٦
– كنتُ أرقد فوق الحصيرة متظاهرا بالنوم، ثم رحتُ أبدِّد وقت الصباح بمراقبة إسحاق من النافذة، كان ملصقًا على الخريطة المثبتة فوق الحائط بالقرب من المرآة بعض الصور لألعابٍ وتمارينَ رياضية مختلفة، تلك التي يمارسها الرجال ذوو اللون الأبيض، كان إسحاق يفعل ما في وسعه لتقليد تلك الألعاب، وكانت حركاته النشيطة تُصدِر أصواتًا ما، ظل يتنفس بعمقٍ وهو ينحني حتى يلامس إصبع قدمه اليُمنَى ثم يلف بجسده مرةً أخرى إلى إصبع قدمه اليسرى، ثم يفتح يده ويقبض عليها ويرفع ذراعه اليمنى ثم اليسرى وكأنه يحمل شيئًا ما.
تبلَّل بالعرق ثم تناول الفوطة، كانت التدريباتُ قد انتهت، ومن فوق عتبة النافذة أمسك بالفرشاة والكوب، فتحرَّكَت الفرشاة في طريقها الصحيح نحو الأسنان التي يدعكها من الداخل في المقدمة والأركان وهو يبصق في الكوب بينما كان — من وقتٍ لآخر — يردُّ على تحية العابرين بجوار النافذة.
شعرتُ أن ذلك يكلفه جهدًا كبيرًا.
بعد لحظات تناول الفوطة، وراح يلفُّ نهاياتها حتى تكوَّمَت فوق بعضها، ولفَّها حول خصره، ثم عاد فربطها حول رقبته، وخرج من حجرة النوم.
كنت أتتبع صوت الشبشب الذي يرتديه في جولته بالمنزل والفناء الخلفي، توقَّف ليرى زهوره وينزع البراعم الذابلة، وسمعتُه ينادي شخصًا ما لإحضار المقص للتخلص من الفروع الذابلة، كان واقفًا في هدوء وسط نباتاته محدقًا إلى الزهور.
كان البعض من سكان المنزل، بمن فيهم الخادمة الكبيرة، يبلِّلون حصائرهم وهم نائمون بالليل، فكانت رائحة البول منتشرة دائمًا في الهواء، ومن تلك الرائحة كانوا ينقلون الطفل الذي يبول من حصيرته على الأرض إلى السرير ذي العوارض الأربعة؛ حيث تمتص المرتبة تأثير المثانة، ويضعون بعد ذلك المرتبة في الشمس طوال اليوم، لكنها لم تكُن تفقد تمامًا تلك الرائحة اللاذعة المنتشرة في الحجرة.
كان سرير أمي أكبر مرتَين من سرير إسحاق، أو هكذا كان يبدو بالعُقد النحاسية الكبيرة في عوارضه الأربعة والكرات النحاسية الصغيرة في أعلاه وأسفله، كانت تختفي آثار أقدامنا من الدرابزين مما يُجنِّبنا العقاب، ولم نكن نتوقف عن اللعب بكُرات القصدير حتى تقع ونفتقدها، لكنه كان بمقدورنا الحصول على غيرها من المخزن الكبير.
كانت الأعمدة الأربعة بعُقدها المتلألئة وما يحيط بها من كساءٍ فاخرٍ هي ما نتوقُ إليه، وكانت الأربطة مكومة تحت السرير، وكذا سلال الصابون وعلب السردين الصفيح وعلب السكر والشماعات والكافور الدائري والمربع الشكل، وكانت الطرود مربوطةً بأوراق الشجر، ثم كان الصابون المحلي وأباريق الحلوى والأشياء التي كانوا يصنعونها في المنزل، مثل النعناع الذي يضعونه فوق عتبة النافذة في أوراقٍ غريبة.
وفي الركن كانت الكتب المقدسة وكتب التراتيل وبعض الكتب القديمة، وأيضًا صفائح الكيروسين وزيت النخيل وزيت البندق، وثمَّة أوانٍ مطلية بالخزف تحتوي بداخلها الفول والقمح المجفَّف.
عندما كان يأتي أبي إلى هذه الحجرة الغريبة للبحث عن شيءٍ ما، فإنه كان يعود من حيث أتى وهو يهزُّ رأسه بيأس وصبر.
كان صندوق الخزانة تحت السرير أو في أحد الأركان مليئًا بأشياء من نوعٍ مختلف، علب المجوهرات، وخرز، وأساور، وحلقان الأذن وحلي أخرى، وكتاب مقدس ملفوف بالجلد، وكتب التراتيل والصلاة المزركشة بشرائط من الحرير، وكانت أيضًا تلك القطع الصينية وكأنها آثار جروح في الوجه، وثمَّة أشياء أخرى عجيبة ومزخرفة كنا نشاهدها كثيرًا في الاحتفالات، أو مع الزائرين القادمين من أماكنَ بعيدة وغريبة.
في الليل كانوا يفرشون حصائر النوم في حجرة أمي لأولئك الأطفال القادمين مع ذويهم، كان بعض أولئك الأطفال مصابًا بأورام في الرأس، وكانت بطونهم تتلوَّى من الوجبات الفقيرة ومتآكلة أقدامهم، أما عن شعورهم فكانت مليئة بالقمل، غير أن البعض الآخر كانوا يرتَدُون ثيابهم بأناقة، وكانت صناديقهم مليئة بالملابس الجديدة وجيوبهم عامرة بالنقود.
كنتُ أتعجَّب لأولئك الذين يتنازلون بسهولة عن أطفالهم لمنزل الناظر وزوجته، ولم أكن قادرًا على الاستمتاع معهم والإحساس بالألفة تجاههم، كما كنتُ أشعر بمَودَّة في حجرة نوم أبي.
كان «ديبو» ما يزال صغيرًا، ولكونه ولدًا فقد كنتُ أعرف أنه سيلحق بي في حجرتنا، التي كانت رائحة العفونة تتسرَّب إليها من أوراق النخيل المتراكمة، وتلك الكراسات والملفات والحقائب الجلدية والخراطيم المعدنية والأحذية الجلدية، كان إسحاق يقلل من حجم الأوراق المتراكمة بإحراقها مرتَين في العام.
كانت ذرات التراب تتسلل إلى الحجرة من النافذة، وكذا أشعة الشمس، وكنتُ شغوفًا بالكتب المرتَّبة بعناية فوق الأرفف مما أثار دهشة إسحاق؛ فقد كانت شهيتي للكتب عظيمة، حتى إن المسيحية المتوحشة كانت تجعل الزائرين يشاهدونني، وذات يوم أحضرَت «تيني» لتراني وأنا أطالع الكتب، ووبخَتْها لأنها لم تكن تحب القراءة، وذلك ما ضايقني وجعل القراءة عملًا غير محبب؛ لأن «تيني» كانت أقرب زملاء اللعب، وكانت الرابطة بيننا قوية.
كانت أمي دائمًا تتهمني بأنني أمتلك روحًا شريرة، وكنت أبدو مندهشًا؛ لأن أحدًا لا يشاركني إحساسي بالظلم، وفي محاولة للهرب من أفكاري المزعجة رحتُ أتطلع إلى الخريطة فوق الحائط في حجرة أبي، ثم رحتُ أقلد إسحاق في ألعابه الرياضية.
فتحت «لاوانل» الباب دون استئذان، وقالت: ماذا تفعل؟
–من المفروض أن تطرقي الباب قبل الدخول إلى حجرة بابا.
– نعم، ذلك إذا كنتَ أنت بابا.
قلتُ معترضًا: إنها ما تزال حجرتنا.
قالت: ولن تكون كذلك لمدة طويلة، أنت الآن أصبحتَ كبيرًا، هل تعرف؟
– وما الفرق في ذلك؟
هزَّت كتفَيها وهي تقول: سوف تكتشفُ ذلك في حينه، والآن تعالَ لأن ماما تسأل عما تفعله حتى الآن في الحجرة، لماذا لم تأخذ حمَّامك؟
– أي شيءٍ سوف أكتشفه؟
– أوه، يا إلهي، دائمًا تسأل سؤلًا وراء سؤال: ألا تتوقف أبدًا عن الأسئلة؟ إن ذلك عيبٌ كبير فيك؛ فأنت تحب الجدل كثيرًا، فهل تتصور نفسك بابا آخر؟
– ما هو الشيء الذي سوف أكتشفه؟
قالت وهي تتمايل: أعني بأنه ثمَّة تغيُّرات ستحدث في هذا المنزل.
– أية تغييُّرات؟
قاومت «لاوانل» ضحكاتها قائلة: سوف تعرف حالًا.
– لم أعد أهتم، احتفظي بأسرارك لنفسك.
شدَّتني إلى ركن الصالة وسألَتني: ألم يخبرك بابا أنه مسافر؟
– إلى أين؟
– ها أنت تسأل مرةً أخرى، إنني أنا التي تسألك، أنت مجادلٌ عظيم.
كذبتُ قائلًا: أعرف أنه مسافر؛ لأنه في الليلة الماضية حكي لي قصةً إضافية، كعادته حين يسافر بعض الوقت.
– كان يجب أن يخبرك عن مكان سفره.
كنا قد عبرنا الصالة، ووصلنا إلى الفِناء الخلفي، وكان مستحيلًا أن تستمر المناقشة.
دعكَت جسدي في الحمَّام، وشعرتُ بالمرض والخوف؛ فقد تسببت كلمات «لاوانل» في قلقي، مثلما كانت تفعل أمي حين تتكلم ولا تنتهي مما تقول كنت قد ورثتُ عن إسحاق عدم الرضا.
كنتُ أنام على حصيرتي في حجرة أبي، وكانت «تيني» وأولاد العم ينامون فوق الحصير العادي الذي أكرهه كثيرًا؛ لأن بعضًا منهم وهم أكبر مني كانوا يبولون عليه.
سافر أبي ودخلتُ حجرة نوم أمي، كنتُ أنتظر عودته بقلق، وحين عودته سارعتُ باستعادة مكاني، لكن أمي منعَتْني قائلة: «وول»، لماذا لا تنام مع الآخرين هذه الليلة؟ لا يجب أن تتخلى عنهم بسبب عودة أبيك، كما أن أخاك الصغير يأتي أحيانًا لينام معك.
لم أصدِّق اهتمام أمي بأحاسيس «ديبو»، ورضيتُ بتأجيل عودتي إلى مكاني في ليلةٍ أخرى، وفي الليلة التالية عُدتُ كما كنت، كانوا ينامون بطريقةٍ غريبة، وسرعان ما يبدَءون في الشخير، وكانت الصفَّارة التي تطلقها أمي تقودهم إلى السرير، وأحيانًا كنتُ أستيقظُ في منتصف الليل على أثر أصواتٍ في الحجرة، كانت شبيهةً بتلك الأصوات التي كنا نسمعها عند ذهابنا للمصنع لرؤية الليمون الهندي والبرتقال والجوافة التي يعبِّئونها في عُلب، بعد سلسلة من عمليات التنظيف والتقطيع بالمحرِّكات والسيور والكبَّاسات وغلَّايات البخار.
في الصباح كانت المناقشة غالبًا تدور حول معرفة الشخص الذي تبوَّل فوق الحصيرة، وكانت أمي متخصصةً في حل ذلك اللغز، كانت رائحة البول تنتشر في كل صباح.
في كثيرٍ من الأحيان كنا نمارس اللعب في الشوارع العامة، وكنا نتسلَّق الأعمدة وسور الكنيسة؛ حيث نرى «آكية»، ولم تكن مواكب الجنازات تجعلنا نلتزم الهدوء والأدب؛ فقد كانت شبيهةً بحفلات الزفاف والرقص، وكان النعش أحيانًا يقوده الحصان والتابوت مُتوَّجًا بالزهور وأوراق النخيل، كانت أجراسُ كنيسة القديس بطرس تدقُّ قليلًا قبل وصول حشد المشيِّعين الذين تبدو على وجوههم علاماتُ الحزن.
كانوا ينقلون النعش من العربة إلى داخل الكنيسة، ويضعونه في مواجهة المذبح وهم يرتلون ويُنشِدون أناشيدَ هادئةً تتناسب مع الموقف، بينما النسوة يسترسلن في النُّواح، وتظهر الأبواق من حيث لا ندري، كذلك المزامير والطبول والدفوف.
– كانت السرقة من المواقف التي يشارك فيها الصبية والأولاد في جلد السارق، وكانت سرقة اللحم من إناء الشوربة تبدو واضحةً على اللص؛ حيث يكون الفم ملطخًا بزيت الإناء.
ذات مساء كانت أمي تجهِّز العَشَاء، وكنا نطوف حولها ونمسك بها، ثم تطرق الحديث إلى الحصائر المبلَّلة من البول، وراحت تهدِّد بالعقاب الشديد لمن يبلِّل الحصائر أو يسرق اللحم.
نظرَت نحوي وقالت: «وول» يخطط للسرقة من الإناء.
– لا.
– وربما فعل ذلك دون أن نراه.
قال جوزيف: إذا رأيتِه متلبِّسًا فإنه سيدافع عن نفسه.
قالت ماما: لا يستطيع الدفاع عن نفسه أمامي، إن والده هو يتمتع بقَدْرٍ كبيرٍ من الصبر عليه.
قال ابنُ العم مقاطعًا: على أية حال، فإن «وول» مُغرَم بسرقة الحلوى والسكَّر ولبن البودرة وأشياء من هذا النوع.
بعد أن تمَّ فطام «ديبو» وبدأ يأكل مثلنا كانوا يضعون العلبة الكبيرة من اللاكتوجين في أحد الأركان، كنتُ أُحب تلك العلبة وما تحويه من بودرة ذات طعمٍ لذيذ وشهي كان يبدو لي أشهى طعم في العالم، لم يكن ذلك سرقة؛ فإن أحدًا لم يتذكَّر العُلبة التي أخفيتُها وسط الأشياء الثمينة حتى أُشبع نهَمي منها من وقتٍ لآخر.
بعد شهرٍ تم اكتشاف العلبة، لكنَّ أحدًا لم يعرف ما تبقَّى منها، راحت أمي تستدعي كل واحدٍ منا وتسأله ثم تهدِّده، وصمَّمَت على النيل من اللص المتهوِّر فور معرفته والإمساك به.
مضى أسبوعٌ دون أن أعترف، وبينما كانت أمي تُعِد الخضروات في الفناء راحت تفتح باب مخزن المئونة، وحين شاهدَتْني أومأَت برأسها، وقالت: إنه أنت، كنتُ أعتقد ذلك، ودائمًا كانت شكوكي تحوم حولك.
لم تضربني كالعادة، لكنها ظلت هادئة، مما أفزعني، وشعرتُ بالقلق؛ لأنني توجهتُ بنفسي نحو الفخ.
قالت: سننتظر عودة أبيك كي ينال منك، ثم أتولى أنا دوري في العقاب.
بدأتُ أخطِّط للهرب، إن أحدًا لم يتذكر العلبة منذ وقتٍ طويل، وكنتُ أحتفظ بها في حمايتي لمدة شهرَين تقريبًا، وأنا أنظر إليها في كل مرة وكأنها جائزتي الخاصة.
قلتُ لنفسي: سوف أهربُ بعيدًا بعد أن أقوم بتفريغها على الأرض، كنوع من الاحتجاج النهائي.
تحركتُ خلسةً من مخزن المئونة إلى حجرة النوم، ثم إلى الحجرة الأمامية؛ حيث تُوجَد غالبية كتبي، وضعتُ الكتب في حقيبةٍ صغيرة، وانتظرتُ لحظة الهرب المناسبة.
عاد إسحاق من المدرسة، فسارعَت المسيحية المتوحشة بالاختفاء معه في الحجرة كي تخبره بالاكتشاف الكبير، فكانت تلك هي اللحظة المناسبة للهروب، سرتُ فوق أطراف أصابعي عبْر الصالة إلى الحجرة الأمامية، لكنني سمعتُ أصواتًا من حجرة النوم جعلَتني أتردَّد، توقَّفتُ لأسمع، كان يبدو أن أمي غيرُ مسرورة؛ لأن إسحاق لم يحاول معالجة الموقف.
سمعتُه يتذمَّر: كان يجب أن تجلديه، لماذا تسبِّبين لي القلق؟
وسمعتُها تردُّ: لكنه انتهى من نصف العُلبة تقريبًا؛ فأنا أتذكر جيدًا بأنها كانت مليئةً عن آخرها عندما استخدمتُها آخر مرة من أجل «ديبو».
قال إسحاق: أرجو عدم الإزعاج، ولكِ أن تعاقبيه على العلبة بكاملها، لكنني ما زلتُ لا أفهم لماذا لم تضربيه في وقتها؟
لم تكن المسيحية المتوحشة تعرف وجهتَها وهي تخرج من الحجرة، وكان الوقت كافيًا لإلقاء الحقيبة من الباب المنخفض إلى الرصيف، سحبَتْني إلى الفِناء الخارجي، ولم أكن أفكِّر إلا في تلك الحقيبة الملقاة على الرصيف، التي تحتوي على كتبي المفضَّلة وملابسي، صاحت تُطالِب بالعصا فوجدتُ نفسي أقفز في الفناء تجنبًا للضربات القاسية واللكمات باليد والقدم، ظَلِلتُ خائفًا حتى اللحظة الأخيرة، وتمنَّيتُ لو حدث الضرب خارج فِنائنا، ثم خطر بذهني أن أسارع بالحركة ملتقطًا ممتلكاتي، وأجري في شوارع الإرسالية في كل الاتجاهات، بعيدًا عن المنزل وسكان المنزل الذين يُضمِرون لي عداءً خاصًّا، وكانوا سببًا في طردي من حجرة إسحاق.
كانت رأسي تزدحم بأفكارٍ كثيرة وغريبة، وكنتُ أشك كثيرًا في بقائي بذلك المنزل مدةً طويلة، قررتُ أن أُمسِكَ حقيبتي وأذهب بعيدًا عن الإرسالية باحثًا عن حظي في مكانٍ آخر.
عندما تسلَّلتُ إلى الخارج بعد قليلٍ لم أجد الحقيبة، كان جوزيف قد وجدها واحتفظ بمحتوياتها حيث يحتفظ بأشيائه، ولم أكن أعرف ما أفعله معه، وفي نفس تلك الليلة بعد أن ناموا جميعًا وكانت أمي تهزُّ السقف بشخيرها مشيتُ فوق أطراف أصابعي نحو مخزن المئونة، وملأتُ فمي بلبن البودرة ثم عُدتُ مسرعًا إلى الحصيرة، كانت البودرة تذوب وتتحلل ببطء في حلقي.
في الصباح لم أكن أُحسُّ بأي ألمٍ من ضرب الليلة الفائتة.