الفداء مِن الوأد

كان اسمه أبو حمزة من غير أن يكون له حمزة، وكان يشتهي أن يكون أبا حمزة حقًّا، فتلد له امرأته طفلًا ذكرًا ينمو بين يديه، فيملأ خيمته مرحًا وابتسامًا، حتى إذا شبَّ صار له عونًا على هذه الأم العجيبة، أم الناس جميعًا، الحياة التي تمنح الناس عطاياها وتحرمهم، وتسعفهم، وتخذلهم في آن.

ولكن امرأته أبت إلا أن تخيِّب رجاءه، وكأنها كانت تسير على خطة مدبرة من عناد، فكلما امتلأ رحمها، توقع بعد التسعة الأشهر أن يلقى بوجهه وجه حمزة، غير أن امرأته دفعت إليه بأنثى يمزِّق صراخها حجاب سمعه.

وما يصنع بالبنات في هذه الصحراء التي قست فيها الحياة على بنيها قسوة شاذة؟ وكيف له أن يُطعمهن والسنُّ تمشي به؟ وماذا يغنيهن عنه إذا طلب الغزو أو دهمه الغزو؟ وأي عار يلحق به إذا سقطن في أيدي الأعداء؟

وعزم أبو حمزة أن يطلِّق امرأته أو يجفوها، فيتخذ له امرأة لا يكون حشوها البنات، وربما حدثته نفسه بأن يئد هذه البُنيَّة الجديدة التي يملأ صياحها المنكر جوانب خيمته.

وليس كالمرأة في الدنيا مخلوق عجيب، يتشمَّم ما يدور في خبايا الضمير، ضمير الزوج على الأخصِّ.

ولم تمضِ دقائق حتى سمع أبو حمزة صوتًا يرتفع في داخل الخيمة، يجتهد أن يغرِّق في قراره الكآبة التي تأبى إلا أن تطفو وتفيض على كل نغمة من نغماته.

كان ذلك صوت امرأته، وهي تنشد بُنيَّتها:

ما لأبي حمزة لا يأتينا؟
يظل في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا
تالله ما ذلك في أيدينا!
وإنما نأخذ ما أُعطينا
نُنبت ما قد زرعوه فينا!

فتعلقت بنفسه كآبة الصوت، ولبث مطرقًا ساهمًا يغمره الصمت، لقد مس الشعرُ وحرَّك اللحنُ الإنسان النائم في أعماق هذا البدوي، ولكن كيف تتم يقظة الإنسان في الإنسان وهو فقير؟

قال الراوي: لا ندري هل كان أبو حمزة، هذا، البدوي الذي اتفقت له الحادثة مع صعصعة جد الفرزدق الشاعر؟ ولكن أي بأس في أن يكون هو إياه؟

وكأن أبا حمزة لم يُقدم على طلاق امرأته ولم يستطع صبرًا على جفائها، فقال: لأعيدنَّها تجربة أخرى، فإن ولدت غلامًا فذاك، وإن ولدت بنتًا وأدتُها والله، قبل أن أسمع منها أول صيحة.

وانطوى عام وامتلأ رحم المرأة الخصبة، وتلاحقت الأشهر التسعة، وصاحبنا معلَّق النفس بين الخيبة والرجاء يعد امرأته الوعود الطيِّبة إن هي دفعت إليه بصبي، ويقسم لها أنها لن ترى ابنتها ساعة في الخيمة إذا ولدت أنثى.

وأقبلت الليلة التي أقبل معها المخاض، إلا أن المرأة لم تستطع أن تدفع وليدها، وأقبلت ليلة ثانية والولادة لا تزال على عُسر، وكانت ليلة ثالثة، والنساء يقلن لأبي حمزة: أبشر! فما تعسَّرت ولادة على امرأة إلا جاءت بصبي، ولكن ادعُ ربك أن يهوِّن الأمر وتسلم لك أم حمزة.

وبات صاحبنا ساهرًا، يسمع صياح امرأته ولغط النساء في داخل خيمته، ويطعم النار فيحييها كلما همَّت بموت، وبغتةً طلعت عليه ناقتان بَرَكتا في الساحة، فقال: ليلة خير والله، ونهض إليهما، فإذا هما تعالجان الوضع، فنتجهما وتلقى فصيلين سمينين، وعاد ينتظر على ناره.

وكان في تلك الليلة أن خرج الشيخ صعصعة، جد الفرزدق الشاعر، يطلب ناقتين له أخذهما المخاض فجنَّتا من وجع، وانطلقتا في مدى الصحراء، فما زال به السير حتى أطلَّ من بعد على نار تبوخ وتضيء، فحثَّ بعيره إلى جهتها، فأقبل على صاحبنا أبي حمزة قاعدًا، يعكس وجهه ظل اللهيب المتلاعب، وسمع لغط النساء داخل الخيمة وصوت امرأة تتوجَّع.

فحيَّاه صعصعة وقال له: حملتني إليك نارك الموقَدة وقد خرجتُ طالبًا لي ناقتين على أهبَّة الوضع.

فردَّ أبو حمزة: ناقتاك عندنا، وقد وضعتا فصيلين، فمَن تكون؟

فعرَّفه صعصعة بنفسه، فوثب البدوي ورحَّب به لعظم مكانته.

وقال صعصعة: إني لأسمع صراخ امرأة ولغط نساء، وقد أقسمت أن أعينك إن كنت في حاجة.

فأجاب أبو حمزة: إنها امرأتي تلد، وهذه ثالثة الليالي التي تعالج فيها الوضع.

وهنا ارتفع صوت امرأة تقول: خرج الوليد! خرج الوليد! فصاح أبو حمزة: إن كانت بنتًا فلا سمعتُ صوتها، ولأحفرنَّ لها حفرة منذ الساعة أُواريها فيها.

فتلا كلامه صمت ثقيل، فأدرك أبو حمزة أنها بنت، وتقلَّص وجهه من الغيظ.

فقال صعصعة: أوَتدفن ابنتك حية؟

فجاءه جواب أبي حمزة: وما أصنع بالبنات، وعندي منهنَّ سرب، وأنا فقير والسنُّ قد قطعت بي شوط الشباب كما ترى؟ ولئن كنت أنت حفيًّا بهذه الوليدة فاشترها مني.

فقال صعصعة: إن شئت اشتريتها بإحدى ناقتيَّ، فهزَّ أبو حمزة رأسه سلبًا، وقال: موتها خير من بيعها بناقة، فردَّ صعصعة: إذن، فخذ الناقتين.

وبدأت تنقشع الغمامة عن وجه أبي حمزة، فقال: وتعطيني البعير الذي تحتك، إني أراه حسنًا، شابَّ السن.

فوافقه صعصعة، وقال: أعطيكه، شرط أن تأذن لي أن أعود عليه إلى منزلي، فإذا وصلت فخذه مني، ولي عليك ميثاق لا تحلَّة منه أن تحسن إلى هذه البنية حتى تبين عنك بموت أو زواج.

قال الراوية: إن الرواة لم يذكروا لنا أن أبا حمزة بكى لما سمع كلام صعصعة، على أنه حقًّا شهق بالبكاء، وكان شهيقه من عزة مجروحة، وعرفان بالجميل، وأبوَّة سُرَّت بعد حزن.

وانقلب صعصعة إلى منزله راضيًا عن نفسه كما يرضى صانع المكرمة.

وفكر صعصعة في كثرة غناه، وكان موسَّعًا عليه في دنياه، فقال: ليس هذا البدوي بالوحيد الذي يئد بناته من فقر وضَنَك، فلا علمت ببنت يريد أبوها وأدها إلا اشتريتها، ثم ساءته كلمة اشتريتها، فقال: افتديتها.

وازداد رضًى عن نفسه لما تذكر أن هذه مكرمة لم يسبقه إليها أحد من العرب، وقد يقال إن شعوره بالزهو ربما أفسد عليه تلك المكرمة التي كان ينبغي لها أن تكون خالصة، على أن الشعور بالزهو حق طبيعي لمن استحقه.

وجاء، بعد زمان، حفيد صعصعة — وهو الفرزدق الشاعر — فملأَ الدنيا فخرًا بما صنع جدُّه، ولكنه كان واحدًا من أبناء العرب الآخرين الذين كفاهم أن يفخروا بفتوح الجدود، غير عابئين بما قال شاعرهم:

نبني كما كانت أوائلنا
تبني، ونفعل مثلما فعلوا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤