٩
كنا نحن أبناء الناظر نقوم في ليلة رأس السنة بزيارة ذوي الشأن، ودائمًا كان شخصٌ ما برفقتنا للعمل على رعايتنا، وكنا نلتقي في الطريق بالأقرباء وأصدقاء العائلة وبعض كبار «إيسارا» من الرؤساء ومساعدي الملك والقساوسة، وكان معروفًا في «إيسارا» أن أبناء الناظر وأطفاله لا ينحنون عند تقديم التحية.
قال أحد الرجال معلنًا عن وجودنا: «أطفال آيو».
وبعد أن سمعنا اسم إسحاق أصبحنا جميعًا في مكانٍ واحد، وقال أكبرنا: «أطفال آيو» جاءوا للاحتفال ﺑ… «أودون».
ثم استطرد: إنهم لا يُجيدون الانحناء وتقديم التحية، معذرةً سادتي أرجوكم ألا تنزعجوا وألا تسيئوا إليهم.
بعد الانتهاء من صلاة أحد أيام الآحاد في الكنيسة ذهبتُ أنا وإسحاق مباشرة إلى قصر «أوديمو»؛ حيث كان عددٌ من المسئولين يجلسون في الردهة، تفحصتُ وجوهم بعض الوقت؛ فلم أكن قد رأيتُ أحدًا منهم من قبل، وبخاصة ذلك الرجل الموشَّح بالخرز والمرجان الغريب الذي لا يُوجَد في «إيسارا»، كان يتحدث إليهم بكبرياء وكأنه «أوديمو».
أصابني الخوف فتقهقرتُ إلى الوراء بينما أجاب كثيرون بصوتٍ عالٍ: إنه ابن سوينكا.
وكانوا يُشيرون إلى أبي المشغول في حديثٍ خاص مع «أوديمو» قائلين للرجل الطويل: إنهم أطفال الناظر الذين لا يُجيدون الانحناء!
اشتعلَت عينا الغريب وتلألأتا، حدَّق في إسحاق والمسئولين والرؤساء، ولاحق «أوديمو» بنظراته، ثم قال صارخًا وهو يفحصني: ولم لا؟
كان صوته مدويًا، وكان الرعب يتملكني لمجرد وجوده، شعرتُ بغيظ واستياء شديدَين لوجوده في ذلك المكان، خاصة وأن نظراته لإسحاق كانت مليئة بالعداء، وكانت هي المرة الأولى التي أمرني فيها أحدٌ بالانحناء، إن تقديم التحية بالانحناء في طرق «إيسارا» المكدسة بالأتربة الحمراء ومخلفات الكلاب وبراز الأطفال يبدو شيئًا قذرًا، لا، لن أفعل، رغم إدراكي بوجوب ذلك على الأقل لأبي أو لأوديمو أو بعض الكبار الموجودين في ضيافته.
لا، لن أنحني لذلك الغريب المتعجرف حتى لو أصاب إسحاق أو المسيحية المتوحشة مسٌّ من الجنون، وأجبراني على ذلك، فإنني أيضًا لن أفعل.
كان قدومنا المباشر من الصلاة في الكنيسة هو ما جعلَني أفكر بما يدور في رأسي، ولم يكن ثمَّة تبرير قد فكرتُ فيه من قبلُ، وإنما فقط كنتُ أستمع لنفسي: «إذا كنتُ لم أقدِّم الانحناء إلى الله فلماذا إذن يجب أن أنحني لذلك الغريب؟»
ساد الهدوء فترةً طويلة، ذلك الهدوء الذي لم أتعوَّده في مجالس الكبار، ثم ما لبث «أوديمو» أن كسر الهدوء والصمت بإطلاق صفارة توحي بالدهشة قائلًا: أوه … أو … أو … و… و… وبابا أو!
هزَّ أبي رأسه، وأشار بيدَيه علامة النفي، لكن صوت «أوديمو» جعلَني أنظر إليه، ثم إلى تلك الوجوه المصابة بالدهشة، وفجأة أصابني الاضطراب، فتسلَّلتُ من الحجرة، وجريتُ طوال الطريق إلى المنزل.
بعد ذلك الحدث أصدر إسحاق أمرًا بوجوب الانحناء ليس فقط في «إيسارا»، وإنما أيضًا في «آكية» وفي منزلنا.
– كان «أوديمو» بالنسبة لنا هو صديق إسحاق الأول، وكثيرًا ما كان يأتي لزيارتنا في «آكية» ويمكث مدةً طويلة كانت تبدو مثيرة، ولم يكن إسحاق معه يملك وقتًا لمتابعتنا، فكنا نمارس كامل حريتنا، أما «داودو» فلم يكن يبقى وقتًا طويلًا، غير أنه كان يترك إسحاق مشتَّت التفكير.
كانت النسوة التاجرات اللاتي يُحضِرن التوابل والمسك من «إيسارا» إلى «آكية» يصلن دائمًا في وقتٍ متأخر من الليل وهن يمشين في أسراب كالقافلة محملات بسلال مليئة باللحوم المشوية وحقائب من القماش مكدَّسة بملابس من النسيج والمراهم والدهانات المحلية وزهرة البطاطا وعُلب من الصفيح بداخلها زيت النخيل، كن يصلن عند منتصف الليل ويُشعِلن النار في الفِناء الخلفي لطهي الطعام، وكذا من أجل التدفئة، وكانت المسيحية المتوحشة تشتري منهن بعض الأشياء، ويسعى إسحاق للقائهن لاستلام الرسائل ومعرفة الأخبار، أصبحَت هاتي النسوة جزءًا من أهل المنزل، أو هكذا أحسسنا لما يتَّسِمن به من ثقة في النفس وحرية في الحركة.
كن يتحدثن مع إسحاق بلهجةٍ غريبة، كنا نعتبر أنفسنا محظوظين عندما نفهم جملةً أو جملتَين؛ فلم تكن هي لغة اليوروبا التي يتحدَّثن بها، كنا نجيد لغة اليوروبا أما ما كن يتحدَّثن به فهي لغةٌ جديدة.
في الفِناء كانت النار والليل وثمَّة أصوات كغناء الأجبوني ذي النغمات السحرية، وكان المخزن هو مكان إقامتهن، أما في الطقس الحار فقد كُن ينشرن حصائرهن في الهواء الطلق، وينمن حتى موعد رحيلهن عند الفجر قبل أن نستيقظ، كانت النساء تبيع كل ما يأتين به، فتصير السلال والحقائب فارغة، سرعان ما يملأنها قبل الرحيل بأنواعٍ أخرى مختلفة من البضائع لبيعها في «إيسارا».
كنتُ أنا وإسحاق نحمل حقائبنا وأشياءنا في الطريق إلى المحطة، وركبنا اللوري الذي توقف في «إيبيرو» التي تبعُد عن «إيسارا» سبعة أميال، انتظرنا مدةً طويلة أن نركبَ وسيلةَ مواصلاتٍ أخرى، ولمَّا لم نجد شيئًا قرَّر إسحاق أن نواصل بقية المسافة سيرًا على الأقدام، فاقتسمنا الأشياء والحقائب فيما بيننا وبدأنا السير، وعندئذٍ تذكَّرتُ النساء اللاتي كن يسافرن عند الفجر بأحمالهن الثقيلة، آه، لقد عرفتُ لماذا كن يصلن إلى منزلنا في منتصف الليل.
قال أبي: أحيانًا كن يمشين يومَين كاملَين، ويتوقفن في قرية بالطريق لقضاء الليل.
فكَّرتُ في المسافة التي قطعناها باللوري، فقلتُ بدهشة: إنهن يمشين كل ذلك الطريق!
فلم أعُد أشعر بالتعب، وكان اشتياقي ينمو كلما اقتربنا من منزل النسوة ذوات اللون الأسود، اللاتي يقطعن كل ذلك الطريق من أجل البيع والشراء والتخلص من اللحوم المشوية والملابس النسيجية، واللاتي يتحدثن بلغة ذات أنغامٍ حزينة.
كنا على أبواب «إيسارا» حين أشرنا إلى اللوري القادم من بعيد، كانت سحابة حمراء من التراب تغطِّي «إيسارا»، كانت السحابة كبيرة وكأنها تغطِّي سطح الكرة الأرضية.
إنهم أولئك الباعة المتجولون، ضيوفنا الغامضون في «آكية»، الذين اندفعوا لإرشادنا، ها نحن الآن في منازلهم وديارهم التي تتكون من أكواخٍ وعششٍ طينية بعيدة بعضها عن بعض، شعرتُ بالحزن، وأصابتنا تلك الديار بالكآبة، ورغم معاملتهم اللطيفة معنا إلا أننا أحسَسْنا بمدى ما يعانون من تخلُّف.
لم تكن «إيسارا» مكانًا صحيًّا؛ فالمراحيض عبارة عن حُفر في الأرض، وينتشر براز الأطفال في كل مكان، مما يجعل الكلاب تطوف حوله بكثرة لالتهامه، كان البراز ينتشر في كل مكان عن طريق التصاقه بالأقدام أو عجَلات الدراجات وعربات اللوري التي تعبُر في المناسبات، وكانت أيضًا تلك الأرض غير المزروعة؛ حيث يجلس المراهقون بين الوسخ.
كان التفكير في المحظورات التي يجب علينا أن نتجنَّبها، كتناول الطعام خارج المنزل، أو مصافحة الغرباء بالأيدي، قد جعلني أبقى مع أبي في منزله المصنوع من الطين، كان منزلًا نظيفًا، ولم تكن تلك النظافة شيئًا غريبًا بالنسبة لنا.
تعجَّبتُ ذات مرة من تلك القذارة فسألتُ إسحاق: لماذا لا يأتي مفتشو الصحة إلى هنا كما يهبطون علينا في «آكية» أحيانًا ودون سابق إنذار؟ يجب أن يأتوا إلى هنا على الأقل في الفترة التي نبقى فيها.
نظر إسحاق حوالَيه بغضب وكأنه لم يسمعني، ثم قال فجأة: يجب أن تُذكِّرني بذلك عند عودتنا، لا تنسَ يا «وول» أن تُذكِّرني.
كان أبي مشغولًا بأشياء عديدة، فلم يستطع الوفاء بوعده أن يأخذني إلى مزرعته، فاقترح عليَّ الذهاب إلى «برودا بوبا» لأسأله اصطحابي إلى مزرعته، تعب «برودا بوبا» كثيرًا في الحصول على موافقة المسيحية المتوحشة، لكنها كانت نزهةً ممتعة.
كان «برودا بوبا» أحد جيراننا يعمل حلَّاقًا، وكنا نجلس بجوار باب دكانه ننتظر دورنا في الحلاقة؛ حيث كنا نُحس ألمًا شديدًا في الرأس، كانت أمي ترسلنا إليه في أعياد الميلاد والاحتفال بالعام الجديد للاعتناء برءوسنا عنايةً خاصة، وافقَت المسيحية المتوحشة على أن أذهبَ إلى مزرعته بعد أن بذل «برودا بوبا» مجهودًا كبيرًا في إقناعها.
عند الفجر انطلقنا نحو مزرعة «برودا بوبا» الذي كان في انتظارنا خارج الباب حين صاح: هيا، سوف أذهب بك إلى المدرسة.
ثم ناولَني الفأس قائلًا: ها هو قلمُك، وبعد ساعة من السير ستجد الكتاب في انتظارك هل أنت مستعد؟
لم أكن مستعدًّا قط، قفزتُ إلى أسفل، ووجدتُ نفسي بينه وبين «ييمي»، امتلأَت رئتي بالندى ورطوبة الصباح، ولم تكن الأتربة قد سادت بعدُ.
توقفنا عن السير بعد ساعة كما قال «برودابوبا»، ثم دخلنا إلى الكوخ الصغير بالمزرعة، وتناولنا إفطارًا سريعًا قبل الخروج للعمل في الأرض.
كنا نضرب الأرض بالفأس، ونجمع الفاكهة في سلالٍ كبيرة، ولم أستطع أن أفهم معنى ذلك اللون الأخضر الذي يُغطِّي المكان، كانت الأرض تكتسي بالخضرة رغم أنه ليس موسم المطر، آهٍ، إن الأرض ناعمة وغنية وخضراء.
سألتُ «برودا بوبا» فأجاب شارحًا: إن الجدول الكبير يحيط بالأرض هنا، والماء يجري دون توقُّف، ولقد عبَرنا ونحن قادمون أحد الأنهار الصغيرة.
كان «برودا بوبا» يجنح من وقتٍ لآخر إلى السخرية والمرح.
قال: هل ترى العقرب؟
فخرجتُ من جلدي من شدة الفزع، كان بعد الانتهاء من العمل الرئيسي يختفي بين الشجيرات ثم يباغتني من الخلف ويضع بعض الفروع فوق رقبتي، حتى قلت له ذات مرة: حسنًا، إذن لا تغضب لو اعتقدتُ أنك ثعبان فسارعتُ بضربك بالفأس.
كان ثعبانٌ واحد قد رأيناه في ذلك اليوم حين تسلق «ييمي» شجرة الكولا لإحضار بعض البذور المتجمِّعة في عناقيد فوق فروع الشجرة ونادى برقة: «برودا»!
– هل تنادي «ييمي»؟
ساد الصمت لحظة، ثم سمعنا تحركات «ييمي» بين الفروع وكأنه يقوم بعملٍ سرِّي مما أصاب «بوبا» بالحَيْرة والارتباك فصاح غاضبًا: ماذا تفعل؟ إن بذور الكولا ليست هناك.
قال «ييمي» المختبئ تمامًا بين الفروع: ثعبان، يُوجد ثعبان يلتفُّ ببشاعة حول أحد الفروع؛ حيث تُوجد بذور الكولا.
نظرتُ إلى «برودا بوبا» بارتياع.
كان قلقًا فقال بصوتٍ عالٍ: «ييمي»، هل الثعبان يتحرك؟
– لا، لا يتحرك، لكنه يراني.
قال «برودا بوبا» ضاحكًا: كان لا بد أن يراك، أتريده أن يراك تتسلق نحوه ثم يتركك وينام؟ والآن، استَمِع، عليك بالتحرك بعيدًا عن الجذع، هل تستطيع؟
أجاب «ييمي»: طبعًا.
ثم راح إلى الاتجاه الآخر من الجذع.
– حسنًا، استَمِع لي، لا تتحرك بظهرك ناحية الجذع وإنما عليك بالنظر إلى أسفل، وانتبه للفروع التي تحتك؛ فقد يكون أحدها خفيفًا فيهوي بك.
توقف «ييمي» قليلًا، وسمعنا حفيف الأوراق، ثم قال: نعم، يوجد.
– إذن يجب ألا تقفز مرةً واحدة وإلا تحطَّمَت رقبتك، لا تحاول القيام بأي حركة مفاجئة، ولكن اهبط ببطء وكأنه لا يُوجد ثعبان يراك.
فعل «ييمي» الحيلة المطلوبة، وقد أصابه فزعٌ شديد حين وقف فوق غصنٍ هَشٍّ، فاندفع جسده باتجاه الأرض، ولحسن حظه فقد سقط فوق قطعةٍ طرية من الأرض، ثم رفع رأسه قائلًا: «برودا»، إنه ضخم، إنه ثعبانٌ فظيع وهائل، لا، إنه ليس ثعبانًا على الإطلاق، أُقسِم إنه ساحر، نعم إنه ساحر.
تمتم «برودا بوبا»: أوه، هو كذلك؟ هلا أعطيتَني بعض الحجارة؟ ودعني أرى مكانه بالتحديد كي ألاحقه بنظراتي.
أشار «ييمي» إلى عنقود بذور الكولا فنظرنا في اتجاه إشارته، وما هي إلا لحظةٌ قصيرة حتى تعرَّفتُ عليه، كان شبيهًا بأحد أغصان الشجرة فيما عدا لونه الأسود ونبضات جسده.
أومأ «برودا بوبا» برأسه راضيًا: حسنًا، كنت أتساءل عن الشيء الذي سنأكله مع البطاطا في الغداء.
اعتقدتُ أنه يمزح فقلتُ: إن أحدًا لا يأكل الثعابين.
نظر إليَّ وثمَّة سحرٌ غامض كان يشعُّ من عينَيه: آه، لقد نسيت، أبناء المدرس لا يأكلون مثل هذه الأشياء، إنهم يأكلون الخبز والزبد.
– لا، ليس هذا ما نأكله، لكن الثعابين لا يأكلها أحد.
– نعم، سنرى الأن، أعطني يا «ييمي» ذلك الفأس، وأنت يا ابن المدرس ثبِّت نظرك على الثعبان، لا تنسَ يا «ييمي» أن تجمع بعض الحجارة.
قلتُ له متسائلًا: لنفرض أنه قفز إلى الأرض!
قال: تحدَّثْ معه بالإنجليزية.
ثم تركني وحيدًا فرحتُ أفكِّر بعمقٍ طوال عشر دقائق في ذلك الثعبان، كان ضخمًا لا يتحرك، يبدو أنه لن يهبط إلى الأرض بسرعة.
هكذا فكَّرتُ غير أنني في الحقيقة لم أكن أعرف طبيعة وعادات الثعابين، كان الكبار في «آكية» يقتلون الثعابين التي نقابلها قبل أن أقترب منها، لكن الثعابين التي رأيتُها لم تكن قط في مثل هذا الحجم.
عندما عاد «برودا بوبا» لم أستطع أن أتأمله، كان ممسكًا بالثعبان في هدوء مثل الهدوء الذي حاور به المسيحية المتوحشة حين أقنعها باصطحابي إلى المزرعة.
قال بلهجةٍ آمرة: أعطني الفأس.
تقدم «ييمي» لإعطائه الفأس، لكنه قال: لا، لا، دع «وول» يقدِّمه لي.
كان واقفًا بالقرب من الثعبان، فتناولتُ الفأس وتردَّدتُ كثيرًا وأنا أناوله إياه مادًّا ذراعي عن آخره.
هزَّ رأسه قائلًا: لا، يا ابن المدرس، عندما تناول الفأس أو السكين لأحد يجب أن تمسكها دائمًا من النصل، تأكَّد أنك تسلمه اليد التي تمسكها بها وليس النصل، ذلك ما نفعله في المزرعة.
فعلتُ ما أراد قائلًا: ها هي.
– أوه، ستكون فلاحًا فيما بعدُ.
– سوف أكون طبيبًا.
– لا بأس، لقد قطعتُ رأس الثعبان بضربةٍ واحدة رغم أنني حلاقٌ كما تعرف، وأملك مزرعةً أعتني بها، وإذن يمكنك أن تكون ما تريد وتعمل في مزرعة في نفس الوقت.
تذكرتُ إسحاق، إن بابا يعمل ناظرًا، وهو أيضًا يعتني بالحديقة.
رمَى الفأس إلى «ييمي» الذي يعرف كيفية الإمساك به، ثم راح يحفر حفرةً في الأرض.
قلتُ: لماذا تزرعها؟
قال: تذكَّر دائمًا أن رأس الثعبان يظل خطيرًا حتى بعد قطعه؛ فقد يمر شخصٌ ما فوقها وحينئذٍ يتسرَّب السُّم إلى جسده، يجب دائمًا دفنُ رأس الثعبان أو حرقه، ومن الأفضل أن يكون ذلك بعيدًا عن الطرق التي يرتادها الناس.
قدَّم لي الأخ «بوبا» بطاطا من مخزنه، وقال: هل تستطيع أن تقشِّر البطاطا؟
– إنني أحيانًا أقوم بشوائها في المنزل لكل أفراد العائلة.
حسنًا، وسوف يُشعِل «ييمي» النار، وأسلخ أنا الثعبان، ولأنك لا تأكل الثعابين فلك أن تشوي البطاطا بزيت النخيل.
كان كلٌّ منا يجهز وجبته الخاصة، وكنا قد أحضرنا الفلفل من المزرعة، وأعددنا قليلًا من الخضروات، ومن المخزن جئنا بزيت النخيل وبعض التوابل.
انتشرَت رائحة لحم الثعبان في المكان بعد ساعة، وقد كانت بحقٍّ رائحةً جميلة تلاشت بجانبها رائحة الأوراق الخضراء الموجودة في المزرعة.
عندما أوشك الطعام على الانتهاء نظر «ييمي» إلى أعلى: «برودا». لا نستخدم مسحوق البطاطا؟
– أنتَ تعني البطاطا المهروسة.
هزَّ «ييمي» رأسه: نعم، أعرف أن بعضَ الناس يتقاتلون مع أعز أصدقائهم من أجل البطاطا المهروسة.
– أوه، أنا لا أعرف أحدًا يفعل هكذا ولكن دعنا ننتهي من هذا، إنه أول يوم في المزرعة بالنسبة لوول.
قلتُ معترضًا: نحن نملك مزرعةً في الطريق المؤدي إلى «أوزيل» خارج المدينة، ولقد ذهبتُ مع إسحاق مرةً أو مرتَين، وكان إسحاق يستأجر أحد الفلاحين للعناية بها، إنه فعلًا يُحسِن العناية بها.
– رائع، إن والدك المدرس يملك مزرعة وهو ابن فلاح، لكن عمله يجعله لا يملك الوقت الكافي للاعتناء بها كي تصبح مثل هذه المزرعة، فهل قضيتَ أنت مثلًا أسابيعَ طويلةً في مزرعتكم؟
هززتُ رأسي بالنفي.
– هل ترى، وهل قضيت ليلةً واحدة؟
– أبدًا، ولا حتى ليلةً واحدة.
– وهل جرَّبتُم طهي إناء من الطعام مثل هذا؟ أو تناولتم البطاطا المهروسة في المزرعة؟
– هذا بالتحديد ما أتحدث عنه، ليتنا نقضي الليلة هنا إذا وافقَت زوجة المدرس.
يا لها من فكرة رائعة أن نقضي الليلة هنا في المزرعة! شيءٌ جميل حقًّا.
قلتُ دون تفكير: نستطيع؛ إذ يمكنك أن تخبرهم غدًا بأن الوقت كان متأخرًا، وأن الظلام قد هبط علينا، فقررنا البقاء والمبيت هنا.
هزَّ الأخ «بوبا» رأسه قائلًا: إذا لم نرجع بعد الغروب فسوف تُقلَب الدنيا بحثًا عنك، هيا تعالَ وساعد «ييمي» في سلق البطاطا بالماء الساخن؛ فإنني جائع.
كنتُ مثله جائعًا، وعندما بدأنا في تناول الطعام كنت متأكدًا بأنني لن أقرب لحم الثعبان، لكنني اكتشفتُ أنه ليس لحمًا لزجًا أو متعدد الألوان، كان لحمًا ذا لونٍ أبيضَ جذاب مثل لحم الفراخ والأرانب، فقرَّرتُ أن أتذوق قليلًا منه، ثم عرفتُ أن طعمه أيضًا لا يختلف كثيرًا عن طعم الفراخ والأرانب، وحمدتُ الله بيني وبين نفسي أنه لم يحرمني مثل ذلك النوع من الطعام، كما أنني أستطيع أيضًا التباهي بذلك في «آكية» عندما نعود.
هزَّ «برودا بوبا» رأسه باستحسان متعجبًا من شهيتي في تناول اللحم، فألقى بقطعٍ أخرى في طبقي.
كانت استراحة قصيرة بعد الغداء امتدَّت إلى ما قبل غروب الشمس؛ حيث بدأنا في العمل من جديد، كنا نجمع البذور ونعرض النشا للشمس، ثم انطلقنا في طريق العودة محمَّلين بالبطاطا وسلة من البرتقال وبعض الخضروات والفلفل.
كنا في منتصف الطريق بالقرب من مفترق أحد الطرق حين سمعنا صرخة إنسان، توقف «برودا بوبا» وأشار لنا أن نلتزم الصمت ونصغي السمع، كان شخصٌ ما يئن ويتألم، وكانت صرخاتُه متتالية، استطعتُ أن أسمع صوته وهو يقترب شيئًا فشيئًا، إنه صوتُ رجلٍ لكن صرخاته كانت كصوت طفلٍ مضروب.
قال الأخ «بوبا» مُشفِقًا: إنه من تلك القرية القريبة.
وقلتُ متسائلًا: أي شيءٍ في الكرة الأرضية فعَل ذلك بوجهه؟
أجاب كلاهما: النحل.
ثم أضاف «ييمي»: لا بد أنه كان يجري.
قلتُ: وماذا كان عليه أن يفعل؟ لو كنتَ أنت مكانه لفعلتَ نفسَ الشيء.
– أوه!، لا، من الخطأ أن تفعل ذلك، يجب أن تُلقيَ بنفسك بسرعة على الأرض، ثم تتدحرج بعيدًا عن المكان.
– وإذا كانت الأرضُ مليئةً بأوراق الشجر اللاسعة فكيف تستطيع عندئذٍ أن تتدحرج.
قال «برودا بوبا»: عليك إذن أن تنحنيَ نحو الأرض إلى أقصى ما تستطيع حتى تقترب من الأرض، ثم تبدأ في التحرك بعيدًا، ولكن لا تقف ولا تَجرِ، فقط ابقَ على الأرض، وتحرَّك بهدوء حتى لو أصابَتْك الأشواك.
– قبل الانتهاء من إقامتنا عند أقاربنا من النسوة التاجرات نجحتُ في التعرف على مجموعة من الأولاد كانوا كالعادة أكبر مني، وحين ذهبنا للصيد بقيادة «جيمو» كنا نحمل النِّبال والعِصِي والحجارة، قسَّم «جيمو» المجموعة إلى نصفَين؛ يحمل أحدهما النِّبال والحجارة بينما يعمل النصف الآخر بالمراقبة، وقد كنتُ طبعًا من حاملي النبال والأحجار، لكنني لم أستطع أن أزعم أنني في مستوى «جيمو» وأصدقائه، الذين كانوا يستطيعون بسهولة أن يوقعوا بالسنجاب على الأرض بضربة واحدة من النبلة، رغم أنني في «آكية» ضربتُ بالنبلة سحليةً أو اثنتَين وطائرًا صغيرًا، لكنني عقدتُ العزم على ضرورة أن أتفوق على نفسي وأصبح ضاربًا ماهرًا.
تحرَّكْنا نحو الشجيرات في صفٍّ واحد، وكنتُ أضربُ الحفر وقِطع الخشب المتناثرة بالعصا وأهزُّ الشجيرات.
كان «جيمو» ومن معه من حاملي النبال والأحجار والعصى والهراوات ينتظرون في الجانب الآخر من الأرض لمَّا تحركتُ باتجاه شجيرة أخرى وهززتها، فأصابني في الحال ألمٌ حادٌّ في جبهتي، تطلَّعتُ حولي فكانت الدبابير والنمل الكبير، تذكَّرتُ تعليمات «برودا بوبا»، وقمتُ بتنفيذها كما لو أنني أقوم بأحد التمارين.
إن المرء دائمًا في «إيسارا» مكبَّل بالتساؤلات، ولا شيء فيها يبعث على الاستقرار.
أعلن «جيمو» ضرورةَ أن نتوقَّف عن الصيد ولم تكن قد أصابَتْني سوى لسعتَين.
قال «جيمو» يؤنِّبني: من الممكن أن تُصاب بالحمى، لا أحد يتُوق أن يكون مسئولًا عن مصائب أبناء المدرس.
هل كان من سوء الطالع أن أكون ابنًا للمدرس؟ لكنني على أية حال كنتُ قادرًا على إنقاذ نفسي، فتحملتُ جروحي وآلامي بشجاعة حتى عُدتُ إلى المنزل، وشرحتُ لهم كل شيء. كان رأس أبي مثل رءوس القساوسة لكنه عنيد ومليء بالأفكار والإشعاعات، وكان كالحصن المنيع، حتى إنني اعتقدتُ في يومٍ من الأيام أن الرصاصة لا تستطيع اختراق ذلك الرأس، الذي يحتفظ بالكثير في داخله دون البوح به، لكنه كان بشعره الغزير ناعمًا كالحديد المطروق، وأصغر حجمًا من رأس ابنه.
كنا نتناقش بشجاعة، وكنتُ أعرف أنه لا يؤمن إلا بما يعتقد مثل الأجبوني في «آكية»، أو مثل القساوسة بمختلف أنواعهم وأشكالهم، وكذلك مثل المسيحية المتوحشة وصديقاتها المتديِّنات اللاتي يمشين في الشوارع والأسواق والطرقات في نهاية كل أسبوعٍ من أجل الدعوة إلى كلمة الله.
كنتُ في قرارة نفسي خائفًا من الأب الذي بدا لا مباليًا بكلمة الله عندما حكيتُ حادثة النحل، وقال: «أوجن» يحمي أتباعه.
قلتُ له: لقد سمعتُ بهذا الاسم من قبل، إن أوجن شريرٌ وعابدٌ للأصنام، إنه يقتل الناس ويحارب الجميع.
– أهذا ما علموك إياه؟
– نعم، أليس ذلك حقيقيًّا؟
حك ذقنه واخترقَني بنظراته، ثم سألني سؤالًا غير متوقع: هل يضربك زملاؤك؟
– أحيانًا، لكنهم غالبًا ما يخافون؛ لأنني ابن الناظر.
– هل أنتَ الذي يخبرهم بذلك عند بداية الشجار؟ لا بد أنك أنتَ الذي يقول لهم ألَّا يضربوك لأنك ابنُ الناظر!
– لا، أنا لا أقول ذلك، إنهم يقولون من تلقاء أنفسهم.
– ماذا تعني؟ كيف يقولون ذلك؟
– إنهم يُشيرون بأصابعهم نحوي قائلين: أنت محظوظ، أهٍ لو لم تكن ابن الناظر. أعتقد أنهم يخافون الفصلَ من المدرسة إذا ما لمسوني.
– وهل تعتقد أن «آيو» يفصلهم إذا ما فعلوا؟
– لا، إن أحدًا لا يخبره بأننا كنا نتشاجر، وإذا حدث وعدنا بملابسَ ممزَّقة فإنهم يعاقبوننا، وكنتُ أتعجَّب لمَّا كان يضربني علانيةً وبشكلٍ غير عادل، ماذا ترى في ذلك يا أبتي؟ يضربوننا بالخارج ونعود إلى المنزل فيضربوننا من جديد، ليس ذلك من العدل في شيء، أليس كذلك؟
تلألأَت عينا الأب بفرحٍ داخلي، ثم نهض متجها إلى الركن البارد، وشد برميل النبيذ، فسارعتُ بإحضار القنينة من الدولاب وقلتُ: إن «آكية» كلها تعرف أنهم يجلدوننا بالسياط إذا ما توَّرطنا في قتال أو شجار مع أحد، لكن الذين لا يحضرون إلى مدرستنا لا يهتمون ولا يخافون وإنما يقولون باستفزاز: قاتلني مرةً أخرى إذا كنت تجرؤ، ثم يصوِّبون ضرباتهم بسرعة ويلوذون بالفرار أو نلوذ نحن بالفرار.
نظر إسحاق نحوي بقصد، وقال: أمتأكدٌ أنت أنك لا تجري لأنهم أكبر منك؟
– أوه، إنهم جميعًا أكبر مني؛ فأنا لا أذكر أنني تشاجرتُ مع أحد في مثل سني.
لكنني فجأة تذكَّرتُ ثم أضفتُ: ما عدا مرةً واحدةً مع «ديبو».
تراءى أمامي المشهد كاملًا فشرحتُه للأب ثم سألتُه: أبي، إنهم ولا شك قومٌ ظالمون، إنهم يعاقبوننا عندما نتشاجر بالخارج، وفي نفس الوقت يثيرون أخي نحوي!
ظل الأب يهرش نهاية ذقنه وهو يقول: سوف تفهم فيما بعدُ، إنهم يحاولون فعل الصواب لكنهم يتصرفون بطريقةٍ خطأ.
ملأ كأسي إلى منتصفها، وكأسه إلى الحافة حتى كادت الرغوة أن تتساقط فسارع باحتسائها، كنتُ أرشف من كأسي مراقبًا وجهه الذي اكتسى بالعبوس، ثم قال بقرف: ذلك الرجل كسول؛ فالأشجار التي يستخدمها في صناعة النبيذ سيئة وقديمة، إن كل الأشجار في مزرعة «لاريلو» قديمة وسيئة.
– كلية الحكومة؟! لكني انتهيتُ توًّا من المرحلة الثالثة، ولا يزال الوقت طويلًا.
– ليس طويلًا كما يرى الأب، إن آيو يعتقد في العقول وليس في الأجساد.
تجهَّم فجأة، وقطَّب وجهه: انتظر، هل قلتَ إنك في المرحلة الثالثة؟
– نعم، ولقد بدأت في المرحلة الرابعة.
راح رأسُه المليء بالأفكار يصعد ويهبط مثل أنثى السحلية: نعم، ذلك ما قاله والدك؛ أي إنك في نهاية العام القادم سوف تنتهي من المرحلة الرابعة، وهو يريدك بعد ذلك أن تلتحق بالمدرسة الثانوية، يجب أن تتقدم لاختبار المدرسة الجديدة.
– نعم، سوف أجتاز كلا الاختبارَيْن؛ مدرسة «أبيوكوتا»، ومدرسة الحكومة.
أومأ برأسه مرةً ثانية: وإذن، فأنت الآن في الثامنة والنصف تمامًا من عمرك، أليس كذلك؟
– نعم، تمامًا.
– إذا دخلتَ تلك الكلية الحكومية فسوف تغادر المنزل وتقيم في المدرسة؛ أي إنك ستكون مسئولًا عن نفسك لأول مرة دون مساعدة والدَيك. سيكون ذلك عند بلوغك تسع سنوات ونصفًا، فهل أقول الصواب؟
قلت له بأنه على صواب، وأن كل ما قاله صحيح، وكنتُ أعرف ما تؤدي إليه هذه الخطوة، فأكدتُ له بأنني لستُ خائفًا من مغادرة المنزل، لكنني في الحقيقة كنتُ قلقًا، وتملَّكَني اليأس من الفكرة، ولم أكن راغبًا في أن يقول لإسحاق أنني لم أعُد صغيرًا.
– أتعتقد أنني لستُ صغيرًا لمغادرة المنزل أيها الأب، أليس كذلك؟
– لا، إن الأطفال يتركون منازلهم لأغراضٍ أخرى أيضًا وليس فقط من أجل الدراسة، لا، كنتُ أفكر في أن الآخرين سيكونون أكبر منك كثيرًا تمامًا، مثل زملائك في مدرسة «آيو» الذين يكبرونك أيضًا.
– ولكنني أتفوق عليهم جميعًا في الفصل، ولا أعاني أية مشكلة على الإطلاق.
– نعم، لقد أخبرني والدك بذلك، لكنك لم تفهمني حتى الآن، إن الناس لا تذهب إلى المدرسة الثانوية من الابتدائية مباشرة، إنهم غالبًا يلتحقون بالمستوى السادس الأوَّلي؛ حيث يحصلون على شهادة «الأساميند»، ثم بالتعليم الشعبي، ويستطيعون عندئذٍ العمل كمدرسين أو مفتشي صحة أو مرشدين في السكك الحديدية.
ابتسمتُ لكن الأب أساء فهمي حين قال: لا شيء يدعو للضحك، إنهم يعملون بهذه الشهادة، وبعد أن يوفِّروا منها الكثير يلتحقون بالمدرسة الثانوية؛ حيث يحاولون ويحاولون عدة مرات أن يصلوا إلى المستوى الثامن، لكن معظمهم يتوقف عند هذه المرحلة، والقليل جدًّا مَن يصل إلى المرحلة الأخيرة، والآن، هل ترى ما أقصد؟ وهلي تفهم ما أعني؟ يجب أن تفكِّر في زملائك بالمرحلة الثانوية، إنهم ليسوا مثل زملائك الأكبر منك في المدرسة الابتدائية، وإنما ستراهم رجالًا وقد تجد بينهم متنزوِّجين يُخفون طفلًا أو طفلَين في أحد الأركان، سوف تشارك رجالًا في مقاعدهم.
قال ذلك وحكَّ ذقنه وكان يضحك بصوتٍ مكتوم وهو يقول: سوف يأتون بصابون الحلاقة والأمواس.
انتهى من ضحكاته المكتومة وتظاهر بالوقار من جديد: إن «آيو» طموح فهو يريد إرسال ابنه إلى المعركة، صدِّقني فإن عالم الكتب هو ساحة للحرب، إنها أكثر المعارك ضراوة، أكثر من تلك التي اعتدنا أن نسمع عنها؛ فهل تعتقد أن أولئك الرجال سيسعدون بوجودك؟ فلتبدأ في منافستهم.
ملأ كأسي مرةً أخرى وقال: اشرب نبيذك؛ فهو خفيفٌ تمامًا، ولا يترك أثرًا، وحتى لو شربت القنينة كلها فلن تشكو «إينيولا» لكوني جعلتُ منك سكيرًا.
ظل الأب يراقبني، وينظر إلى بطريقةٍ متعمَّدة وهو يقول: أيًّا كان الأمر، فإن الإنسانية فيها الخير وفيها الشر، واليأس هو الذي يحول بعض الناس إلى أشرار، ويشعل نار الحسد والغَيرة التي تجدها في كل مكان، نعم في كل مكان، هل تعرف سبب وجودي؟ أو من أجل أي شيء أحيا؟
أصابني الارتباك وتلعثمتُ، ولم أستطع أن أفهم ما يقول: أنا لا أفهم!
مال بذقنه ناحية رقبته وبدأ يهزُّها مثل الديك الصغير: أوه، أتعتقد أنني جئتُ بكم إلى هنا بمناسبة العام الجديد دون أن أحذر منكم؟ يوجد الكثير في العالم، إن العالم ليس هو عالم المسيحيين أو عالم الكتب، آه، كفى ذلك اليوم؛ فكلانا لديه أعمالٌ للغد.
رحتُ أفكِّر في أعمال الغد التي تحدث عنها، هل هي زيارةٌ أخرى للمزرعة، لكنها بالطبع ستكون مزرعة الأب هذه المرة؟ لم أستطع احتمال توقعاتي فبادرتُ بالسؤال: أي أعمالٍ تعني؟
انتصب واقفًا: أوه، نعم، لقد نسيتُ أنهم أخبروني بأنك لا تتوقف عن إلقاء الأسئلة، اذهب والعب مع أصدقائك؛ فلقد أعددتُ كل شيء مع والدك، لكنني فقط لم أحدِّد اليوم، والآن فلنواصل حديثنا غدًا.
لاحظ أنني قلقٌ لعدم تقديم أي تفسير عن سؤالي، فهزَّ رأسه قائلًا: غدًا، لكنك على أي حال ستعود الليلة وتنام هنا، هيا اذهب.
– كان إسحاق منذ اللحظة الأولى التي وصلنا فيها إلى «إيسارا» ينام في منزل الأب، وكنا نحن الأطفال والمسيحية المتوحشة نشغل المنزل بدونه، انفصل تمامًا عن عائلة «آكية» وراح يندمج مع مدينته، كانت تشغله بعض الأمور الثابتة كاجتماعات المدينة واجتماعات العائلة وجلسات مجلس الكنيسة، كانت في انتظاره مئاتٌ من الواجبات على مدار السنة، وكان يُمضي معظم الوقت مع «أوديمو» الذي كان يُخفِّف من أحاديث إسحاق الصعبة في «إيسارا»، بمساعدة واحد أو اثنين من بينهم أبي الروحي، الذي هو زوج السيدة التي كان مفروضًا أن تصبح زوجتي.
تساءلتُ كثيرًا كيف أن «أوديمو» لا ييأس من أولئك الرفاق.
كان من اليسير لواحدٍ منا أو أكثر أن يبقى وينام في منزل الأب؛ فلم تكن ثمَّة تعليماتٌ صارمة تمنع ذلك، خاصة وأن الحصائر كانت متوفرة، بالإضافة إلى السطح المليء بروث البهائم الذي يستخدمونه كحجرة للنوم.
كنتُ أقضي نصف ليالي «إيسارا» في منزل الأب، رغم الناس الكثيرين الذين كانت ترسلهم المسيحية المتوحشة لاستدعائي، وعند صدور أول أمرٍ مباشرٍ أن أنام هناك لم أستطع أن أغالب الأرق حتى وقتٍ متأخر من الليل.
استيقظتُ مبكرًا فأبصرتُ الآب ينحني نحوي ماسكًا المصباح في يدَيه، لم تكن الشمس قد أشرقَت بعدُ وكان اثنان آخران موجودَين في ركن الحجرة؛ أحدهما رجلٌ كبير، والآخر ولدٌ صغير، لكنه أطول مني، ودون أن أدري رأيتُ نفسي أنظر في كل الاتجاهات بحثًا عن أبي، ولم أكن أفكِّر في شيء سوى الجولة التي سنقوم بها.
قلتُ: إلى أين نحن ذاهبون؟
– هل استيقظتَ تمامًا؟
– نعم.
– إذن، اذهب واغتسل، لقد تركتُ دلو الماء في الفِناء.
فعلتُ ما أمرني به، وفي الطريق شاهدتُ طبقًا من الطين الخزفي بين الرجل الكبير والولد وزجاجة من زيت النخيل وبعض العلب الصغيرة المليئة بالبودرة، كان الطبق المسطَّح يحتوي قِطعًا معدنيةً تشبه المحار.
تساءلتُ كثيرًا بيني وبين نفسي وأصابني الارتباك، انتهيتُ من الحمَّام وأنا أرتعش من برودة الصباح والإحساس بالتشاؤم، وعند عودتي من الفِناء لاحظتُ إعادة تنظيم الكراسي والمقاعد الصغيرة، وكانت العصا قد تحرَّكَت من مكانها عند الحائط إلى منتصف الحجرة، كان الرجل الكبير واقفًا والولد راكعًا بجانبه يُعيد تنظيم القوارير والأباريق والصواني ومجموعة غريبة من المعدَّات والأجهزة والآلات.
قال الأبُ بلغة الأمر: تعالَ واجلس هنا.
كان يُشير إلى الكرسي الخشبي، فقمتُ بإطاعته، ثم تحرَّك من الباب وأصبح في مواجهتي حين قال: لعلك تتذكَّر ما تحدثنا عنه بالأمس!
أجبتُ: نعم.
– عظيم، والآن استَمِع بانتباه، سوف تُعاني الكثير في خطوتك القادمة، انظر لي!
نظرتُ بسرعة إلى الصينية على يساري، وتطلعتُ إلى عينَيه المحترقتَين وهو يقول: من الأفضل لك ألا تفكِّر بمصدر المعاناة والألم، إن هذا الولد في مثل عمرك، فهل تريد أن تخجل من نفسك بأن تصرخ أو تشكو قبل أن يفعل هو ذلك؟
توقَّف عن الحديث، ثم اخترقَني بنظراته في انتظار إجابتي، فقلتُ: لا، أنا لا أصرخ أو أبكي.
شعرتُ بالخوف، ولم يتوقف قلبي عن الخفقان، وظَلِلْتُ في انتظار ما هو أسوأ؛ إذ لم تكن لديَّ أية فكرة عما سيقومون به، لكنني كنتُ أعرف أنه يجب ألا أبكي مهما كان الألم، وعندئذٍ تذكرتُ شيئًا، آه، لقد بكيتُ عندما ماتت «فولاساد».
وفجأة أومأ برأسه للرجل الغريب، ثم شعرتُ بغتة أن قدميَّ مسمَّرتان في الأرض، وأن كعب الحذاء مضغوط، ثم تحركَت يده بسرعة، وضغط على كرة قدمي إلى أسفل، وأنا أواصل ضغط كعب الحذاء على الأرض بينما راح الولد الصغير يمسح قدمي بخرقة مبلَّلة، ثم أمسك الرجل الكبير بالمشرط، اشتد الألم في قدمي فصرختُ مثبتًا أقدامي فوق الأرض بيدي اليسرى، لكن جسدي بدأ يترنح، وأنا أواصل الصراخ غير أن زوجًا من الأيدي القوية كان يضغط فوق كتفي.
رأيتُ كما يرى النائم نفس الشفرة المعدنية تتلألأ داخل الطبق أو خارجه، فانتشر الألم في جسدي كله، نظرتُ إلى الجرح فكان الدم ينزف، وأطلقتُ أول صرخةٍ حادة، لكن الدموع التي استقرت في عيني رفضَت أن تتدفق، ضغطتُ على أسناني حتى لا أصرخ مرةً ثانية، وضغط الأب بأصابعه فوق كتفي، وكان جسدي يتقلص مع كل حَزٍّ بالمشرط في قدمي، حتى لم أعد أستطيع النظر إلى أسفل، فأغلقتُ عيني لاصقًا أسناني ببعضها في انتظار نهاية هذه المحنة.
بدأَت الدموع تتدفق رغمًا عني.
ربطوا قدمي، وكانت لفافة كبيرة في الخليط الموضوع في الطبق، نزعوا قدمي من الأربطة ووضعوها في ذلك الخليط، كان الولد لطيفًا جدًّا، تكرر نفس الشيء مع القدم الأخرى، غير أنني لم أشعر بما شعرتُ به.
أصبح فكي طليقًا، ولم أعُد أقبض على أسناني، وأعجبَني ذلك الاستخدام الدقيق للسكين.
لم أصدق أن الانتهاء من كل شيء قد تم في وقتٍ قصير، أشرقَت الشمس في الخارج وكانت الظلال منتشرة عبْر الباب، كان الغريب يتحدث ببطء في ركن الحجرة بينما يومئ له الأب بالموافقة، ثم عاد الرجل الكبير يلمُّ معدَّاته وأدواته، وكان الولد يغسل الطبق خارج الباب عندما كان الرجل ينظف الشفرة، ويصُبُّ بقية البودرة في أباريقَ صغيرة، قام بوضعها في حقيبةٍ واسعة، كنتُ قد رأيتُها منذ قليلٍ معلقة على الباب.
كان الأب يودِّعهم، ثم أغلق الباب، وجلس فوق الكرسي الخالي قائلا: «وول»، لقد كنتَ قويًّا، والآن استمع لي بانتباهٍ شديد.
تناول علبة النشوق وفتحها، ثم التقط بعضًا منها بيده اليسرى، وأعاد وضع الغطاء مستطردًا: تناول الطعام الذي يقدِّمونه لك ولا تخَفْ، دع الشكوك جانبًا وتناول طعامك، ولا تأتِ إلى هذا المنزل مرةً ثانية، هل تفهم ما أقول؟
هززتُ رأسي دون أن أنطق بكلمةٍ واحدة.
قال: عليك بمواجهة المعارك، ولا تُعطِ ظهرك لها، وحيث تجد نفسك لا تهرب من التصدي للمعارك، إن خصمك غالبًا ما يكون أكبر منك، ولا بد أن يقهرك في المرة الأولى، وعند ملاقاته في المرة الثانية لا بد أن تتصدى له، غير أنه أيضًا سوف يقهرك، لكنني أَعِدُك بأنك ستقهره في المرة الثالثة أو أنه سيلوذ بالفرار، هل تسمعني؟
– نعم يا أبتي.
لقد أرسلتُ والدَيك وبقيةَ الأطفال إلى «ساجامو» لزيارة بعض الناس، وإذن فنحن الآن بمفردنا.
تجوَّلتُ بنظراتي في الحجرة بحثًا عن أبي الذي كنتُ أعتقد في وجوده بأحد أركان الحجرة، فابتسم الأب وهزَّ رأسه: أوه، إن ما حدث بيننا نحن الاثنَين فقط، والآن يجب أن أمضي لأن اجتماعًا ما في انتظاري، وثمَّة شخصٌ سوف يُحضر لك الإفطار، لا تأكل أي شيءٍ آخر اليوم وغدًا فيما عدا ما أرسله لك، هل تفهم؟
قلتُ له مؤكدًا بأنني سأفعل ما قاله، ثم شعرتُ بالإرهاق، وازدحمَ رأسي بالأفكار.
أحسستُ أن يدي منفصلة عن جسدي، وسمعتُ نفسي أتساءل: هل ما فعلوه بقدمي قد حدث مع بابا عندما كان صغيرًا مثلي؟
رفع الأب عينَيه إلى العارضة الخشبية قائلًا: لقد أخبروني بذلك، آهٍ، إنهم على صواب، لقد حذَّرني «آيو» وكذلك «إينيولا» بأنك سوف تقتلني بالأسئلة.
ذهب الأب إلى حجرته، واستطعتُ أن أسمع ضحكاته المكتومة مخلفًا وراءه صرخاته وأوامره.
كنتُ جالسًا ما أزال، حاولتُ أن ألمس قدمي، هل ستتحمل وزني أم أنني سأقع إذا وقفتُ؟ يبدو أن حَيرتي قد انتقلَت إليه في حجرته حين سمعتُه: حاوِل أن تمشي على الحرف الخارجي للقدم، ثم على الحرف الداخلي، وإذا فشلتَ فعليك أن تمشي بالطريقة العادية، بدون أن تضغط على قدم دون أخرى، ولكن برقَّة وهدوء.
كنتُ متأكدًا في اعتقاد الأب أنني لا أفهم فوقفتُ على قدمي، ورحتُ أضحك بسخرية.