٥

تساقطَت أوراق شجرة «الباوباب» التي كنتُ أظنُّها حصنًا أزليًّا مع مرور الوقت، ولم يبقَ منها سوى بعض الفروع القليلة التي كانت تنشر ظلالها المتفرقة، لكن المسافة بين المنزل والكنيسة كانت ما تزال مفروشةً بأشجار المانجو، وكانت شجرة «الأوميجي» في فِناء الكنيسة والنصب التذكاري خارج أسوار الكنيسة ما زالا قائمَين.

كان برج الكنيسة بأسطحه الصدئة من كل الجوانب موازيًا للطريق المنحدر باتجاه «أبيريكودو» ثم «آكية»، «إيباربا»، «أتوكو»، وأخيرًا عبْر التل إلى «موكولا»

قبل «أبيريكودو» كان ميدان «هوزا»، وكانت خلية النحل بأعشاشها ذات اللون البني تحيط المنازل، وبالسير نحو الحائط والبوابات الواسعة لإصطبل الرئيس وقبل قمة الطريق كانت أسواق «إيبارابا» المتشابهة تبدو مختفيةً في جانب التل.

إن شيئًا من ذلك لم يتغيَّر.

كانت شجرة «الباوباب» والمنازل المضيئة، وفِناء اللعب، والطُّرق والممرَّات، وحتى «جونا»، هي أكثر الأشياء التي نتعامل معها ونُحبها، كان المدرس ينظر متأملًا عبْر شُباك مدرسة الأحد ليرى تلك الصخور المتسلِّقة القريبة، وبعيدًا عن أنظارنا في الجانب الآخر من مبنى المدرسة كانت الصخرة الكبيرة التي ندوسُ عليها بأقدامنا وكأنها تفرش الأرض وتُغطِّيها.

قال أحد الصغار في حجرة المدرسة: إن الحوت أكبر من الصخرة.

أومأ آخر برأسه موافقًا: نعم، إن الحيتان هائلة وضخمة، وهي أكبر من المنازل.

– وحتى أكبر من السفن.

– وأكبر من الطائرات.

امتدَّت يد أحدهم نحوي بقطعة من الورق فقرأتُ: إن منزل أبي أكبر من الحوت.

لم أهتم به، لكنني أجبتُ: كذاب.

ولم أسمع إجابته؛ فقد شعَر بصدمةٍ كافية.

لكن «جونا» كانت صخرتي الخاصة التي يتحدَّثون عنها في مدرسة الأحد، كانت الأستاذة تتباهى ببعض الأفكار الخاطئة عن الصخرة «جونا»، التي أُحبُّها كثيرًا، وتربطني بها علاقةٌ سرية خاصة، أبصرتُ تعبيرًا غامضًا فوق وجه الخادمة في منزلنا حين ربطَت الأستاذة بين «جونا» والكتاب المقدس.

كانت الحكايات حول «جونا» غامضة ومعقَّدة مثل حكايات الكتاب المقدس واختلاط الطين بالجسد العظيم باستخدام مياه المطر التي تتجمع في شكل كراتٍ بيضاويةٍ كثيرة، حتى إنني تساءلتُ ذات مرة: مَن الذي يصنع كل هذا؟

لم تكُن تلك الكرات البيضاوية الكثيرة تلامس «جونا»، الجميلة، التي لم تكن هي الصخرة الوحيدة في الإرسالية، كانت ثمَّة صخورٌ أخرى تنمو فوقها أشجار البامبو، وكنتُ أسير من المدرسة إلى منزلنا متسلقًا جوانبها المنحدرة، كانت صخورًا ناعمة ومائلة إلى أسفل نتزحلق من فوقها ونصرخ، لكن «جونا» كانت مكشوفةً وعاريةً من الأشجار، كانت «جونا» حالةً خاصة ومتفردة.

قالت الأستاذة: كانت «جونا» في بطن الحوت.

لكنني لم أصدِّق، كان ذلك القول من نسج الخيال.

بجوار صنبور المياه كانت شجرة الجوافة المطلة على مربعٍ متمددة فوق الأرض كأنها تجلس القرفصاء ليس ببعيدٍ عن مدرسة الأطفال، كانت تجود بكثيرٍ من ثمارها، وكان لونها أخضر داكنًا وأوراقها ممتلئة ويتدلى أحد فروعها نحو الأرض، كانت تزدهر في موسم المطر فقط، وعند انتشار السحب الكثيفة كانت تُعلن عن وجودها بين عالم النبات والشجر بإنتاجها الوفير، كما كانت الرطوبة تملؤها بالحياة، ولم تكن العصافير تشعر بالأمان مثلما تشعر به فوقها.

ذات صباح ساد فيه الفسق تسلَّلتُ خارج المنزل كي أراقب «جوزيف» أو «نوبي» وهما يسيران بمحاذاة الأحجار التي تحدِّد الطريق، ولم أكُن بقادر على رؤية ما بين الفروع.

تم تعميد «نوبي» مثل الآخرين غير المسيحيين الذين جاءوا إلى الإرسالية، فأصبحنا نُناديها باسمها المسيحي «ماري»، كانت تمشي في الطريق الواسع في اتجاه الفسقية؛ حيث تعرف المكان الذي نلعب فيه ونضرب الحصى فوق الطين أو نتطلع إلى البط، كانت تسير وهي تمسح جبينها بطرف لفافتها وتنادي على اسمي، تعثرتُ طوال الطريق محاولًا اللحاق بها.

نظرَت نحوي باهتمام وقالت: إن ماما سوف تجلدك؛ فقد توقفَت الأمطار منذ ساعتَين، وكنا نعتقد أنك موجود بالمنزل.

– لكنني أخبرتُ «جوزيف» بأنني ذاهب إلى المدرسة.

– نعم، لقد قال لها ذلك لكنك تأخرتَ في العودة، فظلت ماما واقفةً في الركن خائفةً من إصابتك بالحمى.

كان مجرد التفكير في سوط أمي يصيبني بالارتعاش.

كان «إيزارا» هو منزلنا الثاني؛ حيث وُلِد إسحاق، الذي جاء أيضًا من أبٍ وأم، كان المنزل ذا عوارضَ خشبية محترقة وسقفٍ مكشوف وسجاد من الوبر وحصير، وثمَّة أشياء في أركان السقف ملفوفة بأوراق من الجلد، ولم يكن من شيء يبعث على الحَيرة والارتباك سوى تلك الحبوب والنشوق التي يتعاطَونها للتأثير على مشاعرهم.

كان «إيزارا» نوعًا مختلفًا من البيوت التي يظهر فيها الزمن من كل أركانه، وتعود معه خطواتٍ كثيرةً إلى الماضي، كل ما تقع عليه العين كان يساعد في معرفة الأجداد، بما في ذلك الصور المعلَّقة، وذلك الوشم الأخضر فوق أيادي وأجساد النساء.

كنا نذهب إلى هناك كل عامٍ جديدٍ لنشوي الخنزير ونستمتع برائحة الدخان المنبعث من الخشب المحترق والتراب الأحمر، كان السقف من القش، وكنا نشرب الخمر المعتَّقة من البلح، ونتناول طعامًا شهيًّا، وكان أبي يدخن من عوارض الخشب كنوعٍ من إزالة النحس، وكانت النساء تتدثَّر بشالاتٍ سوداء ذات أشكالٍ مختلفة.

كان النمل ينخر الخشب، وفجأة سقط السقف فوق رءوسنا، لكنَّ أحدًا لم يكن يهتم بذلك النمل المنتشر في المكان، كان الصندوق تحت السرير مهجورًا، وكانت الأوراق بداخله متأكلة من النمل الذي كان يختبئ في شقوق السقف والأركان، كان أبي في زياراته الليلية يعمل على إصلاح السقف قَدْر استطاعته، ويتذمَّر من زيارتنا في العام الجديد، ثم يقوم بإخفاء صناديقه الغامضة حتى انتهاء الزيارة، كنتُ أُحسُّ بغيظٍ شديد لأنني لم أتمكَّن من معرفة ما تحتويه تلك الصناديق، لكنني استطعتُ أن أصنع بها ثقوبًا.

كان إسحاق في جولات الصيد مثل «جونا» وشجرة الجوافة وأجراس المنزل ذا شخصيةٍ مختلفة يحمل بندقيته دون أن يتحدث أبدًا، وأنا أسير خلفه متتبعًا إياه وهو يلتقط الطيور التي أطلق النار عليها، وكالعادة لم يكن الأمر يخلو من مضايقاتي وأسئلتي الكثيرة.

سمعتُه ذات يوم ينادي: «وول».

لكنني قررتُ ألا أذهب معه للصيد، إنه يصيبني بالتوتر وأنا أقتفي أثره، هُرِعتُ إلى الخارج قبل أن يبدأ النداء مرةً ثانية، وما هي إلا لحظاتٌ قليلة حتى كنتُ راقدًا فوق «جونا» وأنا ألهث ناظرًا إلى الطريق الذي سيمضي منه في طريقه للصيد.

قالت أمي لإسحاق: ابنك هذا، هذا الولد لا يتوقف عن فعل الأشياء التي تؤدي إلى موته.

كان ذلك هو اعتقاد أمي الراسخ وأحد أحلام اليقظة والأفكار السوداء التي تنتابها، وكانت تنتهز كل فرصة لتخبر إسحاق بوضع حدٍّ لسخافاتي.

سمعتُها تقول له: أخبرتُك من قبلُ ولن أكرِّر ما قلتُ.

عرفتُ القلق؛ فقد كان يبدو أن المسيحية المتوحشة على صواب، وكان حادث شجرة الورد الصغيرة هو ما جعلني أهتم بشكاواها إلى أبي.

كانوا جميعًا يساعدونها وهي تُعِد الطعام بإحضار الملاعق والفناجين، وإذا ما نضج ما في الإناء فإن فريقًا منهم كان يقدِّم لها المغرفة للتقليب، وحين لا يجدون شيئًا يكلفونني به كنتُ أهرب للقراءة في الحجرة الأمامية أو للقيام بواجباتي، كانت مشاركتي في واجبات المنزل قليلة بالنسبة لما تقوم به «تيني» أو أولاد العم الذين يقيمون معنا.

كانت مشاركتي الخاصة التي اخترتُها بنفسي هي الاعتناء بحديقة إسحاق؛ فكنتُ أرش النبات بالماء، وأشذِّب الفروع الميِّتة، وأزيل العنكبوت المتراكم فوق الأنسجة، مع الاعتناء بالزهور حتى تصبح في أحسن أشكالها، غير أنني كنتُ قاسيًا مع المواعز التي كانت تنجح كثيرًا في اختراق الزهور، كنتُ أغلق البوابة في وجوه المواعز، وألقي عليها الأحجار والهراوات، حتى إنني ضربتُ إحداها ذات مرة بشدة، فرقدَت على الأرض لاهثة وهي تنزف في الطريق الضيق المؤدي إلى البوابة؛ فقد كان الحجر أكبر كثيرًا من الذي نستخدمه دائمًا.

كانوا جميعًا يغارون من عملي في الحديقة، باستثناء أبي الذي تجاوز تلك الغَيرة.

ذهب المدرس «أوديجيمي» يومًا ما إلى المدرسة واضعًا وردةً قرنفليةً في فتحة سُترته، فتعجَّب أبي لتلك الوردة، ثم سأله بطريقة عادية عن كيفية حصوله عليها.

قال المدرس: أوه، من حديقتك بالطبع أيها الناظر.

قال إسحاق دون أن يغيِّر من لهجته: آه، أعتقد أنني أعرفها، أنت تحب الزهور كما أرى.

– نعم، أنا أحب الزهور يا سيدي، ويجب أن أتقدَّم لك بالشكر، أنت تملك حديقةً رائعة لم أر مثلها من قبل.

– وكيف عرفتَ أنني أملك حديقة؟

– كنتُ مارًّا بالطريق يا سيدي وكانت البوابة الخلفية مفتوحة، فرأيتُ الزهور الجميلة ولم أصدِّق عيني.

كنتُ أنا الذي تركت البوابة الخلفية مفتوحة، مما أثار غضب إسحاق، الذي شدَّني من أذني، وحاول أن يرفعَني منها، لولا أن تحرَّكَت المسيحية المتوحشة بسرعةٍ شديدة، وكانت هذه إحدى المرات القليلة في حياتها التي تتدخل فيها في قرارات إسحاق في المعاقبة، وراحت تفصل أذني عن يده، وتدافع عني قائلة: عزيزي، لا بد أنه كان يحلم، آه، أليس هو الذي يقضي كل وقته في العناية بالحديقة؟ إن عقله لم يكن معه.

تنفَّس إسحاق بعمقٍ وبدا هادئًا، ألقى نظرةً أخرى إلى النبات المهشَّم، ثم هزَّ رأسه متحسرًا ومضى بعيدًا.

تنهَّدَت أمي وقالت لي: عليك بعمل شيءٍ قبل أن تقتلَ نفسك أو تشعلَ الحريق في المنزل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥