسك بالإسفنجة في يدها وتقول: والآن، تعالَ.
ناديتُ على جوزيف بصوتٍ عالٍ وقلتُ بإصرار: جوزيف، دعني أغسل وجهي.
قالت: أخبرتني ماما أن أقوم أنا بحمَّامك، هذا كل ما أعرفه.
وضعَت الكوز بيدها اليسرى في الدلو، ثم جرفَت الماء واتجهَت ناحية رأسي، وظلِلْتُ أنحرف برأسي بعيدًا عن الماء.
– انظر إلى ما تفعل، أنت تُبدِّد الماء، هل تعرف ما ستفعله ماما إذا قلتُ لها؟
تحرَّكتُ نحو ركن الحمَّام، وأدركتُ بعد فوات الأوان بأنني واقع في مصيدة، ورحتُ أجاهد من أجل حياتي، كان الكوز بما يحتوي من الماء يطارد رأسي، وحاولتُ إبعاده عني وأنا أتصارع مع «نوبي»، فابتلَّت بالماء مما أثار غضبها، فقالت: أترى ما فعلْتَ؟ إن الرطوبة ستُصيبني وتكون سببًا في إصابتي بالبرد.
أمسكتُ برأسي بقوة وهي تدلك وجهي، ولم أستطع هذه المرة أن أتخلص منها، وعندما حاولتُ أن أعضَّها وضعَت الإسفنجة في فمي، وعندئذٍ كرَّرتُ محاولاتي اليائسة، ولم أجد بديلًا عن ضربها برأسي في معدتها.
ظل الجميع يجري في المنزل في حالةٍ من الفزع مردِّدين: من هو القاتل؟
مسحتُ بيدي الصابون بسرعة، وكانت ماما هي أول ما رأيت، كانت تجرى عبْر الباب المفتوح، وتهزُّ رأسها من جانب إلى آخر في حَيرةٍ معتادة، لكنها كانت أكثر ارتباكًا.
قلتُ لها خائفًا: لقد انتهيتُ من حمامي.
– ضربَتْني برأسها، لكن «نوبي» تشكو منك؛ لأنك ضربتَها برأسك في معدتها، وكفاك كذبًا.
– نعم يا ماما، لكنَّ شيئًا لم يحدث لها، وقامت على الفور.
– وذلك الصُّراخ الذي انتشر في أرجاء المنزل، ماذا تريد أيها الولد، هل ترغب في إثارة الرعب والفزع لدى الجميع؟
قالت «نوبي»: لا، ماما، إنه فقط لم يتركني أنظِّف وجهه.
قلتُ بنبرة تحدٍّ: بل قُمتِ بتنظيفه، ولم تفعلي شيئًا سوى ذلك.
كانت «تيني» ما تزال في انتظار حمَّامها حين بدت على وجه أمي، تلك المسيحية المتوحشة، ابتسامةٌ رقيقة جعلَتني أشعر بالطمأنينة.
قالت لنوبي: حسنًا، استدعي «تيني»، وعلى أية حال فإنهما سيكبران عما قريب، ولن يحتاجا لأي مساعدة في الحمَّام.
انتهزتُ الفرصة قائلًا: نعم، نعم، لستُ في حاجة لمساعدتها أو مساعدة جوزيف.
– ولكن يجب أن تستحم أمامهم حتى يتأكدوا من أنك تفعل الصواب.
أومأتُ برأسي: إنه شيءٌ بسيط للغاية، وأستطيع بمفردي دون مساعدة أو وجود أحد.
ثم أضفتُ: أنا حقًّا لا أحتاج لأحد؛ فذات مرة قمتُ بتدليك جسدي حين كان جوزيف مشغولًا، وعندما شاهدني بعد ذلك قال بأنني نظيفٌ جدًّا.
استطردَت ماما: أوه، جميل، لكنني لا أفهم خوفك هذا من الماء وأنت الذي وُلِدتَ في يوليو.
قلتُ معترضًا: كنتُ أُزيلُ بقية الصابون، ولم أكن خائفًا من الماء.
– لا، ليس كما تزعم، إن الصابون ما زال عالقًا في أجزاءٍ كثيرة من وجهك، ولم يلمسه الماء بعدُ.
ملأتُ الكوز بالماء، وبسرعة رحتُ أصب الماء فوق رأسي، وكنتُ أقاوم لسعة الماء في وجهي، وأتنفس بصعوبة.
قالت أمي لأبي في جلسة الإفطار: أنا لا أعرف ماذا يفعل ابنُكَ هذا بالماء، إنه لا يُحسِن استخدام الماء، هل تعرف ما حدث هذا الصباح؟
كانوا عادةً يتحدثون وكأنني غير موجود، وكانت هذه إحدى عاداتهم الغريبة، وهكذا كان كل الكبار الذين يتناقشون وكأن الصغار غير موجودين.
وكنتُ أهزُّ رأسي مستنكرًا؛ فقد كانوا يفتقدون ما نُحس به نحن الصغار.
قال إسحاق وقد لاحظني: أوه، إن «وول» يهزُّ رأسه.
ضحكَت أمي وقالت: هل تُنكِر ما حدث حين كنتَ تصبُّ الماء بنفسك فوق رأسك؟
– لا، ولكنني لا أخاف الماء؛ لأنني أحب الخروج أثناء المطر.
قذفتُ بملعقتي في الإناء فتناثر الطعام، وقالت أمي تحذِّرني: انتبه أيها السيد المحامي، لا تبدِّد طعامك.
– لن أكون محاميًا، سوف أتزوج الآنسة «أدوفوا»، وسوف أصبح قسًّا.
– أوه، الأنسة «أدوفوا»، ماذا حدث للعمة «بوزير»؟
شرحتُ قائلًا: لم تأتِ لزيارتنا، وكانت الآنسة «أدوفوا» تقضي وقت فراغها معنا، إنها لطيفةٌ جدًّا.
كان إسحاق يتأمل ويفكِّر ثم قال: نعم، قد لا تخاف المطر، لكن ذلك لا يعني أنك لا تخاف الماء.
كانت أمي تُلاحقنا بنظراتها وهي تُعِد نفسها للذهاب إلى الدكان حين قالت: أوه؛ فقد كانت تعرف أن الجدل سيستمر وقتًا طويلًا، ومن الأفضل لها أن تغادر.
قلتُ لأبي مستفسرًا: أليس المطر هو الماء؟
– إن المطر يعني الماء لكن الماء لا يعني بالضرورة المطر.
أومأَت أمي برأسها في وقارٍ ممتزج بالدهشة، ثم تناولتَ الشنطة من حجرة نومها.
قلتُ بإصرار: لكن الأمطار لا يمكن أن تكون بغير مياه.
أومأ أبي برأسه: حقًّا، ولكن يمكن أن يُوجَد الماء بدون أمطار.
– كان الماء في البدء يأتي من الأمطار، أليس كذلك؟
– آه، أنتَ مخطئ، إن الماء هو الذي يُسبِّب الأمطار.
وعندئذٍ تذكَّرتُ الكتاب المقدَّس، ماذا يقول الكتاب المقدَّس؟ ألَمْ يخلق الله كلَيهما منفصلًا عن الآخر؟
قال إسحاق: وهو كذلك، دعنا نرى، اذهَب وأَحضِر الكتابَ المقدَّس من الصالة.
تسلَّقتُ الكرسي، وكنتُ شغوفًا لمعرفة ما يقوله الكتاب؛ فقد كان الجزء الذي تعلمناه في سفر التكوين، وكنا نحفظه عن ظهر قلب، لا يشتمل على ما يُفيدنا في هذا الموضوع.
عُدتُ إلى حجرة الطعام ومعي الكتاب الذي ناولتُه لأبي، ثم رجعتُ إلى المائدة، وجلستُ إلى جواره فوق مقعد أمي، كان طعامي قد نفد، وأبصرتُ طبقًا آخر ما زال يحتوي على الطعام.
ابتسم أبي دافعًا الطبق ناحيتي وقال: ستجد أن الكتاب المقدس يتحدث عن جزءٍ واحدٍ من القصة فقط، خلق الله الماء والأمطار، وجعلهما بطرقٍ خاصة يتفاعلان أحدهما مع الآخر، وهذا ما ندعوه بقوانين الطبيعة.
تأملَني إسحاق في هدوء وقال: تذكَّر بأن الله بعد أن يخلق الأشياء على الأرض، ويُحدِّد قوانين العمل الخاصة بها، يستطيع كخالق أن يتدخل ويُعيد ترتيب الأمور، كما أنه يستطيع في الحال الإسراع بعمليات الخَلْق أو الإبطاء فيها.
خرجَت المسيحية المتوحشة من حجرة نومها حاملة الحقيبة لتُودِّعنا وتذهب إلى الدكان، وكانت قد سمعَت ما قاله إسحاق، ثم اقتربَت وهي تهزُّ رأسها وتتعجَّب كعادتها دائمًا لقدرة إسحاق على الصبر غير المحدود. وقالت له: ولكن يا عزيزي هل أنت متأكدٌ بأنه قادرٌ على فهم كل هذا الجدل الذي تُثقِل به عقله الصغير؟
بدا لي أن المناقشة ستكون أكثر إثارةً بعد مغادرة أمي، ولم أكن أعرف أن مناقشة مثل هذه الأمور تبعث اليقظة في نفس إسحاق، وتجعل لسانه يرقص.
سحبَتْني أمي من فوق الكرسي وقالت: احمل هذه.
أعطتني حقيبة، وأدركتُ على الفور ما تعني، إنه يوم السبت؛ حيث إجازة المدرسة، وهذا يعني أن أشارك بالعمل في الدكان.
قلتُ باحتجاج: عندي واجبٌ لا بد أن أنتهي منه.
قالت وكأنها لم تسمعني: هاتِ الواجبَ معك إلى الدكان.
وضعتُ الحقيبة على الأرض، واختفيتُ بين كتبي، فقالت لأبي: لا يجب أن تشجِّعه كثيرًا يا عزيزي، إنه مشاكسٌ عنيد، أتعرف ما قاله لخادم الكنيسة يوم الأحد الماضي أثناء صلاة ما بعد الظهر؟ كان يثرثر مع صديقه الجديد ابن «إيدون» وعندئذٍ زجرهما خادم الكنيسة، هل تعرف بماذا أجاب ابنُك؟
– ماذا قال؟
– كانت الكنيسة كعادتها في أيام الآحاد مزدحمة وكانوا يُنشِدون التراتيل ويؤدون الصلاة حين أجاب ابنك أمام الجميع بأنه لم يكُن يتكلم أو يثرثر وأن على الخادم إثبات ذلك، هل تتخيل؟ على خادم الكنيسة أن يثبت ذلك! هذا هو ابنك، أي نوعٍ من الأطفال يكون هذا الولد؟
توقفتُ خلف الباب مرتعشًا، اهتم إسحاق بأمر المتاعب التي أسبِّبها في الكنسية أو مدرسة الأحد، وقال للمسيحية المتوحشة بأنه كان — أجلًا أو عاجلًا — سيعرف.
ظلِلْتُ بلا حراكٍ مثبتًا عيني في فتحة الباب وأنا أستمع، كان يقول: حسنًا، آه، إنه لشيءٌ صعبٌ أن يقوم خادم الكنيسة بإثبات ذلك.
تنهدَت أمي: أعرف، أعرف، أنت دائمًا تدافع عنه عندما نتحدث بشأنه، ولستُ أعرف لماذا أضايق نفسي بالقول لك، ها هو قد اختفى من أمامك، أين هو؟ وهل أخذ الحقيبة معه؟
– ها هي فوق مقعدك.
دفعَت بالخادمة أمامها وقالت: دعينا نذهب، سوف أتركه ليضايقك بأسئلته الصعبة؛ فهو أيضًا يضايقني في الدكان بأسئلته الحمقاء، مثل: لماذا بطنك أكبر من بطن بابا؟ هل أنت حبلى؟ وأشياء أخرى لا أخبرك بها.
ضحك أبي ملء فمه: حقًّا، متى كان ذلك؟
– اسأله هو، إنه ابنك، دعني أذهب؛ فالزبائن في انتظاري.
دفعَت الخادمة بقوة، وخرجَت من المنزل بينما بقيتُ في مكاني فلم تكن ضحكات إسحاق تعني عدم توبيخي، ظل فوق مقعده، ومن شرخٍ صغير بالباب كنتُ أرى جزءًا صغيرًا من ظهره، كان يسترق السمع لخطواتي وهو جالس في مكانه ممسكًا بفرشاة الأسنان، تسمَّرتُ في الأرض، وكنتُ أتنفَّس بصعوبة، وأتوجَّه بدعائي إلى الله، وكان قدوم أي شخصٍ لزيارتنا هو الشيء الوحيد الذي يُنقِذني.
أصابني السُّعال، فأعلنتُ عن وجودي، وقال أبي: «وول»!
– نعم سيدي.
وفي نفس اللحظة سمعتُ أصواتًا ثقيلةً بالخارج فوق الرصيف، كان صوت أمي مع صوت آخر.
دخلَت أمي وقالت لأبي: أما زلتَ بالمنزل يا عزيزي؟
– نعم، ما زلتُ هنا.
نظرَت إلى الخارج وقالت: ادخل، ادخل، تفضَّل بالجلوس، سوف أستدعيه للقائك. كنتُ أضغط نفسي خلف الباب، وكان حضورُ شخصٍ ما هو ما صلَّيتُ من أجله، ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي ألاحظ فيها أن الله له عادةٌ غريبة في ألَّا يستجيبَ لصلوات الإنسان أبدًا، أو يستجيب لها بطريقةٍ غير مباشرة، يا له من إلَهٍ طيب!
قالت أمي: قابلتُ السيد «أديزينا» بالطريق، وسألَني عن إمكانية أن يلقاك هذا المساء، فرأيتُ أنه من الأفضل أن يقابلك الآن، هل هذا حسن؟
أجاب أبي: هل جاء بخصوص الوظيفة مع «ساينود»؟
– وهل هناك شيءٌ آخر يفكِّر فيه؟ إنه يأتي إلى الدكان ويُزعجني فأقول له أن يلقاك، هل أجعله يدخل؟
– لماذا أحضَرتِه؟
– أنا لم أتوسل إليه، كما أنه لم يشأ أن يأخذ نقودًا، أخبِره أنتَ يا عزيزي؛ فلقد قلتُ له مئات المرات لكنه لم يقتنع، أخبِره أنتَ بنفسك.
توجَّهوا نحو الحجرة الأمامية، وفي غفلةٍ منهم تسلَّلتُ إلى حجرة الطعام، وتوقفتُ أمام طبق إسحاق، ثم ضربتُ كِسْرة الخبز فيه، ووضعتُها في فمي، واتجهتُ إلى حوض الغسيل الواقع على يسار الحائط في مواجهة حجرة الطعام لأمسح شفتي، وفجأة تلقَّيتُ ضربةً قوية في جانب رأسي وصوتٌ يقول: رائع، شيءٌ رائع.
كانت تقف فوقي متأجِّجة حين استطردَت: كنا نعتقد أنكَ تخلَّيتَ عن هذه العادة.
كانت المسيحية المتوحشة تملكُ موهبةً عظيمةً في الظهور من حيث لا تدري، وكأنها كانت تجيء من تحت الأرض.
كان «أديزينا» قد فقَد وظيفتَه مع «ساينود»، وعرفتُ أنه لن يعود، غادر المنزل مثل كثيرين قبله باكيًا ومتأثرًا، وكانت عيناه وهو ينظر إلى أمي تلتمسان الرجاء الأخير.
قالت للرجل: أنت تعرفُ طبعًا أنه قرار الناظر، ولا أستطيع أن أجعله يتصرف بما يتنافَى مع ضميره.