الثأر

أكان قد وُلدَ قيس بن الخطيم، لما قُتل جدُّه عُدي؟ أم أنه انتظر مصرع جده حتى أطلَّ على الوجود؟ تلك مشكلة، ولكن ليت المشاكل كلها في بساطتها!

على أننا موقنون أن قيسًا لم ينتظر مقتل أبيه الخطيم حتى وُلد، إلا أنه كان طفلًا لما فتكت يدٌ من الأيدي بوالده، فلم يبقَ له إلا أمه الأرملة تتعهَّده، وتنفق عليه من مزرعة نخيل خلَّفها زوجها في مدينة يثرب.

وقد أحسنت الأم الأرملة تعهُّدَه، فكان ينمو يومًا بعد يوم ويزداد قوة ونشاطًا، ومع القوة والنشاط فهمًا وذكاء، وقعدت في ذات ساعة تفكر فيه وفي سرعة نموه، وخطر لها أن ابنها لا بد صائر إلى الشباب، فمستخبر عن أبيه وجدِّه، فإذا عرف أن كليهما مات قتلًا، بحث عن القاتلَيْن وطلب منهما الثأر فحمل بذلك نفسه على أشد الأخطار، وربما لحق به الهلاك، فأذاقها مرارة الثكل كما ذاقت، من قبل، مرارة الإرمال، وأحست أن عليها، لساعتها، أن تبتدع حيلة تستر بها حقيقة الأمر عن ابنها الناشئ.

وهكذا نهضت إلى كومة من تراب عند باب المنزل، فأكثرت من الأحجار عليها بحيث لا يشك رائيها أنها قبر، ثم شرعت منذ ذلك الحين تقول لابنها: هذا قبر جدِّك وأبيك! فلا يتداخله ريب في صدق ما تقول.

واستمر قيس في نموه الناشط مع الأيام، حتى بلغ دور الشباب فقويت بنيته واشتدَّ ساعده، وأصبح يخالط غيره من شباب القبائل وينافسهم في مآتي الشجاعة والقوة، وكثيرًا ما كانت تؤدي هذه المنافسة إلى شيء من النزاع الجدِّي، فاتفق له مرة أن نازع فتًى وأظهر عليه التيه والكبرياء بشدة ساعديه، فقال له الفتى: خير لك لو جعلت شدة ساعدَيْك على مَن قتل أباك وجدك، فصعد الدم في وجه قيس، وقال له: وهل أبي وجدي ماتا قتلًا؟ ومن الذي قتلهما؟ فردَّ عليه الفتى أن اسأل أمك!

فعاد قيس حثيث الخطى إلى أمه، ومذ وضع رجله داخل الدار، رأت في ملامح وجهه تغيرًا أنبأها بمحذور، فأثبتت فيه بصرها وجعلت تنتظر ما يبدر منه.

فقال: أماه! أخبريني كيف مات أبي وجدي، فقالت: يا بني! ماتا كما يموت الناس، وهذا قبرهما عند باب المنزل، ولكنها لم تستطع إخفاء ما فاض على وجهها من أمارات الدهشة والارتباك، ورأى قيس دهشتها وارتباكها وعرف أنها تستر عنه حقيقة، فأخذ سيفه وركَّز مقبضه في الأرض، وجعل رأسه إلى صدره وانحنى عليه، وقال: لماذا، يا أماه، لا تخبرينني بالواقع؟ والله لئن لم تخبريني، لأحملن صدري على رأس هذا السيف حتى يطلَّ من ظهري، وكان في بريق عينَيه ونبرة صوته ما دلها أنه لن يحجم عن إنفاذ ما يقول، وخشيت سوء العاقبة إن هي لم تعجِّل له بكشف السر، فقالت: صحيح يا بني أن جدك وأباك ماتا قتلًا، وقاتل جدك رجل اسمه مالك، وقاتل أبيك رجل أجهل اسمه، ولكنه من بني عبد القيس يسكن هجَر من قرى البحرين، وأزيدك أن مالكًا قاتل جدك من قوم خداش بن زهير، وأبوك قد أحسن في حياته إلى خداش، ولا بد أن يكون خداش ذاكرًا له إحسانه، فإن كنت عازمًا على طلب الثأر، فانطلق إليه واسأله المعونة، فإنه يعينك، ولا تخاطر وحدك بنفسك، فقال لها: وهل تشكِّين في أني عازم على طلب الثأر، ولكني عامل بنصيحتك فذاهب إلى خداش بن زهير منذ اليوم!

ثم خرج قيس إلى مزرعة نخيله ونادى بقومه، فاجتمع إليه عدد كثير، فقال: من منكم يأخذ مزرعتي هذه فيأكل غلتها ويقوم على نفقة أمي في غيبتي، لأني ماضٍ لشأن من شئوني، فإن رجعت سالمًا فملكي عائد إليَّ، وإن هلكت بقيت المزرعة لمتسلِّمها يعول منها أمي حتى تموت، فأجابه إلى ذلك رجل منهم، فاطمأن باله على أمه ومزرعته، وامتطى بعيرًا له وانطلق في الفلاة.

ولم يطل به السير حتى اهتدى إلى مكان خداش بن زهير واسترشد إلى منزله فقصده، فقيل له أن ليس فيه إلا امرأته، وأن خداشًا يعود بعد حين، فعمد إلى شجرة يقعد تحتها ضيوف خداش، واستلقى في ظلها يستريح من عناء السفر، ثم إنه نادى امرأة خداش وسألها شيئًا من طعام، فأطلت من خبائها ورمقته بعينها وقالت: يعزُّ علينا أن ليس لدينا طعام يليق إلا بعض التمر، فأجابها: ما أبالي، فهاتي ما لديك، فبعثت إليه بصحفة من التمر، فأخذ واحدة وفلقها فلقتين فأكل فلقة وأعاد الأخرى إلى الصحفة وردَّها إليها، وقام يبدد الوقت بركوب بعيره، فلما رأت منه ذلك اشتدَّ تعجُّبها، ولم تمسَّ الصحفة حتى يرجع زوجها.

ورجع خداش بعد لحظة، فأرته الصحفة وفلقة التمر، وأخبرته بما كان من عجيب أمر الضيف، فقال لها: ما أظنه إلا رجلًا طالب شأن عظيم، وقد تحرَّم أكل طعام الغرباء حتى يدرك شأنه، وجلس معها يلتقمان ما في الصحفة.

وإذا بقيس يطلع على بُعد مرمى العين من المنزل راكبًا بعيره، فلمحه خداش وقال لامرأته: لعل هذا هو ضيفك، فمدَّت بصرها وقالت: أي والله! فشرع خداش يتأمله كلما دنا من منزله، ورأى قدمه مدلاة من ظهر البعير فقال لها: كأني بهذه القدم قدم الخطيم، صديقي اليثربي القديم، ولم يلبث قيس أن وصل إليهما وقرع بسنان رمحه مستأذنًا، ودخل فعرَّف نفسه إلى خداش وأخبره بما قدم من أجله، فبشَّ له ورحَّب به، وذكر إحسان والده إليه، وأظهر رغبة في مساعفته، ثم قال له: إن مالكًا قاتل جدك رجل من قومي، وإنه منا لقريب، فلنبدأ به منذ غد، وسأعينك عليه ما دمتَ تستوفي منه حقًّا من حقوقك.

ونهضا باكرًا في غرة اليوم الثاني، وخرجا إلى قصدهما، وفي الطريق قال خداش لقيس: يا هذا! إني حين نلتقي الرجل سأجلس إليه فأشغله بالحديث، فتهيأ أنت لعملك، حتى إذا ضربتُ بيدي على فخذه، فاضرب أنت بسيفك على عنقه! فقال قيس: أفلا يكون ذلك غدرًا؟ فأجابه خداش: إن العدو هو العدو، فخذه كيف قدرت.

وظلَّا على سيرهما حتى التقيا الرجل، فجلس إليه خداش وخاض معه في فنون شتى من الحديث، وبقي قيس واقفًا وقد جعل إحدى عينيه على مقبض سيفه، وجعل الأخرى على يد خداش ينتظر منه الإشارة، وبغتةً رفع خداش يده في حدَّة الحديث، فأهوى بها على فخذ جليسه، فرفع قيس سيفه وأهوى به على عنق الرجل، وإذا برأس يتدحرج على الأرض!

وكان على مقربة منهم ناس رأوا المشهدَ المنكر، فاجتمعوا على قيس يريدون البطش به، فهبَّ خداش واعترضهم قائلًا: دعوه، فوالله ما قتل إلا قاتل جده، ولقد استوفى حقًّا من حقوقه، فخلُّوا عنه.

وعاد قيس وخداش يفكران بالسفر إلى البحرين، حيث يثأران من العدو الآخر، فلم يلبثا إلا قليلًا حتى أكملا عدَّتهما وسافرا، فلما انتهيا إلى قرية هجَر، وفيها مسكن العدو، قال خداش لقيس: انطلق فتشمَّم خبره، فإذا عرفته فاقصده وازعم له أنك عابر سبيل، وأن لصوصًا من قومه نهبوا لك متاعًا، وأنك قصدته دون غيره ليردَّه لك، فإذا تبعك وحده نلت منه مأربك، وإذا دعا بأصحابه معه فأظهر الضحك والسخرية، فلا بد من أن يسألك عن السبب، فقل له: إن رئيس القوم عندنا لا يخرج إلى اللصوص بأصحابه، حتى ولا بسلاحه، بل بسوطه، فيردُّ اللصوص ما كانوا قد نهبوه خشيةً له وتهيبًا، فما أرى الرجل عندئذٍ إلا آمرًا أصحابه بالرجوع، فإن لم يفعل فقدهم جميعًا إلى هذا المكان فنبتدع لنا حيلة للظفر بهم.

فانطلق قيس، ولم يزل حتى اهتدى إلى منزل عدوه، فبدأه بما لقنه خداش، فأثارت الحميةُ الرجل، وبادر إلى دعوة أصحابه، فلم يشعر إلا بقيس يقهقه ملء شدقيه، فلما سأله عن السبب زاده شيئًا مما لقنه خداش أيضًا، فشرق وجه الرجل بدم الغضب وأمر أصحابه بالمكوث، وخرج معه وحده، فقاده قيس إلى موضع خداش، وهناك حقت الواقعة: طعن قيس عدوه بحربة في خاصرة فأنفذها من خاصرة! فلفظ روحه وسقط يتصبَّب جرحه فينقع الرمل …

وأرادا أن يقفلا راجعين، ولكنهما خافا أن يفتقد قوم القتيل صاحبهم ويطلبوه فيدركوهما في الطريق، ورأيا الأفضل أن يختبئا حيث هما، حتى إذا جاء القوم لم يطرأ على بالهم أنهما قتلاه وأقاما في الموضع نفسه، فراحوا يطلبونهما في موضع آخر.

وهكذا مالا إلى دارات رمل فاندسَّا فيها إلى حين، ثم قفلا إلى حيث صدَرا وقيس ينشده شعره:

فأبْت بنفس قد أصابت شفاءها.

وهنا قال راوية من هذا العصر: طالما عُيِّب على العرب الثأر، والثأر حق يستوفى من الجناة، ولقد ابتدع الناس الحكومة لتثأر من الجاني لضحيته، ولم يكن للعرب في جاهليتهم حكومة تثأر لهم كما أصبح للناس فيما بعد، ولكن … ولكن الحكومة كثيرًا ما تجاوزت حدها فثأرت لنفسها، أو لفئة، من الناس أجمعين، ويقتل العربي البدوي عدوه بخنجر ثأرًا لحق مهضوم، فيسمى ذلك وحشية وفوضى، وتقتل حكومة شعبًا بأسلحتها لأنه أبى حمل النير، فيجد هذا العمل من يسميه تمدينًا وتنظيمًا، ما أشبه الكلمات بالدمغات التي تلصق بالصرر لتهريبها في الجمارك عبر الحدود! وكم متَّجر بالأفيون، إذا نظرتَ إلى الدمغة على صناديقه، قرأتَ الكلمة: دواء! وحسبت الرجل طبيبًا أو صيدليًّا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤