٨

دخل العمال المنزل ذات صباح مبكر، وكانوا يحملون الأسلاك والمسامير والمشابك، وراحوا يثقبون الحائط، كان غريبًا ذلك الغزو من العمال بمُعدَّاتهم، وبعد انتهائهم من عملهم لم نعُد في حاجة إلى مصابيح وفوانيس الكيروسين أو حتى إلى الشمعدان، أصبحنا نضغط على المفتاح فتضيء الحجرة وتتلألأ بالنور، وحين استهوَتْنا اللعبة أصدر إسحاق تعليماته بألَّا يقربَ أحدٌ من المفتاح إلا بأمرٍ منه أو من المسيحية المتوحشة، كانت التعليمات صارمةً لكنني كنتُ مدركًا أنه بعد وقتٍ قليلٍ ستصبح تلك الكرة المتوهِّجة ظاهرةً طبيعيةً رغم تظاهُر إسحاق بأنها نوعٌ من أنواع السحر.

كنا ننظر إلى المصباح المضيء باندهاش، ولما قرأ إسحاق تلك الدهشة المرتسمة فوق وجوهنا هبَّ واقفًا إلى جوار شيءٍ ملتصقٍ بالحائط ذي لونٍ أبيض وأسود، فانطفأ النور فجأة، مما أثار مزيدًا من دهشتنا، لكننا في النهاية شاهدناه وهو يضغط فوق ذلك الشيء الملتصق بالحائط.

قال إسحاق: إن هذا الضوء السحري باهظٌ جدًّا، إنه يكلِّف الكثير فيجب أن نستخدمه بحكمة.

راح العمال يثقبون الحائط مرةً أخرى، ورحنا نتساءل عن السحر الجديد، لم تكن ثمَّة مصابيحُ هذه المرة ولا مفاتيحُ إضافية للإضاءة، وإنما هو صندوقٌ خشبيٌّ كبير، جاءوا به إلى المنزل، كان يبدو وكأنه مصنوعٌ من الضفائر الحريرية الرفيعة، لكنه لم يكُن بأي حال شبيهًا بالجرامفون.

في أحد الأرفف المنخفضة من الدولاب وضعوا الصندوق الخشبي الكبير مكان الجرامفون القديم، ولم نعُد في حاجة إلى رفع اليد وتغيير الإبرة، كان كافيًا مع ذلك الصندوق أن ندير المفتاح يسارًا أو يمينًا لنستمع إلى الأصوات والأغاني، لكن ذلك لم يكُن بمقدورنا أن نفعلَه طوال اليوم؛ فقد كان الإرسال يبدأ مبكرًا في الصباح بقولة: «في حماية الله أيها الملك، حفظك الله أيها الملك.»

ثم يواصل برامجه لفترةٍ قصيرةٍ تتخلَّلها بعض الأغاني والبرامج الغريبة قبل أن يتوقف بعض الوقت، ليبدأ مرةً ثانية في وقتٍ متأخر من بعد الظهر، إلى أن ينتهي ما بين العاشرة والحادية عشرة مساء بقولة: «في حماية الله أيها الملك، حفظك الله أيها الملك.»

أطلقنا على ذلك الصندوق العجيب اسم As’oromàgbèsí١ وعند توصيله بالكهرباء كانت تصدُر منه الخشخشة.

كان التكهن بالأخبار عملًا صعبًا، فأصبحَت نشرة الأخبار بالنسبة لإسحاق وكثير من أصدقائه من الأشياء الهامة والمقدسة، كانوا يندفعون إلى منزلنا وكأن شيئًا ما قد أصابهم، فتبدو الصالة الكئيبة بوجودهم وكأنها مكانٌ للحج، ولم نكُن نحن الأطفال نجرؤ على الكلام أثناء سماعهم الأخبار، كانوا يستمعون بانتباهٍ شديد ووجوهٍ ذاهلة وكانوا يتنفَّسون بصعوبة، وبعد الانتهاء من سماع الأخبار كان يعتريهم القلق، ويتملَّكُهم الخوف، فيتوجَّهون بالفطرة وفعل التعوُّد إلى القس، كان إسحاق يتأمل لحظة ويفكِّر، ثم يعلِّق على الأخبار، فيشاركونه بأصواتٍ مليئة بالإثارة والتوجُّس.

تراكم التراب فوق الجرامفون، ولم يعُد أحدٌ يستخدمه، فاختفت معه أصوات «دينج»، «باكار»، «أمبروز وكامبل» وصوت الرجل الأسود «بول روبسن»، وكذلك أغنيات عيد الميلاد وأغاني «ماريان أندرسون» والأصوات الأوروبية وكورس «هاليلوجا»، وصرنا نتابع الغناء والأخبار والبرامج من الصندوق الجديد حتى سمعنا ذات مرة كورس «هاليلوجا» من الصندوق، فاتفقنا جميعًا على أنه أقوى وأجمل من صوته في الجرامفون القديم الذي لم ننجح قط في استرداده.

كان أفراد العائلة يتصارعون على الصندوق في كل صباح، وكان ذلك شيئًا مثيرًا، أما ضحكاتهم فكان يهتز لها الصندوق، حتى فكرنا أن نخرج به للشارع ليتصارع عليه الجميع، أو نضعه فوق شباك المنزل وهو مفتوح بأعلى صوته، آه لو أن كل العائلات التي نعرفها في «آكية» فعلَت نفس الشيء، كانت فكرةً مستحيلة، لكنني أدركتُ أن ما نفعله في الصباح من صراع لأجل الصندوق كان شبيهًا بالألعاب التي نمارسها أحيانًا في المدرسة في يوم توزيع الجوائز، ثم بدأتُ شيئًا فشيئًا أتعرَّف على كلامهم الغريب وأمزجتهم المختلفة.

سيطرت أخبار الحرب على أحاديث إسحاق وأصدقائه، واحتلَّت مساحةً كبيرة في مناقشاتهم، كما احتكر هتلر أخبار الإذاعة، وكانت له برامجه الخاصة، وهو يقترب يومًا بعد يوم.

تم طلاء النوافذ باللون الأسود، مع ترك دوائر صغيرة جدًّا دون طلاء، حتى يتمكنوا من الرؤية ومشاهدة هتلر وهو قادم يسير بخطواتٍ واثقة في الطريق.

حلقت أول طائرة فوق «أبيوكوتا»، وكان أزيزها صاخبًا أفزع المسيحيين الذين سارعوا إلى الكنائس للصلاة، كانت الحرب والطائرات في اعتقادهم نوعًا من السخط الإلهي، لا ينفع فيه شيء سوى مزيد من الصلاة تجنبًا لسخط الإله، بينما أغلق آخرون أبوابهم ونوافذهم انتظارًا لنهاية العالم.

كان الأطفال يقفزون في الحقول والشوارع متطلعين إلى الطائرة المعجزة إلى أن تختفي تمامًا، وهم يهتفون ويلوِّحون لها.

أعلنَت الأخبار ذات صباح أن سفينةً بكامل طاقمها تحطَّمَت في ميناء لاجوس، وكان الانفجار ضخمًا اهتزت له الجزيرة كلها، فتناثرت الشبابيك وتساقطت الأسقف، كانت البحيرة مشتعلة باللهب وعلى حافتها احتشد أهل لاجوس مذعورين ومتعجبين من تلك الحرائق الضخمة المتأججة فوق سطح المياه، أوه، ها هو هتلر قد جاء، لقد اقترب هتلر ولم يعُد بمقدور أحد معرفة ما يفعل، لكن «باأداتان» كان يقضي اليوم كله منذ الصباح أمام دكان المسيحية المتوحشة حاملًا السيف القصير في الجراب المتدلي من خصره مع الحجاب، وكانت السكين فوق كوع ذراعه اليسرى وسلكٌ دائري وحلقاتٌ نحاسية بين أصابعه.

كانت الأحجية والتعاويذ داخل الجراب تؤكد له أن أي رصاصة قادمة في اتجاهه لا بد وأن تنعكس بعيدةً عنه عائدةً إلى الذي أطلقها عليه، إنه بطل «أداتان» الخالد، الذي إذا صفع الخصم بإحدى يدَيه، فلا بد أن يقع على الأرض فاقدًا الوعي، وكان يدَّخر يده الأخرى للمواقف المفاجئة.

كان «باأداتان» مكلفًا بحراسة منطقة «آفين»، وأصبح ثائرًا بشدة؛ لأنهم لم يأخذوه إلى الجيش كي يواجه هتلر، ويعمل على إنهاء الحرب مرة واحدة وإلى الأبد.

آه، ماما «وول»، هذا الشعب الإنجليزي الشاحب اللون، هل ترَيْن، ها هو هتلر يهاجمنا في لاجوس وأولئك الإنجليز لا يدافعون عنا.

صمت «باأداتان» برهة ثم راح يبصق بعصير الكولا على الأرض في غيظ وهو يستطرد: ماما، سأكون جثة بجوار حائط قصر «ديس» بينما سيقولون: «هناك يُوجد رجل أسود.»

ظل يفتش باهتمام في جيوب ملابسه ثم قال لأمي: أوه، ماما «وول»، نسيتُ أن أُحضِر كيسَ نقودي، انظري، رجلٌ كبير مثلي ينسى نقوده في المنزل!

سحب «باأداتان» سيفه، ورسم خطًّا على الأرض أمام الدكان، وقال: إذا حاولوا اجتياز هذا الخط، فإن البنادق سوف تنسِفُهم.

تعقبتُه ذات مرة بينما كان ذاهبًا لتناول إفطاره، وكانت بائعة الطعام تعرف ما يريد فوضعَت أمامه أربعًا من أوراق الإيبا الكبيرة الملفوفة وبعضًا من الخضار وقطعة لحم واحدة كانت تبدو وسط الخضار كأنها غارقة في محيط، ترك قطعة اللحم دون أن يلمسها حتى التهم كمية الإيبا الضخمة، التي كانت اللقمة الواحدة منها أكبر كثيرًا من أي شيء أستطيع تناوله في وجبةٍ واحدة.

تلعثم «باأداتان» وتنحنح، لكن المرأة لم تهتم.

– هاآآم، «إياوو».

– هدوء.

– «إياوو».

قالت بائعة الطعام بغضب: أتريد أن تُخرب بيتي، كل يوم تفعل نفس الشيء، إذا فعل كل واحد مثلك فكيف أستطيع العيش؟

– أوه، «إياوو»، أنا لا أقصد مضايقتك.

اعتدلَت في جلستها من فوق الكرسي، وملأت المغرفة التي صبَّت محتوياتها في طبقه، وقالت: لكيلا تشكو. هكذا كل يوم، نفس الشيء.

– باركك الله، باركك الله، إنه هتلر ابن «…» بعد انتهاء الحرب سوف ترَيْن، ستعرفينني رجلًا كما يجب.

كانت المرأة معتادةً على سماع تلك الوعود فلم تقل شيئًا، وانصرفَت إلى شئونها بينما راح «باأداتان» يلتهم بقية الإيبا، ويقذف بقطعة اللحم إلى فمه مثل الكلب الذي يهجم على اللحم وسط كومة من القمامة، وكانت عضلات رقبته وفكِّه مشدودة وبارزة وهو يمضغ اللحم ويضرب فوق المائدة المنخفضة، قائلًا بنوعٍ من التحدي دعيه يأتي، فليخطُ أي خطوة بالقرب من قصر «آلاك» حتى أحطِّم رأسه وأضربه ضربًا شديدًا.

نهض من مكانه وهو يسوِّي من ربطة الحبل حول البنطلون، وقال: إذا جاء رجلٌ من رجال هتلر بالقرب منك فلتخبريه أن «باأداتان» هو الذي يتحدث.

ثم رفع رأسه إلى أعلى فاردًا قامته وصدره إلى الأمام، وراح يستأنف دوريته.

توقفَت سيارةٌ مسلحةٌ كبيرة في الطريق ذات يومٍ أمام صفِّ المحلات الذي يُوجَد به محلنا، فتفرَّق الأطفال والنساء في كل الاتجاهات وتملَّكَهم الذعر، تقهقَر الرجال وراحوا ينظرون من خلال أبواب دكاكينهم وهم متأهبون للجري أو التوسل من أجل حياتهم، لم يكن أولئك الجنود هم الذين يقيمون في معسكرات «لافينوا»، لكنهم كانوا من «البوت» السيِّئي السمعة، وكان من اليسير التعرُّف عليهم من الكابات فوق رءوسهم، قالوا إنهم جاءوا من الكونجو، وإنهم متوحشون يأخذون ما يحتاجونه من المحال التجارية دون أن يدفعوا شيئًا، ويغتصبون النساء والأطفال، وكانت دعوة الرجل بأنه «بوت» تُعَد إهانةً كبيرة، كما كان انتظارهم دون الجري منهم يُعَد حماقةً هائلة.

كنتُ في الدكان مع المسيحية المتوحشة التي لم تهتم بأولئك الجنود ولا بالسمعة السيئة التي يتصفون بها، ولم تفعل مثلما حدث مع بقية المحال المجاورة التي أغلقَت أبوابها وفرَّ أصحابها هاربين.

طلبوا شراء البسكوت والسجائر والطعام المجفَّف وعُلَب الحلوى والمشروبات، فتسلقت الأرفف لإحضار العُلَب وإعطائها لأمي، لكنني فجأة سمعتُ صوتًا كزئير الأسد.

كان «باأداتان» بين الفراغ الذي يتوسط رءوس الجنود والباب الفسيح، وكان عاريًا حتى خصره والبنطلون مشدودًا ومربوطًا في حزامه، أما وجهه فكانت تكسوه تعبيرات الموت، أمسكتُ بيدي السيف وSere٢ باليد الأخرى، وأزحتهم في حركةٍ دائرية إلى حيث كان يتمتم.

حدَّق الجنود بعضهم في بعض، وكانت المسيحية المتوحشة تستمع وقد تعرفت على سبب الاضطراب غير أنها لم تهتم، بينما راح «باأداتان» يلعنهم قائلًا: أولاد الكلب، كذابون، حيوانات، بهائم، بدون وطن. لم يفهم الجنود أي كلمة، وكانوا يتهامسون بلغتهم الغريبة وهم يرفعون حواجبهم ويهزون أكتافهم، ثم عادوا يواصلون شراء حاجياتهم، كان ثلاثة منهم أو أربعة يجلسون فوق الرصيف المواجه للدكان يراقبون، وبقيتهم يحتشدون أمام الدكان، فلم تستطع المسيحية المتوحشة أن ترى «باأداتان» فأصابها القلق، وسألتني عما يحدث.

قلتُ: إنه يرقص الآن.

كان يرقصُ رقصة الحرب ويُغنِّي بأعلى صوته:

Ogun Hitila b’ AKE
Eni La o pa Bote٣

ظل بعض الجنود يراقبونه بينما كان البعض الآخر يواصل الشراء، فانتهزَت أمي الفرصة، وضاعفَت السعر، لكنهم لم يبالوا، وقدَّموا لي عُلبة بسكوت رقيقة وحلوة، كنا نتحدث بلغة الإشارات ونبتسم ونحن نهز أكتافنا أو نلوِّح بأيادينا، ولم نجد أي متاعب في التعامل معهم حتى بدءوا في الرحيل، وعندئذٍ توقف «باأداتان» عن الغناء ورسم خطًّا على الأرض متحديًا إياهم أن يتخطَّوه … قفز مندفعًا بوحشية نحو الخط رافعًا سيفه، ثم توقف فجأة فوق إحدى نقاط الخط بقدمٍ واحدة وهو يدور بجسده حتى يعود إلى النقطة التي بدأ منها، كرَّر تلك الحركة مراتٍ ومراتٍ فارتبك الجنود، ولم يعرفوا ما يجب أن يفعلوه مع هذا الرجل.

قبل أن يُطيلوا التفكير اندفعَت المسيحية المتوحشة من مكانها وقالت باحتجاج: كفى يا … كفى، إنهم أصدقاؤنا وأنت تعوقُهم الآن عن الذهاب لمحاربة هتلر.

أجاب «باأداتان»: إنهم «بوت»، إنهم وهتلر نفس الشيء، انظري إليهم، إنهم جبناء.

ثم رفع Sere في وجوههم قائلًا: ضعوا هذه البضائع على الأرض وسأعطيكم رسالةً إلى هتلر.
زحف اثنان من الجنود خلفه، وقيَّدا ذراعَيه بعد أن جرَّداه من السيف واﻟ Sere لكنه ظل يقاوم بشراسة، ولم يكن من السهل الإمساك به، فجلس الجنود يلتقطون أنفاسهم، ويمسحون العرق المتدفق من أثر المقاومة وهم يلعنون لغتهم الغريبة، ثم أحضروا بعضَ الحبال وقيَّدوه بها لكنه لم يستسلم … وقفوا على شكل دائرة يمسحون العَرق دون أن يتوقفوا عن التطلع إليه وإلى تلك الوجوه التي ظهرَت واحدًا تلو الآخر من الدكاكين والنوافذ والأركان والمخابئ، أصابتهم الدهشة مما يشاهدون ومن المقاومة الشرسة ﻟ «باأداتان» ولم يستطيعوا التحدث إليهم، غير أن بعضًا منهم كان يومئ برأسه في حزم.

كان «باأداتان» مقيدًا يحاول أن يجلس بطريقةٍ مناسبة حين رمق أحدهم وهو يهزُّ رأسه.

قال شخصٌ ما: يا له من مسكين! إن مجد «إيجبالاند» يرقد في الأرض غارقًا في التراب.

اندفع بعض «الأوجبوني» قادمين من القصر بعد سماعهم بالحادث، وببعض الإشارات والإيماءات نسبوا مسئولية ما حدث إلى أنفسهم، ثم قدموا إلى «باأداتان» سيفه واﻟ Sere وقفزوا إلى عرباتهم فراح الجميع يتساءل: هل سيستدعونه في البوليس؟ هل من الصواب أن نفُك «باأداتان» من قيده؟ هل سيُلقون به في مستشفى الأمراض العقلية في «آرو»؟

أغلقَت المسيحية المتوحشة دكانها وهي تناديني كي نفُك الحبال عن جسد «باأداتان»، وعندما شرعنا في فكِّه علَت بعضُ الأصوات صارخةً من الفزع، ولم يوافقوا على ما نفعل، لكننا كنا نواصل عملنا دون أن نهتم بصيحاتهم، فحاول أحد الرجال أن يمنع المسيحية المتوحشة التي انتصبَت واقفة وشدَّت جسدها إلى نهايته، وقامت بتحذيره من أن يلمسها مرةً أخرى.

وقفتُ بدوري إلى جانبها منتصبًا وأنا أسخر من الرجل، وكنتُ أعرف لو أنني سخرتُ منه في ظروفٍ أخرى لكانت صفعَتْني أمي بشدة فوق وجهي، لكنها في هذه المرة لم تفعل، ثم تدخَّل رئيس «الأجبوني»، وكلَّف الرجل بفك الحبل ليصبح «باأداتان» حرًّا.

نهض «باأداتان» ببطء، فتقهقر الجميع عدة خطوات إلى الوراء، تناول السيف ووضعه في الجراب، ثم قذف باﻟ Sere إلى الأرض فأحدثَت انفجارًا هائلًا أفزع المشاهدين، وراح يبتعد عن المكان وهو يمشي بكبرياء لكن وجهه كان حزينًا، كان متجهًا صوب «إيبورو»، ثم اختفى شيئًا فشيئًا، وتلاشى عن الأنظار.

لم أشاهد «باأداتان» بعد ذلك أبدًا.

كان لا بد للأم أن تفعل شيئًا حيال شرود إسحاق المتصاعد، فاختارت أن تبقَى في دكانها معظم الوقت هربًا من إسحاق الشارد، وكانت تلك فرصةً مناسبة يحتمي فيها بأصدقائه، كانت قبل أن تذهبَ إلى الدكان تتأكد من إعداد إفطار زوجها من «الأكارا» و«الأوجي» والخبز والبيض والشاي أو البطاطا المغلية والبيض أو شوربة السمك فوق المائدة، لكنها نادرًا ما كانت تقوم بإعداد طعام «ليكي» الشهي والمصنوع من قشرة الخبز والفول وبذرة البطيخ؛ لأن ملعقةً واحدةً منه كانت كافيةً لنشوب النزاع بين أفراد العائلة.

انضم الشاب «مايسلف» إلى أفراد العائلة؛ حيث ظهَر فجأة مِن حيث لا ندري، وأصبح يشاركنا حياتنا، ثم اختفى فجأة أيضًا دون تفسير من أحد، كنتُ أراقبه من بين الأرجل متطلعًا إلى طبقه الذي يكون عادةً فارغًا، تعوَّدنا جميعًا على لهجته الفريدة، وأصبح مصدر تسلية لنا، وعندما كان يراني أنظر من بين أقدام الولد الطويل إلى حركات فكِّه كان الخوف ينتابه، خاصةً لو كان الطبق محتويًا على طعام «ليكي».

كانت «تيني» وأنا وأولاد العم و«ديبو» نتسابق لنيل شرف إفزاعه بسؤالنا المعتاد: هل تناولتَ إفطارك؟

كان قصيرًا وذا بشرةٍ مضيئة يجلس فوق الكرسي تحت ساعة الحائط في الحجرة الأمامية وهو يقرأ في مجلة أو كتابًا في انتظار عودة إسحاق من المدرسة لتناول إفطاره، وعندما تكون أمي خارج المدينة كان يصل مبكرًا عن العادة أثناء قيام أبي بتدريباته في الحجرة، وكنا نُخفي ضحكاتنا عن الناظر لمعرفتنا بعاقبة الضحك على الضيف، لكننا بعد ذلك بالطبع كنا نقلد الضيف على الملأ.

كان أبي عند خروجه من حجرة نومه أو انتهائه من الحمَّام أو بعد تجواله في الحديقة، وأحيانًا بعد عودته من المدرسة، يتقدم نحو الضيف، ويقدِّم له التحيات بلطف ورقَّة ثم يذهب لشئونه، أما في وقت الإجازات فكان الوقت كافيًا كي يجلس وقتًا طويلًا فوق مكتبه في الحجرة الأمامية لإنهاء بعض الأعمال قبل أن ينهض للإفطار الذي يصبح باردًا، وفي كثيرٍ من الأحيان كان يتبادل الحديث مع ضيفه بهدوء وهم يتحاورون في أمور السياسة اليومية، ويتناقلون الأخبار والإشاعات عن الحرب وبعض التحركات المحلية بينما نكون نحن في انتظارهم نُحس ملل الانتظار، فيذهب أحدنا لإخبار إسحاق أن إفطاره جاهز أو لسؤاله إذا كان يريد إعادة تسخين اﻟ «أوجي» أو الفول، وعندئذٍ كان يتوجه إلى ضيفه بالسؤال: هل تناولتَ إفطارك؟ فيرفع «مايسلف» وجهه من الجريدة التي يشغل نفسه بها، وينظر إلى أعلى في خوفٍ متطلعًا إلى أي اتجاه، ما عدا الاتجاه الصادر منه السؤال، ثم يتجه إلى إسحاق متسائلًا إذا كان السؤال موجهًا إليه راسمًا على وجهه علامات الدهشة وهو يجيب: أوه، أنت تعني «مايسلف»؟ كانت إجابته متقطعة وغير واضحة رغم كل المبالغة التي حاول بها نطق الحروف، وكانت كلماتُه مثل مُواء قطتنا، مما جعلنا نضحك كثيرًا ونحن نداري وجوهنا في مساند الكراسي التي نختفي وراءها.

وقف إسحاق متأملًا إياه، وسار كلاهما بوقارٍ إلى حجرة الطعام، ثم جلسوا بتأنق واحترام فوق المائدة، فكان ذلك شيئًا سيئًا بالنسبة لشهيتنا المفتوحة.

أنت تعني «مايسلف»، ظَلِلنا نضحك لهذه العبارة كثيرًا كلما تذكَّرناها من حينٍ لآخر، وكانت المسيحية المتوحشة تقابله في جولاتها الشرائية خارج المدينة، وظلت ملامحه عالقة بأذهاننا، وكثيرًا ما كنا نقلده، فنتحدث مثلما كان يتحدث، أو نأكل ونقرأ الجريدة مثلما كان يفعل، حتى إن أمي كانت تستدعي إسحاق لرؤيتنا، ولم تعُد تهتم بما نفعل؛ فإن لحظات من القلق والانزعاج كانت تنتابها من ذلك الروتين اليومي.

قالت ذات يومٍ أثناء وجبة العشاء: هل كان طعام «ليكي» جيدًا هذا الصباح؟

كان الضيف في ذلك الصباح قد التهم «ليكي» عن آخره.

قال إسحاق: أوه، هل يُوجد «ليكي» اليوم؟ فلتُجهِّزوا شيئًا لأنني سأعود للمدرسة حالًا.

تظاهرَت ماما بالدهشة قائلة: يا لهم من أغبياء! إن طعام «ليكي» موجود طوال الوقت.

وقالت لجوزيف: أين الإفطار الذي أعددتُه لوالدك؟ إنني لا أراه فوق المائدة، أين هو؟

ظل الولد يُتمتِم فقالت «نوبي»: لقد وضعناه فوق المائدة يا ماما، لكن ضيف بابا تناوله عن آخره.

أدارت عينَيها في كل الاتجاهات وقالت: أوه، سأقوم بتجهيز المزيد.

– لا بأس، إنني لستُ جائعًا، عندما أعود، عندما أعود.

ثم ذهب إلى المدرسة، وأثناء العشاء استطردَت المسيحية المتوحشة قائلة: من هو يا عزيزتي؟ هل أعرفه؟

– أوه عزيزتي، صديقٌ قديم أشُك أنكِ شاهدتِه من قبلُ.

هزَّت رأسها قائلة: لا بد أنه صديقٌ غريبٌ جدًّا، هل تعرف ماذا يعني أن يأكل الصديق إفطارك كله دون أن يترك شيئًا؟

هزَّ إسحاق كتفَيه: لقد أعدَّ الأولاد لي طعامًا آخر، لا يهم.

كانت المسيحية المتوحشة تتمتع بقَدْرٍ كبير من الذكاء والمكر والحيلة، فتعمَّدَت تأجيل المناقشة في ذلك الموضوع بعد أن أبدت ملاحظةً واحدة، ورأت أن تتوقف حتى تكون مستعدةً للكلام عن ذلك الصديق الطائش، الذي أصبح شيئًا أساسيًّا في حياتنا أثناء إجازة نصف العام، كانت الأمطار المستمرة على مدى أسبوعَين دون توقف قد ساعدَتْه في البقاء طوال اليوم، بالإضافة إلى عدم رغبته في المغادرة.

تعلمنا من وجود «مايسلف» الشراهة والنهَم، وأثناء وجوده كانت المسيحية المتوحشة تُشفِق على إسحاق من قلة أكله وكثرة الاحتفاء بأصدقائه وضيوفه، حتى حدَّقَت فيه ذات يومٍ وقالت له: ولكن يا عزيزي هل تتعاطى كفايتك من الطعام؟

– طبعًا، هل أبدو جائعًا؟

– لا، ولكن، أريد أن أصنع لك غدًا فتة البطاطا التي تُحبها، ما رأيك يا عزيزي؟

– أي نوع من الطعام ذلك الذي تتحدثين عنه؟

– ذلك الذي يُصنع من الأورو، وطبعًا سوف أستخدم لحم الخنزير المشوي الذي أرسلَه لنا الأب من «إيسارا».

– أوه، نعم، نعم.

– أريد التأكد من أنك تتعاطى كفايتَك من الطعام.

– طبعًا، ولِمَ لا؟ إنني موجودٌ غدًا، ولن أذهب إلى أي مكان، إذن هي فكرةٌ طيبة.

ساد السكون فترةً قصيرة، ثم تحرَّكَت بجواره قائلة: وهل تتوقَّع أحدًا من الزائرين غدًا على الغداء؟

قال لها: لا، لا، ولكن ربما يأتي السيد «أديلو»، لا، لا أتوقع أحدًا.

– حسنًا، لكن إذا حضر أحدٌ وقت الغداء فعليك أن ترسل أحدًا لاستدعائي من الدكان، أعني أنه يمكنك تأجيل هذا الطعام إلى المساء إذا جاء أحد؛ فلقد صنعتُه خصوصًا، ثم إنه خنزير الأب المشوي من «إيسارا».

– نعم، أفهم تمامًا، كما تُحبين.

فور وصول «مايسلف» أسرعَت «نوبي» بتنفيذ خطتها المتفق عليها مع المسيحية المتوحشة، فراحت تُخبرها بوصوله، وبقيَت مكانها في الدكان … كنا في ذلك اليوم ننتظر بشغف في الحجرة الأمامية متظاهرين بالمذاكرة دون أن نقلب صفحةً واحدة من الكتاب، حتى جاءت أمي فقفز «مايسلف» من فوق الكرسي، وانحنى يقبِّل يدَيها بلطفٍ مُبالَغ فيه، ثم قال: صباح الخير مدام.

بادلَته ابتسامةً صغيرة كنوعٍ من المجاملة بينما كان إسحاق في الجانب الآخر من المائدة يخنق ابتسامته، وقد كان يعرف ما يتعلق بالخطة دون أن يخبره أحد، كما عرفنا بالتخمين أنه سيترك الأمور تسير في مجراها الطبيعي.

قالت أمي: فكَّرتُ أن أحضُر وأرى طعامك بنفسي خوفًا من أولئك الأولاد الذين لا يتورَّعون عن التهام كل شيء، فلا تجد هذا الطعام الطيب والمصنوع خصوصًا لك.

– ولكن، الدكان؟

– أوه، لا تقلق، «نوبي» هناك تقوم بعملها، كما أن المطر اليوم غزير، والشراء متوقف.

ظل وجه «مايسلف» مدفونًا في الكتاب، ورحنا نتهامس من تحت المائدة: ماذا تنوي أن تفعل؟ وما هي خطتها؟

تسلَّلَت إلى أنوفنا رائحةُ الطعام، وكنا نشُك كثيرًا في تذوُّق هذا الطعام، انحنَت رءوسنا إلى أسفل متطلعين إلى الرجل المسكين، ثم سمعنا صوتًا ينادي من المطبخ: «وول»، وول ل ل.

ضربَني أحدهم بكوعه كي ينبِّهَني، وقالوا جميعًا: إنه أنت، ألا تسمع؟

– نعم، ماما.

– اذهب واسأل الرجل اللطيف هل يُفضِّل كوبًا من الزنجبيل أم عصير البرتقال؟

فعلتُ ما أمرَتْني به، وكانت دهشتُه عظيمة حين قال: «مايسلف»؟ أوه، لا يهم، أي شيء، شكرًا.

اختارت المسيحية المتوحشة بنفسها، وناولَتني الصينية ثم تبعَتني، كان «مايسلف» متوترًا وأنا أضع الصينية أمامه فوق المائدة.

قال «مايسلف»: أوه مدام، كرمٌ منك يا سيدتي، كرمٌ شديد، وعليكِ أن تساعديني في التوجه بالشكر إلى الناظر أيضًا، إن السيد «سوينكا» مضيافٌ كبير ورجلٌ لطيف إلى أبعد حد.

– أوه، ولكنني يجب … يجب … إنها روحٌ طيبة جدًّا، وشيءٌ نادر جدًّا.

تبادلَت معه الحديث لمدة خمس دقائق بسرور وابتهاج، ثم قاطعَتْه: أتمنَّى أن تلتمس له العذر لفترةٍ قصيرة.

– طبعًا مدام، طبعًا.

– إن عليه اليوم أن يناقش بعض المسائل العائلية الهامة.

– أوووه، أووه.

ابتسمَت قائلة: مشاكل عائلية!

ثم قالت لإسحاق: عزيزي، أعرف أنك مشغولٌ اليوم، لكننا نستطيع مناقشة بعض الأمور أثناء الغداء.

عُدتُ إلى مقعدي، وراح ابن عمي يكتب في كراسته ١٠/١٠، كانت هي درجة إتقانها للدور، فوافقنا جميعًا على تلك الدرجة، فقدَّم «مايسلف» مزيدًا من الشكر، وأثنى على كرم الضيافة الذي لاقاه، ثم اختفى من حياتنا تمامًا، وأصبح المنزل فقيرًا بغيابه.

شاهدنا رجلًا يرتدي زي الضباط وهو يدخل المنزل دون أن يعلن عن وجوده، فسارعنا بالفرار، ها هو هتلر يأتي إلينا، وسوف ينقلنا جميعًا فوق ظهر السفينة ويحوِّلنا إلى عبيد، كان إسحاق مسافرًا خارج المدينة والمسيحية المتوحشة في دكانها، ولم نكُن قد علمنا بقدوم زائرٍ جديد، هربنا جميعًا إلى الفِناء الخلفي، واختبأ بعضنا في المخزن والبعض الآخر في المرحاض، وتسلَّقتُ أنا واثنان من أبناء العم السلَّم، وألقَيْنا بأنفسنا فوق السطح استعدادًا للنزول إلى الشارع من الناحية الأخرى إذا تعقَّبَنا هتلر فوق السطح، ظلِلْنا هكذا لا نفعل شيئًا سوى أننا زحفنا على بطوننا إلى الجانب الآخر من السطح حتى نتمكَّن من رؤية الفِناء.

ظل الرجلُ الغريبُ في مكانه دون أن يتعقَّبنا، وبدا كأنه يلوِّح لشيءٍ ما، وكانت عيناه متوقدتَين ووجهه متأججًا فبدأتُ أغيِّر انطباعي عنه؛ إذ لم يكن مظهره يوحي بالعنف، لكنني فكَّرتُ قائلًا: ربما يكون شبحًا!

رفع رأسه وتقدَّم إلى الأمام وإلى الخلف، ثم قال بصوتٍ عالٍ: أين هؤلاء الأوغاد؟

تقدَّم الرجل الغريب للأمام، وكانت الحجراتُ خاليةً من الجميع، كنا قد رأينا بعضَ السُّكارى من قبلُ فعرفنا أنه مخمورٌ بما فيه الكفاية، حتى لو كان هو هتلر أو شبحًا أو الشر نفسه.

تحرَّك مرةً أخرى للأمام في اتجاه الفِناء، وكانت عيناه تُحدِّقان في أحد أواني المياه الضخمة الخاصة بنا، التي كانت مدفونةً في الأرض، كان الإناء المفضَّل في البيت محاطًا بالكروتون الفخم من جانَبيه، وكانت مياه ذلك الإناء مثلَّجة وطازجة في أي وقتٍ من النهار، اتجه الغريب ناحيته ثم مال وهو يفُك أزراره، وراح يبول فيه.

صرختُ بأعلى صوتي، ونزلنا السلَّم بنفس السرعة التي تسلَّقناه بها ونحن نتوجَّه إليه بالشتائم، ثم رحنا نشُده بكل قوَّتنا، لكنه ضربَنا بيده بسهولة وهو يقول: ابتعِدوا عن طريقي.

قفَزتُ فوق ظهره بقوة جعلَته ينحني للأمام، وضربتُه بغطاء إناء الماء الذي كان مليئًا إلى نصفه، ثم قفزتُ فوق رأسه بنفس الحركة، فوقعتُ فوق كومة من التراب، ووجدتُ نفسي محصورًا بين الإناء والحائط، لكن أولاد العم أمسكوا به من إحدى قدمَيْه، وجَرجَروه إلى الخلف طالبين المساعدة.

ظهر بقية الأطفال من مخابئهم في نفس اللحظة التي جاء فيها، فشاهدوا الرجل بزيه الرسمي منبطحًا فوق إناء الماء.

زحفتُ من موقعي، وصرختُ بأعلى صوتي: إنه هتلر، هتلر يبول في الإناء!

لكن هتلر لم يتحرَّك من مكانه، وظل ساكنًا حتى اقترب الجيران وأحاطوا به.

كان شخصٌ ما قد استدعى ماما التي جاءت من الدكان، وتعرَّفَت بسرعة على الغريب ثم صاحت: كنتُ أعتقد أنه ما زال في بورما.

ساعده الجيران في الذهاب إلى السرير، وكان ينظر إلينا بحب.

سألنا المسيحيةَ المتوحشةَ أثناء العَشَاء عن ذلك الغريب، فهزَّت رأسها، ورفضَت في البداية أن تُجيبَ على تساؤلاتنا حتى قالت: إنه عمُّكم، كان دائمًا يبدو متوحشًا، وقد تمرَّد على العائلة منذ زمنٍ بعيد، فذهب وتطوَّع في الجيش.

كان العم «ديبو» في الصباح نظيفًا ومتأنقًا يرتدي ثيابًا حضارية، وكان يتناول إفطاره وهو جالسٌ فوق مقعد إسحاق، وبعد عودتنا من المدرسة كان العم قد ذهب.

توجَّهنا بأسئلةٍ كثيرة إلى أمي، لكنها لم تقُل شيئًا سوى أنه ذهب إلى موقعٍ جديد.

تم تنظيف إناء الماء بالديتول، لكنَّ أحدًا لم يستخدمه لعدة أيام إلى أن قاموا بتنظيفه مرةً أخرى من الداخل والخارج بالصابون، ووضعوه في مكانه، لكنني لم أعُد أشرب منه بعد ذلك دون إحساسٍ بالقرف.

كان أخي الصغير «ديبو» لا يتوقف عن شقاوته، ولا يخاف شيئًا، وذات يوم اختفى «ديبو» مدةً طويلة، كانوا في المنزل يتوقَّعون وجوده في الدكان، ولم تكن المسيحية المتوحشة تشُك في وجوده بالمنزل.

اختفى «ديبو» بعد الإفطار مباشرةً بعد أن تلقَّى بعض الضربات والإهانات من بابا، فاضطرب أهل المنزل حتى جاء به أحد المسافرين … كان «ديبو» يهيم على وجهه طوال النهار متجولًا في «أبيوكوتا» حتى قادته قدماه إلى الجراج، وعندما حاول أن يصعد اللوري لاحظه السائق والمسافرون، واستجوبه رجل البوليس الذي تركه عند أقرب دكان حتى جاء به مسافرٌ لطيفٌ إلى المنزل.

لم نعرف شيئًا عما فعله إسحاق وماما بشأن تلك المغامرة … أصبح «ديبو» بطلًا، ولم يكن خائفًا عند عودته حتى إنني أنا الذي خفتُ منه؛ لأن أحدًا لا يستطيع أن يغامر بمثل هذه المغامرة دون أن يُصاب بالذعر، تعجَّبتُ من ماما وإسحاق؛ لأنهما لم يستخدما العصا لمثل تلك المعصية التي ارتكبها «ديبو».

كان «ديبو» في اليوم التالي يقفز ويلهو بحرية كاملة وكأن شيئًا لم يحدث أبدًا، ولم تكن تصرفاتُه توحي بأي شيء من مغامرة الأمس، فصرنا ننظر إليه كشخصٍ متميز ومختلف عنا.

بعد عام تقريبًا من زيارة العم الغامض أعلنَت المسيحية المتوحشة عن تغيير اسم «ديبو» إلى «ييمي» وقالت: إنني أفكِّر في تغيير اسمه منذ زمان؛ لأن الأطفال الذين يحملون اسم «ديبو» يصبحون متوحشين.

لم نهتمَّ لتغيير الاسم غير أنني أخفيتُ دهشتي، وفكَّرتُ قائلًا: إن أولئك الكبار لا يعرفون أبدًا ما يريدون.

كان العم «ديبو» أحد الزائرين الذين اخترقوا حياتَنا ذات يومٍ، ولستُ أدري لماذا كانت المسيحية المتوحشة متحفظة وهادئة بشأن ذلك العم الذي رحل، ولم نشاهده مرةً ثانية.

كان العم «ديبو» قد أمضى معنا ليلةً واحدةً فقط.

كان العم «ديبو» كالمفاجأة، كالزوبعة.

١  الشخص الذي يتحدث دون انتظار إجابة من أحد.
٢  Sere: زجاجة صغيرة ذات قوة سحرية. (المترجم)
٣ 
حرب هتلر تصل إلى آكية.
واليوم سوف نقتل هؤلاء البوت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥