٧
كل شيء في المنزل كان مستقرًّا، وكان من العسير أن يتنبأ أحدٌ بالتغيير، الضيوف، الأقرباء، الزائرون الذين يعبُرون بالصدفة، العلاقات البسيطة، أولاد العم وبعض الأحداث القليلة المتكررة، كنا نُحسُّ كل ذلك ونتعايش معه، وفجأة تغيَّر كل شيء، بدت الملامح التي نعرفها غريبة عن ذي قبل، وتغيَّر كلُّ من كنتُ أنا و«تيني» نتعامل معهم ونعايشهم، كما أن «تيني» نفسها تغيَّرت، حتى رحتُ بدوري أتساءل عما إذا كنتُ أنا أيضًا قد تغيَّرتُ دون أن أعرف.
قلتُ لتيني: هل ستخبرينني إذا بدأتُ أتغير؟ سوف تقولين لي بأنني تغيَّرت، أليس كذلك؟
قالت «تيني»: عن أي شيءٍ تتحدث؟
– ألا تلاحظين؟ جوزيف، لاوانل، نوبي، كل شخص تغيَّر، بابا وماما تغيَّروا، وحتى السيد «أديلوا» تغيَّر.
إنه مولد «ديبو» الوشيك، لقد حدث التغيير قبل مولده بفترة طويلة، لم يكن هناك من شيء يمكن ملاحظتُه على المسيحية المتوحشة، التي لم تكن سوى متوحشة، سوى أن بطنها بدأ في الانتفاخ حتى خطر ببالي ذات مرة بأنها لا بد قد تناولَت كثيرًا من الطعام، وأن هذه طريقة في نمو الكبار، ثم تمنيتُ أن أنمو وأكبر حتى أصبح طويلًا مثل أبي.
كان صراخ أخي المولود وتلك الموهبة العظيمة على إزعاج الآخرين هما نهاية ذلك التغيير، فاختفت نظرات إسحاق القلقة، وتبدَّلَت بابتسامات لا نهائية مع بعض الضحكات، وبدا المنزل في حالة من الاسترخاء، وانهال الزائرون إلى المنزل، فرحتُ أبحث عن ملاذي عند «جونا» هاربًا من ذلك الضجيج المفاجئ.
أحيانًا لا يكون التغيير متعلقًا بالأشخاص، وهذا ما حدث ذات مرة، حين قامت المسيحية المتوحشة فجأة بإعادة ترتيب الأثاث، وفي أثناء ذلك كنا نصطاد الحشرات من المفارش والأغطية، وكان أن اكتشفنا كثيرًا من الثقوب في أغطية الوسائد والمساند، وكنا نقوم بتسخين الإبرة فوق نار الشمعة للقضاء على الحشرات، وتم نقل الكراسي المنخفضة والكراسي ذات المساند من مكانها.
تغيَّرت أيضًا أماكن النوم، وتم إبعاد كل شخصٍ من حجرة نوم أمي، وأصبحَت الصالة هي مكان النوم الجديد بعد أن تحرَّكَت الكراسي قليلًا، وانتقلت المائدة من المنتصف إلى أحد الأركان، فكانت الحصائر والوسائد تنتشر أثناء النوم حتى إن إسحاق كان يتعثَّر بالأجساد المتراكمة عند نهوضه في الليل للشرب.
كان ذلك تغييرًا يبعث على السرور، ولم يعُد الواحد منا يستيقظ وأنفه ملتصقٌ بتلك العيون السوداء.
كانت الأخبار التي نسمعها أيضًا تحمل بعض التغيير، ولم نكُن نتعمَّد سماعها؛ فقد كان من العسير ألا نستمع إلى المحادثات القائمة في أرجاء كثيرة من المنزل، كان الزائرون يأتون دائمًا ولا يتوقفون عن الحديث والجدال، وحين توقَّف بعضهم عن الحضور أصبح لزامًا علينا أن نتعلم لغةً جديدة وعلاقاتٍ جديدة مع الأشياء والناس.
شعرتُ أكثر من مرة أن سكان المنزل يُعِدُّون أنفسهم للخروج من «آكية» تمامًا، إلى أين وكيف ولماذا؟ إن ذلك لم يحدث قط، كان مجرد إحساس فقط!
عند مولد «فولاساد» أصبح التغيير مختلفًا، كان مولد «فولاساد» بعد «ديبو» لكنها لم تكن مثله في شيء، كانت طفلةً هادئة، ثم انقلب حالها، وصارت تصرخ ليل نهار وهي راقدة في سريرها الهزاز، كانت تأكل بصعوبة كبيرة، وكنا نلاحظ المجهود الكبير الذي تبذله واضحًا في عينَيها، عندما كنا نلمس يدَيها حين كان عمرها عشرة شهور كانت تقبض على أصابعنا بكل قوِّتها من خلال فتحات السرير الهزَّاز، ثم فجأة ترفُّ بعينَيها وتحرِّك أنفها، كانت عيناها تؤكِّدان شدة ما تعاني وهي تُعاوِد الصراخ دون توقُّف.
مضت أمي وإسحاق إلى حجرة نومه وظلَّا بداخلها بضع ساعاتٍ استطعنا خلالها أن نسمعهما يتحدثان دون أن نقدر على التقاط أي كلمة، كانا يتحدثان بصوتٍ منخفض، ثم استدعيا الخادمة التي كانت حادة وعنيفة، وهي تنكر التهمة الموجَّهة إليها.
قالت: إن الله شاهدٌ على ما أقول.
ثم كرَّرَت كثيرًا: لم يحدث شيء، لا شيء يا سيدي، لا شيء على الإطلاق.
وانصرفَت من حجرة النوم راسمةً فوق وجهها علاماتِ الظلم والاتهامات والشكوك الزائفة.
ذهبَت «فولاساد» في الصباح إلى المستشفى ولم تعُد إلا في وقتٍ متأخر بعد الظهر، وكان جسدها الصغير ملفوفًا بالشال والبلاستر من تحت إبطها وحتى أردافها، ولم تكن المسيحية المتوحشة تحملها فوق ظهرها وإنما بين ذراعَيها، لكنها لم تكن تتوقف عن الصراخ من وقتٍ لآخر، وفي ليالٍ عديدةٍ كانت تبقى مستيقظة.
نهضتُ يومًا من فوق حصيرتي، ورحتُ أحبو ناحية السرير الهزَّاز، ثم نظرت إلى عينَيها الهادئتَين فبدا لي أنها لا تعرفني.
ذات يومٍ كانت الخادمة تجلس وحيدةً مع نفسها وهي تبكي، كانت دائمًا وحيدة لا يتحدث معها أحد، كان طبق الطعام بجانبها كما هو لم تأكله، وحين سألتُها عما حدث أفزعَتْني ببكائها الكثير المفاجئ، حتى إنني لم أستطع أن أتبيَّن ما تقول من خلال ذلك البكاء.
قالت: أُقسم أنها لم تقع مني، أُقسم بالله أنها لم تقع مني في أي وقت؛ فقد كنتُ أعتني بها.
كانت تجلس على بعد خطواتٍ من المخزن في الفناء وهي تتطلع إلى أحد نوافذ حجرة نوم ماما، وحين فتحَت ماما النافذة لم أكُن قد رأيتُ وجهها من قبلُ بمثل ذلك الكم الهائل من الحزن والغضب وهي تحدِّق في الخادمة الباكية، كانت قد سمعَت الخادمة وظلت تحدِّق فيها.
نظرَت الخادمة إلى أعلى، وشاهدَت المسيحية المتوحشة، فجفَّت دموعها في الحال، وفي وقتٍ متأخر من نفس المساء تم استدعاء الخادمة مرةً ثانية، واستغرق الحوار وقتًا طويلًا كنتُ غرقتُ في النوم قبل الانتهاء منه.
في الصباح كانت الخادمة قد ذهبَت هي وأمتعتُها بينما ذهب إسحاق وأمي وفولاساد إلى المستشفى الكاثولوكي في «إيتابادي»، فساد المنزل الفرح لغيابهم رغم مرض «فولاساد»، كنا فقط نعاني قليلًا من القلق.
أعلن جوزيف أن الخادمة حزمَت أشياءها الليلة الفائتة، ولم يكن يعرف الجهة التي ذهب إليها إسحاق والمسيحية المتوحشة مع «فولاساد»، لكنه حين نظر من السور إليهم عرف أن طريقهم يؤدي إلى المستشفى في «إيتابادي».
لم يحدث أي تغيُّر في ملامح «فولاساد» عند عودتهم ولم يتغيَّر شيء في تحرُّكاتها فوق السرير الهزَّاز، أثناء وجود إسحاق في المدرسة لم تكن أمي تغادر حجرته، كانت ترقد فوق السرير أو تُمضي وقتها في الصلاة، كانت تصلي كثيرًا، لكن النجار الذي يملك ورشة في ركن الطريق المؤدي إلى سور الكنيسة جاء إلى المنزل ذات صباح وهو يحمل صندوقًا خشبيًّا صغيرًا ذا شكلٍ مربع، تناول أبي الصندوق، ووضَعَه في حجرة نوم المسيحية المتوحشة التي سمعتُها تقول: يجب أن يشاهدها الأولاد أولًا، أليس كذلك؟
كانت «فولاساد» راقدةً ومغطاةً بقطعةٍ طويلةٍ من القماش الأبيض تمتد حتى قدمَيها وكانت عيناها مغلقتَين، كانت «تيني» حين نظرت إليها واقفةً بهدوء دون أيِّ إحساس، بينما وجه المسيحية المتوحشة كان مزينًا بابتسامةٍ حزينةٍ حلوة وهي تقول أشياء لم أستطع أن أفهمها، لكنني فهمتُها وهي تقول: لا يجب أن تحزنوا على أي شيء؛ لأن «فولاساد» لم تعُد تعاني من الآلام، هل ترَون؟ لم تعُد تعاني أي شيء.
نظرتُ مرةً أخرى إلى «تيني»، وتوقَّعتُ أن تفعل شيئًا أو تقول أي شيء؛ لأنها أكبر مني، لكنها ظلت تحدِّق في الجسد بعينَيها الهادئتَين متفحصة أختها الساكنة في صمت.
فجأة كسرتُ الصمت حين تملَّكَتني قوةٌ غريبة، وجريتُ نحو السرير وأنا أبكي، أمسكَني أبي، ورحتُ أقاوم محاولاته في تهدئتي، وكانت دموعي غزيرةً وأنا منجذب نحو السرير، وثمَّة تساؤلاتٌ كانت تعترضني.
رأيتُ من خلال دموعي تلك الدهشة الغريبة فوق وجه أمي، وسمعتُها تقول: إنه لا يفهم، لا يفهم!
توقعتُ تغييرًا كبيرًا برحيل «فولاساد»، لكنَّ شيئًا لم يحدث، إن شيئًا لم يتغيَّر، وكان ذلك فوق طاقتي، فبدَأتُ أدبِّر المكائد بين أبي وأمي من أجل حدوث تغييرٍ ما، ولكن دون جدوى، كما لو أن «فولاساد» لم تمُت، أو كما لو أن موتها لم يكن يعني شيئًا على الإطلاق.
كانت الأبنية في «آكية» من الطين الهش، فكانت تنهار بسرعة عند سقوط الأمطار في يوليو وأغسطس، وكذا كانت الرياح قوية تُطوِّح بألواح الحديد المتموجة إلى أسطحٍ أخرى، وعند انهيار البيت فوق ساكنيه كان الذي يظل حيًّا يقف مبللًا ومرتعشًا وسط بركة من المياه ويحكي قصة الكارثة، أما إسحاق فإنه يفتِّش في حقيبته عن بعض الملابس القديمة بينما تذهب المسيحية المتوحشة لإعداد الشاي المغلي والعسل والسكر واللبن مع قطعةٍ كبيرة من الخبز الأبيض بالزبدة، وذات يوم من أيام المطر الشديد تسللتُ إلى الخارج ففتحَت أمي الشباك قائلة: إلى أين أنت ذاهب؟
– ذاهب إلى المدرسة.
– لماذا؟ ماذا تنوي بالضبط؟
– سوف أجمع بعض الجوافة، لا بد أن الأرض مليئة بالجوافة بعد سقوط الأمطار.
– دع «بونمي» تذهب معك؛ فقد يصيبك البرد.
– لا، إنها شجرتي أنا، شجرة الجوافة ملكي أنا.
صاحت المسيحية المتوحشة قائلة: هل جُننت؟ قلتُ لك ألَّا تذهب، تعالَ هنا.
رجعتُ ووقفتُ على قدميَّ المرتعشتَين ثم وضعتُ يدي خلف ظهري.
– هل تسمع ما أقول؟
– أسمع ماما، أنا ذاهبٌ للقراءة في كتابي.
– وما الذي يجب أن تقوله عندما تتحدث؟
– يجب أن أقول نعم، نعم ماما.
حدَّقَت فيَّ بعنف وقالت: اغرُب عن وجهي، اذهب بعيدًا.
– نعم، ماما.
جاءت «بونمي» من البوابة الخلفية، فأمسكتُ بها قائلًا: إذا امتدَّت يدكِ إلى شجرة الجوافة فإن العفاريت ستُهاجمكِ في الليل، إنها شجرتي أنا.
– اذهب بعيدًا عني، ها أنت لا تعرف شيئًا عن الأرواح.
– لو اقتربتِ من الشجرة وقمتِ بلمسها فسوف تعرفين مَنْ منا على صواب، ها أنا ذا أحذِّرك.
– أنتَ تشعُر بالغَيرة فقط؛ لأن ماما لم تسمح لك بالذهاب كي تحصل على الجوافة.
– إنني أحذِّركِ للمرة الأخيرة، لا تقتربي من الجوافة حتى لو كانت ملقاةً على الأرض.
أخبرَت أمي بتهديداتي، وفي المساء كانت تحدِّق فيَّ من وقتٍ لآخر، عندما انتهى إسحاق من طعامه أعلنَت المسيحية المتوحشة بصوتٍ عالٍ وهي تنظر نحوي: سألحق بك كي نتناقش.
صاح إسحاق: أوه، حسنًا.
رفعَت «بونمي» إصبعها في اتجاه أنفي: والآن سوف نرى من الذي سيتلقَّى الضربات هذه الليلة.
– لماذا؟ ما هي الجريمة التي ارتكبتُها؟
– عنيد، عندما أخبرتُها قالت إنك عنيدٌ جدًّا، وإنها ستقول لبابا.
ذهبتُ إلى الحجرة الأمامية للقراءة متوقعًا استدعائي في أي وقت، ولم أكن قلقًا بشأن ذلك.
– إلى أي شيءٍ تنظر؟
– أنفك.
– ها أنت تصير وقحًا مرةً أخرى، سوف أخبر ماما.
– أستطيع أن أكون وقحًا مع الذين يكبرونني في السن، أما أنت فمَنْ تكونين؟
– الوقاحة هي الوقاحة، ويجب أن تنتبه لوقاحتك، ذلك ما قالته ماما.
قلتُ لها: هل أسأتُ إليك؟
حدَّقَت «بونمي» في وجهي ونظرةُ ارتباك وحَيرة تتلألأ في عينَيها: «وول»، ماذا جرى لك؟ لماذا تريد أن تتصارع مع الجميع؟
– اتركوني وحيدًا.
– لم أستطِع قط أن أكون وحيدًا، كانوا دائمًا يُصدِرون التعليمات بتعقُّبي، فلم أسعد إلا قليلًا بالوحدة، الوحدة، إن «بوكولا» هي التي تناسب مزاجي، فكنتُ أهرب إلى بائع الكتب كلما سنحَت الفرصة، إن «بوكولا» تعرف كيف تكون هادئة حتى وهي تتكلم، كانت تنقلني إلى عالم الهدوء الذي أتوق إليه، وكنت أتعمَّد ملاحظتها بحثًا عن إجابة للأسئلة التي تدور في ذهني.
كنتُ أشعر بالأمن والسلام مع «بوكولا»، فقط مع «بوكولا».
– كانت المسيحية المتوحشة تتناقش دائمًا مع إسحاق بشأني بعداء وخصومة، ولم أكن أتردد في التنصُّت على ما يقولان، وأحيانًا كانت «تيني» تأتي لاستدعائي، وفي أحيانٍ أخرى كانت «نوبي» أو «جوزيف» هما اللذان يبلغانني، وكانا يفرحان كثيرًا لخوفي من ذلك الاستدعاء، كنت أسير خلفهم لاصقًا أذني فوق الستارة لأجل مزيد من التنصُّت.
قالت أمي لإسحاق: لا جديد، إنه دائمًا يميل إلى التأمل، إنه دائم التفكير.
– وإذن فلا شيء يستدعي القلق.
– إنها ليست ظاهرةً صحيةً بالنسبة لطفلٍ مثله، كان طبيعيًّا عندما كانت «تيني» هي صديقته الوحيدة في اللعب، لم يكن بمثل هذا السوء، أما الآن وبعد مُضي بضع سنوات فإنه يميل إلى التفكير والشرود، ثم ذلك التوقف الطويل الذي يقضيه معك يساعده في قطع صلته ببقية العائلة.
– إذن فأنت تلومينني الآن؟!
– أنا لا ألومك يا عزيزي، وإنما أحاول ألا نساعده أكثر؛ لأن ذلك يجعله عنيدًا.
– لم أشعر يومًا ما أنه عنيد.
– لأنك دائمًا خارج المنزل، كما أن بقية الأولاد لا يخبرونك بما يفعل.
– سوف ألاحظه عن قرب.
– يجب أن نساعده على الاحتكاك بالآخرين، يجب ألا ينطوي على نفسه.
– نعم، هو كذلك.
– جاءت السيدة «أدوفوا» لزيارتنا، وشعرتُ — فور رؤيتها — بمعنوياتي ترتفع قليلًا، كانت سيدةً بسيطة ومتصالحة مع الجميع ما عدا زوجها ذا الأحاسيس الغليظة، كانت «أدوفوا» أجمل امرأة وقعَت عليها عيناي في العالم، ولم أكن أحقد على زوجها الغليظ الذي كان بمثابة أبي الروحي، الذي لن يعترض على زواجي من تلك المعبودة حين أكبر وأصبح رجلًا من الرجال.
كانت معبودتي في أوقات الفراغ تتجول مع زوجها بين الزهور دون أن أتوقف عن متابعتهما، حين يكون «جوزيف» إلى جوارهما، يقوم بإعداد كتل الخشب وتنسيقها، وفي مكانٍ آخر ليس ببعيد تكون المسيحية المتوحشة وهي تداعبُ الزهور من الساق وتشمُّ رائحتها، جاء «جاماني» في ذلك الوقت من حيث لا أدري كي يمارس عمليات الشغب، وكان يمشي متأنقًا وهو يقفز إلى الأمام والخلف في حركاتٍ جنونية، لكنني لم أشأ إلا أن أتسامح معه.
تعجبتُ لقدرة «جوزيف» على التقاط ومعرفة لغة اليوروبا الخاصة؛ فلم يكن يتحدث بها إلا بطريقة غريبة رغم قضائه سنواتٍ عديدةً معنا، شعرتُ بالخجل مما قال، ففتحتُ فمي وحدَّقتُ فيه قائلًا: هل ذلك حقيقي؟
تحركتُ خطوة للأمام دون تردُّد، ثم رفعتُ الفأس، وضربتُ كتلة الخشب، وكانت ماما قد التحقت بنا، لكن «جوزيف» لم يفعل شيئًا سوى أنه تنحَّى جانبًا كالذليل وراح يتظاهر بالقراءة.
شعرتُ بحرجٍ شديد، ما الذي فعلتُه؟ ولماذا يحاولون التقليل من شأني أمام معبودتي التي ستصبح زوجتي؟
تجوَّلتُ ببصري من واحد إلى الآخر، كانوا بُلَداء ومني كانوا يضحكون.
ظهرَت نوبي فجأة وقالت: إن مجرد رؤيته لأي شجارٍ يجعله يهرب، إنه يبكي لمجرد أن يلمسه أحد.
استطردت وهي تضحك باستهزاء: هاآآم، إن الإغماء يصيبه فور الاقتراب منه، إذن دعه مع كتبه.
سألتُ نفسي عن الشخص الذي يتحدثون عنه، وأحسستُ أن كل ما يقولون مجرد ألغاز، ربما كانوا يتحدثون عن شخصٍ ما أو عملٍ ما، لكنني أدركتُ أنهم يقصدونني بالحديث، ولم أستطع التعرُّف على نفسي فيما يقولون.
كان «ديبو» ما يزال يقفز حين أوقفه «جوزيف» وأمسك به مُحوِّلًا وجهه ناحيتي: أراهن أن «ديبو» يستطيع أن يضربه ضربًا شديدًا.
قالت المسيحية المتوحشة: طبعًا، إنه يستطيع أن يضربه حتى يتوسل إليه طالبًا الرحمة.
لم يكن يهمُّني شيء سوى معرفة ما يدور برأس السيدة «أدوفوا»، هل كانت تصدِّق كل ذلك؟ كانت تقفُ مع زوجها بجانب شجرة الجوافة الصغيرة وابتسامةٌ غريبة تعلو وجهها.
تساءلَت «نوبي»: لماذا لا نرى بأنفسنا؟ إن «ديبو» حقًّا يستطيع أن يضربه.
لم يكن «ديبو» من ذلك النوع الذي يستطيع أن يقاوم دعوته للشجار وقد نجحوا في استفزازه، فبدأ يفرك قبضة يده الصغيرة متأهبًا لوضع القتال، وهو يقفز من جانب إلى آخر مقلدًا رقصة الحرب، حتى لم يسبق لي قط من قبلُ أن رأيتُ مثل تلك الإثارة فوق وجهه، هتفوا جميعًا من كل الاتجاهات بينما كنتُ واقفًا بدون اهتمام وأنا أستمتع بحركاته الجنونية، كان شبيهًا بالقزم، مرحًا، خفيف الروح، وكان الكبار يتطلعون في شغفٍ لما سوف يحدث.
سمعتُ فجأةً صوت «جوزيف»: «ديبو»، تقدَّم، دَعْه يعرف نفسه.
تحرك «ديبو» الصغير ناحيتي رافعًا قبضته في الهواء، ولم أستطع أن أفهم السبب في اهتمامهم.
سمعتُ أصوات احتجاج وتحذير، ولكن الوقت كان قد مضى؛ فقد اجتاحَتْني عاصفة من الغضب، وانتفخَت عروقي، وكانت اللكمات فوق وجه وجسد «ديبو» متلاحقة دون وعي مني، ولم أستطع أن أتذكَّر ما فعلتُ.
كان صوتُ أمي قلقًا حين قالت: «وول»، نحن فقط نقوم باستفزاز مشاعرك، لا تنسَ أنه أخوك الصغير، آه، لا يجب أن تكون عنيفًا معه هكذا مهما كان الأمر.
شعرتُ بالسماء تسقط فوق رأسي فارتعشتُ بشدة، ولم أشعر بشيءٍ إلا بيد المسيحية المتوحشة فوق جبهتي، كانت تبدو قلقة.
سمعتُ نُواحَ «ديبو» الذي حملوه إلى غرفة الطعام، وقدَّموا له الحلوى وعصير الفاكهة كنوعٍ من العزاء، وكانت المسيحية المتوحشة تنظر بعينَيها نظراتٍ غريبة وقلقة ناحية «ديبو» الذي يبكي، كانت تتألم وتبدو خائفة حتى إنني فكرتُ هامسًا لنفسي: إنها أمٌّ مختلفة عما هي عليه دائمًا.
أضافت قائلة: ولكن لماذا؟ لماذا؟ كان الأمر كله مزاحًا، هل تريد أن تقتله؟ إنه ما زال طفلًا، أنت تعرف أنه طفل، ولا يصح التعامل معه بهذه القسوة.
توقَّف «ديبو» عن الصراخ، وخرج «جوزيف» من الحجرة، فأحسستُ أنه يبتعد عني، أو هكذا تخيلتُ لكن كلماته كانت تُبيِّن ما يشعر به حتى إنه لم يستطع أن يخاطبني مباشرة وهو يقول: الأخ الأكبر سعيدٌ بنفسه، الأخ الأكبر مسرور بما فعل فلماذا نقلَق وننزعج، كان يجب أن نتركه ليقتله.
ثم راح يصفِّر بفمه صفيرًا طويلًا.
منعته المسيحية المتوحشة عن الكلام غير أنني لم أجد اختلافًا كبيرًا في موقف كلاهما، كانت تتلبَّسني فكرةٌ واحدة هي أن عالم الكبار يخلو تمامًا من العدالة والمنطق؛ إذ كنتُ متأكدًا من أنني مظلوم؛ لأنه كان أخي الذي مارستُ عليه عنفي حين رفسني بقوة فوجدتُ نفسي أمام الأمر الواقع.
استدعَتْني المسيحية المتوحشة بعد صلوات المساء إلى حجرة النوم وقالت لي: إن الشيطان دائمًا يتدخل بينك وبين مَن تحب، وإنه لمن اليسير أن تقع تحت تأثير الشيطان.
كنت أنا و«تيني» نحب «ديبو» كثيرًا، وكنا نستمتع بحركاته وإيماءاته وضحكاته لكونه كان صغيرًا لا يعاقبه أحد إذا ما ارتكب حماقة ما؛ فقد كنا ننسب إليه أخطاءنا، مثل الفازة التي كسرناها أنا و«تيني» بينما كنا نتشاجر.
أصبح «ديبو» بعد فترة طويلة يطلب مقابلًا لخدماته التي نتجنب بها العقاب؛ فكان يطلب قطعة من اللحم أو الحلوى أو البطاطا حتى أصبح ماهرًا في الحصول على ما يريد، فأدركتُ أن الأمر سينتهي به إلي الخدمة في دكان المسيحية المتوحشة، وأنه سيكون انتهازيًّا، ولم أعد أعرف ماذا أفعل معه.
كانت مجرد فكرة تُنذر بخطرٍ كبير.
أخبرَني «جوزيف» وآخرون بمواصلة ضربه حتى يقع ويصرخ مدافعًا عن نفسه، لكن الفكرة لم تُعجبني قَط. كنتُ بائسًا بشدة، وانتظرتُ بقلقٍ تلك اللحظة التي يخبرون فيها إسحاق بما حدث، لكنه لم يكن موجودًا.