قصر الشوق

١

أغلق السيد أحمد عبد الجواد باب البيت وراءه، ومضى يقطع الفناء على ضوء النجوم الباهت في خطواتٍ مُتراخية، وطرف عصاه ينغرز في الأرض التَّرِبة كلما توكَّأ عليها في مشيته المتثائبة. تشوَّق وجوانبه تَحمى بمثل الوهج إلى الماء البارد الذي سيَغسل به وجهه، ورأسه، وعنقه، كي يلطف — ولو إلى حين — من حرارة يوليو، والنار المُستعرة في جَوفِه ورأسه، فهشَّ لفكرة الماء البارد حتى انبسطَت أساريره. ولمَّا جاز باب السلم لاح له الضوء الواني الهابط من أعلى يتحرَّك على الجدران واشيًا بحركة اليد القابضة على المِصباح، فرقيَ على السلم، يدًا على الدرابزين، ويدًا على عصاه التي بعث طرفها دقات مُتتابعة اكتسبت من قديم إيقاعًا خاصًّا غدًا يَنُمُّ عنه كما تَنُمُّ عنه سماته. وعند رأس السلَّم بدت أمينة والمصباح في يدها، حتى إذا انتهى إليها توقف، وصدره يعلو ويَنخفِض ريثما يستردُّ أنفاسه، ثمَّ حيَّاها تحيته الليلية المألوفة قائلًا: مساء الخير.

فغمغمت أمينة، وهي تتقدَّمه بالمصباح: مساء الخير يا سيدي.

في الحجرة هرع إلى الكنبة فتهالك عليها، ثم تخلص من عصاه وخلع طربوشه، وطرح قذاله على المسند مادًّا ساقيه إلى الأمام حتى انحسر جناحا الجبَّة عن قفطانه، وكشف القفطان عن رجلَي سرواله المتداخلتَين في جوربه، وأغمض عينيه وهو يجفف بمنديله جبهته وخدَّيه وعنقَه. على حين كانت أمينة تضع المصباح على الخوان، ثمَّ وقفت تترقب قيامه لتساعده في نزع ثيابه، وهي تنظر إليه باهتمامٍ مشوب بقلق، وتودُّ لو تواتيها شجاعتها فتسأله أن يُعفي نفسه من الدأب على السهر الذي لم تَعُد تنهض به صحَّته بالاستخفاف المعهود قديمًا، ولكنها لم تدرِ كيف تُفصِح عن أفكارها الأسيفة! توالت دقائق قبل أن يفتح عينيه، ثم نزع الساعة الذهبية من قفطانه، والخاتم الماسي؛ فأودعهما داخل الطربوش، ثم نهض ليخلع الجبة والقفطان بمعاونة أمينة، هناك بدا جسمه كالعهد به: طولًا، وعرضًا، وامتلاءً … لولا شُعيرات اغتصبها المشيب من فوديه، وعندما أدخل رأسه في طاقة الجلباب الأبيض غلبه الابتسام فجأةً، إذ ذكر كيف تقيَّأ السيد علي عبد الرحيم الليلة في مجلس الأنس، وكيف جعل يَعتذِر عن ضعفه ببرد أصاب معدته. وكيف تعمَّدوا أن يُعيِّروه به زاعِمِين أنه لم يَعُد يَحتمل الشراب، وأنه ليس كل الرجال مَن يستطيعون مُعاشَرة الخمر إلى نهاية العمر … إلخ إلخ، وذكر كيف غضب السيد علي وجَدَّ في دفع الريبة عنه، يا عجبًا … ألهذا الحد يُعير بعض الناس أهمية لهذه الأمور التوافه؟! ولكن إذا لم يكن ذلك كذلك! فلِمَ فاخر هو في صخب الحديث الضاحك بأنه يستطيع أن يشرب حانة دون أن تَضطرِب له معدة؟

جلس على الكنبة مرة أخرى، ومدَّ ساقَيه للمرأة التي راحت تخلع الحذاء والجورب، وغابت عن الحجرة قليلًا، وعادت بالطست والإبريق، وجعلت تصبُّ له الماء فيَغسل رأسه ووجهه وعنقه ويتمضمض، وأخيرًا تربَّع في جلسته مُستعرِضًا نسمة الهواء التي تهفُو في لطفٍ ما بين المشربية والنافذة المطلَّة على الفناء.

– يا له من صيف فظيع، صيف هذا العام!

فقالت أمينة وهي تَسحب الشلتة من تحت السرير، وتتربَّع بدورها عليها على كثب من قدمَيه: ربنا يلطف بنا (ثم وهي تتنهَّد) الدنيا كلها كوم وحجرة الفرن كوم! السطح هو المتنفَّس الوحيد في الصيف بعد مغيب الشمس.

بدت في جلستها غيرها بالأمس، نحفَت واستطال وجهها، أو لعله تراءى أطول مما هو لِمَا حل بالخدَّين من رقة، وقد انتشر المشيب فيما انحسر عنه منديل رأسها من خصلات، فأضفى عليها رُوح كبر أكثر ممَّا تستحق … وغلظت الشامة في وجنتِها قليلًا، على حين نمَّت عيناها — إلى نظرة الخضوع القديمة — عن شرود مُزِجَ بالحزن، كما اشتدَّت حيرتها لما طرأ عليها من تغيُّر، ولئن كانت قد رحَّبت به بادئ الأمر على سبيل التعزي، إلا أنها أخذت تتساءل في قلق: أليست هي في حاجة إلى صحَّتها ما دام في العمر بقية؟ بلى! والآخرون في حاجة إلى صحتها أيضًا، ولكن كيف يعاد الشيء إلى أصله؟ ثم إنها تقدَّمت سنين، لعلها لم تكن بالكثرة التي تُبرِّر هذا التغيُّر، ولكنَّها مما يترك أثرًا ولا شك.

هكذا كانت تقف في المشربية الليالي المُتعاقِبة تُراقب الطريق من وراء الخصاص، فترى طريقًا لا يتغيَّر، والتغيُّر يدبُّ إليها غير متوانٍ، وعلا صوت النادل في القهوة؛ فتطايَر إلى الحجرة الصامتة كالصدى، فابتسمت وهي تسترق النظر إلى السيد.

ما أحبَّ هذا الطريق الذي يسهر الليالي سامرًا إلى قلبها! إنه الصديق الغافل عن القلب الذي يحبه من وراء خصاص، معالمه ملء نفسها، سُمَّاره أصوات حية تعيش في مسامعها، هذا النادل الذي لا يستكنُّ له لسان، وذو الصوت المبحوح الذي يعقب على حوادث اليوم بلا تعبٍ أو ضجر، وذو الصوت العصبي الذي يتصيَّد بخته في «الكومي» و«الولد»، ووالد هنية الطفلة المصابة بالسُّعال الديكي الذي يسأل عنها فيجيب ليلة بعد أخرى «عند الله الشفاء»، آه .. كأن المشربية ركنٌ من القهوة هي جليسته. كانت ذكريات الطريق تَرتسِم على مُخيلتها وراء عينين لا تُفارقان الرأس المتوسِّد لمسند الكنبة، فلمَّا انقطع التيار تركَّز انتباهها في الرجل؛ فتبيَّنَت في صفحتَي وجهه حُمرة شديدة اعتادت أن تُطالعها في أعقاب الليالي الأخيرة، ولم تكن ترتاح إليها؛ فتساءلت في إشفاق: سيدي بخير؟

فاعتدل رأسه، وهو يتمتم: بخير، والحمد لله (مُستدركًا) ما أفظع الجو!

الزبيب خير مسكر في الصيف .. هكذا قالوا له وأعادوا، ولكنه لا يُطيقه، فإمَّا الويسكي وإلا فلا، عليه إذن أن يُعانيَ خمار سكرة صيف — وصيف شديد — كل ليلة، شدَّ ما ضحك هذه الليل … ضحك حتى كلَّت عُروق عنقه، ولكن فيم كان الضحك؟ لا يكاد يَذكر شيئًا، وليس هنالك شيء يُرْوَى أو يُعاد، ولكنَّ جوَّ المَجلس كان مشحونًا بكهرباء لطيفة؛ بحيث إن أيَّ لمسة كانت تُحْدِث اشتعالًا، فما هو إلا أن قال السيد إبراهيم الفار: «أبحرَ الإسكندرية من سعد اليوم إلى باريس»، وكان يقصد أن يقول: «أبحر سعد من الإسكندرية اليوم إلى باريس» حتى انفجروا ضاحكين، فعُدَّت «نادرة» من نوادر الخمر اللسانية. وابتدروه قائلين: «وسيَمكث في المفاوضة ريثما يستردُّ صحته، ثم يبحر إلى الدعوة تلبية للندن التي تلقاها من» أو «وسينال رامزاي مكدونالد من الاستقلال على الموافقة» و«سيعود حاملًا مصر إلى الاستقلال»، وجعلوا يتحدثون عن المفاوضة المنتظرة، ويعلقون عليها بما يحلو لهم من المداعبات.

حقًّا … إن دنيا الأصدقاء على رحابتها تتلخَّص في ثلاثة: محمَّد عفت، وعلي عبد الرحيم، وإبراهيم الفار، فهل يَستطيع أن يتصوَّر للدنيا وجودًا من دون وجودهم؟ إنَّ إشراق وجوههم بالبِشر الصادق حين رؤيته، سعادة لا تُدانيها سعادة، التقت عيناه الحالمتان بعينَي أمينة المستطلعتَين، فقال وكأنه يُذكِّرها بأمرٍ هامٍّ: غدًا.

فقالت، وقد شاعت في وجهها ابتسامة: كيف أنسى؟!

فقال بشيء من الفخار لم يُحاول مداراته: قيل لي إنَّ نتيجة البكالوريا كانت سيئة هذا العام.

فقالت وهي تُشاركه فخاره بمُعاودة الابتسام: ربنا ينجَّح مقاصده، ويمدُّ في عمرنا حتى نَشهد نجاحه في الدبلوم.

فتساءل: هل ذهبت اليوم إلى السكَّرية؟

– نعم، ودعوتهم جميعًا، وسوف يَحضُرون إلا الست الكبيرة التي اعتذرت بتعبها، فقالت: إنَّ ابنَيها سينُوبان عنها في تهنئة كمال.

فقال السيد، وهو يُومئ بذقنِه صوب جُبَّته: جاءني اليوم الشيخ متولي عبد الصمد بأحجبة لأولاد خديجة وعائشة، ودعا لي قائلًا: «إن شاء الله أعمل لك أحجبة لأولاد أحفادك».

ثم وهو يهز رأسه باسمًا: لا شيء على الله ببعيد، ها هو الشيخ متولي نفسه كالحديد رغم الثمانين …!

– ربنا يمتعك بالصحة والعافية!

فتفكر مليًّا، وهو يعدُّ على أصابعه، ثم قال: لو امتد العمر بأبي — رحمه الله — ما زاد على عمر الشيخ كثيرًا.

– رحم الله الراحلين.

وخيَّم الصمت ريثما ذهب الأثر الذي تركه ذِكر «الراحلين»، ثم قال الرجل بلهجة مَنْ تذكَّر أمرًا هامًّا: زينب خُطبت!

اتسعت عينا أمينة، وهي ترفع رأسها قائلة: حقًّا؟!

– نعم، أخبرني محمد عفت بذلك الليلة.

– مَن؟

– موظف يُدعى محمد حسن، رئيس إدارة المحفوظات بالمعارف.

فتساءلت بوجوم: يبدو أنه مُتقدِّم في السن؟

فقال كالمعترض: كلا، في الحلقة الرابعة، خمسة وثلاثين، ستة وثلاثين … أربعين عامًا على الأكثر.

ثم بلهجة تهكُّمية: جرَّبتْ حظَّها مع الشباب فأخفقت، أعني الشباب الذين لا يرفعون رأسًا، فلتُجرِّب حظها مع الرجال العقلاء.

فقالت أمينة بأسف: كان ياسين بها أولى، على الأقل من أجل خاطر ابنهما.

كان هذا رأي السيد، وعنه دافع طويلًا لدى محمد عفَّت، بيد أنه لم يُعلن موافقته على رأيها؛ مداراة لخيبة مسعاه، فقال متسخِّطًا: لم يَعُد للرجل به من ثقة، والحق أنه غير جدير بالثقة؛ لذلك لم أُلحَّ عليه، لم أقبل أن أستغلَّ صداقتنا في حمله على ما لا خير فيه.

فغمغمت أمينة بشيء من الإشفاق: هفوة شباب لا يَضيق عنها العفو.

هان على السيد أن يعترف بجانب من مسعاه الخائب، فقال: لم أُقصِّر في حقه، ولكني لم أصادف ترحيبًا، وقال لي محمد عفت برجاء: «إن السبب الأول في اعتذاري هو إشفاقي من تعريض صداقتنا إلى الشقاق»، وقال لي أيضًا: «لا أستطيع أن أرفض لك رجاءً، ولكن صداقتنا أعز لديَّ من رجائك» … فأمسكت عن الكلام.

قال محمد عفت هذا حقًّا، ولكنه لم يُصرِّح به إلا مدافعة لإلحاحه، والحق أن السيد كان شديد الرغبة في وصل ما انقطَع من مُصاهرة محمد عفت لمكانته من نفسه، ومكانة أسرته من المجتمع، ولم يكن يطمع في أن يجد لياسين زوجة خيرًا من زينب، ولكنه لم يسعه إلا التسليم بالهزيمة، خاصة بعد أن صارحه الرجل بما يعلم عن حياة ياسين الخاصة، حتى قال له: «لا تَقُل لي إننا نحن أنفسنا لا نختلف عن ياسين، فالحق أننا نَختلف بعض الشيء، والحق أني لا أرتضي لزينب ما ارتضيت لأمها.»

تساءلت أمينة: هل علم ياسين بما كان؟

– سيعلم غدًا أو بعد غد، هل ترينه يكترث لذلك؟ إنه أبعد ما يكون عن تقدير الزيجة المشرِّفة.

فهزت أمينة رأسها أسفًا، ثم تساءلت: ورضوان؟

فقال السيد مقطبًا: سيبقى عند جدِّه، أو يلحق بأمه إن لم يَصبر على فراقها، الله يُحير من حيَّره!

– مسكين يا ربي، أمه في ناحية، وأبوه في ناحية، أتطيق زينب فراقه؟

فقال السيد فيما يشبه الازدراء: للضرورة أحكام (ثم متسائلًا) متى يبلغ السن؟ … ألا تذكرين؟

فتفكَّرت أمينة قليلًا، ثم قالت: إنه أصغر قليلًا من نعيمة بنت عائشة، وأكبر قليلًا من عبد المنعم ابن خديجة، فيكون في الخامسة يا سيدي، سوف يستردُّه أبوه بعد عامين، أليس كذلك يا سيدي؟

قال السيد، وهو يتثاءب: يا ترى من يعيش (ثم مستطردًا) وكان متزوجًا، أعني الزوج الجديد!

– وله أولاد؟

– كلا لم يُنجِب من زوجه الأولى.

– لعل هذا ما حسَّنه في عينَي السيد محمد عفت.

فقال السيد بامتعاض: ولا تَنسَي مقامَه.

فقالت أمينة معترضة: لو أن الأمر أمر مَقام ما عدل بابنك أحدًا، على الأقل من أجلك أنت.

فشعر باستياء حتى لعن في سره — على حبِّه — محمد عفت، ولكنه عاد يجرُّ خطًّا تحت النقطة التي يتعزى بها، فقال: لا تنسَي أنه لولا حرصُه على أن يضع صداقتنا في حرزٍ حريزٍ ما تردَّد عن قبول رجائي.

فقالت أمينة معربة عن نفس الإحساس: طبعًا، طبعًا يا سيدي، إنها صداقة العمر، وليست لهوًا ولعبًا.

عاوده التثاؤب مرة أخرى، فتمتم قائلًا: خذي المصباح خارجًا.

قامت أمينة لتنفيذ أمره فأغمض عينَيه قليلًا، ثم نهض دفعة واحدة كأنما ليُقاوم الكسل، واتجه نحو الفراش فاستلقى عليه … إنه الآن خير حالًا، ما أهنأ الرقاد بعد التعب! أجل، لا يخلو رأسه من نبضٍ قارع، ولكن رأسه لا يكاد يخلو من شيء ما، فليحمد الله على أيِّ حال. الصفاء الكامل ماضٍ مضى، ثمَّة شيء نَفتقده كلَّما خلَونا إلى أنفسنا، ولكنَّه لا يعود، يلوح لنا من الماضي بذكرى شاحبة كهذا الضوء الخافت الذي تشفُّ عنه شُراعة الباب. فليحمد الله على أي حال. وليَنعم بحياة يغبطه عليها الغابطون. الأجدى أن يقطع برأي فيما إذا كان سيَقبل الدعوة أم لا، أو فليدع ما للغد للغد، إلا ياسين … فإنه مسألة الأمس واليوم والغد، ليس صغيرًا مَن بلغ الثامنة والعشرين، وليس المشكل أن يبحث له عن زوجة أخرى، ولكن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. متى تَسطع هداية الله فتملأ الأرض حتى يبهر نورُها الأعين؟ هنالك يهتف من الأعماق أن الحمد لله، ولكن ماذا قال محمد عفت؟ إنَّ ياسين يصُول ويجول في الأزبكية حتى سراديبها … كانت الأزبكية مغنًى آخر حينما كان هو يصول فيها ويجول، وهزَّه الحنين مرات إلى معاودة بعض مشاربها إحياء للذكريات. فليحمد الله على أنه علم بسر ياسين قبل أن يُقدِم، وإلا لضحك الشيطان من أعماق قلبه الهازئ، أوسعوا الطريق للأبناء فقد شبوا، عنها صدك الأستراليون أول الأمر، وأخيرًا هذا البغل الأسترالي.

٢

تتابعت دقَّات العجين من حجرة الفرن في هدأة السحَر مع صياح الدِّيكة. كانت أم حنفي مكبَّة على جرة العجين بجسمها اللحيم، يلُوح وجهُها ريان على ضوء المصباح المنبعث من فوق سطح الفرن، لم ينل الكبر من شَعرها ولا شحمها، ولكن شابت ملامحها جهامة، واخشوشنت قسماتها، وإلى يمينها قعدت أمينة على كرسي المطبخ تفرش ألواح العجين بالردَّة استعدادًا لاستقبال الأقراص، تُواصِل العمل — في صمت — حتى توقفت أم حنفي عن العجن، فاستخرجت يدَها من الجرة، ومسحت على جبينها المبتلِّ بالعرق ببطن مرفقها، ثم لوَّحت بقبضتها المُغطَّاة بالعجين كقفاز ملاكمة أبيض، وقالت: أمامك يا ستي يومٌ شاقٌّ ولكنه لذيذ، كثر الله من أيام السرور.

فغمغمت أمينة دون أن ترفع رأسها عن عملها: علينا أن نُقدِّم مائدة شهية.

فابتسمت أم حنفي، وهي تومئ بذقنها إلى سيدتها، قائلة: البركة في المعلِّمة.

ثم غرست يديها في الجرَّة مرة أخرى، وعادت إلى ملاكمة العجين.

– وددتُ لو قنعنا بتوزيع الثريد على فقراء الحسين.

فقالت أم حنفي بلهجة معاتبة: لن يكون بيننا غريب.

فتمتمت أمينة بصوت لم يخلُ من ضيق: ولكنها وليمة وضجَّة على أيِّ حال، فؤاد بن جميل الحمزاوي نال البكالوريا أيضًا، ولا مَن رأى ولا مَن سمع.

ولكن أم حنفي أصرَّت على المعاتبة، قائلة: ما هي إلا فرصة نجتمع فيها بمن نحب.

كيف تكون مسرَّة دون تأنيب أو توجُّس خيفة؟! قديمًا استخبرت السنين فأجابت بأن تاريخ ابتدائية هذا سيوافق تاريخ ليسانس ذاك، حفلٌ لم يجئ، ونذرٌ لم يُوفَّ. ١٩ … ٢٠ … ٢١ … ٢٢ … ٢٣ … ٢٤ … شباب العمر اليافع الذي حُرمت من احتضان ينعه، من قسمة التراب كان، يا انصداع القلب الذي يُسمُّونه الحسرة!

– ستفرح ست عائشة بالبقلاوة، وتذكر أيام زمان يا ستي.

ستفرح عائشة وأم عائشة ستفرح أيضًا، نهار وليل، وشبع وجوع، ويقظة ونوم، وكأن شيئًا لم يكن. سلي الزعيم الذي زعم بأنك لن تعيشي بعده يومًا واحدًا، عشت لتحلفي بتربته، إذا زُلزل القلب فليس معناه أن تُزلزل الدنيا، كأنه نسيٌ منسيٌّ حتى تُزار المقابر، كنت ملء العين والنفس يا بني، ثم لا يذكرونك إلا في المواسم، أين أنتم يا هؤلاء؟ كلٌّ مشغول بشواغله، إلا أنتِ يا خديجة قلب أمك وروحها حتى وَصيتك يومًا بالصبر، لم تكن كذلك عائشة، مهلًا! لا ينبغي أن أكون ظالِمة، حزنت حزنها كما يَنبغي، كمال لا لوم عليه، رفقًا بالقلوب الغضَّة، بات الأول والأخير، شاب شعرك وصرتِ كالخيال، هكذا تقول أم حنفي، لا كانت الصحة ولا كان الشباب، تُقاربين الخمسين وهو لم يتمَّ العشرين، حبَل ووحم، وولادة ورضاعة، وحُبٌّ وآمال، ثم لا شيء، تُرى هل خلا من الأفكار رأس سيدي؟ دعيه وشأنه، ليس حزن الرجال كحزن النساء. هكذا قولك يا أمي جعل الله الجنة مثواك، يحزُّ في نفسي يا أمي أنه عاد إلى سيرته، كأنَّ فهمي لم يَمُت، وكأن ذكراه قد تبخَّرت، بل يلومني كلما لجَّ بي الحزن، أليس هو أباه كما أنا أمه؟ … يا أمينة يا مسكينة … لا تفتحي صدرك لهذه الأفكار … لو صح أن نحكم على القلوب بقلب الأم لبدت القلوب أحجارًا … إنه رجل وليس حزن الرجال كحزن النساء … لو استسلم الرجال للأحزان لناءت بها كواهلهم المُثقلة بالأعباء، عليك إذا أنستِ منه حزنًا أن تُسرِّي عنه، إنه ركنك يا ابنتي المسكينة. غاب ذلك الصوت الحنون، وصادف فقدُه قلوبًا مُترعة بالحزن فلم يكد يبكيه أحد، وشهد شاهد حكمتها ليلة عاد في أخريات الليل ثملًا، ثمَّ ارتمى على الكنبة مُجهشًا في البكاء، وتمنَّيت ليلتئذ له السلامة ولو بالنسيان الأبدي، أنت نفسك ألا تنسين أحيانًا؟ ثمَّة ما هو أفظع من ذلك، هو تمتُّعكِ بالحياة وحرصُك عليها. هذه هي الدنيا، هكذا يقولون. فتُردِّدين ما يقولون وتؤمنين به. كيف جاز لك — يومًا — بعد هذا أن تَحنقي على ياسين بُرأه ومواصلتَه مألوف الحياة! مهلًا، الإيمان والصبر … سلِّمي إلى الله، فكل ما جاءك من عنده. «أم فهمي» إلى الأبد، سوف أظلُّ ما حييت أمك يا بني وتظل ابني.

تتابعت دقَّات العجن، ففتح السيد عينَيه على نور الصباح الباكر، وراح يتمطَّى ويتثاءب بصوتٍ مرتفع ممطوط، تصاعد كالتذمُّر أو الاحتجاج، ثم جلس في الفراش مُستندًا براحتَيه على ساقَيه الممدودتَين، فبدا ظهرُه مُقوَّسًا وقد نضح أعلى الجلباب الأبيض بالعرق، وجعل يحرك رأسه يمنة ويسرة كأنَّما لينفض عنه وطأةَ الوخم، ثم انزلق إلى أرض الحجرة، ومضى مُتهاديًا إلى الحمام إلى الدش البارد … الدواء الوحيد الذي يُغير عليه بدنه فيُعيد إلى رأسه اتزانها وإلى نفسه اعتدالها، تجرَّد من ثيابه، ولما تعرَّض لرشاش الماء وردت ذهنه ذكرى الدعوة التي وجهت إليه أمس، فخفق فؤاده الذي تلقى الذكرى والإحساس المُنعِش بالماء البارد معًا، علي عبد الرحيم قال: «نظرة إلى الوراء، إلى حبيبات زمان، لا يُمكن أن تمضي الحياة هكذا إلى الأبد، إني أعرَفُ الناسِ بك.» أيُقدِم على هذه الخطوة الأخيرة؟ خمس سنوات مضت وهو يأبى أن يخطوها. أكان تاب إلى الله توبة مؤمن مصاب؟ أم أضمر التوبة وخاف أن يجهر بها؟ أم أطلقها نية صادقة دون تورُّط في التوبة؟ لا يَذكر، ولا يُريد أن يذكر، ليس صغيرًا مَنْ يدنو من الخامسة والخمسين. ولكن ما لِفكرِه قد تقلقل وتزلزل؟ كحاله يوم دُعيَ إلى السماع فلبى، هل يُلبي النداء إلى حبيبات زمان بالمِثل؟ متى يَبعث الحزن ميتًا؟ هل أمرنا الله أن نُهلك أنفسنا وراء مَن نُحبُّهم إذا ذهبوا؟ في عام الحداد والتقشُّف كاد الحزن يقتله قتلًا، عام طويل لم يَذُق فيه شرابًا، ولم يسمع نغمًا، ولم تندَّ عن فيهِ مُلحةٌ حتى شابت شُعيراته … أجل، لم يتسلَّل الشيب إلى شعره إلا في ذلك العام، رغم أنه عاد إلى الشراب والسماع رحمة بالأصدقاء المقرَّبين الذين انقطعوا عن اللذات إكرامًا لحزنه، كذب وصدق، عاد إلى الشراب لنفاد صبره ورحمةً بالأصدقاء الثلاثة، لم يكونوا كالآخرين، وما على الآخرين من ملام، حزنوا لحُزنِك ثم جعلوا يُراوِحون بين مَجلسِك الجاف ومجالسهم الندية، فأيُّ تثريبٍ عليهم! بيد أن الثلاثة المحبِّين أبوا أن يَنالوا من الحياة نصيبًا أوفى مما ارتضَيت لنفسِك، وعدت رويدًا إلى أشياء، إلا المرأة رأيتها كبيرة؛ فلم يُلحُّوا عليك أول الأمر. لشدَّ ما تأبيت وحزنت، لم يُؤثر فيك رسول زبيدة، رددت أم مريم بوقارٍ حزين حازم وأنت تُكابد آلامًا لا قبل لك بها، ظننت أنك لن تعود أبدًا، وخاطبت نفسك المرةَ تلو المرة … «أأعود إلى أحضان الغواني وفهمي في قبضة التراب؟» آه … ما أحوجَنا في ضعفنا وتعاستنا إلى الرحمة! فليُداوم على الحزن مَن يَضمَن ألا يموت غدًا، مَن قائل هذه الحكمة؟ واحد من اثنين: علي عبد الرحيم، أو إبراهيم الفار. محمد عفت بك لا يجود بالحِكَم، رفض رجائي، وزوَّج البنت من رجل غريب، ثم ضحك عليَّ بالقُبَل، لا يُنكر غضبه ويشفق من أن يطالعني به كما وقع قديمًا، لله هو أيُّ وفاء وأيُّ ودٍّ! أتذكَّر كيف امتزج دمعه بدمعك في القرافة؟ ولكنه القائل فيما بعد: «أخاف عليك الكبر إن لم تفعل … تعالَ إلى العوامة.» ولما آنس تردُّدًا قال: «لتكن زيارة بريئة … لن يُجرِّدك أحد من ملابسك ويرميك على امرأة.» لم أحزن قليلًا عَلِمَ الله، بموته مات جزء جسيم منِّي، مات أملي الأول في الدنيا، مَنْ ذا يلومني على الصبر والعزاء؟ قلبي جريح وإن ضحك! تُرى، كيف هنَّ؟ ماذا فعل بهنَّ الزمان في خمسة أعوام؟ خمسة أعوام طوال؟

•••

كان شخير ياسين أول ما تلقَّى كمال من عالم اليقَظة، فلم يَتمالَك أن يُناديَه وهو إلى مُعاكسته أرغب منه إلى إيقاظه في ميعادِه، ولاحقه بصوته غير متوان، حتى ردَّ عليه الآخر بصوت كالنزع تشكِّيًا وتذمرًا، ثمَّ تقلب بجسمِه الضخم فطقطق الفراش فيما يشبه الأنين، والتوجع، ثم فتح عينين حمراوَين وتأوَّه.

لم يكن ثمَّة — في رأيه — ما يدعو إلى هذه العجلة ما دام أحد منهما لن يذهب إلى الحمام قبل عودة الأب منه. لم يعد من اليسير استعمال حمَّام الدور الأول منذ قضى التنظيم الجديد للبيت — منذ خمسة أعوام — بنقل الحجرات إلى الدور الأعلى فيما عدا حجرة الاستقبال والصالة المتصلة بها التي فُرِشَت بأثاث بسيط باعتبارها مَدخلًا لها، ومع أن ياسين وكمال لم يُرحِّبا — قط — بالإقامة مع الأب في دور واحد، إلا أنهما لم يَجِدا بدًّا من احترام الرغبة في مقاطعة الدور الأول الذي لم تعد تدخله قدم إلا حين يُلم بالبيت زائر. أغمض ياسين عينيه، ولكنه لم ينَم، لا لأن معاودة النوم كانت عبثًا فحسب، ولكن لأنَّ صورةً انبعثت في خياله فأشعلت إحساسه … وجه مُستدير، تتوسَّط صفحته العاجية عينان سوداوان. مريم! فاستجاب لداعي الأحلام … واستسلمَ لتَخدير ألذَّ من تخدير المنام.

قبل أشهر معدودات، لم تكن بالنسبة إليه موجودةً قط، وكأنها لم تكن، حتى سمع أم حنفي تتحدَّث — ذات مساء — إلى امرأة أبيه، فتقول: «أما سمعتِ بالخبر يا ستي؟ … ست مريم طُلِّقت من زوجها وعادت إلى أمها.» هنالك عاوده ذكر مريم، وفهمي، والجندي الإنجليزي صديق كمال وإن غاب عنه اسمه، ثم ذكر بالتالي اهتمامه القديم بشخصيتها الذي جاش بها صدره عقب ذيوع الفضيحة، وما يدري إلا وقد أضاءت فجأةً في نفسه لوحة مُعبِّرة، كما تُضيء الإعلانات الكهربائية في الليل، سطر عليها «مريم … جارتك … الجدار لصق الجدار … مطلقة … ذات تاريخ، وأي تاريخ … أبشر.» ولكنه ما لبث أن جفل من نفسه؛ لأنَّ اقترانها بذكرى فهمي صدَّه وآلمَه وأهاب به أن يغلق هذا الباب وأن يُحكم إغلاقه، وأن يندم — إن كان ثمة ندم — على فكرة خفية عابِرة. صادفها بعد ذلك في الموسكي مع أمها، فالتقَت الأعين على سهوة، ولكن سرعان ما لاح فيها العرفان، ونمَت بسمات لا تكاد تُرى بالعين المجرَّدة عن عرفانها، فتحرَّك قلبه، تحرَّك للعرفان — فحسب — أول الأمر، ثم للطيف الأثر الذي خلَّفَه وجه عاجي مَكحول العينَين، وجسم نابض بالفتوَّة والحيوية، ذكره بزينب في إبانها … فمضى إلى طيته مُتفكِّرًا هائجًا. غير أنه بعد خطوات، أو حال هبوطِه إلى قهوة أحمد عبده، هفت عليه ذكرى مُحزنة بعثت في قلبه الشجن، بعث فهمي في خياله بشتَّى ذكرياته: صورته وأماراته، وأسلوبه في الحديث والحركة؛ ففتر وجدُه وباخ، وغشيَه حزنٌ غليظ. يجب أن ينتهي كل شيء … لِمَ؟

عاد يتساءل بعد ساعة، أو بعد أيَّام، فكان الجواب: فهمي … أية علاقة بين الاثنين؟ ودَّ يومًا أن يخطبها، ولِمَ لَمْ يفعل؟ … أبوك لم يوافق. فقط؟ … هذا في الأقل أصل المسألة. ثم؟ جاءت فضيحة الإنجليزي، فمحت ما بقي من أثر باهت … أثر باهت؟ … أجل؛ لأنه على الأرجح كان نسيَ، إذن نسيَ أولًا، ونبذ أخيرًا؟ نعم، فأية علاقة هنالك؟ … لا علاقة. ولكن! … أعني شعور الأخوَّة، هل يُمكن أن يرقى شكٌّ إلى شعورك؟ … كلا، وألف مرةٍ كلا. الفتاة تستحق …؟ … نعم، وجهًا وجسمًا؟ … وجهًا وجسمًا فما انتظارك؟

في النافذة كان يَلمحها حينًا بعد حين، ثم فوق السطح … فوق السطح مرات، ومرات.

لِمَ طُلِّقت؟ … لسوء في خلق زوجها، فيكون الطلاق من حسنِ حظِّها. أو لسوء في خلقها، فيكون الطلاق من حسن حظك أنت.

– قم وإلا غلبك النوم.

فتثاءب وهو يتخلَّل شعره الملهوج بأصابعه الغلاظ، ثم قال: يا بختك بعطلتك المدرسية الطويلة.

– ألم أستيقظ قبلك؟

– ولكن بوسعك أن تواصل النوم إذا شئت.

– لا أشاء كما ترى.

ضحك ياسين ضحكة لا معنى لها، ثم تساءل: ما اسم الجندي الإنجليزي صديقك القديم؟

– أوه … جوليون!

– أجل جوليون!

– ما الذي دعاك إلى السؤال عنه؟

– لا شيء!

لا شيء؟ ما أسخف لساننا! أليس ياسين خيرًا من جوليون؟ في الأقل جوليون عابرٌ وياسين مقيم، في وجهها شيء يَبتسِم إليك دوامًا، ألم تُلاحظ مُثابرتك على الظهور فوق السطح؟ بلى، وذكر جوليون، ليست ممَّن يفوتهن معنى، ردت تحيتك. أول مرة أدارت رأسها باسمة، في المرة الثانية ضحكت. ما أجمل ضحكتها! في الثالثة أشارت إلى أسطح البيوت مُحذِّرة، سأعود بعد الغروب، هكذا قلت في جرأة، ألم يُرسل جوليون إشارته من الطريق العام؟

– لشدَّ ما أحببت الإنجليز في صغري، انظر كيف أمقتُهم الآن مقتًا.

– سعد بطلك سافر ينشد صداقتهم.

هتف كمال بحدة: والله لأبغضنَّهم ولو وحدي.

وتبادَلا نظرة أسًى صامتة، تَناهى إليهما وقع قبقاب السيد وهو راجع إلى حُجرته مُبسملًا مُحوقلًا، فانزلق ياسين إلى الأرض، وغادر الحُجرة وهو يَتثاءب.

تقلَّب كمال على جنبِه ثم استلقى على ظهره مُسترخيًا، وثنى ساعديه شابكًا راحتَيه تحت رأسه، ومضى يَنظُر فيما أمامه بعينَين لا تَريان شيئًا … لتسعد بك رأس البر، لم تُخلق بشرتك الملائكية لتَصلى حر القاهرة، فلتَطِب بمَوطئ قدمَيك الرمال، وليهنأ بمشهدك الماء والهواء. سوف تُشيدين بالمصيَف، وعيناك تنطقان بالمسرة والحنين، فأتطلَّع إليهما بقلبٍ مشوق وعين تُسائل الغيب — في حسرة — عن المكان الذي استَهواك فاستحق عن جدارة رضاك … ولكن متى تعودين؟ ومتى يَنسكِب في أذني تَغريدك المسحور؟ كيف المصيف؟ ليتَني أدري … قيل إنه حرية كالهواء، ولقاء بين أحضان الماء، وأهواء بعدد حبَّات الرمال … وخلقٌ كثيرون يحظون بمُحيَّاك … أما أنا … أنا الذي خفقات قلبه تئن لشكاتها الجدران؛ فأتلظَّى في سعير الانتظار. هيهات! أن تنسَي وجهك المنطلق بالبشر وأنت تغمغمين: «سنُسافر غدًا … ما أجمل رأس البر!» ولا اكتئابي وأنا أتلقَّى نذير الفراق من ثغر يومض بسَنا السرور، كمن يتلقى السمَّ مدسوسًا في طاقة من الزهر الفواح، ولا غيرتي من الجهاد الذي قَدرَ على إسعادك حين عجزتُ، وحظيَ بمَودَّتِك حين حرمت. ألم تلحَظي حين الوداع اكتئابي؟ كلا، لم تلحَظِي شيئًا، لا لأني كنتُ واحدًا بين كثيرين، ولكن لأنك يا حبيبة لا تلحظين … كأنما كنتُ شيئًا لا يسترعي انتباهك … أو كأنما أنتِ مخلوق بديع غريب، استوى فوق الحياة يُطالعنا من علُ بعينين هائمتين في ملكوتٍ لا ندريه. هكذا وقفنا وجهًا لوجه … أنت شعلة من سعادة سادرة، وأنا رماد مِن وجوم وكآبة … تحظَين بحرية مُطلَقة أو تُذعِنين لسنن فوق مَداركنا. وأنا أدور في فلكك مجذوبًا بقوة هائلة … كأنكِ الشمس، وكأنَّني الأرض، هل وجدت عند الشاطئ حرية لم تَنعَمي بها في مغاني العباسية؟ كلا، وحق قدرك عندي … لستِ كالأخريات … في حديقة القصر والطريق، آثار عاطرات لقدمَيك … وفي قلب كل صديق ذكريات وآمال … آنسة سهلة ممتنعة، تطوف بنا على غير مثال، كأن الشرق قد استوهبها الغرب في ليلة القدر … أيُّ جديد من الجود ترى تهَبِين إذا امتدَّ الشاطئ، وترامى الأفق، واكتظَّ الساحل بالمُعجَبين؟ أيُّ جديد يا أملي وحسرتي؟ القاهرة في غيبتك خواء تَنضح كآبة ووحشة، كأنها عُكارة الحياة والأحياء … ثمة مناظر ومعالم، ولكنها لا تُخاطب وجدًا، ولا تُحرِّك قلبًا، كأنها عاديات الدنيا وذكرياتها في قبرٍ فرعوني لم يُفضَّ … ما من مكان بها يعدُني بعزاء أو تسلية أو مسرَّة. إخالني حينًا مختنقًا، وحينًا سجينًا، وحينًا مفقودًا ضالًّا غير مفتقَد. يا عجبًا! أكان وجودك يُنيل أملًا أفقَدنيه البعاد؟ كلا يا قضائي وقدري، ولكنكِ كالأُمنية؛ الاستظلال بجناحها برد وسلام وإن اعتصمت بالمحال، هل يُغني المشتاق المُتطلِّع إلى ظلمة السماء معرفته. إن البدر يسطع فوق المكان الآخر من الأرض؟ … كلا، وإن لم يدرِ للبدر امتلاكًا، إنما أطمع إلى الحياة في صميمها ونشوتها ولو بفادح الألم. بل أنت حالَّة فيما خفق الفؤاد، والفضل لهذا المخلوق السِّحري: الذاكرة، عن إعجازها غفلت حتى عرفتك، اليوم أو غدًا أو بعد دهر في العباسية، أو رأس البر، أو في أقصى الأرض لن تبرح مخيَّلتي عيناك السوداوان الساجيتان، وحاجباك المقرونان، وأنفك السوي اللطيف، ووجهك البدري الخمري، وجيدك الطويل، وقامتك الهيفاء، وما شئتِ مِن سِحر يَكتنفك مُزريًا بكل وصف، مُسكرًا كعرف الفلِّ والياسمين، لأملكن هذه الصورة ما ملكت الحياة، وبعد الحياة لتُقوضنَّ عوائق وموانع فيكون المصير إليَّ … إليَّ وحدي بما أحببت هذا الحب كله … وإلا فخبِّريني عن معنًى لهذه الحياة يُنشَد، أو عن طعم للخلود يرام. لا تزعم أنك سبرت جوهر الحياة إلا أن تحب، السمع والبصر والذوق والجد واللهو والمودة والظفر مسرات تهوى عند من فعم الحب قلبه، من أول نظرة يا قلبي. ما ارتدت عنها عيناي حتى آمنت بأنها زيارة مقيم لا زيارة عابر، لحظة خاطفة حاسمة، ولكن في مثلها تخلق الأرواح في الأرحام، وتُزلزل الأرض … رباه لم أَعُد أنا … قلبي تلاطمه جدران الأضلع، أسرار السحر تنفث معانيها، العقل يتمادى حتَّى يمس الجنون، اللذة تسطع حتى تعانق الألم، أوتار الوجود والنفس تجود بالنغم المكنون، دمي يَصرُخ مستغيثًا لا يدري مِمَّ يَستغيث، الأعمى يبصر، والكسيح يسير، والميت يحيا، حلَّفتكِ بكل عزيز ألا تذهبي أبدًا، أنتَ يا إلهي في السماء، وهي في الأرض. آمنت بأن ما مضى من حياتي كان تمهيدًا لبشارة الحب، لم أَمُت صغيرًا، ولم ألحق بمدرسة غير فؤاد الأول، ولم أُصادق أول ما صادقت من تلاميذها إلا حسين ولم … ولم … كل أولئك كي أُدعى يومًا إلى قصر آل شداد، يا لَلذكرى! يكاد القلب من وقعها يُقتلَع، كنت وحسين وإسماعيل وحسن مُنهمِكين في شتى الأحاديث حين ورد مسامعنا صوت رخيم مُحيِّيًا، التفتُّ وأنا من الذهول في غاية … مَن تكون القادمة؟ … كيف لفتاة أن تَقتحم على غرباء مجلسهم؟ … ثم سرعان ما انقطعت عن التساؤل … وتناسَيت التقاليد جميعًا … وجدتُني حيال مخلوق لا يُمكن أن يكون من هذه الأرض جاء، بدت وكأنها صديقة للجميع إلَّاي، فقال حسين يُعارف بيننا: «صديقي كمال، أختي عايدة»، ليلتئذ عرفتُ لِم خُلقت … لِمَ لَمْ أَمُت … لمَ دفعتني المقادير إلى العباسية، وحسين، وقصر آل شداد. متى كان ذلك؟ كان الزمان نسيًا منسيًّا، وا أسفاه! إلا اليوم، كان يوم الأحد … عطلة مدرستها الفرنسية الذي صادف عطلة رسمية لعلَّها مولد النبي، وعلى اليقين كانت مولدي أنا، ما قيمة التاريخ؟ سحر التقويم أنه يوهمنا بأنَّ الذكرى تُبعث حية وتعُود، ولو أنَّ شيئًا لا يعود، لن تَفتأ تجدُّ في البحث عن التاريخ، ولن تفتأ تُردِّد: مطلع السنة الثانية بالمدرسة … أكتوبر، نوفمبر، حين زيارة سعد للصعيد، وقبل نفيه للمرة الثانية … مُستخبرًا الذاكرة والشواهد والأحداث، وليس إلا أنك تتشبَّث تشبُّث اليائس باستعادة سعادةٍ مَفقودة وعهد مضى إلى الأبد. لو مددت يدك عند التعارف كما كدت لصافحتك فعرفت مسَّها، وهو ما تتخيَّله حينًا بعد حين بشعور ملؤه الشك والهيام، كأنما هي مخلوق غير جسماني لا مسَّ له … وهكذا ضاعَت فرصة كالحلم كما ضاع الزمان، ثم أقبلت على صديقَيك تُحادثهما ويحادثانها — بغير كلفة — وأنت قابع في مقعدك تحت الكشك تكابد حيرة المتشبِّع بتقاليد حي الحسين، حتى عدت تتساءل: تُرى أهي تقاليد خاصة بالقصور، أم نفحة من باريس التي نشأ المعبود بين أحضانها؟ … ثم تستغرق في رخامة الصوت، وتستطعم نبراته، وتَنتشِي بتغريده، وتمتلئ بكل حرف يند عنه، ولعلك — يا مسكين — لم تُدرك وقتها أنك تولد من جديد، وأنك كالوليد سوف تستقبل دنياك الجديدة بالارتياع والدموع. وقالت ذات الصوت الرخيم: «سنَذهب هذا المساء لمشاهدة الغندورة.» فسألها إسماعيل باسمًا: «أتحبِّين منيرة المهدية؟» فتردَّدت كما ينبغي لآنسة نصف باريسية، ثم أجابت: «ماما تُحبها»، ثم اشترك حسين وإسماعيل وحسن في حديث عن منيرة وسيد درويش وصالح وعبد اللطيف البنا، ثم ما أدري إلا والصوت الرخيم يسأل: «وأنت يا كمال، ألا تحب منيرة؟» أتذكر ذلك النداء الذي نزل على غير انتظار؟ أعني أتذكر النغمة الطبيعية التي تجسمها؟ لم يكن قولًا، ولكن نغمًا وسحرًا استقر في الأعماق كي يغرد دومًا بصوت غير مسموع، ينصب فؤادك إليه في سعادة سماوية لا يدريها أحد سواك، كم روعك وأنت تتلقاه، كأن هاتفًا من السماء اصطفاك فردد اسمك، سقيت المجد كله، والسعادة كلها، والامتنان كله في نهلة واحدة، وددت بعدها لو تهتف مستنجدًا: «زملوني … دثروني»، ثم أجبت وإن كنت لا أذكر بماذا أجبت، لبثت دقائق ثم ودعتنا ومضت، في عينيها السوداوين نظرة أنيقة، تنمُّ إلى جمالها الفاتن عن صراحة محبَّبة وجرأة مصدرها الثقة — لا الاستهتار أو القحة — وترفُّع مروع، كأنما تجذبك وتدفعك معًا … جمالها فتنة لا أدرك له كنهًا ولا أدري له شبهًا، وكان يُخيل إليَّ كثيرًا أنه ليس إلا ظلًّا لسحر أعظم يكمن في شخصها … من أجل أيِّ هذين أحبها؟ … كلاهما لغز، ولغز ثالث هو حبي. يتراجع ذلك اليوم كل يوم يومًا إلا أن ذكرياته ناشبة في قلبي أبدًا. لبناتها مكان وزمان وأسماء وصحاب وأحاديث، يتقلَّب القلب في جنباتها نشوان حتى يخال أنها الحياة جميعًا، فيتساءل فيما يشبه الشك: هل كانت ثمَّة وراء ذلك حياة؟ … هل حقًّا مضى زمن قبلها خلا من الحب قلبي، وأقفرت من تلك الصورة الإلهية نفسي؟ ربما أسكرتك السعادة حتى تحزن على ما ضاع من ماضٍ جديب، وربما لسعك الألم حتى تذوب حسرات على السلام الذي ولَّى، وبين هذا وذاك لا يجد قلبك إلى الاستقرار سبيلًا، فيمضي مُلتمسًا الشفاء في شتَّى العقاقير الروحية، يستمدها من الطبيعة آنًا، ومن العلم آنًا، ومن الفن حينًا، وفي العبادة أحيانًا كثيرة … قلب استيقظ فانطلقت من صميمِه شهوة مولعة بالمسرات الإلهية … أيها الناس، حبوا أو موتوا … لسان حالك وأنت تسير مَزهوًّا فخورًا بما تحمل بين جنبَيك من نور الحب وأسراره … يَزدهيك علو فوق الحياة والأحياء، ويصل أسبابك بالسموات جسر مفروش بورود السعادة، وأنت أنت الذي تخلو حينًا آخر إلى نفسك فتطغى عليك حساسية أليمة مريضة بإحصاء النقائص وتقصيها بلا رحمة في كائنك الصغير، ودنياك المتواضِعة، وهناتك الآدمية … رباه، كيف تُخلَق نفسك من جديد؟ هذا الحب طاغية يتيه فوق كافة القيم، وفي ركابه يتألق معبودك، لا تُكمله الفضائل، ولا تنقصه المثالب، النقيصة تلوح في تاجه الدري حُسنًا يشغلك إعجابًا، هل أزرى بها في نظرك أن تخرج على التقاليد المرعية؟ كلا، بل إنَّ خروجها بالتقاليد المرعيَّة أزرى، يطيب لك أحيانًا أن تسأل نفسك: ماذا تروم من حبِّها؟ أجب بكل بساطة: أن أحبَّها، أيجوز أن تنبثق في النفس هذه الحياة كلها ثم يتساءل عن غاية وراءها؟ لا شيء وراءها، العادة هي التي ربطت بين لفظَي الحب والزواج، ليسَت فوارق السن والطبقة هي وحدها التي تجعل من الزواج غاية مُستحيلة في مثل حالي، ولكنه الزواج نفسه، بما يَستنزل الحب من سمائه إلى أرض العقود والعرق … ويسألك الذي يأبى إلا أن يُحاسبك، بمَ جادَت عليك لقاء التهالك في حبِّها؟ أجبه بلا تردُّد: ابتسامة فاتنة، و«يا كمال» الغالية، وزيارتها للحديقة في الأوقات السعيدة النادِرة، وترائيها مع الصباح الندي، وسيَّارة المدرسة تمضِي بها، ومعابثتها الخيال في سبحات اليقظة وتهويم الأحلام، ثم تسألك النفس الطمَّاعة المجنونة: «أمن المحال أن يكون المعبود مشغولًا بأمر عابده؟ … أجبها غير مستسلم لإغراء الآمال الكواذب: حسن أن يذكر عند العودة اسمنا …»

– بسرعة إلى الحمَّام، هل تأخَّرت؟

مالت عينا كمال — وقد لاح فيهما رجع المفاجأة — إلى ياسين الذي عاد إلى الحجرة وهو يُنشِّف رأسه بالفوطة، ثم وثَب إلى الأرض فبدا فرعه الطويل نحيفًا، وألقى نظرة طويلة على المرآة كأنما يتفحَّص رأسه الضخم، وجبينه البارز، وأنفه الذي تراءى لكبره وقوَّته كأنه منحوت من الجرانيت، ثم تناول فوطته من على شباك السرير ومضى إلى الحمام.

وكان السيد أحمد قد فرغ من الصلاة، فعلا صوته الغليظ بالدعاء المُعتاد للأولاد ولنفسِه، سائلًا الله الهداية والستر في الدارَين … وفي أثناء ذلك كانت أمينة تعدُّ المائدة، ثم ذهبَت إلى حجرة السيد، فدعته — بصوتها الوديع — إلى تناول الفطور، واتجهت إلى حجرة ياسين وكمال فكررت الدعوة.

اتَّخذ الثلاثة أماكنهم حول الصينية، وبسمل الأب وهو يَتناول رغيفًا معلنًا بدء الأكل، فتبعه ياسين ثمَّ كمال، على حين وقفت الأم وقفتها التقليدية إلى جانب صينية القلل. كان مظهر الأخوين يدلُّ على الأدب والخشوع، ولكن خلا قلباهما — أو كادا — من الخوف الذي كان يركبهما — قديمًا — في حضرة الأب، ياسين: لأنَّ بلوغه الثامنة والعشرين منحه امتيازًا من امتيازات الرجولة، وضمانًا ضد الإهانات الجارحة والاعتداءات التعيسة. وكمال: لأن بلوغه السابعة عشرة، وتقدُّمه في الدراسة وهباه نوعًا من الضمان أيضًا إلا يكن بقوة ضمان ياسين، فإنه لم يخلُ من العفو والتسامح على الأقل في الهفوات التافهة، إلى أنه آنس من أبيه في السنوات الأخيرة أسلوبًا من المعاملة تخفَّف من البطش والإرهاب بدرجة محسوسة. ولم يكن من النادر أن يدور حديث مقتضب بين الآكلين بعد أن كان الصمت يتحكَّم في مجلسهم تحكمًا مخيفًا، إلا أن يسأل الأب أحدهم فيجيب بعجلة ولهوَجة ولو بفمٍ مُمتلئ بالطعام، أجل لم يَعُد غريبًا أن يخاطب ياسين أباه، فيقول مثلًا: «زرت أمس رضوان في بيت جده، وهو يُقرئكم السلام ويقبِّل يدكم.» فلا يَعُدُّ السيد الخطاب جرأة غير محمودة، ولكنه يقول له ببساطة: «ربنا يحفظه ويرعاه.» … ولا يبعد عند ذلك أن يَتساءل كمال بأدب، مُحدِثًا بذلك تطورًا خطيرًا في علاقته التاريخية بأبيه: «متى يستحق رضوان شرعًا لأبيه يا بابا؟» فيُجيبه السيد: «عندما يبلغ السابعة.» بدلًا من أن يصيح به: «اخرس يا ابن الكلب.» طاب لكمالٍ يومًا أن يتعرَّف على تاريخ آخر شتمة تلقاها من أبيه، حتى تذكر أنه كان ذلك قبل عامين على وجه التقريب أو بعد حبه — الذي غدا يؤرخ به — بعام، إذ شعر وقتذاك بأن مصادقته لشبان من طراز حسين شداد وحسن سليم وإسماعيل لطيف؛ تتطلب زيادة كبيرة في مصروفه كي يتأتَّى له مجاراتهم في لهوهم البريء، فشكا أمره إلى أمه راجيًا إياها أن تخاطب أباه في شأن الزيادة المأمولة، ومع أنَّ مخاطبة الأب — في مثل هذا الأمر — لم تكن يسيرة على الأم، إلا أنها هانت بعض الشيء بتغير معاملته لها عقب وفاة فهمي، فحدَّثتْه منوِّهة بعلاقة جديدة مُشرِّفة لابنها بأصدقاء من «الأكابر»، وعند ذاك دعا السيد كمال، وصبَّ عليه غضبه، حتى صاح به: «هل ظنَنتني تحت أمرك أو أمر أصحابك؟ … ملعون أبوك وأبوهم.» فغادره كمال خائب الرجاء، وقد ظن أن الأمر انتهى عند ذاك … ولكنه ما يدري إلا والرجل يسأله عن هوية أصدقائه على مائدة إفطار اليوم التالي، وما إن سمع اسم حسين عبد الحميد شداد، حتى سأله باهتمام: «من العباسية صاحبك؟» فأجاب كمال بالإيجاب، وقلبه يَخفق. فقال السيد: «كنتُ أعرف جدَّه شداد بك، وأعرف أيضًا أن أباه عبد الحميد بك كان مبعدًا في الخارج لسابق علاقته بالخديو عباس … أليس كذلك؟» فأجاب كمال بالإيجاب مرة أخرى، وهو يغالب وجده الذي أهاجه الحديث عن والد معبودته، وذكر لتوِّه ما علم عن الأعوام التي قضتْها الأسرة في باريس، حيث ترعرعت معبودته في نور مدينة النور. فما تمالك أن شعر نحو أبيه بإجلال وإكبار جديدَين ومودَّة مُضاعَفة، وعد معرفته لجدِّ معبودته رُقية سِحرية تنسبه — ولو من بعيد — إلى منزل الوحي ومبعث السنا، ثم ما لبثت أمه أن زفت إليه بشرى موافقة والده على مضاعفة مصروفه.

منذ ذلك اليوم لم يتعرض لشتمة جديدة، إما لأنه لم يَرتكِب ما يستوجبها، وإما لأن أباه رأى أن يعفيه من الشتم إطلاقًا … وقف كمال إلى جانب أمه في المشربية يُشاهدان السيد أحمد في الطريق، وهو يردِّد — في وقار ولطف — تحيات عم حسنين الحلاق، والحاج درويش بائع الفول، والفولي اللبان، وبيومي الشربتلي، وأبو سريع صاحب المقلى، ثم رجع إلى الحجرة حيث وجد ياسين واقفًا أمام المرآة يتأنَّق في عناية وصبر، جلس على كنبة بين السريرَين، وراح يتأمل جسم أخيه الطويل البدين، ووجهه المورِّد المُكتنز بنظرة باسمة غامضة، كان يكنُّ له حبًّا أخويًّا صادقًا، بيد أنه لم يكن يستطيع — كلَّما أنعم فيه الفكر أو النظر — أن يُقاوم شعورًا خفيًّا بأنه حيال «حيوان أليف جميل» على رغم أنه أول من هزَّ أوتار أذنَيه بأنغام الشعر ونفثات القصص، ربما تساءل، تساؤل مَن يرى في الحب جوهر الحياة والرُّوح، أَمِن المُمكِن أن يتصوَّر ياسين عاشقًا؟ فيتمثَّل الجواب ضحكة باطنية أو منطلقة، أجل ما للحب وهذه الكرش المُترعة! ما للحب وهذا الجسم اللحيم! ما للحبِّ وهذه النظرة الشهوانية الساخِرة! ثم لا يَتمالك أن يجد نحوَه إحساسًا بالازدراء المُلطف بالعطف والود، وإن لم يخلُ أحيانًا — خاصة في الأوقات التي تَعتري حبه فيها نوبة من نوبات الألم والهبوط — من عاطفة إعجاب بل حسَد. كذلك بدا ياسين لعينَيه أبعد ما يكون عن عرش الثقافة، الذي بوَّأه إياه قديمًا حينما كان يظنُّه عالمًا ساحرًا مالكًا لفنون الشعر والقصص، تكشَّف له قارئًا سطحيًّا يَقنع من وقت مجلس القهوة ببضع ساعة يتنقل فيها بلا جهد أو عناء بين الحماسة وقصة من القصص قبل انطلاقه إلى قهوة أحمد عبده، حياة عاطلة من بهاء الحب وأشواق المعرفة الحقيقية، وإن كنَّ لصاحبها حبًّا أخويًّا لا تشوبه شائبة … لم يكن كذلك فهمي، كان مثله الأعلى في الحب والعقل، ولكنه بدا أخيرًا كالمتخلِّف بعض الشيء عما يطمح إليه، أجل ساوَرَه شكٌّ يُقارب اليقين في أن فتاة كمريم يمكن أن تبعث في النفس حبًّا حقيقيًّا كالحب الذي يضيء به نفسه. كما ارتاب في أن تضاهي الثقافة القانونية التي نزع إليها أخوه الراحل المعرفة الإنسانية التي يتشوَّقها بكل قوة نفسه. كان يتأمل من حوله بعين تَنفتح على التأمُّل والنقد، وذهب في ذلك كل مذهب، إلا أنه وقف عند عتبة أبيه لا يجرؤ على أن يرفع قدمًا، لاح الرجل لعينَيه شيئًا هائلًا يتربع على عرشه فوق النقد.

– أنت اليوم عريس، اليوم عيد من أعيادك الظافرة. أليس كذلك؟ لولا نحافتك ما وجدت ما أؤاخذك عليه.

قال كمال مبتسمًا: إني راضٍ عنها.

ألقى ياسين على صورته نظرة أخيرة، ثم وضع الطربوش على رأسه وأماله يمنةً بعناية حتى أوشك أن يمسَّ حاجبَه، ثم قال وهو يتجشَّأ: أنت حمار كبير يَحمِل البكالوريا، تمتَّع بالطعام والراحة فهذه هي العطلة، كيف تسول لك نفسك أن تقرأ في العطلة أضعاف ما تقرأ في عامك الدراسي؟! اللهم إني بريء من النحافة وأصحابها.

ثم وهو يغادر الغرفة والمنشة العاجية في يده: لا تنس أن تختار لي قصة جيدة، مثل: «باردليان» و«فوستا»، هه؟ مضى زمن كنت تستجديني فصلًا من رواية، هاك زمنًا أغبر أشحذك فيه القصص.

ارتاح إلى الوحدة التي يخلو فيها إلى نفسه، فنهض وهو يغمغم: من أين له بالبدانة والقلب لا ينام؟ لم تكن تحلو له الصلاة إلا خاليًا، صلاة بالجهاد أشبه، ويشترك فيها القلب والعقل والروح، جهاد من لا يضنُّ بجهدٍ للفوز بالضمير الطاهر النقي، ولو لاحق نفسه بالحساب تلو الحساب على الهفوة والخاطرة … أما الدعاء في أعقاب الصلاة، فلها، لها وحدها.

٣

عبد المنعم : الفناء أوسع من السطح، ولا بد أن نُزيح الغطاء عن البئر لنرى ما فيها …
نعيمة : ستغضب ماما وخالتي وجدتي …
عثمان : لن يرانا أحد …
أحمد : البئر فظيعة، ويموت مَنْ ينظر فيها.
عبد المنعم : نرفع الغطاء، ثمَّ ننظر من بعيد، (ثمَّ بصوت مُرتفع): هيا بنا نَنزل.
أم حنفي (معترضة باب السطح) : لم يبقَ فيَّ حيل للنزول والطلوع، قلتُم نطلع السطح فطلعنا السطح، وقلتم ننزل الفناء فنزلنا إلى الفناء. نطلع السطح مرة ثانية فطلعنا السطح مرة ثانية، ماذا تريدون من الفناء؟ الجو حار تحت. أما هنا فالنِّسمة جارية، وعما قليل تغيب الشمس.
نعيمة : سيرفعون غطاء البئر لينظروا فيها.
أم حنفي : سأنادي ست خديجة وست عائشة.
عبد المنعم : نعيمة كذابة، لن نرفع الغطاء، ولن نقترب منه، سنلعب في الفناء قليلًا ثم نعود، ابقَي هنا حتى نعود.
أم حنفي : أبقى هنا! رجلي على رجلكم، الله يهديكم، ليس في البيت كله مكان أجمل من السطح، انظروا إلى هذا البستان!
محمد : نامي لأركبك.
أم حنفي : كفاية ركوب، اختر لنفسك لعبة أخرى، الله، الله، انظروا إلى الياسمين واللبلاب، انظروا إلى الحمام.
عثمان : أنت قبيحة كالجاموسة، ورائحتك نتنة.
أم حنفي : الله يسامحك، عرَقي سال من الجري وراءكم.
عثمان : خلينا نر البئر ولو شوية صغيرة.
أم حنفي : البئر ملأى بالعفاريت، ولذلك سدَدْناها.
عبد المنعم : كذابة، لم تَقُل ماما ولا خالتي هذا.
أم حنفي : الحقيقة عندي أنا، أنا وستي الكبيرة، كنا نراهم رؤية العين، فانتظرنا حتى دخلوا، وألقينا على فوهة البئر الغطاء الخشبي وأثقلناه بالحجارة. لا تذكروا البئر، وقولوا معي: «بسم الله الرحمن الرحيم» …
محمد : نامي لأركبك.
أم حنفي : انظروا إلى اللبلاب والياسمين! ليت عندكم مثلهما، ليس في سطحكم إلا الدجاج والخروفان اللذان تُسمِّنونهما للعيد.
أحمد : ماء … ماء … ماء.
عبد المنعم : هاتي سلَّمًا لنطلع عليها.
أم حنفي : يا ساتر يا رب، الولد لخاله، العبوا في الأرض لا في السماء.
رضوان : في شرفة بيتنا وفي السلاملك أُصُص ورد أحمر وأبيض وقرنفل …
عثمان : عندنا خروفان ودجاج …
أحمد : ماء … ماء … ماء.
عبد المنعم : أنا في الكتاب، مَن منكم في الكتاب؟
رضوان : أنا حافظ (الحمد).
عبد المنعم : الحمد، كبَّة لمبة.
رضوان : إخص، أنت كافر.
عبد المنعم : هذا ما يتغنَّى به العريف في الطريق …
نعيمة : قلنا ألف مرة لا تُردِّد كلامه …
عبد المنعم ﻟ (رضوان) : لماذا لا تعيش مع باباك خالي ياسين؟
رضوان : أنا عند ماما.
أحمد : أين ماما؟
رضوان : عند جدي الآخر؟
عثمان : أين جدك الآخر؟
رضوان : في الجمالية! … في بيت كبير وسلاملك.
عبد المنعم : لماذا أمك في بيت، وأبوك في بيت؟
رضوان : ماما عند جدِّي هناك، وبابا عند جدي هنا …
عثمان : لمَ لا يوجدان في بيت واحد مثل بابا وماما …؟
رضوان : القسمة والنصيب، هذا ما تقوله جدتي الأخرى.
أم حنفي : قرَّرتموه حتى أقر، لا حول ولا قوة إلا بالله. ارحموه والعبوا …
أحمد : نامي لأركبك …
رضوان : انظروا إلى العصفورة فوق عود اللبلاب …
عبد المنعم : هاتوا سلمًا، وأنا أقبض عليها …
أحمد : لا ترفع صوتك، إنها تنظر إلينا بعينيها، وتسمع كل كلمة نقولها …
نعيمة : ما أجملها، عرفتها! هي العصفورة التي رأيتها أمس فوق حبل الغسيل عندنا …
أحمد : الأخرى في السكرية، فكيف عرفت الطريق إلى بيت جدِّي …؟
عبد المنعم : يا حمار، العصفورة تطير من السكرية إلى هنا، وتعود قبل المساء.
عثمان : أهلها هناك وأقاربها هنا …
محمد : نامي لأركبك، أو أبكي حتَّى تسمعَني ماما …
نعيمة : نلعب الحجلة؟
عبد المنعم : بل نتسابق …
أم حنفي : من غير شجار بين السابق والمسبوق.
عبد المنعم : اسكتي يا جاموسة …
عثمان : ناع ع ع … ناع ع ع.
أحمد : ماء … ماء … ماء.
محمد : سأدخل السباق راكبًا، نامي لأركبك …
عبد المنعم : واحد … اثنان … ثلاثة …

•••

احتفى السيد أحمد عبد الجواد بالمدعوِّين فأخلى نفسه لهم النصف الأول من النهار كله، ثم توسط مائدة الوليمة التي ضمَّت: إبراهيم شوكت، وخليل شوكت، وياسين وكمال. ثم دعا بالرجلين إلى حجرة نومه في جلسة عائلية، فمضوا يتسامرون في جو من المودة والمؤانسة وإن لم يخلُ من تحفظ من ناحية السيد وتأدُّب من ناحية صهريه، مصدره ما يلتزمه الرجل في المعاملة مع آل بيته حتى الوارد من الخارج منهم على رغم المقاربة في السنِّ بينه وبين إبراهيم شوكت زوج خديجة.

ودُعيَ الأطفال إلى حجرة الجد ليُقبِّلوا يده، ويتلقَّوا هداياه النفيسة من الشيكولاتة والملبن. فتقدموا إليه بترتيب أسنانهم: نعيمة بنت عائشة أولًا، فرضوان بن ياسين، فعبد المنعم بن خديجة، فعثمان بن عائشة، فأحمد بن خديجة، ثم محمد بن عائشة. راعى السيد المساواة المُطلَقة في توزيع عطفه وابتساماته على أحفاده، مُنتهزًا فرصة خلو الحجرة من مراقبين — عدا إبراهيم وخليل — ليتخفَّف بعض الشيء من تحفُّظِه المأثور. فهزَّ الأيدي الصغيرة بترحاب، وقرص الخدود الموردة بحنان، ولثم الجباه وهو يُداعب هذا ويمازح ذاك، وظل مراعيًا المساواة حريصًا عليها حتى مع رضوان أحظى الصغار بمحبته.

كان من عادته إذا خلا إلى أحد من أحفاده أن يتفحَّصه بشغف، مدفوعًا بعواطف أصيلة كالأبوة، وأخرى دخيلة كحب الاستطلاع، وكان يجد لذةً كبيرة في تتبُّع ملامح الأجداد والآباء والأمهات في السلالات الجديدة الصاخبة التي لم تكد تُلقَّن احترامه فضلًا عن مخافتِه، وقد أسَرَه جمال نعيمة ذات الشعر الذهبي والعينَين الزرقاوين التي فاقت أمها نفسها حُسنًا ورواء، فأتحفت الأسرة بقسمات غنية من الحسن بعضها مُشتَقٌّ من أمها والبعض مُتوارَث عن آل شوكت، وعلى هذا المنهج من الجمال سار شقيقاها عثمان ومحمد مع ميل واضح إلى ملامح الأب — خليل شوكت — خاصة في عينيه الواسعتَين البارزتين ذواتَي النظرة الهادئة الخاملة. وعلى خلاف هذا تبدى عبد المنعم وأحمد ابنا خديجة، فبشرتهما وإن تكن شوكتية، إلا أنَّ عينيهما هما عينا الأم أو الجدة الصغيرتان الجميلتان، أما الأنف فيُنذِر بمُشابهة أنف الأم أو الجد على الأصح. أما رضوان فما كان له إلا أن يكون جميلًا، حظيَ بعينَي أبيه أو عيني هنية السوداوين المكحولتَين، وبشرة آل عفت العاجية، وأنف ياسين المستقيم. أجل ترقرقت الملاحة في وجهه آسرة. مضى زمن طويل مذ كان يتعلق به أطفاله بلا خوف من ناحيتهم ولا تكلُّف من ناحيته كما يفعل الأطفال اليوم، يا لها من أيام! ويا لها من ذكريات! ياسين وخديجة وفهمي ثم عائشة وكمال، ما منهم إلا وقد دغدغه تحت إبطه وأركبه منكبيه، تُرى هل يتذكَّرون؟ لقد كاد هو ينسى، على أن نعيمة تبدو رغم ابتسامتها الوضيئة متحلية بالحياء والأدب، أما أحمد فلم يكف عن المطالبة بالمزيد من الشيكولاتة والملبن، على حين وقف عثمان ينتظر نتيجة المطالبة بفارغ الصبر، وأما محمد فهرول إلى الساعة الذهبية والخاتم الماسي في جوف الطربوش وكبشهما فما استخلصهما خليل شوكت من يده إلا بالقوة، ومرَّت لحظات توزَّع السيد الارتباكَ والحيرة، فلم يَدرِ ماذا يفعل وهو مُحاط، بل مُهدَّد من كل جانب بالأحفاد الأعزاء … وقبيل العصر غادر السيد البيت إلى الدكان، وبذهابه تمتَّعت الصالة — حيث اجتمع بقية أفراد الأسرة — بكامل حريتها. ورثَت صالة الدور الأعلى أختها بالدور المهجور. ففُرشَت بحصيرها وكنباتها، وعلَّق بسقفها الفانوس الكبير، فغدَت مجلسًا ومقهى لمن تبقَّى من الأسرة في البيت القديم. وقد حافظت طوال اليوم — رغم امتلائها — على هدوئها، حتى إذا لم يَعُد يَبقى من السيد إلا ما سطع في الجو من عرف الكولونيا التي تطيَّب بها. استردَّت أنفاسها، فتعالَت بها الأصوات والضَّحِكات، ودبَّت فيها الحركة. واتخذ المجلس هيئته كالعهد القديم، فتربَّعت أمينة على كنبة أمام أدوات القهوة، وعلى الأخرى المواجِهة لها جلست خديجة وعائشة. وعلى ثالثة جانبية قعد ياسين وكمال. وما لبث أن انضمَّ إليهم إبراهيم شوكت، وخليل شوكت — بعد ذهاب السيد — فجلس إبراهيم إلى يمين حماته، وخليل إلى يسارها.

لم يكد إبراهيم يستقر على مجلسه، حتى خاطب أمينة قائلًا بلهجة متوددة: بارك الله في اليد التي قدَّمت لنا أشهى الطعام وألذه (ثم وهو يردد عينيه البارزتين الخاملتين في الجلوس كأنما يلقي محاضرة) الطواجن … الطواجن! … معجزة هذا البيت، ليس الطاجن بما يحويه من المأكول — وإن لذَّ وطاب — ولكن بتسبيكه قبل كل شيء. التسبيك هو كل شيء! هو الصنعة، وهو المعجزة، دلُّوني على طواجن كالتي التهمْنَاها اليوم!

كانت خديجة تُتابع كلامه باهتمام، وهي بين التأييد له اعترافًا بمهارة أمها، والاحتجاج عليه لتجاهله إياها، فلما أمسك كي يُهيئ للمنصتين فرصة للإقرار برأيه، لم تتمالك من أن تقول: هذا حكمٌ مُسلَّم به وليس في حاجة إلى شهادة شاهد، غير أنَّي أُذكِّر — وأحبُّ أن أفكِّر أيضًا — بأنك ملأتَ بطنك في بيتك مرارًا من طواجن لا تقلُّ صنعة عن طواجن اليوم.

ارتسمت ابتسامة — ذات معنًى — على وجوه عائشة وياسين وكمال، وبدا على الأم أنها تغالب حياءها؛ لتقول كلمة تجمع بين الشكر لإبراهيم وإرضاء خديجة، ولكنَّ خليل شوكت بادر قائلًا: صدقت خديجة هانم، إنَّ لطواجنها فضلًا علينا جميعًا، لا يُمكن أن تنسى ذلك يا أخي.

فردَّد إبراهيم نظره بين زوجه وحماته، وهو يبتسم كالمعتذر. ثم قال: معاذ الله أن أنكر هذا الفضل، ولكني بصدد التحدُّث عن المعلمة الكبيرة (ثم وهو يضحك) وعلى أيِّ حالٍ فأنا أُنوِّه بفضل والدتك أنت لا والدتي أنا!

وانتظر حتى خفَّت أصوات الضحك التي أثارها قوله الأخير، ثم واصل تقريظه مُتلفتًا نحو الأم، وهو يقول: نعود إلى الطواجن، ولكن لم نقصر كلامنا على الطواجن؟ الحق أن الصنوف الأخرى لم تَكُن دون الطواجن لذة وفخامة، خذوا مثلًا: البطاطس المحشو، الملوخية، الأرز المُفلفل بالكبد والقوانص، المحاشي المتنوعة، والله أكبر على الدجاج ولحمِه المكتنز … خبِّريني، أي غذاء تُطعمينه يا حماتي؟

أجابته خديجة في تهكم: من الطواجن تُطعمُه!

– سأُكفِّر طويلًا عن إقراري بالفضل لأهله، ولكنَّ الله غفور رحيم، مهما يكن من أمر فلندعُ الله أن يُكثر من أيام الأفراح … مبارك عليك البكالوريا يا سي كمال، وعقبى للدبلوم إن شاء الله.

قالت أمينة بامتنان، وكانت مورَّدة الوجه من الحياء والسرور: ربنا يفرحك بعبد المنعم وأحمد، ويفرح سي خليل بنعيمة وعثمان ومحمد، (ثم مُلتفِتة إلى ياسين) ويفرح ياسين برضوان.

كان كمال يسترق النظر إلى إبراهيم حينًا وإلى خليل آخر، وعلى شفتَيه ابتسامة ثابتة يُداري بها عادة مللِه من الحديث، الذي تَنعدِم مُتعته وتقضي اللياقة بالاشتراك فيه ولو بحسن الإنصات. إن الرجل يُحدث عن الطعام وكأنه لم يزل على المائدة سكران بشهوة الأكل، الطعام … الطعام … الطعام … لم استحق هذا التقديس كله؟ هذان الرجلان العجيبان لا يبدو أنهما يتغيَّران مع الزمن، كأنهما بمنأى عن تيَّاره. إبراهيم اليوم هو إبراهيم الأمس، لم يكد يطرأ عليه من إشرافِه على الخمسين إلا أثر غير ملحوظ تحت العينَين أو فيما حول طرفَي الفم، ونظرة رزينة ثقيلة لم تُكسبه وقارًا بقدرِ ما أكسبتْه مزيدًا من الخمول، ولكن شعرة واحدة — سواء في رأسه أم في شاربه المفتول — لم تَشِب، وبدانَتُه لم تزَل مدمجة قوية لم يَعتَورها ترهُّل، إلى أنَّ التشابه الذي جمع بين الشقيقَين إلا في أعراض لا يُعتدُّ بها كالاختلاف بين شَعر خليل السبط المُرسَل وشعر إبراهيم القصير المَحلُوق، وتماثُلها في الصحة والنظرة الخامِلة كان مما يبعث على الضحك والازدراء حقًّا، وكانا يَرتديان بذلتَين من الحرير الأبيض وقد نزع كلٌّ منهما جاكتته، فلاح قميصه الحريري والأزرار الذهبية تَلمع في عُرا أكمامه، مظهر ينمُّ على وجاهة هي كل ما هنالك. في بحر السنوات السبع التي وصَلَت بين الأسرتين، كان يخلو إلى هذا أو ذاك منهما كثيرًا أو قليلًا، ولكنَّ حديثًا واحدًا ذا طعم لم يجرِ بينهم! … فيم الانتقاد؟ ولولا ذاك ما كان هذا الانسجام المُوفَّق بينهما وبين شقيقتَيه؟ إن الازدراء — من حسن الحظ — لا يُناقِض العطف والإيثار بالخير والمودَّة. أوه … يبدو أن حديث الطواجن لم ينتهِ بعد، ها هو سي خليل شوكت يتهيَّأ ليُلقي كلمته: لم يَعدُ أخي إبراهيم الحق فيما قال، يدٌ لا عدمناها، ومائدة جديرة بأن ينادي بها المنادون.

كانت أمينة في أعماقها تحب الثناء، وكثيرًا ما تعاني مرارة الحرمان منه، لشعورها بالجهد الدائب الذي تبذله عن حبٍّ وطواعية في خدمة البيت وآله. وكثيرًا ما نهمت إلى سماع كلمة طيبة من السيد، ولكن السيد لم يكن من عادته أن يجود بالثناء عليها وإذا جاد ففي اقتضاب، وفي أحوالٍ نادِرة لا تكاد تُذكر، لذلك وجدت نفسها بين إبراهيم وخليل في موقف عُجب غير مألوف ملأها سرورًا حقًّا. ولكنه هيَّج لحدِّ الارتباك حياءها، فقالت تُداري مشاعرها: لا تبالغ يا سي خليل، أنت لك أمٌّ مَن يَألف طعامها يزهد في أي طعام سواه!

وبينا عاد خليل إلى توكيد الثناء، اتجهت عينا إبراهيم بحركة عكسية إلى خديجة، فالتقى بعينيها وهما تحدجان إليه كأنما توقعت نظرتَه فاستعدَّت لها، فابتسم كالظافر، وقال يُخاطب حماته: لا يُقرُّك بعض الناس على هذا الرأي يا حماتي.

أدرك ياسين مرمى هذه الملاحَظة، فضحك ضحكة عالية، وسرعان ما ضجَّ المجلس بالضحك، حتى أمينة ابتسمت ابتسامة عريضة، واهتز نصفها الأعلى بضحكة مكتومة فدارَتِ استسلامها بخفض رأسها كأنما تنظر في حجرها. بقيَت خديجة وحدها جامدة الوجه، وانتظرت حتى هدأت العاصفة، ثم قالت بتحدٍّ: لم يكن خلافنا حول الطعام وطهيِه، ولكن حول حقِّي في الاستقلال بشئون بيتي، ولا عليَّ من هذا.

تجدَّدت في النفوس ذكرى المعركة القديمة التي استعرت في العام الأول من زواج خديجة بينها وبين حماتها حول «المطبخ»، وهل يظلُّ واحدًا للبيت كله تحت إشراف الأم، أو تستقلُّ خديجة بطبيخِها كما أرادَت. كان خلافًا خطيرًا هدَّد وحدة الأسرة الشوكتية، وترامَت أنباؤه إلى بين القصرَين، حتى علم به الجميع ما عدا السيد أحمد الذي لم يَجرُؤ أحد على إبلاغه إياه، لا هو ولا سائر الخلافات التي نشبَت تباعًا بعد ذلك بين الحماة وكِنَّتها. وأدركت خديجة مذ فكَّرت في الكفاح أن عليها أن تَعتمِد على نفسها وحدها، فزوجُها على حدِّ تعبيرها «رجل نائم» لا هو لها ولا عليها، كلما حرَّضتْه على استخلاص حقِّها قال لها كالمُداعب: «يا ست … دعينا من وجع الدماغ!» ولكنه إذا كان لم يُؤيِّدها فإنه كذلك لم يَشكُمها، فانبرَت إلى الميدان وحيدة، ورفعت رأسها حيال العجوز المبجَّلة بجرأة لم تكن مُتوقَّعة وبعناد لم يَخذُلها حتى في ذلك الموقف الدقيق، عجبت العجوز لجرأة البنت التي تلقَّتها على يدها من عالم الغيب، وسرعان ما احتدَمَ الخِصام وجنَّ الغضب، وراحت تُذكِّرها بأنه لولا فضلها عليها ما صحَّ ولو في الأحلام أن تظفر مثلها بزوج من آل شوكت، ولكن خديجة رغم ثورتها كظمَت غيظَها فوقفَت عند التصميم على نَيل ما تراه حقًّا لها دون اللجوء إلى حدَّة لسانها المأثورة، لسابق منزلة العجوز من ناحية، ولخَوفِها من أن تشكوَها إلى أبيها من ناحية أخرى، ثم هداها مكرها إلى أن تحرض عائشة على العصيان، ولكنها وجدت من الفتاة الكسول إعراضًا وجبنًا، لا حبًّا في الحَماة ولكن إيثارًا للراحة والدعة اللتَين تمتَّعت بهما — بغير حساب — في ظل الحَضانة الإجبارية التي فرضتْها حماتُها على الجميع، فصبَّت غضبَها عليها ورمتها بالضعف والتنبلة، ثم ركبها العناد فواصَلَت «الجهاد» بلا توانٍ أو تردُّد حتى ضاق صدر العجوز فسلمت كارهة بحقِّ كَنَّتها «الغجرية» بالاستقلال بمطبخها، وهي تقول لابنها الأكبر: «أنت وشأنك، إنك رجل ضعيف لا قِبَل لك بتأديب زوجك، وجزاؤك الحق أن تُحرم من طعامي إلى الأبد!» ظفرت خديجة ببُغيتها فاستردَّت أدوات جهازها النحاسية. وهيأ لها إبراهيم المطبخ كما رسمت، ولكنها خسرت حماتها، وفتكَت بأسباب المودة التي ربطَت بينهما مذ درجت في المهد، ولم تَحتمِل أمينة فكرة الخصام فصبَرَت حتى هدأت النفوس، ثم سعَت سعيها عند السيدة المبجَّلة مُستعينة بإبراهيم وخليل حتى تمَّ صلح، ولكن أي صلح كان؟ كان صلحًا لا يكاد يستقرُّ حتى يَصطدِم بنقار، ثم يعقبه صلح، فنقار من جديد، وهكذا … وكل واحدة منهما تُلقي التبعة على الأخرى، وأمينة بينهما حائرة، وإبراهيم واقف موقف المحايد أو المتفرِّج، كأن الأمر لا يعنيه، فإذا رأى أن يتدخَّل تدخَّل وانيًا وقنع بترديد النصيحة في هدوء، بل بُرود غير مبال بتوبيخ أمه أو عتاب زوجه. ولولا إخلاص أمينة ودماثة خلقِها لسارت العجوز بشَكواها إلى السيد أحمد، ولكنَّها عدلت عن ذلك كارهة، ومضَت تُنفِّس عن صدرها في أحاديثها الطويلة مع كل مَن يلقاها من الأهل والجيران، مُعلِنة على رءوس الأشهاد بأن اختيارها خديجة زوجةً لابنها كان أكبر غلطة ارتكبتْها في حياتها، وأن عليها أن تتحمَّل الجزاء.

قال إبراهيم معقبًا على كلام خديجة، وهو يَبتسِم، كأنما ليخفف بابتسامته من وقع تعقيبه: ولكنك لم تكتفي بالمُطالبة بحقِّك، بل طعنتِ بلسانك ما حلا لك الطعن، هذا إذا لم تكن خانتني الذاكرة!

ورفعت خديجة رأسها المعصوب بمنديل بُني في تحدٍّ، وقالت وهي ترمق زوجها بنظرة تهكُّم وغيظ: ولِمَ تخونُك الذاكرة؟ هل من أفكار أو مشاغل تُرهقها حتى تخونَك؟ ليت للناس جميعًا ذاكرة هادئة مطمئنة خالية البال كذاكرتك! لم تخنْك ذاكرتك يا سي إبراهيم، ولكنَّها خانتني أنا، والحق أني لم أتعرَّض لمَقدرة نينتك، ولم يكن لي بها شأن ولا حاجة إليها؛ فإني أعرف بحمد الله كافة واجباتي وأعرف كيف أؤدِّيها على خيرِ وجه، ولكنِّي كرهت أن أقبع في بيتي وأن يجيئني الطعام من الخارج كنزلاء الفنادق. وفضلًا عن هذا كله فإني لم أُطِق — كما يحلو ﻟ «بعض الناس» — أن أَمضيَ نهاري نائمة أو لاهية وغيري يقُوم بمهام بيتي.

أدركَت عائشة مِن توِّها المقصود من «بعض الناس»، فضحكت ولما تكمل خديجة كلامها، ثمَّ قالت بلهجة لطيفة كأنَّما دافعها الإشفاق: افعلي ما يحلُو لك ودعي الناس — أو بعض الناس — وشأنهم، لا شيء الآن يدعو إلى كدَرِك؛ فأنت سيدة مستقلة — عقبى لمصر — وتعمَلين من طلوع الفجر إلى نزول الليل: في المطبخ، والحمام، وفوق السطح، وتُعنَين في وقت واحد بالأثاث والدجاج والأولاد، والجارية سويدان لا تجرؤ على الاقتراب من شقَّتِك أو حمل ابنٍ من أبنائك، رباه … لمَ هذا العناء كله وقليل منه يُغني؟!

أجابت خديجة بحركة من ذقنها، وهي تُغالب ابتسامةً دلَّت على أنها وجدت في كلام عائشة ما استأنست إليه، وعند ذاك قال ياسين: بعض الناس يُخلقُون للسيادة، وبعضهم يخلقون للعبودية.

فقال خليل شوكت، وهو يَبتسِم كاشفًا عن ثنيتيه المتراكبتين: خديجة هانم مثال صالح لستِّ البيت، غير أنها تتجاهل حقَّها من الراحة.

فقال إبراهيم شوكت مؤمِّنًا على قوله: هذا رأيي بالتمام، صارحتُها به مرارًا، ثم آثرتُ السكوت تفاديًا من وجع الدماغ.

نظر كمال إلى أمه، وكانت تَملأ فنجان خليل للمرة الثانية، واستحضر صورة أبيه مقرونة بذكريات جبروته، فعلَت شفتَيه ابتسامة، ثم مدَّ بصره إلى إبراهيم مَدهوشًا، وهو يقول: كأنك تخافها!

فقال الرجل، وهو يهزُّ رأسه الكبير: أنا أتفادى من النكد ما وجدت سبيلًا إلى السلامة، وأختك تتفادى من السلامة ما وجدت سبيلًا إلى النكد!

هتفت خديجة: اسمعوا الحِكَم (ثمَّ وهي تُشير إليه كالمتحدِّية) أنت تتفادَى من اليقَظة ما وجدت سبيلًا إلى النوم.

فقالت لها أمها، وهي تحدجها بنظرة تحذير: خديجة!

فربَّت إبراهيم على منكب حماته، قائلًا: عندنا من هذا كثير، ولكن اشهَدي بنفسك!

وكان ياسين يُردِّد بصره بين خديجة القوية المُمتلئة، وعائشة النحيفة الرقيقة بحركة متعمَّدة للفت الأنظار، ثم قال كالمُستنكِر: حدثتمونا عن تعب خديجة المتصل من الفجر إلى الليل، فأين أثر ذلك التعب؟ … كأنها هي اللاهية، وكأنَّ عائشة هي العاملة!

فقالت خديجة، وهي تَبسط راحة يُمناها في وجهه مفرجة بين أصابعها الخمس: ومن شرِّ حاسد إذا حسد!

ولكن عائشة لم تَرتح إلى مجرى الحديث الأخير، فلاحَت في عينَيها الزرقاوين الصافيتين نظرة اعتراض. واندفعت للذَّود عن نحافتها مُتجاهلة الغاية الواضحة من ملاحظة ياسين. وهي تُعاني شيئًا من الغيرة، فقالت: لم تَعُد السمانة موضة العصر (ثم مُستدركة عندما شعرت باتجاه رأس خديجة نحوها)، أو على الأقل فالنَّحافة موضة كذلك عند كثيرات.

فقالت خديجة بتهكُّم: النحافة موضة العاجزات عن السمانة.

خفقَ قلب كمال عندما تناهت كلمة «النحافة» إلى سمعه، فوثَب من باطنه إلى مخيلتِه صورة القامة الفارِعة والقد المَمشوق، فرقص قلبه بطربٍ رُوحاني، وانبثقت منه النشوات، ثم احتضنتْه فرحة صافية نسيَ في حلمها الهادئ العميق نفسه ومكانه وزمانه. فلم يَدرِ كم فيها لبث حتى انتبَه على ظِل سحابة من الأسى تجيء كثيرًا ذيلًا لحلمِه، لا كما يجيء الغريب الدخيل أو العنصر المُتنافِر، ولكنها تتسرَّب إلى الحلم الباهر كأنَّها خيط من نسجِه أو نغمة من هارمونيته، تنفَّس تنفُّسًا عميقًا، ثم جال ببصرِه الحالم في الوجوه التي يُحبُّها من قديم، والتي يبدو أنها تَتباهى على نحو أو آخر بحُسنِها، خاصة الوجه الأشقر الذي هام زمنًا باحتِساء الماء من وضع شفتَيه. استرجع هذه الذِّكرى في حياء — وما يُشبه التأفُّف — فشعر بأنَّ أيَّ نموذج من الجمال خلا النموذج المَعبود خليق بأن يُثير تعصُّبه وإن حظيَ بعَطفِه وحبه.

– لن أرضى عن النحافة ولو في الرجال (واصلَت خديجة حديثها)، انظروا إلى كمال، ما أجدره بأن يُعنى بزيادة وزنه، لا تظنَّ يا بُنيَّ أن طلب العلم هو كل شيء.

أصغى كمال إليها باسمًا في استهانة وهو يتفحَّص جسمها الذي تراكم لحمه وشحمه، ووجهها الذي توارت بالاكتِناز عيوبه، معجبًا بروح السعادة والفوز التي تَكتنفُها، غير أنه لم يجد في نفسه الرغبة في مُناقَشة رأيها، أما ياسين، فقال بتحدٍّ وسخرية معًا: إذن فأنت راضية عنِّي، لا تُكابري في هذا.

كان ثانيًا ساقه اليُمنى تحتَه طارحًا الأخرى على الأرض، وقد فتح — من الحر — طوق جلبابه، فبدت من فتحة فانلته الواسعة خصلات من شعر صدره الأسود الأثيث، فألقَت عليه نظرة نافذة، ثم قالت: لكنك زدتها حبتَين، ثم إنَّ شحمكِ وصَل إلى المخ، وهذا شيء آخر.

نفَخ ياسين كاليائس، ثم التفت إلى إبراهيم شوكت مُتسائلًا في إشفاق وعطف: خبِّرني عما تصنع بين زوجك — وهذه حالها — وبين والدتك؟

أشعل إبراهيم سيجارة، وأخذ نفَسًا، ثم نفخه وهو يمطُّ بُوزه مشاركًا أخاه خليل — الذي لم يكن يَنزع غُليونه من فيه إلا حين يتكلَّم — في تعفير جو الصالة، ثم قال في عدم اكتراث: أذنًا من طين وأذنًا من عجين، هذا ما تعلَّمته من التجربة.

فقالت خديجة، مُخاطبة ياسين بصوتٍ مُرتفِع وشى بغيظِها: لا دخل للتَّجربة في ذلك، التَّجربة بريئة وحياتك عندي. المسألة أن ربنا أعطاه طبعًا مثل دندورمة عم بدر التركي، ولو تحركت مئذنة الحسين ما اهتزت له شعرة.

رفعت أمينة رأسها، فرمقَت خديجة بنظرة عتاب وتحذير حتى ابتسمَت الابنة، وخفضت عينَيها فيما يُشبه الحياء. وإذا بخليل شوكت يقول في فخار لطيف: هذا طبع آل شوكت، وهو طبع سلطاني. أليس كذلك؟

فقالت خديجة — بلَهجة ذات مَغزى — وهي تَضحك لتُخفِّف من وقع كلامها: من سوء حظِّي يا سي خليل أن والدتك لم تتطبَّع بهذا الطبع السلطاني.

فبادرتها أمينة قائلة وقد نفد صبرُها: حماتك لا نظير لها في النساء، سيدة جليلة بكل معنى الكلمة.

فمال رأس إبراهيم يسرةً، وهو يحدج زوجه بنظرة من عَلُ التمعت بها عيناه البارزتان، ثم قال وهو يتنهَّد في ظفر: وشهد شاهد من أهلها، الله يكرمك يا حماتي … (ثمَّ مُخاطبًا الجميع) يا هوه أمي ست كبيرة، وفي سنٍّ تَستوجِب الرعاية والحلم، وزوجي لا تَعرف عن الحلم شيئًا.

فانبرت خديجة للدفاع عن نفسها قائلة: أنا لا أغضب بلا سبب، ولم يكن الغضب من طبعي في يوم من الأيام، وهاك أهلي فسلْهُم عما تشاء.

ساد الصمت. كان أهلها لا يدرون ماذا يقولون، حتى ندَّت عن كمال ضحكة، فلفتت إليه الأنظار، فلم يتمالك أن يقول: أبلة خديجة أغضب حليمة عرفتها.

فتشجع ياسين قائلًا: أو هي أحلَمُ غَضوب، والله أعلم!

انتظرت خديجة حتى هدأت ثائرة الضحك التي أعقبت ذلك، ثم أومأت إلى كمال وهي تهزُّ رأسها في حسرة قائلة: خانني الذي حملتُه على حجري أكثر مما حملت أحمد وعبد المنعم.

فقال كمال كالمُعتذر: لا أظنُّني أفشيت سرًّا.

وسرعان ما اتخذَت أمينة موقفًا جديدًا للدفاع عن خديجة التي بدَت في مركز لا تُحسَد عليه، فقالت باسمةً: جلَّ مَن له الكمال!

وجاراها إبراهيم شوكت في لباقة، قائلًا: صدقت، إنَّ لزوجي مزايا لا يُستهان بها، لعنة الله على الغضب الذي يُصيب أول ما يُصيب صاحبه، لا شيء في الدنيا يستحقُّ في نظَري الغضب.

فقالت خديجة ضاحِكة: يا بختك! … لذلك تمضي الأيام — عيني عليك باردة — وأنت من التغيُّر في حصن.

بدا على أمينة الاستياء — لأول مرة — بصورة جدية، فقالت في عتاب: ربنا يصون له شبابه، هو وأمثاله.

تساءل إبراهيم ضاحكًا وهو لا يُخفي سروره بدعاء حماته: شبابه؟

فقال خليل شوكت يجيبه، وإن وجَّه الخطاب لأمينة: إن التاسعة والأربعين في آل شوكت تُعدُّ من مراحل الشباب.

فعادت أمينة تقول في إشفاق: يا بُني لا تتكلَّم هكذا، ودعونا من هذه السيرة.

ابتسمت خديجة لما بدا من أمِّها من إشفاق كانت هي على علم وإيمان بأسبابه وبواعثِه؛ ذلك أن الإشادة بالصحة جهرًا في البيت القديم — صراحة — مكروهة، لتجاهُلها «العين» وشرها، وهي نفسها — خديجة — لم تكن لتُعالِن بقوةِ صحَّة زوجها لو لم تكن قضَت السنوات الست الأخيرة من حياتها بين آل شوكت، حيث لا تَحظى عقائدُ كثيرة — كالحسد مثلًا — بإيمانٍ عميق، وحيث يخُوضُون في أمورٍ شتَّى بلا خوف — كسِيَر الجن والموت والمرض — يحول الإشفاق والحذر دون الخوض فيها في البيت القديم. إلى هذا كله، كانت العلاقة بين الزوجين أوثق مما تبدو في الظاهر، فلم يكن ثمَّة ما يتهدَّدها من قول أو فعل. كانا زوجين مُوفَّقين، يشعر كلاهما في أعماقه بأنه لا غنى له عن الآخر رغم شتَّى المآخِذ، وقد كان مرض إبراهيم يومًا فرصة غريبة جلَتْ مَكنون ما يعمر صدر خديجة من محبة ووفاء. أجل، لم يكن النقار ليسكت بينهما، على الأقل من ناحيتها هي، فلم تكن أمه هدفها الوحيد، ورغم سياسة الرجل وبُروده لم يُعيِها أن تكتشف فيه موضعًا كل يوم لانتقاد، مثل: كثرة نومه، قبوعه في البيت بلا عمل، تكبُّره على مجرد فكرة أن يكون له عمل في الحياة، ثرثرته التي لا تنتهي. تجاهله لما ينشب بينها وبين أمه من نزاع ومُلاحاة، حتى مرَّت أيام وأيام — على حدِّ تعبير عائشة — لم يكن لها من حديث إلا شكُّه ولسعُه — ولكن رغم هذا كله — أو بفضل هذا، من يدري؟ فالنقار نفسُه يقوم أحيانًا بوظيفة الشطة في تهييج شهوة الطعام — ظلت عواطفهما قوية ثابتة لا تتأثَّر بما يُكدِّر الظاهر، كأنَّها التيارات المائية العميقة التي لا يتحوَّل مجراها بفورات السطح وتشنُّجاته. إلى ذلك لم يسَعِ الرجل إلا أن يقدر نشاطها حق قدره، بعد أن لمس آثاره في رونق مسكنه، ولذة مطعمه، وأناقة ملبسه، وهندمة ابنَيه … فكان يقول لها مداعبًا: «الحق أنك لقيَّة يا غجرية!» رغم رأي أمه في هذا النشاط الذي لم تتردَّد عن الجهر به في أوقات الخصام وما أكثرها، فتقول لخديجة ساخرة: «هذه فضيلة الخدم لا الهوانم!» فتُبادرها خديجة قائلة: «أنتم أناس لا عمل لكم إلا الأكل والشرب، سيد البيت الحقيقي مَن يخدمه.» فتقول العجوز مواصلة تهكمها: «لقَّنوك هذا الكلام في بيتك كي يُخفوا عنك أنك لم تكوني تَصلُحين في نظرهم إلا للخدمة!» فتَصيح خديجة: «أنا أعلم بسبب حنقك عليَّ، أعلم به منذ لم أجعل لك وزنًا في بيتي!» فتصرخ العجوز: «يا ربي اشهد، السيد أحمد عبد الجواد رجل طيِّب، ولكنه أنجب شيطانة، أنا أستحق ضرب الشبشب جزاء اختياري لك!» فتمضي خديجة وهي تغمغم، حتى لا تتبيَّن المرأة كلامها: «أنت تستحقين ضرب الشبشب … لا أجادلك في هذا.»

نظر ياسين إلى عائشة، وقال وهو يبتسم في خبث: ما أسعدك بنفسك بنفسك يا عائشة، علاقاتك حسنة مع جميع الأحزاب.

فأدركت خديجة ما وراء كلامه من التعريض بها، وقالت له وهي تهز كتفيها متظاهرة بالاستهانة: وقَّاع يسعى بوقيعة بين أختين.

– أنا؟ حسبي الله، فهو المطَّلع على حسن نيتي.

وهي تهز رأسها كالآسفة: لم تكن يومًا ذا نية حسنة.

– وقال خليل شوكت، مُعلقًا على كلام ياسين: نحن نعيش في سلام، وشعارنا: «عش ودع غيرك يعيش».

فضحكت خديجة حتى بدَت أسنانها اللامعة الدقيقة، وقالت بلهجة لم تخلُ من تهكُّم: بيت سي خليل بيت أفراح، لا يزال هو يلعب بأوتار العود والهانم تَسمع أو تستعرض نفسها في المرآة، أو تحادث هذه أو تلك من صويحباتها من النافذة أو المشربية، ونعيمة وعثمان ومحمد يَلعبون بالمقاعد والوسائد، حتى إن عبد المنعم وأحمد إذا ضاقا برقابتي فرَّا إلى شقة خالتهما فانضما إلى فرقة التخريب.

تساءلت عائشة باسمة: أهذا كل ما ترَين في بيتنا السعيد؟

قالت خديجة بنفس اللهجة: أوَتُغنين ونعيمة ترقص.

عائشة بمُباهاة: حسبي أن جميع الجارات يُحببنني، وأن حماتي تحبني كذلك.

– لا أتصور أن أفتح صدري لإحدى أولئك النسوة الثرثارات. أما حماتك فتُحب مَن يتملَّقها ويسجد لها.

– يجب أن نحبَّ الناس، وما أسعد أن يُحبَّنا الناس كذلك، حقًّا من القلب للقلب رسول، إنهنَّ جميعًا يَخشينَّك وكثيرًا ما قلن لي: «أختك لا تُرحب بنا، ولا تتعب من تنقُّصنا.» (ثم مُخاطبة أمها وهي تضحك): لا تزال تُسمِّي الناس بأسماء هزلية، ثم تتندر بها في البيت، فيحفظها عبد المنعم وأحمد، ويردِّدانها في الحارة بين الغلمان فتذيع.

عاود الضحك الصامت أمينة، كذلك ضحكت خديجة في شيء من الارتباك، كأنما طافت بها ذكريات بعض مواقف محرجة، على حين راح خليل يقول في ابتهاج غير خاف: بالجملة نحن تخت صغير، فيه العواد والمطربة والراقصة. حقًّا لا يزال ينقصنا جماعة المنشدين والمردِّدين، ولكنِّي أتوسم في أولادي خيرًا، والمسألة مسألة وقت.

فقال إبراهيم شوكت، موجهًا الخطاب إلى أمينة: أشهد أن بنت بنتك نعيمة راقصة بارعة.

ضحكت أمينة حتى تورَّد وجهها الشاحب، ثم قالت: رأيتُها وهي ترقص، ما ألطفَها!

قالت خديجة بحماس نطق بحنانها العائلي المأثور: ما أجملَها! كأنها صورة من صور الإعلانات.

فقال ياسين: ما أجملها عروسًا لرضوان.

فقالت عائشة ضاحكة: ولكنها بكرية الأسرة! آه … لن يُمكنِّي أن أُغالط في عمرها كما يجدر بالأمهات.

فتساءل ياسين بعدم اكتراث: لماذا يشترط الناس أن تكون العروس أحدث سنًّا من العريس؟

فلم يجبه أحد، حتى قالت أمينة: لن يطول انتظار نعيمة للعريس المناسب.

فعادت خديجة تقول: ما أجملَها يا ربي! لم أرَ لجمالها مثيلًا!

فتساءلت عائشة ضاحكة: وأمها؟ … ألم ترَي أمها؟

فقطَّبت خديجة، لتُضفيَ على كلامها صفة الجدية، وهي تقول: هي أجمل منك يا عائشة، لن تستطيعي المكابرة في هذا.

ثم ما لبثت أن عاودتها سخريتها، فقالت: وأنا أجمل منكما معًا!

«هؤلاء الناس يتحدثون عن الجمال! ماذا عرفوا من كُنهِ الجمال؟ تُعجبهم ألوان: بياض العاج، وسبائك الذهب! سلُوني أنا عنه، ولن أُحدَّثكم عن السُّمرة الصافية، والأعيُن السود السواجي، والقامة الهيفاء، والأناقة الباريسية. كلا، كل أولئك جميل، ولكنه خطوط وشكول وألوان تَخضع في النهاية للحواس والقياس. الجمال هزة في القلب جارحة، وحياة في النفس عامرة، وهيمان تَسبح الروح على أثيره حتى تُعانق السماوات … حدِّثوني عن هذا إن استطعتم.»

– لِمَ يَلتمِس نساء السكَّرية ودَّ خديجة هانم؟ ربما كان لها مزايا — كما يَشهد بذلك زوجها — ولكن الناس عامة يَستهويها الوجه الصبيح واللسان الحلو.

قال ياسين ذلك كي يَنكش خديجة من جديد، بعد أن رأى الحديث يتحوَّل عنها في سلام. فرمته بنظرة كأنما تقول له: «تأبى أن أرحمك!»

ثم قالت وهي تتنهَّد بصوت مسموع: حسبيَ الله ونعم الوكيل، لم أكن أعلم أن لي هنا حماة أخرى.

ثمَّ إذا بها تعود من جديد إلى ذلك الموضوع، ولكن بلَهجةِ جدِّية تاركة ياسين وشأنه على غير ما توقع، فتقول: ليس عندي متَّسع من الوقت كي أضيِّعه في الزيارات، البيت والأولاد يلتهمون وقتي كله، خاصة وأن زوجي لا يهتم لا بالبيت ولا بالأولاد.

قال إبراهيم شوكت، مُدافعًا عن نفسه: اتقي الله ولا تُغالي شأنك في كل شيء، الأمر وما فيه: أنه ينبغي لمن كان له زوجة كزوجتي أن يقف موقف الدفاع من حين لآخر، الدفاع عن قِطَع الأثاث التي تكاد تَنبري من كثرة النفض والمسح، والدفاع عن الأولاد الذين تُحمِّلهم فوق ما يُطيقون … آخر العهد بذاك، ما علمتم من دفعها عبد المنعم إلى الكُتَّاب ولما يبلغ الخامسة من عمره.

قالت خديجة بفخار: لو اتَّبعتُ رأيكم لاستبقيتُه في البيت حتى يبلغ سن الرشد، كأنَّ بينكم وبين العِلم عداوة، كلا يا حبيبي، سينشأ أولادي على ما نشأ عليه أخوالهم، إني أُذاكر عبد المنعم في دروسه بنفسي.

ياسين مُستنكرًا: أنت تذاكرينه؟

– لمَ لا؟ كما كانت نينة تُذاكر كمال، أجالسه كلَّ مساء فيُسمِّعني ما يحفظونه في الكُتَّاب.

ثمَّ وهي تضحك: وبذلك أيضًا أستذكِر مبادئ القراءة والكتابة التي أخاف أن أنساها بمرور الزمن.

تورَّد وجه أمينة حياءً وسرورًا، فرنَت إلى كمال كأنما تستجديه إشارة إلى ذكر الليالي الخوالي؛ فابتسم إليها ابتسامة ذَكور: «لتنشئ خديجة ابنَيها على ما نشأ عليه أخوالهما، ليكن منهما مَن يتأثَّر كمال الذي يشقُّ السبيل إلى المدرسة العليا، ليكن منهما مَن يتشبه ﺑ…ﺂه ما أضعف الصدور المتصدِّعة عن تحمُّل الخفقات الوالهة، لو امتدَّ به العمر لكان اليوم قاضيًا أو في الطريق إليها، كم حدَّثك عن آماله أو آمالك! أين مضى كل ذلك؟ ليتَه عاشَ ولو فردًا من غمار الناس!»

قال إبراهيم شوكت، مخاطبًا كمال: لسنا كما تتهمنا أختك، لقد دخلت امتحان الابتدائية سنة ١٨٩٥ ودخله خليل سنة ١٩١١، كانت الابتدائية على أيامنا شيئًا عظيمًا على خلاف الحاصل الآن حيث لا يكاد يقنع بها أحد، لم نُواصِل التعليم، لأنه لم يكن في نيتنا أن نتوظَّف، أو بمعنى آخر لم نكن في حاجه إلى الوظيفة.

أُعجب كمال إعجابًا ساخرًا بقوله: «دخلت امتحان الابتدائية»، ولكنه قال مُجاملًا: هذا أمر طبيعي.

كيف يكون للعلم قيمة ذاتية عند ثورَين سعيدَين؟ كلاكما تجربة ثمينة علَّمتني أنه من الجائز أن أحب — أي حب كان — مَن أَحتقِر … أو أن أتمنَّى الخير كل الخير كل الخير لشخص تُثير مبادئه في الحياة نفوري وتقزُّزي، لا أملك إلا أن أكره الحيوانية من صميم قلبي، صار ذلك حقيقة وحقًّا مذ هفَّت على القلب نسمة السماء.

هتف ياسين في حماس هزلي: لتحيَ الابتدائية القديمة!

– نحن حزب الأغلبية على أيِّ حال.

تضايَق ياسين من إقحام خليل نفسه — وأخاه ضمنًا — على حزب الابتدائية التي لم ينَلاها، ولكنه لم يجد بُدًّا من التسليم، على حين راحت خديجة تقول: سيُواصِل عبد المنعم وأحمد التعليم حتى يَنالا الدبلوم العالي، سيكونان عهدًا جديدًا في آل شوكت، اسمعوا وقع هذين الاسمين جيدًا: عبد المنعم إبراهيم شوكت، أحمد إبراهيم شوكت … ألا يرنُّ الاسم رنين «سعد زغلول»؟

فصاح إبراهيم ضاحكًا: من أين لكِ هذا الطموح كله؟

– لمَ لا؟ … ألم يكن سعد باشا مجاورًا بالأزهر؟ من الجراية إلى رياسة الوزراء، وكلمة منه تقيم الدنيا وتقعدها، ليس شيء على الله بكثير.

تساءل ياسين متهكمًا: هلا قنعت بأن يكونا مثل عدلي أو ثروت؟

فصاحت كالمُستعيذة بالله: الخوَنة؟ لن يكونا من الذين يَهتف الناس بسقوطهم ليل نهار.

أخرج إبراهيم من جيب بنطلونه منديلًا، ومسح به وجهه الذي زادت حمرته عمقًا بحرارة الجو، ونضح عرقًا بما يشرب من ماء مثلوج وقهوة ساخنة، ثم قال وهو آخذٌ في تجفيفِه: لو أن لشدة الأمهات فضلًا في خَلقِ العظماء، فأبشري من الآن بما ينتظر ابنَيك من مجد كبير.

– تُريدني على أن أتركهما وشأنهما؟

قالت عائشة برقَّة: لا أذكر أن نينة انتهرَت أحدًا منَّا فضلًا عن ضربه، ألا تذكرين؟

فقالت خديجة كالآسفة: لم تلجأ نينة إلى الشدة، لأن بابا كان هناك. كان ذكرُه كافيًا لإلزام كلٍّ حدَّه. أما عندي، أو عندك فالحال من بعضه؛ فالأب غير موجود إلا بالاسم (اضطرت وهي تبدي الملاحظة الأخيرة أن تضحك) ما عسى أن أفعل والحال كذلك؟ إذا كان الأب أُمًّا، فعلى الأم أن تكون أبًا!

ياسين مبتهجًا: يقيني أنكِ نجحتِ في أبوَّتِك! أنتِ أب … هذا ما شعرتُ به طويلًا، ولكن كانت تنقصني معرفته.

فتظاهرت بالرضا قائلة: أشكرك يا بمبة كشَّر!

«خديجة وعائشة، صورتان متعارضتان … تأمَّل جيدًا، أيهما تظن الأجدر بأن تكون معبودتك على مثالها؟ أستغفر الله! معبودتي على غير مثال، لا أتصوَّرها ربَّة بيت، ما أبعد هذا عن التصور! معبودته في ثياب البنت تُنهنه طفلًا أو تَرعى مطبخًا؟ يا للفزع ويا للتقزُّز! بل لاهية أو سادرة أو رافلة في حلَّة باهرة في حديقة أو سيارة أو ملهًى، مَلاك في زيارة طارئة سعيدة للدنيا، جنس مفرد غير سائر الأجناس لا يَعرفه إلا قلبي، لا يجمعها وهؤلاء النِّسوة إلا تسمية العاجز عن معرفة الاسم الحقيقي، لا يجمع جمالها وجمال عائشة وسائر ألوان الجمال إلا تسمية العاجز عن معرفة الاسم الحقيقي، هاك حياتي أُكرِّسُها لمعرفتك، هل ثمَّة وراء ذلك ظمأ لعرفان؟»

– يا ترى ما أخبار مريم؟

تساءلت عائشة حال خطرت صديقتها القديمة ببالها، فأحدَثَ الاسم آثارًا مُتباينة في كثير من الجالسين، تغيَّر وجه أمينة حتى نمَّت أساريره عن الامتعاض الشديد، تجاهل ياسين السؤال كأنه لم يسمعه مُتشاغلًا بتفحُّص أظافره، وردت رأس كمال جملة من ذكريات هزَّت نفسه هزًّا. أما خديجة فأجابتها بلهجة باردة: أي أخبار جديدة تتوقَّعين؟ طُلِّقت وعادت إلى بيتها!

انتبهت عائشة — بعد فوات الفرصة — إلى أنها انزلقت سهوًا إلى ورطة، وأنها أساءت إلى أمها بهفوة لسان. ذلك أنَّ أمها آمنت منذ عهد بعيد بأن مريم وأم مريم لم تَصدُقا في حزنهما على فهمي، إن لم تكونا شمتتا بهم من أجل ذلك، لما سبق من معارضة السيد في خطبة مريم للفقيد. وكانت خديجة البادئة بترديد ذلك الظن، فتابعتها الأم عليه بلا تردُّد أو تفكير، وسرعان ما تغيرت عواطفهما نحو جارتهما القديمة حتى أوحى ذلك بالتنكُّر فالقطيعة.

قالت عائشة بارتباك، مُحاولة الاعتذار عما بدَر منها: لا أدري ماذا دعاني للسؤال عنها؟

فقالت أمينة بانفعال ظاهر: ما يَنبغي لك أن تُفكِّري فيها.

كانت عائشة قد أعلنت شكَّها — عند ذلك التاريخ — في واقعية التُّهمة التي ألصقت بصديقتها، معتلَّة بأن الخطبة وما دار حولها بقيَ طيَّ الكتمان، فلم يتناهَ نبؤُه إلى بيت مريم في حينه، مما يَنفي عن الفتاة وآلها دواعي الشماتة … ولكن أمها لم ترَ رأيها مُحتجَّة بأن مسألة خطيرة كهذه المسألة مما يتعذَّر منع تسرُّب خبرها إلى أصحاب الشأن فيها، فلم تلبث عائشة وراء رأيها طويلًا خشيةَ أن تتَّهم بمُحاباة مريم، أو بفتور حماسها لذكرى شقيقها. لكنَّها بإزاء انفعال أمها. وجدت نفسها مساقة إلى تلطيف وقع هفوتها، فقالت: لا يَدري بالحقيقة يا نينة إلا الله … لعلها بريئة مما رمَيناها به.

فاشتدَّ امتعاض أمينة على خلاف ما توقَّعت عائشة، حتى لاحَت في وجهها بوادر غضبٍ بدَت غريبة عنها لما عرف عنها من حلمٍ وهدوء. وقالت بصوت مُتهدِّج: لا تحدثيني عن مريم يا عائشة.

وصاحت خديجة مشاركة أمها في عواطفها: قطعت مريم وسيرتها.

فابتسمت عائشة في ارتباكٍ دون أن تَنبِس. وقد لبث ياسين مُتشاغلًا بأظافره حتى انتهى ذاك الحديث الحامي، وأوشك مرةً أن يشترك فيه مُتشجعًا بقول عائشة: «لا يدري بالحقيقة يا نينة إلا الله …» ولكن اندفاع أمينة إلى الرد عليها بذاك الصوت المتهدِّج غير المعهود أسكته، أجل أسكته وانطلق لسانه باطنيًّا بالشكر على نعمة السكوت. وكان كمال يُتابع الحديث باهتمام وإن لم يبدُ أثرُه على وجهه، وقد أكسبه حمل الحب عهدًا طويلًا — في ظروف حسَّاسة غير مُواتية — قدرة على التمثيل تحكم بها في كتمان عواطفِه ومُطالعة الناس — إن دعَتِ الضرورة — بمظهرٍ على نقيض مخبره. فذكر ما سمع قديمًا عن قصَّة «شماتة» آل مريم، ومع أنه لم يأخذ التُّهمة مأخذ الجد إلا أنه تذكر عهد الرسالة السرِّية التي ذهب بها إلى مريم والرد الذي عاد به إلى فهمي، ذاك سر قديم صانه ولم يزل مستمسكًا بصونه رعايةً لعهد أخيه، واحترامًا لرغبته. وقد لذَّ له أن يعجب كيف لم يفقه معنى الرسالة التي حملها إلا أخيرًا، حين انبثقت معانيها في نفسه خَلقًا جديدًا، كان — على حد تعبيره — حجرًا يحمل نقوشًا مُبهَمة حتى جاء الحبُّ فحلَّ رموزها. ولم يفُتْه أن يلاحظ غضب أمه. وهو ظاهرة جديدة في حياتها لم تكن تعرفها قبل العهد المَشئوم، لم تَعُد كما عهد، أجَل، لم تتغيَّر تغيُّرًا خطيرًا أو دائمًا، ولكنَّها غدت عرضة بين الحين والحين لنوبات لم تكن تطرأ عليها، ولم تكن إذا طرأت تستسلم لها، ما عسى أن يقول في ذلك؟ إنه قلب الأم الجريح الذي لا يعرف عنه إلا شذرات وقع عليها ضمن مُطالعاته، شدَّ ما يتألَّم لها. ثم ما وراء عائشة وخديجة؟ هل يُمكن أن ترمي عائشة ببرودٍ نحو ذكرى فهمي؟ لا يتصوَّر هذا ولا يُطيقه، إنها امرأة سليمة الطوية، وفي قلبها متَّسع للصداقة والمودَّة، تَميل فيما يبدو — ولها عذرها — إلى تبرئة مريم، ولعلَّها تحنُّ إلى عهدها بهذا القلب المفتوح للناس جميعًا، أما خديجة فقد ازدردتها الحياة الزوجية، لم تَعُد إلا أمًّا وربة بيت، لا حاجة بها إلى مريم أو غيرها، لم يبقَ لها من ماضيها إلا عواطفها الثابتة نحو أسرتها، نحو أمِّها خاصة، فهي تدور حيث تدور، ما أعجب هذا كله!

– وأنت يا سي ياسين إلامَ تبقى أعزب؟

وجَّه إبراهيم هذا السؤال إلى ياسين، مدفوعًا برغبةٍ صادِقة في تنقية الجو مما شابه، فأجابه ياسين مازحًا: غادَرَني الشباب وقُضيَ الأمر!

فقال خليل شوكت بلهجة جدِّية، دلَّت على أنه لم يَفطن إلى ما في قول ياسين من مزاح: لقد تزوَّجت وأنا في مثل سنِّك تقريبًا، ألست في الثامنة والعشرين؟

فتضايقت خديجة من ذكر سنِّ ياسين الذي كشف بطريقة غير مباشِرة عن سنِّها، فخاطبت ياسين قائلة بلهجة حادة: هلا تزوجت وأرحت الناس من حديث عزوبتك؟

فقال ياسين راميًا — قبل كل شيء — إلى التودُّد إلى أمينة: مرَّت بنا أعوام أنسَتِ الإنسان رغائبه.

ارتدَّ رأس خديجة إلى الوراء، كأنما دفعته قبضة يد، ثم رمته بنظرة كأنما تقول له «غلبتني يا شيطان»، ثم قالت وهي تتنهَّد: آه منك، قل إن الزواج لم يَعُد يروقك وهو الأصدق!

فقالت أمينة ممتنَّة لتودُّدِه: ياسين رجل طيب، والرجل الطيب لا يَمتنع عن الزواج إلا مُضطرًّا، الحق آن لك أن تُفكِّر في استكمال دينك.

يا طالما فكَّر في استكمال دينه، لا ليُجرِّب حظه من جديد فحسب، ولكن رغبة في رد الإهانة التي لحقت به يوم اضطرَّ — بدافع من أبيه — إلى تطليق زينب إنفاذًا «لمشيئة» أبيها محمد عفت! ثم كان مصرع فهمي فصرفه عن التفكير في الزواج حتى كاد يَألف هذه الحياة الطليقة ويَعتادها، غير أنه قال لأمينة، وكان يؤمن بما يقول: لا بدَّ مما ليس منه بد، وكل شيء رهنٌ بوقته.

قطع عليهم أفكارهم بغتةً ضجَّة وصياح وضوضاء جاءت من ناحية السلم، مختلطة بوقع أقدام مُتدافِعة، فاتَّجهت الأبصار متسائلة نحو باب السلَّم، وما هي إلا لحظة حتى ظهَرت أم حنفي على عتبة الباب عابِسة لاهثة، وهي تَصيح: الأولاد يا ستي، سي عبد المنعم وسي رضوان مُتشابكان، رموني بالحصى وأنا أخلِّص بينهما.

قام ياسين وخديجة، فهُرعا إلى الباب، ثم نفَذا إلى السلَّم، ومضت دقيقة أو دقيقتان عادا بعدها، ياسين قابضًا على يد رضوان، وخديجة دافعة أمامها عبد المنعم وهي تَلكمه برحمة في ظهره، ثم تتابعت البقية مُهلِّلة: فجرَتْ نعيمة إلى أبيها خليل، وعثمان إلى عائشة، ومحمد إلى جدَّته أمينة، وأحمد إلى أبيه إبراهيم، ثم جعلت خديجة تَنتهِر عبد المنعم، وتُنذره بأنه لن يرى بيت جدِّه مرة أخرى، حتى صاح بصوتٍ باكٍ، وهو يُشير مُتهمًا إلى رضوان الذي جلس بين أبيه وكمال: قال إنهم أغنى منَّا!

فصاح رضوان مُحتجًّا: هو الذي قال لي: إنهم أغنى منَّا، وقال أيضًا: إنهم يملكون بوابة المتولي بكنوزها!

فطيَّب ياسين خاطره، وهو يقول ضاحكًا: اعذره يا بني، إنه مزَّاع مثل أمه.

فقالت خديجة لرضوان، وهي لا تتمالك نفسها من الضحك: تتشاجران على بوابة المتولي؟ عندك يا سيدي باب النصر وهي قريبة من بيت جدك، فخُذها ولا تتشاجَر.

فقال رضوان، وهو يهزُّ رأسه بإباء: فيها أموات لا كنوز، فليَأخُذها هو.

عند ذاك علا صوت عائشة، وهي تقول برجاء وإغراء: صلوا على النبي، أمامكم فرصة نادرة كي تسمعوا نعيمة وهي تُغني، ما رأيكم في هذا الاقتراح؟

فجاءها الاستحسان والتشجيع من أركان الصالة جميعًا، حتى رفع خليل نعيمة بين يديه ووضعها على حجره، وهو يقول لها: «أسمعي هذا الجمهور صوتك، الله … الله … إياكِ والخجل، أنا لا أحب الخجل». ولكن نعيمة غلب عليها الخجل، فدفنت وجهها في حجر أبيها حتى لم يَعُد يبدو منه إلا هالة من نضار الذهب. وحانت من عائشة التفاتة، فرأت محمد وهو يحاول عبثًا أن ينزع الشامة من خدِّ جدته، فقامت إليه وعادت به إلى مجلسها رغم ممانعته، ثم واصلت تشجيع نعيمة على الغناء، وألحَّ معها خليل حتى همست الصغيرة في أذن أبيها بأنها لن تغني إلا إذا توارَت عن الأنظار وراء ظهره، فسمح لها بما أرادت، فزحفت على أربع حتى لبدت بين ظهره ومسند الكنبة. وعند ذاك شمل الصالة سكون باسمٌ مترقِّب، وامتدَّت فترة السكوت فأوشك خليل أن يفقد صبره، ولكن صوتًا رفيعًا لطيفًا بدأ يتكلم فيما يُشبه الهمس، ثم أخذ يتشجع رويدًا رويدًا، حتى سرت في نبراته الحرارة فعلًا مغنيًا:

حوِّد من هنا
وتعال عندنا
يا اللي أنا وأنت
نحب بعضنا

وراحت الأيدي الصغيرة تُصفِّق على إيقاعه.

٤

– آنَ لك أن تُخبرني عن المدرسة التي تنوي الالتحاق بها!

كان السيد أحمد عبد الجواد مُتربِّعًا على الكنبة بحجرة نومه، على حين جلس كمال على طرفها المواجه للباب شابكًا ذراعيه على حجره يكتنفه الأدب والطاعة. ودَّ السيد لو يجيبه الفتى قائلًا: «الرأي رأيك يا أبي!» بيد أنه كان مُسلِّمًا بأن اختيار المدرسة ليس من الأمور التي يدَّعي لنفسه فيها حقًّا مُطلقًا، وأن موافقة الابن عامل جوهري في الاختيار، إلى أنَّ مدى علمه بالموضوع كله كان محدودًا جدًّا، وقد استمدَّ أكثره مما يثار أحيانًا في بعض مجالسه بين أصحابه من الموظفين والمُحامين الذين أجمعوا على الإقرار بحق الابن في اختيار نوع دراسته تفاديًا من الإخفاق والفشل. لهذا كله لم يَستنكِف أن يجعل الأمر شورى مسلمًا أمره إلى الله.

– نويت يا بابا بإذن الله، وبعد موافقة حضرتك طبعًا، الالتحاق بمدرسة المعلِّمين العليا.

ندت عن رأس السيد حركة موحية بالانزعاج، واتَّسعت عيناه الزرقاوان الواسعتان، وهو يحدج ابنه بغرابة، ثم قال بنبرات ناطقة بالاستنكار: المعلمين العليا! … مدرسة المجانية! أليس كذلك؟

فقال كمال بعد تردد: ربما، لا أدري شيئًا عن هذا الموضوع.

فلوَّح السيد بيده مُستهزئًا، كأنما أراد أن يقول له: «ينبغي أن تتجمل بالصبر قبل أن تقطع برأي فيما ليس لك به علم.» ثم قال بازدراء: هي كما قلت لك، ولذلك يَندُر أن تجذب أحدًا من أولاد الناس الطيبين، ثم إن مهنة المعلِّم … أتدري شيئًا عن مهنة المُعلِّم أم أن علمك بها لا يعدو علمك بمدرستها؟ هي مهنة تعيسة لا تحوز احترام أحد من الناس. إني عليم بما يقال عن هذه الشئون، أما أنت فغرٌّ صغير لا تدري من أمور الدنيا شيئًا، هي مهنة يختلط فيها الأفندي بالمُجاور، خالية من كل معاني العظمة والجلال، ولقد عرفتُ أناسًا من الأعيان والموظَّفين المُحترمين يأبون — الإباء كله — أن يُزوِّجوا بناتهم من معلِّم مهما تكن مكانته.

ثم بعد أن تجشَّأ ونفخ طويلًا: فؤاد بن جميل الحمزاوي، وهو مَن كنتَ تَخلع عليه البالي من بِذَلِكَ سيَلتحِق بمدرسة الحقوق، ولدٌ ذكيٌّ متفوق، ولكنه ليس أذكى منك، وقد وعدتُ أباه بالمعاونة في تسديد مصروفاته حتى تتحقق له المجانية، فكيف أنفق على أولاد الناس في المدارس المحترمة، وابني يتعلم بالمجَّان في المدارس الحقيرة؟

كان هذا التقرير الخطير عن «المعلِّم ورسالته» مفاجأة مزعجة لكمال، لِمَ هذا التحامُل كله؟ لا يُمكن أن يرجع ذلك إلى عمل المعلم الذي هو تلقين العلم، فهل يرجع إلى مجانية المدرسة التي تُخرجه؟ لم يكن يتصوَّر أن يكون للغنى أو الفقر دخل في تقدير العلم، أو أن يكون للعلم قيمة خارجة عن ذاته. كما يؤمن بذلك إيمانًا عميقًا لا يمكن أن يتزعزع، كما يؤمن بكفالة الآراء السامية التي يطَّلع عليها في مؤلفات رجالٍ يُحبُّهم ويعتز بهم. مثل: المنفلوطي، والمويحلي وغيرهما. كان يعيش بكل قلبه في عالم «المثال» كما يَنعكِس على صفحات الكتب، فلم يتردَّد فيما بينه وبين نفسه عن تخطئة رأي أبيه رغم جلاله ومكانته من نفسِه، مُعتذرًا عن ذلك بجناية المُجتمَع المتأخِّر عليه، وأثر «الجهلاء» من أصحابه فيه، وهو ما أسف له كل الأسف، بيد أنه لم يسعه إلا أن يقول مُلتزمًا غاية ما يستطيع من الأدب والرقة، وكان في الواقع يُردِّد نصًّا من مطالعاته: العلم فوق الجاه والمال يا بابا.

ردَّد السيد رأسه بين كمال وبين صوان الملابس، كأنما يشهد شخصًا غير منظور على خرق الرأي الذي سمع، ثم قال باستياء: حقًّا؟ عشت حتى أسمع هذا الكلام الفارغ، كأن ثمةَ فرقًا بين الجاه والعلم! لا علم حقيقي بلا جاهٍ ومال. ثم ما لك تتكلَّم عن العلم كأنه علم واحد! ألم أقل لك إنك غرٌّ صغير؟ هنالك علومٌ لا علم واحد؛ للصعاليك علومهم، وللباشوات علومهم. افهم يا جاهل قبل أن تندم.

كان على يقينٍ من احترام أبيه للدين ولأهله بالتالي، فقال بمكرٍ: إنَّ الأزهريين يتعلمون كذلك بالمجان ويشتغلون بالتدريس، ولكن أحدًا لا يَستطيع أن يحتقر علومهم.

فأومأ له بذقنِه باحتقار، وهو يقول: الدين شيء، ورجال الدين شيء آخر.

فقال مُستمدًّا من اليأس قوة يستعين بها على مناقشة الرجل الذي لم يتعوَّد إلا طاعته: ولكنك يا بابا تحترم علماء الدين وتحبهم!

فقال السيد بلهجة لم تخلُ من حدَّة: لا تخلط بين الأمور، أنا أحترم الشيخ متولي عبد الصمد وأحبه كذلك. ولكن أن أراك موظفًا محترمًا أَحَبُّ إليَّ من أن أراك مثله، ولو سرتَ بالبركة بين الناس ودفعتَ عنهم السوء بالأحجبة والتعاويذ. لكلِّ زمانٍ رجال، ولكنك لا تريد أن تفهم.

تفحَّص الرجل الشاب ليَسير أثر كلامه فيه، فغضَّ كمال بصره، وعضَّ على شفته السفلى، وجعل يرمش، ويُحرك زاوية فيه اليسرى في عصبية. يا عجبًا! ألهذا الحاضر يصرُّ أناس على ما فيه ضرر محقَّق لهم؟ وأوشك أن ينفجر غاضبًا، ولكنه تذكر أنه إنما يعالج أمرًا خارجًا عن نطاق سلطته المطلقة، فكظم غيظه، وساءله: ولكن ما الذي جعلك تتحمس لمدرسة المعلمين وحدها كأنها استأثرت بالعلم كله؟ ما الذي لا يروقك في مدرسة الحقوق مثلًا؟ أليست هي المدرسة التي تخرج الكبراء والوزراء؟ أليست هي المدرسة التي تثقف بعلومها سعد باشا، وأضرابه من الرجال.

ثم بصوت منخفض، وقد عكست عيناه نظرة واجمة: وهي المدرسة التي وقع اختيار المرحوم فهمي عليها بعد روية وتفكير، ولو لم يعاجله الأجل لكان اليوم من رجال النيابة أو القضاء. أليس كذلك؟

قال كمال بتأثر: جميع قولك حقٌّ يا بابا، ولكنني لا أحب دراسة القانون.

ضرب الرجل كفًّا بكف، وهو يقول: لا يحبُّ! وما دخل الحب في العلم والمدارس؟ قل لي ماذا تحب في مدرسة المعلِّمين؟ أريد أن أعرف أمارات الحسن التي فتنتْك فيها، أم أنت ممن يُحبون الرمامة؟ تكلم ها أنا مُصغٍ إليك!

ندَّت عنه حركة، كأنه يستجمع قواه لإيضاح ما غمض على أبيه من الرأي، ولكنه كان مُسلِّمًا بصعوبة مهمَّته، ومقتنعًا في الوقت نفسه بأنها ستجرُّ عليه مزيدًا من السخريات التي ذاقَ أمثلة منها فيما سلف من النقاش. وفضلًا عن هذا كله، فلم يكن يَستبين هدفًا واضحًا محدَّدًا حتى يستطيع بدوره أن يُوضِّحه لأبيه. فما عسى أن يقول؟ في وسعه إذا تأمل قليلًا أن يعرف ما لا يريد، فليس القانون ببغيته، ولا الاقتصاد، ولا الجغرافيا، ولا التاريخ، ولا اللغة الإنجليزية. وإن كان يُقدِّر أهمية المادتين الأخيرتَين لما يتطلَّع إليه، هذا ما لا يُريد. فما الذي يُريد؟ إن في نفسِه أشواقًا تحتاج إلى عناية، وتأمل حتى تتَّضح أهدافها، ولعله غير مُتوكِّد من أنه سيظفر بها في مدرسة المعلمين، وإن رجح عنده أن تكون — هذه المدرسة — أقصر سبيل إليها. أشواق تهزُّها مطالعات شتى لا تكاد تجمعها صفة واحدة؛ مقالات أدبية، واجتماعية، ودينية، ومَلحمة عنتر، وألف ليلة، والحماسة، والمنفلوطي، ومبادئ الفلسفة، إلى أنَّها ربما لم تكن مقطوعة الصِّلة بالأحلام التي كاشَفَه بها ياسين قديمًا، بل والأساطير التي سكبتها في روحه أمه من قبل ذلك … كان يحلو له أن يُطلق على هذا العالم الغامض اسم «الفكر»، وعلى نفسه اسم «المُفكِّر»؛ فيؤمن بأن حياة الفكر أسمى غاية للإنسان تتعالى بطبعها النوراني على المادة والجاه والألقاب، وسائر ألوان العظمة الزائفة … هي كذلك! وضحت معالمها أم لم تتَّضح، فاز بها في مدرسة المعلِّمين أم لم تكن هذه المدرسة إلا وسيلةً إليها. لا يَملِك عقله أن يتحول عن هذه الغاية أبدًا، ولكن من الحق كذلك أن يقر بأن ثمة صلة قوية تربطها بقلبه أو بالحريِّ بحبِّه! كيف كان ذلك؟ ليس بين «معبودته» وبين القانون أو الاقتصاد من سبب، ولكن ثمة أسباب وإن دقت وخفيت بينها وبين الدين والروح والخلق والفلسفة، وما شاكل ذلك من المعارف التي يستهويه النهل من منابعها، على نحو يشبه ما بينها وبين الغناء والموسيقى من أسرار يتشوف إليها في هزة الطرب وأريحية النشوة. إنه يجد هذا كله في نفسه ويؤمن به كل الإيمان، ولكن ما عسى أن يقول لأبيه؟ لجأ مرة أخرى إلى المكر، وهو يقول: إن مدرسة المعلمين تدرس علومًا جليلة، كتاريخ الإنسان الحافل بالعظات، وكاللغة الإنجليزية.

كان السيد يتفحَّصه وهو يتكلم، وإذا بمشاعر الاستياء والحنق تُزايلُه فجأة. تأمل — وكأنه يراه لأول مرة — نحافته وضخامة رأسه وكبر أنفه وطول عنقه؛ فوجد في منظرِه غرابة تُضاهي ما في آرائه من شذوذ، وأوشكت روحه الساخرة أن تضحك في باطنه، ولكن عطفه وحبه أبيا عليه ذلك، غير أنه تساءل فيما بينه وبين نفسه: النحافة ظاهرة مؤقتة، الأنف عندي مصدرُه. ولكن من أين له هذا الرأس العجيب؟ أليس من المُحتمَل أن يَعرض له شخص — مثلي — ممن يُنقِّبون عن العيوب صيدًا لمزاحهم؟ ضايقته هذه الفكرة مُضايَقة ضاعفت من عطفِه عليه، فعندما تكلم جاء صوته أهدأ نبرة وأدنى إلى الحلم والنُّصح، قال: العلم في ذاته لا شيء، والعبرة بالنتيجة، القانون يُفضي بك إلى وظيفة القضاء، أما التاريخ والعظات فمُؤدَّاها أن تكون مُعلِّمًا بائسًا. عند هذه النتيجة قف طويلًا وتأمَّل (ثم ونبرات صوته تعلو قليلًا في شيء من الحدة): لا حول ولا قوة إلا بالله، عظات وتاريخ وسخام، هلا حدثتَني بكلام معقول؟

تورد وجه كمال حياءً وألمًا وهو يستمع إلى رأي أبيه في المعارف والقيم السامية التي يقدسها، وكيف استنزلها إلى مستوى السخام وقرَنها به، غير أنه لم يعدم عزاءً فيما ورَد ذهنُه — في لحظته تلك — جليل دون شك، إلا أنه ضحية زمان ومكان ورفاق. تُرى هل يُجدي معه النقاش؟ هل يجرب حظه مرةً أخرى مُستعينًا بمكر جديد؟

– الواقع يا بابا أن هذه العلوم تحوز أكبر التقدير في الأمم الراقية؟ إنَّ الأوروبيين يُقدِّسونها، ويقيمون التماثيل للنابغين فيها.

حوَّل السيد وجهه عنه، ولسان حاله يقول: «اللهم طولك يا روح!» بيد أنه لم يكن غاضبًا حقًّا، ولعله رأى الأمر كله مفاجأة مُضحكة لم تَخطر له ببال، ثم أعاد إليه وجهه، وهو يقول: بصفتي والدك، أريد أن أطمئنَّ على مستقبلك، أريد لك وظيفة محترمة. هل يختلف اثنان في هذا؟ الذي يُهمني حقًّا أن أراك موظفًا مهابًا لا مدرسًا بائسًا، وإن أقاموا له تمثالًا كإبراهيم باشا أبي أصبع، يا سبحان الله! عشنا وشفنا وسمعنا العجب! ما لنا نحن وأوروبا؟ أنت تعيش في هذا البلد، فهل هو يقيم التماثيل للمُعلمين؟ دلني على تمثال واحد لمعلم؟ (ثم بلهجة استنكارية) خبِّرني يا بني: أتريد وظيفة أم تمثالًا؟

ولما لم يَجِد إلا الصمت والارتباك، قال فيما يشبه الحزن: في رأسك أفكار لا أدري كيف اندسَّت إليه، إني أدعوك إلى أن تكون واحدًا من الرجال العظماء الذين يهزُّون الدنيا بجلالهم ومراكزهم، فهل عندك مثال تتطلع إليه لا أدريه؟ صارحني بما في نفسك حتى يرتاح بالي، وأدرك غرضك، الحق أني في حيرة من أمرك؟

فليتقدَّم خطوة جديدة يُفصح بها عن بعض ما في نفسه وأمره لله، قال: هل من العيب يا بابا أن أتطلع إلى أكون كالمنفلوطي يومًا ما؟

قال السيد بدهشة: الشيخ مصطفى لطفي المنفلوطي؟ رحمة الله عليه، رأيتُه أكثر من مرة في سيدنا الحسين، لكنه لم يكن مُعلِّمًا فيما أعلم، كان أعظم من هذا بكثير، كان من جلساء سعد وكتَّابه، ثم إنه كان من الأزهر لا من المُعلمين، ولا شأن للأزهر نفسه بعظمته، كان هبة من الله. هكذا يقولون عنه. نحن نبحث في مستقبلك والمدرسة التي ينبغي أن تدخلها ولندع ما لله لله، فإن كنت أنت الآخر هبة من الله أيضًا. فستكون في عظَمة المنفلوطي وأنت وكيل نيابة أو قاضٍ، لِمَ لا؟

كمال، وهو يُناضِل في استماتة: لست أتطلَّع إلى شخص المنفلوطي فحسب، ولكن إلى ثقافته أيضًا، ولا أجد مدرسة هي أقرب إلى تحقيق غرضي، أو في الأقلِّ إلى تمهيد السبيل إليه من مدرسة المعلِّمين؛ لذلك آثرتها، ليس بي من رغبة خاصة في أن أكون معلمًا، بل لعلِّي لم أقبل هذا إلا لأنه السبيل المتاح إلى ثقافة الفكر.

الفكر! … وردَّد مقطع أغنية الحامولي «الفكر تاه أسعفيني يا دموع العين» الذي طالَما أحبه، واستعاده فيما مضى من زمانه، أهذا هو الفكر الذي يَسعى وراءه ابنه؟ سأله بدهشة: ما هي ثقافة الفكر؟

لجَّت به الحيرة، فازدرد ريقه، وقال بصوت مُنخفض: لعلِّي لا أعرفها، (ثم يَبتسم مُتودِّدًا) لو كنت أعرفها لما كان بي حاجة إلى طلب تعلُّمها.

فسأله مستنكرًا: إذا كنت لا تَعرفها فبأيِّ حقٍّ اخترتها؟ هه؟ هل تهيم بالضعة لوجه الله؟

تغلب على ارتباكه بجهد شديد، وقال مدفوعًا باستماتتِه في الدفاع عن سعادته: إنها أكبر من أن يُحاط بها، إنها تبحث فيما تبحث عن أصل الحياة ومآلها.

تأمله مليًّا في ذهول قبل أن يقول: أمن أجل هذا تُريد أن تضحِّي بمُستقبلك؟ أصل الحياة ومآلها؟ أصل الحياة آدم، ومصيرنا إلى الجنة أو النار. أم جدَّ جديد في ذلك؟

– كلا، أعلم هذا، أريد أقول.

فعاجله قائلًا: هل جُننت؟ … أسألك عن مستقبلك، فتجيبني بأنك تريد أن تعرف أصل الحياة ومآلها؟ … وماذا تعمل بعد ذلك؟ … تفتح دكانًا لاستطلاع الغيب؟

خاف كمال إن هو استسلم للارتباك والصمت أن يُغلب على أمره أو يُضطرَّ إلى التسليم بوجهة نظر أبيه، فقال مستنجدًا شجاعته: اعذرني يا بابا إذا لم أكن أحسنتُ التعبير عن رأيي، أريد أن أواصل دراستي الأدبية التي بدأتُها بعد الكفاءة، أن أدرس التاريخ واللغات والأخلاق والشعر. أما المُستقبَل فأمرُه بيد الله.

فهتف السيد متهكمًا حانقًا، وكأنما يُتمُّ سرد ما سكت كمال عنه: وادرس أيضًا فن الحواة، والقره جوز، وفتح المندل، ونُبين زين نبين. لِمَ لا! اللهم غفرانك، أكنت حقًّا تدخر لي هذه المفاجأة؟ … لا حول ولا قوة إلا بالله.

اقتنع السيد أحمد بأن الحال أخطر مما قدر، فحار في أمره، وجعل يسائل نفسه: أأخطأ فيما أباح لابنه من حرية القول والرأي؟ كلَّما مد له في حبل الصبر والتسامح لجَّ الآخر في العناد وتمادى في الجدل. وما لبثَ أن قام في نفسه صراع بين نزعتِه الاستبدادية وبين تسليمه بحق «اختيار المدرسة»، حرصًا على مستقبل كمال من ناحية، وكراهية للانهزام من ناحية أخرى، ولكنه انتهى على غير عادته — أو بالأحرى على غير عادته في الزمن القديم — بتغليب الحكمة، فعاد إلى النقاش وهو يقول: لا تكن غرًّا، ثمة شيء في عقلك لا أدريه أسأل الله لك منه النجاة، ليس المستقبل لهوًّا ولعبًا، ولكنه حياتك التي لن تكون لك حياة غيرها. فكر في الأمر طويلًا، الحقوق خير مدرسة لك، إني أفهم الدنيا خيرًا منك، ولي أصدقاء من كافة الطبقات ولا خلاف بينهم في ذلك، أنت طفل أحمق، ألا تَدري ما هي النيابة وما هو القضاء؟ هذه وظائف تهزُّ الأرض هزًّا، وفي وسعك أن تتبوَّأ واحدة منها، كيف تعرض عنها بكل بساطة وتختار أن تكون … معلمًا؟

شدَّ ما تألم — لا غضبًا لكرامة المعلِّم فحسب — ولكن غضبًا لكرامة العلم أولًا وأخيرًا، العلم الحقيقي في نظره. لم يكن حسن الظن بالوظائف التي تهزُّ الأرض هزًّا، فطالَما وجد الكتاب المُسيطرين على روحه يُطلقون عليها العظمة الزائفة والمجد الزائل، وغير ذلك من نعوت الاستهانة والاستِخفاف، فآمن — تبعًا لأقوالهم — بألا عظمة حقيقية إلا في حياة العلم والحقيقة، واقترنت من ثم كل مظاهر السلطان والجاه في ذهنه بالزيف والتفاهة، غير أنه تحاشى الإفصاح عن إيمانه هذا أن يستفحل غضب أبيه، وقال برقة وتودُّد: على أيِّ حال مدرسة المعلمين مدرسة عليا.

تَفكَّر السيد مليًّا، ثم قال مُتبرمًا يائسًا: إذا لم تكن بك رغبة في الحقوق، وبعض الناس يعشقون التعاسة، فاختر مدرسة محترمة: الحربية، البوليس … وشيء خير من لا شيء.

فقال كمال منزعجًا: أدخل الحربية أو البوليس وقد نلتُ البكالوريا؟

– ما حيلتي إذا لم يكن لك في الطب نصيب؟

عند ذلك شعر بضوء آت من ناحية المرآة أقلق عينه اليسرى، فمد بصره صوب الصوان، فرأى أشعة شمس العصر المائلة المتسربة إلى الحجرة من النافذة المطلَّة على الفناء، وقد زحفت من الجدار المواجه للفراش حتى غيبت جانب المرآة، مؤذنة باقتراب موعد انصرافه إلى الدكان، فتزحزح قليلًا مبتعدًا عن الضوء المنعكس، ثم نفخ نفخة وشَت بضيقه وأنذرت — أو بشَّرت — في الوقت نفسه بوشك انتهاء الحديث، وتساءل واجمًا: ألا توجد مدرسة أخرى غير هذه المدارس المغضوب عليها؟

فقال كمال وهو يغضُّ بصره حرجًا لعجزه عن إرضاء أبيه: لم يبقَ إلا مدرسة التجارة ولا أربَ لي فيها.

ومع أن مبادرته إلى الرفض أحنقته، إلا أنه لم يجد من نفسه نحو المدرسة الجديدة إلا الفتور، لظنه أنها إنما تخرج «تجارًا» ولم يكن يرضى لابنه أن يكون تاجرًا. لم يغب عن علمه أول الأمر أن متجرًا كمتجره — وإن هيأ له حياة صالحة — فإنه أعجز من أن يُهيئ هذه الحياة لمن يخلفه فيها من أبنائه إذا رُوعي ما سيفرق من دخله على بقية المستحقين، فلن يعمل على إعداد أحد منهم ليحلَّ محله. على أن ذلك لم يكن السبب الجوهري لفتوره، كان في الحق يكبر الوظيفة والموظَّفين، ويُدرك خطرهم ومنزلتهم في الحياة العامة كما لمَس ذلك بنفسه، سواء في أصدقائه من الموظَّفين أو في بعض اتصالاته الحكومية المتعلِّقة بعمله، فأراد أبناءه على أن يكونوا موظفين، وأعدَّهم لذاك. كذلك لم يكن يخفى عليه أن التجارة لا تحظى بربع ما تحظى به الوظيفة من التقدير في نظر الناس، وإن أخلفت أضعافها من المال، وهو نفسه شارك الناس شعورهم وإن لم يعترف بذلك بلسانه، بل كان يعتزُّ بإكبار الموظَّفين له فيعدُّ نفسه من الناحية «العقلية» موظفًا أو ندًّا للموظفين، ولكن من غيرِه يسعه أن يكون تاجرًا وندًّا للموظفين معًا؟ ومن أين لأبنائه بشخصية مثل شخصيته؟ آه، يا لها من خيبة أمل! كم تمنَّى قديمًا أن يرى ابنًا من أبنائه طبيبًا، وكم ناط بفهمي أمنيته حتى قيل له: إنَّ البكالوريا الآداب لا تؤدِّي إلى مدرسة الطب؛ فرضي بالحقوق واستبشر بما بعدها خيرًا، ثم علَّق أمله بكمال فاختار قسم الآداب؛ فعاد الرجل يحلم بما بعد الحقوق، ولكنه لم يتصوَّر قط أن تنجلي المعركة بين آماله وبين الأقدار بوفاة «نابغة» الأسرة، وبإصرار كمال على أن يكون معلمًا. أي خيبة أمل؟! وبدا السيد حزينًا حقًّا، وهو يقول: لقد أخلصت لك النصيحة، وأنت حر فيما تختار لنفسك. ولكن ينبغي أن تذكر دائمًا أنني لم أوافقك على رأيك، فكِّر في الأمر طويلًا. لا تتعجَّل، فما يزال أمامك فسحة من الوقت، وإلا ندمت على سوء اختيارك مدى الحياة. أعوذ بالله من الحمق والجهل والسخف!

وطرح الرجل رجله على الأرض آتيًا حركة دلَّت على شروعه في القيام ليأخذ أهبته لمغادرة البيت، فنهض كمال في أدب وحياء، وانصرف.

عاد إلى الصالة فوجد أمه وياسين جالسين يتحادثان، وكان موزَّع النفس، كاسف البال لمعارضته لأبيه، ولإصراره على معارضته رغم ما أبدى الرجل من حلم ولين. ثم لما بدا عليه أخيرًا من ضيق وحزن، فقص على ياسين خلاصة ما دار في الحجرة من نقاش، وأنصت إليه الشاب، وعلى جبهته علامة احتجاج، وعلى شفتَيه ابتسامة ساخرة، وسرعان ما صارحه بأنه من رأي السيد، وبأنه يَعجب لجهلِه للقيم الجليلة في هذه الحياة، وتطلُّعه لأخرى وهمية أو سخيفة. تريد أن تجود بحياتك للعلم؟ ما معنى هذا؟ إنه سلوك رائع كما يبدو في فصل من فصول المنفلوطي، أو في نظرة من نظراته، أما في الحياة فما هو إلا عبث لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر، وأنت تعيش في الحياة لا في كتب المنفلوطي … أليس كذلك؟ الكتب تُقرِّر أمورًا غريبة وخارقة، مثال ذلك: أنك تقرأ فيها أحيانًا «كاد المعلم أن يكون رسولًا» ولكن هل صادفتَ مرة معلمًا يكاد أن يكون رسولًا؟ تعالَ معي إلى مدرسة النحاسين أو تذكَّر مَن تشاء من معلميك، ودلني على واحد منهم يستحق أن يكون آدميًّا لا رسولًا، وما هذا العلم الذي تريد؟ أخلاق وتاريخ وشعر؟ كل أولئك جميل للتسلية، حاذِر من أن تُفلت من يدَيك فرصة الحياة الرفيعة، كم أتحسَّر أحيانًا على معاكسة الظروف التي حالت بيني وبين مواصلة الدراسة!

تساءل عندما خلا إلى أمه على أثر ذهاب الأب وياسين، تُرى ما رأيها؟ … لم تكن ممَّن يؤخذ رأيهم في مثل هذا الأمر، بيد أنها تابعَت أكثر حديثِه مع ياسين، إلى أنها كانت على علم برغبة السيد في إلحاقه بمدرسة الحقوق، الأمر الذي باتَت تَتطيَّر منه فلم ترتَح إليه. على أن كمال كان يَعرف كيف يظفر بموافقتها من أقصر سبيل، قال لها: إن العلم الذي أرغب في دراسته وثيق الصلة بالدين، ومن فروعه: الحكمة، والأخلاق، وتأمُّل صفات الله، وكنْه آياته ومخلوقاته. فتطلَّق وجه أمينة، وقالت بحماس: هذا هو العلم حقًّا، علم أبي، علم جدك، إنه أجلُّ العلوم.

وفكَّرت قليلًا وهو ينظر إليها من طرف خفيٍّ باسمًا، ثم عادت تقول بنفس الحماس: مَنْ ذا الذي يَحتقِر المُعلِّم يا بُني؟ ألم يقولوا في الأمثال: «مَن علمني حرفًا صرتُ له عبدًا»؟

فقال مرددًا حجة أبيه الذي هاجم بها اختياره، وكأنما يستوهبها رأيًا يؤكد به موقفه: ولكنهم يقولون: إنَّ المعلم لا حظَّ له في المناصب الرفيعة!

فلوحت بيدها باستهانة قائلة: المعلم موفور الرزق، أليس كذلك؟ حسبك هذا، إني أسأل الله لك الصحة وطول العمر وصالح العلم، كان جدك يقول: «إنَّ العلم أعز من المال».

أليس عجيبًا أن يكون رأيُ أمه خيرًا من رأي أبيه؟ ولكنه ليس برأي، إنه شعور سليم، لم تُفسده ممارسة الحياة الواقعة التي أفسدت رأي أبيه، ولعلَّ جهلها بشئون العالم هو الذي صان شعورها عن الفساد، تُرى ما قيمة شعور — وإن سما — إذا كان مصدرُه الجهل؟ وألا يكون لهذا الجهل نفسه أثره في تكوين آرائه؟ … ثارَ على هذا المنطق، وقال يُحاوره: إنه عرف الدنيا خيرها وشرَّها في الكتب، وآثر الخير عن إيمان وتفكير، وقد يلتقي الشعور الفطري الساذج بالرأي الحكيم دون أن تهوى سذاجة الفطرة من أصالة الحكمة. أجل، إنه لا يشكُّ لحظة في صدق رأيه وجلاله، ولكن هل يدري ماذا يريد؟ ليست مهنة المعلم بالتي تجذبه، إنه يحلم أن يؤلف كتابًا، هذه هي الحقيقة، أي كتاب؟ لن يكون شعرًا، إذا كانت كراسة أسراره تحوي شعرًا، فمرجع ذلك إلى أن عايدة تُحيل النثر شعرًا لا إلى شاعِرية أصيلة فيه. فالكتاب سيكون نثرًا، وسيكون مجلَّدًا ضخمًا في حجم القرآن الكريم وشكله، وستُحدق بصفحاته هوامش الشرح والتفسير كذلك، ولكن عمَّ يكتب؟ ألم يَحوِ القرآن كل شيء؟ لا ينبغي أن ييئس، ليجدنَّ موضوعه يومًا ما، حسبه الآن أنه عرف حجم الكتاب وشكله وهوامشَه، أليس كتاب يهزُّ الأرض خيرًا من وظيفة وإن هزَّت الأرض؟ كل المتعلمين يَعرفون سقراط، ولكن مَن منهم يعرف القضاة الذين حاكموه؟

٥

– مساء النور!

لا تُجيب! هذا ما قدرته وما أنا به عليم، هي البداية دائمًا … منذ قديمٍ وإلى الأبد، ها هي توليك ظهرها، ابتعدَت عن الحائط نحو حبل الغسيل، تَحبك المشابك، ألم تَحبُكيها من قبل؟ … بلى، ولكنك تدارين موقفك، إني أفهم كل الفهم، عشرة أعوام في المجون ليست بالخبرة القليلة، متع عينيك بمنظرها قبل أن يستقر الظلام الزاحف فلا تبدو إلا شبحًا، سمنت واكتنزت، زادت حُسنًا عما كانت أيام صباها، كالغزال كانت، ولكنَّها لم تكن تملك هذه الأرداف العبلة، رويدًا … لم يزل لها من رشاقة البكارة نصيب محترم، ما عمرك يا شاطرة؟ زعم أهلك قديمًا أنك في سن خديجة، رأي خديجة أنك تَكبُرينها بسنوات وسنوات. امرأة أبي تؤكد هذه الأيام أنك في الثلاثين مستشهدة بذكريات قديمة من نوع: أيام كنت حبلى في خديجة كانت صبية في الخامسة … إلخ، ما قيمة العمر؟ هل أنت ستُعاشرها حتى الكبر؟ في الأيام القصيرة تستوي الشابة والنصف، جميلة وجذابة ومشبعة دسمة، آه، نظرت صوب الطريق ولحظتك، أرأيت مقلتها وهي تلحظك كالدجاجة؟ لن أبرح موقفي يا مليحة، فتى تَعرفين الشيء الكثير عن جماله وقوته وماله، أليس هو خيرًا من ذلك الإنجليزي القديم …؟

– هل التحية عندكم لا تَستحقُّ ردًّا ولو بمثلها؟

ولَّتك قذالها مرة أخرى، مهلًا … ألم تبتسم؟ بلى، ومن سوَّى جمالها فجعله فتنة، لقد ابتسمت، مهدت لهذه الخطوة الأخيرة فأحسنت التمهيد، لا شك أنها تَعلم بكل حركاتي ومناوراتي السابقة، آنَ لي … وآن لك … من حسن حظي أنكِ لستِ من المصابات بداء الحشمة، ذاك الإنجليزي، جوليون، الجواد الكريم القائم أمامك مُوطَّأ المتن، ألا تسمعين حمحمته؟

– أليس للجار عندكم إكرام؟ … إني أشحذك تحية هي من صميم حقوقي.

جاءه صوتٌ رقيق خافت — بدا لتحوُّل الوجه عنه كأنه آت من بعيد — وهو يقول: ليسَت من حقك … على هذا النحو.

أجيب الطارق، رفعت سقاطة الباب، لن تَظفر بالمناغاة حتى تلعق الزجر، اثبت، الثبات، الثبات … كما يهتف به المُجاوِرُون: إذا كان صدر مني ما أغضبك فلن أغتفره لنفسي ما حييت!

هي في عتاب: إن سطح بيت أم علي، الداية، في مستوى سطحنا وسطحكم، ما عسى أن يظنَّ الناظر إذا رأى موقفك منِّي وأنا أنشر الغسيل؟

ثم في تساؤل هازئ: أم تُريد أن تجعل منِّي أحدوثة؟

بعد الشر عنك؟ هل راعيت هذا الحذر في مواقفكِ مع جوليون في الزمن القديم؟ لكن مهلًا، إن جمال عينيك وعجيزتك يَغفر ما تقدَّم وما تأخر من ذنبك.

– لا أبقاني الله في الحياة لحظة واحدة إن كنتُ قصدتك بسوء، لقد تواريت تحت سقيفة الياسمين حتى غابت الشمس، ولم أقترب من السور حتى ثبَت عندي خلوُّ سطح أم علي الداية.

ثم وهو يتنهد بصوت مسموع: وعذري بعد ذلك أني واليت صعود السطح أبدًا كي أظفر بهذه الخلوة … فلمَّا وجدتها الساعة استخفَّني السرور، وعلى أيِّ حال ربنا يستر.

– عجيبة! … لم هذا التعب كله؟

سؤال لا يَبعث عليه الجهل، يسألْنَ عما يَعرفن، ارتضَت أن تُحاورَك فاهنأ بحوارها.

– قلت لنفسي: أن تُحيِّيَها وأن تردَّ تحيَّتَك ألذُّ من الصحة والعافية.

التفتت إليه برأس دلَّت حركته في شبه الظلام على تكتُّم الضحك، وقالت: لسانك أطول من جسمك، ترى ماذا وراء كلامك؟

– وراءه؟ … هلا اقتربت من السور؟ عندي حديث طويل، منذ أيام وأنا أغادر البيت إلى الطريق، لاحت منِّي التفاتة إلى الأرض فرأيت ظلَّ يدٍ تتحرَّك، فنظرت إلى فوق فرأيتك مُطلَّة من السور، رأيت منظرًا جميلًا لا يمكن أن يُنسى.

دارت على عقبيها ولكنها لم تقترب خطوة، ثم قالت في لهجة تنمُّ عن الاتهام: كيف تنظر إلى فوق؟ … ولو كنت جارًا حقًّا كما تقول ما سمحتَ لنفسِك بأن تَجرح جارتك، ولكنك سيئ النية فيما بدا منك باعترافك، وفيما يبدو منك الساعة.

حقًّا إنه سيئ النية، أليس الفِسق من سوء النية؟ سوء نية من النوع الذي تحبينه، آه من النسوان! بعد ساعة ستُطالبين به كحقٍّ من حقوقك، بعد ساعتَين سأهرب وتجدِّين في أثري، على أي حال ليلتنا فل.

– ربنا يعلم بحُسن نيتي، نظرت إلى فوق لأني لا أستطيع أن أمنع النظر عن مكانٍ تكونين فيه، ألم تُدركي هذا؟ ألم تشعري به؟ جارك القديم يتكلَّم وإن تأخر به الزمن.

هازئة: تكلَّم، أطلق الحرية للسانك الطويل، ارفع صوتك، ماذا تفعل لو اقتحمَتْ عليك السطح امرأة أبيك فرأتك ورأتني؟

لا تزوغي يا بنت اللبؤة، سيكون من المعجزات أن أطوي عقلك، أتخافين امرأة أبي حقًّا؟ آه … إن ليلة في حضنها تساوي العمر كله.

– سأسمع وقع الأقدام قبل مجيئها، خلينا فيما نحن فيه.

– ما هذا الذي نحن فيه؟

– إنه يجلُّ عن الوصف.

– لا أجد شيئًا مما تقول، لعل هذا ما أنت وحدك فيه.

– لعله، إنه لأمر مؤسف حقًّا، أمر مؤسف أن يتكلَّم قلب فلا يجد من يستجيب له، إني أذكر أيام زياراتك لبيتنا، تلك الأيام التي كنا فيها وكأننا أسرة واحدة، وأتحسَّر.

غمغمت وهي تهزُّ رأسها: تلك الأيام!

لم عدت إلى الماضي؟ أخطأت خطأ كبيرًا، احذر أن يُفسد عليك الألم جهدك كله، ركِّز إرادتك كي تنسى كل شيء إلا الحاضر.

– ثم رأيتُكِ أخيرًا فرأيت شابَّة جميلة كالزهرة، تطلع في ظلام الليل فتُنوِّره، فكأنما أراك لأول مرة. ساءلت نفسي: أتكون هذه جارتنا مريم التي كانت تلعب مع خديجة وعائشة؟ كلا … هذه فتاة اكتمل لها الحُسن ونضج، وشعرت بأن الدنيا تتغيَّر من حولي.

قالت وقد عاود صوتها عبثَه: في تلك الأيام لم تكن عيناك تستبيحان التطلع إلى أحد. كنت جارًا بكل معنى الكلمة، ولكن ماذا بقيَ من تلك الأيام؟ تغيَّر كل شيء، عُدنا كالأغراب، وكأننا لم نتبادل كلمة، ولم ننشأ معًا نشأة الأسرة الواحدة، هذا ما أراده أهلك.

– دعينا من هذا، لا تُحمِّليني همًّا إلى هم.

– اليوم تتطلع بعينيك … في النافذة، وفي الطريق، وها أنت تقطع عليَّ السطح.

ماذا يمنعكِ من الذهاب إن كنت حقًّا تُريدينه؟ كذبك ألذُّ من الشهد يا نور الظلام.

– هذا قليل من كثير، إني أتطلع إليك أيضًا من حيث لا تدرين، وأراك في الخيال أكثر مما تتصوَّرين، أقول لنفسي الآن وأنا على بيِّنة مما أقول: إما القرب وإما الموت.

هسيس ضحكة مكتومة اهتزَّ لها قلبه، ثم تساءلت: من أين لك هذا الكلام؟

أشار إلى صدره، وهو يقول: من قلبي.

مسحت بقدمها على أرض السطح مُحدثة بالشبشب حفيفًا يُنذر بالتحرُّك ولكنها لم تزايل موضعها، وقالت: ما دام الأمر قد بلغ القلب، فينبغي أن أذهب.

بحماس علا به صوته أولًا حتى انتبه إلى نفسه فخفضه: بل يجب أن تأتي، أن تأتي إليَّ، الآن وإلى الأبد … (ثم بمَكر) إلى قلبي … هو لكِ وما يملك.

وبلهجة وعظية عابثة: لا تُفرِّط في نفسك على هذا النحو، حرام عليَّ أن أحرمك قلبك وما يملك.

إلى أيِّ مدًى ذهب بكِ الفهم؟ إني أخاطب فيكِ اللبؤة التي أحبُّها، لستِ بلهاء وحق ذكرى جوليون، تعالي يا بنت القديمة، أخاف أن أضيء في الظلام من شدة النار التي تَستعر في جسدي.

– هو وما يَملك لكِ عن طيب خاطر، سعادته في أن تقبليه وتملكيه، وأن تكوني له وحده.

قالت ضاحكة: أرأيتَ يا ماكر؟ … تُريد أن تأخذ لا أن تُعطي!

من أين لكِ بهذا اللسان؟ ولا زنوبة في زمانها، ملعونة الدنيا من غيرك.

– أريد أن تكوني لي كما أكون لك … أين الظلم في هذا؟

صمت، ونظر مُتبادل بين الشبحَين، حتى قالت: لعلهم يتساءلون الآن عما أخرك.

فقال مُستعطفًا بمكر: ليس ثمَّة في الدنيا مَن يهتمُّ بأمري.

عند ذاك غيرت لهجتَها مُتسائلة بجد: كيف ابنك؟ … لا يزال عند جدِّه؟

ماذا وراء هذا السؤال الغريب؟

– بلى.

– ما عُمره الآن؟

– خمس سنوات.

– وما أخبار والدته؟

– إنها تزوجت أو ستتزوَّج في القريب العاجل.

– خسارة! لِمَ لَمْ تردَّها ولو إكرامًا لرضوان؟

يا بنت اللبؤة، أَفصحِي عما ترُومِين.

– أهذه رغبتك حقًّا؟

وهي تَضحك ضحكة خافتة: يا بخت من وفَّق رأسين في الحلال.

وفي الحرام؟

– لكنَّني لا أنظر إلى الوراء.

ساد صمت بدا غريبًا مليئًا بالفكر … حتى قالت بصوت جمع بين التحذير واللين: إياك وأن تَقطع عليَّ السطح مرةً أخرى.

فقال بجرأة: أمرك مُطاع، ليس السطح بالمكان المأمون، ألم تعلَمي بأن لي بيتًا في قصر الشوق؟

هتفت مُستنكِرة: بيتك! أهلًا يا سي بيته.

فسكت قليلًا كأنما يحاذر، ثم تساءل: خمِّني فيم أفكر؟

– لا شأن لي بهذا.

صمت، ظلام، خلوة، ما أفظع تأثير الظلام في أعصابي!

– إني أفكر في سورَي سطحَينا المتلاصقَين، بم يوحي منظرهما إليك؟

– لا شيء.

– منظر حبيبَين متلاصقين.

– لا أحبُّ سماع هذا الكلام.

– تلاصُقُهما يُذكر أيضًا بأنه ليس ثمة ما يفصل بينهما.

– هيه.

ندَّت عنها كاستدراج مليء بالوعيد، فقال ضاحكًا: كأنهما يقولان لي: اعبر.

تراجعت خطوتين حتى التصق ظهرها بملاءة منشورة، ثم همست في تحذير جدِّي: لا أسمح بهذا.

– هذا! … ما هذا؟

– هذا الكلام.

– والفعل؟

– سأترُكُك غاضبة.

كلا وحياتك الغالية … أتعنين ما تقولين؟ أأنا أغبى مما أظن، أم أنتِ أمكر مما أتصوَّر؟ لمَ تكلَّمَتْ عن رضوان وأمه؟ هل تُلوِّح بالزواج؟ ما أشد رغبتك إليها! رغبة جنونية.

قالت مريم بغتة: آه! … ما الذي يدعُوني إلى البقاء؟

ودارَت حول نفسها، ثم تَطامَن رأسها لتمرَّ من تحت الغسيل، فأرسل صوته وراءها قائلًا في جزع: تذهَبين دون تحية!

اشرأبَّ رأسها فوق حبل الغسيل، ثم قالت: البيوت من أبوابها، هذه تحيَّتي.

واتَّجهت مُسرعة نحو باب السطح فمرَقَت منه.

عاد ياسين إلى الصالة، فاعتذَر لأمينة عن طول غيبتِه بحرارة الجو في الداخل، ثمَّ ذهب إلى حجرته ليَرتدي بذلته. كان كمال يَتبعه عينَيه في دهشة وتفكير، ونظر إلى أمه فألفاها هادئة مُطمئنة وكانت فرَغَت من احتساء قهوتها وقراءة الفنجان، فتساءل ترى ماذا يَحدث لها لو علمت بما دار فوق السطح؟ … هو نفسه لم يُزايله القلق منذ اطلع مصادفة على منظر المتناجين حين مضى وراء أخيه مُستطلعًا غيبته، فعل ياسين ذلك، هل هانت عليه ذِكرى فهمي؟ لا يستطيع أن يتصوَّر هذا، كان ياسين يحبُّ فهمي حبًّا صادقًا، وقد حزن عليه حزنًا شديدًا، لا يجوز أن يَرتاب في إخلاصه، إلى أن هذه «الحوادث» كثيرًا ما تقع، ثم إنه لم يدرِ لم يربطون دائمًا بين فهمي ومريم؟ لقد علم المرحوم بواقعة جوليون في حينها، ثم مر زمن طويل بدا عليه أنه نسيها نسيًا تامًّا، وشُغل عنها بما هو أجل وأخطر، وما كانت تستحق غير ذلك، وما كانت يومًا كفئًا له. إنه مما يدعو إلى النظر حقًّا أن يتساءل: هل يُمكن أن يُنسى الحب؟ الحب لا يُنْسَى، هذا ما يؤمن به، ولكن من أدراه أن فهمي أحب مريم بالمعنى الذي يفهمه — أو يشعر به — هو من الحب؟ لعلها كانت رغبة قوية، كهذه الرغبة التي تَستحوِذ الساعة على ياسين، بل كتلك الرغبة القديمة إلى مريم نفسها التي ناوشته هو على عهد البلوغ وعابثَت أحلامه، أجل وقع هذا أيضًا، وعانى منها ألمَين؛ ألم الرغبة، وألم الندم، وكانا في القوة متعادلين فلم ينقذه من شرِّهما إلا زواج مريم واختفاؤها. يُهمه أن يعلم الآن هل تألم ياسين وهل وخَزه الندم؟ وإلى أيِّ مدًى؟ لا يتصور أن يكون الأمر جرى سهلًا مهما يكن ظنُّه بحيوانية ياسين، وفتور حماسه للمثل العليا. وعلى رغم نظرته المتسامحة للأمر كله شعر بامتعاض وقلق كما ينبغي لإنسان لا يعدل بمثاليته شيئًا في الوجود.

رجع ياسين من الحُجرة وقد ارتدى ملابسه وأخذ زينته، فحيَّاهما وانصرف، وبعد قليل سمعا نقر استئذان على باب الصالة، فدعا كمال القادم — وهو على يقين من هويته — فدخل شابٌّ يُماثله في السن، قصير القامة، وسيم الطلعة، مُرتديًا جلبابًا وجاكتة، فقصد أمينة وقبَّل يدها، ثم صافح كمال وجلس إلى جانبه، كان في سلوكه — رغم ما أخذ به نفسه من التأدب — ألفة كأنما كان واحدًا من أهل البيت، وأكثر من هذا فقد أقبلت أمينة تُحادثه وهي تدعوه بكل بساطة: «يا فؤاد»، وتسأله عن صحة أبيه جميل الحمزاوي ووالدته، فيجيبها مستشعرًا السرور، والامتنان في حسن استقبالها، وترك كمال صديقه مع والدتِه، ومضى إلى حجرته ليرتدي جاكتته، ثم يعود إليه فينطلقا معًا.

٦

سارا جنبًا إلى جنب صوب درب قرمز، متجنِّبَين طريق النحَّاسين، ليتفاديا من المرور بالدكان حيث يوجد والداهما … كمال بقامته الطويلة النحيلة، وفؤاد بقامته القصيرة، تكاد صورتاهما تلفتان الأنظار بتناقُضهما، تساءل فؤاد بصوت هادئ: أين تذهب هذا المساء؟

فأجابه كمال بصوته الانفعالي: قهوة أحمد عبده.

كان كمال — عادة — يُقرِّر، وفؤاد يُوافق رغم ما عرف عن الأخير من رجاحة العقل، ورغم نزوات كمال التي كانت تبدو مضحكة في عين رفيقه، مثل دعواته المتكررة له للذهاب إلى جبل المقطم، والقلعة، والخيمية، لتسريح النظر — على حد تعبيره — في مخلفات التاريخ وعجائب الحاضر، ولكن الحق أن العلاقة بين الصديقين لم تخلُ من تأثر بفارق طبقتيهما، وكون الأول ابن صاحب الدكان والآخر ابن وكيله، وعمَّق هذا التأثر أن فؤاد اعتاد في صباه أن يؤدي ما يكلف به من شراء بعض حوائج لبيت السيد أحمد، وأن يكون صنيعة لكرم أمينة التي لم تكن تضن عليه بأحسن ما عندها من مأكل — وكثيرًا ما يصادف مجيئه أوقات الغداء — وأصلح ما يمكن استغناء عنه من ملابس كمال، فربط بينهما منذ البدء شعور باستعلاء من ناحية، وبالتبعية من ناحية أخرى … وهو وإن مضى يزول بحلول شعور الصداقة محله، إلا أن أثره النفسي لم يُقتلَع من الأعماق، وقد قضَت ظروف بألا يجد كمال من رفيق تقريبًا طوال العطلة الصيفية إلا فؤاد الحمزاوي، ذلك أنَّ رفاق صباه من أهل الحي لم يواصلوا التعليم إلى النهاية؛ منهم من توظف بالابتدائية أو الكفاءة، ومنهم من اضطر إلى مزاولة عمل من الأعمال البسيطة مثل صبي قهوة بين القصرين، وصبي الكواء البلدي بخان جعفر. كان كلاهما من أقرانه في الكتَّاب. وما زال ثلاثتهم يتبادلون تحية الزمالة القديمة كلما اتفق لهم اللقاء، تحية مشربة بالاحترام من ناحيتهما لما يُضيفه طلب العلم عليه من امتياز، مشبعة من ناحيته بالمودة الصادرة عن نفس مطبوعة على التواضع والبساطة، أما أصدقاؤه الجدد الذين اكتسب صداقتهم في العباسية؛ حسن سليم، وإسماعيل لطيف، وحسين شداد فكانوا يقضون العطلة في الإسكندرية ورأس البر، فلم يبقَ من رفيق إلا فؤاد.

بلغا مدخل قهوة أحمد عبده بعد مسيرة دقائق، فهبطا إلى مستقرِّها الغريب في جوف الأرض تحت حي خان الخليلي، واتجها إلى مقصورة خالية، وفيما هما يَجلسان متقابلين حول المائدة تمتم فؤاد في شيء من الحياء: ظنَنتك ستذهب هذا المساء إلى السينما.

وشى قوله برغبته في الذهاب إلى السينما، ولعلَّها راودته قبل أن يَذهب إلى مقابلة كمال في بيته، ولكنه لم يُفصح عنها؛ لا لأنه لا يستطيع أن يثني كمال عن رأيٍ فحسب، وإنما لأن كمال هو الذي يقوم بنفقات السينما إذا ذهبا إليها معًا، فلم تُواتِه شجاعته على التلميح إلى رغبته حتى استقر بهما المجلس بالقهوة، حيث يُمكن أن يؤخذ قوله مأخذ الملاحظة البريئة العابرة.

– سنَذهب يوم الخميس القادم إلى الكلوب المصري؛ لمشاهدة شارلي شابلن، فلنلعب الآن عشرة دومينو.

خلَعا طربوشيهما ووضعاهما على مقعد ثالث، ثم نادى كمال النادل، طلب شايًا أخضر ودمينو. بدا المقهى المدفون كجوف حيوان من الحيوانات المنقرضة، طُمر تحت ركام التاريخ إلا رأسه الكبير، فقد تشبَّث بسطح الأرض فاغرًا فاه عن أنياب بارزة على هيئة مدخل ذي سلَّم طويل، وثمة في الداخل صحن واسع مربَّع الشكل مبلَّط بالبلاط المعصراني تتوسطه فسقية رصت على حافتها أصص القرنفل، وأحدقت بها من الجهات الأربع أرائك فُرشت بالحصير المزركش والوسائد، أما جدرانه فقد انتظمتها مقاصير صغيرة الحجم مُتجاورة، كأن الواحد منها كهف منحوت في الحائط، لا نافذة بها ولا باب لها، واقتصر أثاثها على مائدة خشبية، وأربعة مقاعد، ومصباح صغير يشتعل ليل نهار في كوة بأعلى الجدار المواجه للمدخل. وكأن القهوة اكتسبت من موقعها الغريب بعض صفاته، فهي تُهوِّم في هدوء غير مألوف لسائر المقاهي، وضوء غير باهر، وجو رطيب، وقد انطوت كل جماعة على نفسها في مقصورتها أو فوق أريكتها، تدخن النارجيلة، وتحسُو الشاي، وتَهيم في دردشة لا نهاية لها، تكاد تشملها نغمة صبا وانية متَّصلة إلا أن تقطعها في فترات متباعدة سعلة، أو ضحكة، أو قرقرة مدخن منهم.

كانت قهوة أحمد عبده في نظر كمال مُجتلى للمُتأمِّل وتحفة للحالم، أما فؤاد — وإن لم تغب عنه طرافتها أولَ عهده بها — فلم يَعُد يجد فيها إلا مجلسًا كئيبًا تغشاه الرطوبة والهواء الفاسد، ولكنه لم يكن يَملك إلا أن يُلبي كلما دُعي إليها.

– أتَذكُر يوم رآنا أخوك سي ياسين ونحن في مجلسنا هذا؟

قال كمال باسمًا: نعم، سي ياسين متسامح ولطيف ولم يُشعرني أبدًا بأنه أخي الأكبر، بيد أني رجوتُه يومذاك ألا يُشير إلى مجلسنا في البيت لا خوفًا من أبي؛ فإن أحدًا عندنا لا يجرؤ على مكاشفته بمثل هذا الأمر، ولكن إشفاقًا من إزعاج والدتي، تصوَّر أنها ترتعب إذا علمت بترددنا على هذه القهوة أو غيرها، وتظنُّ أن أغلبية رواد المقاهي من الحشَّاشين وسيئي السمعة.

– وسي ياسين، ألم تَعلم بأنه من رواد المقاهي؟

– إذا قلت لها هذا قالت لي: إن ياسين «كبير» ولا خوف عليه، أما أنا فصغير، الظاهر أني سأظل معدودًا في الصغار في بيتنا حتى يُدركني المشيب.

جاء النادل بالدومينو، وقدحَين من الشاي على صينية فاقعة الاصفِرار، فتركها جميعًا على المائدة وذهب، تناول كمال قدحه مِن فوره وراح يحتسيه من قبل أن تخف حرارته، يَنفخ السائل ثم يتمزَّزه، وينفخ مرة أخرى، ويُمصمص شفتيه كلما لسعته الحرارة، ولكن ذلك لا يردعه فيعاود المحاولة في عناد وجزع كأنه محكوم عليه بالفراغ منه في دقيقة أو دقيقتين، على حين جعل فؤاد يراقبه صامتًا أو يمد بصره إلى لا شيء، وهو مستند إلى ظهر مقعده في رزانة أكبر من سنة، تلوح في عينَيه الواسعتين الجميلتَين نظرة عميقة هادئة، ولم يمدَّ يده إلى قدحه حتى كان كمال قد فرغ من مُغالبة قدحه، وعند ذاك أقبل يتحسَّى الشاي في تأنٍّ مُستطعمًا مذاقه مُستلذًّا نكهته، وهو يغمغم بعد كل حسوة «الله … ما أطيبه!» والآخر يحثُّه على الفراغ منه بصبر نافد كي يأخذا في اللعب، وهو يقول مُنذرًا: لأهزمنَّك اليوم، لن يُحالفك الحظ أبد الدهر.

فيبتسم فؤاد مغمغمًا: سنرى.

وأخذا يلعبان.

كان كمال يُولي المباراة اهتمامًا عصبيًّا، كأنه يخوض معركة تتوقَّف على نتائجها حياته أو كرامته، بينا مضى فؤاد في نَظمِ قِطَعِه بهدوء ومهارة، فلم تُفارق الابتسامة شفتَيه، أقبل الحظ أم أدبر، هشَّ كمال أم عبَسَ، وقد خرج كمال — كعادته — عن طَوره، فهتف به: «لعب سخيف، وحظ سعيد.» فلم يزد الآخر عن أن ضحك ضحكة مهذَّبة لا تُثير حنَقًا ولا توحي بتحد. طالَما قال كمال لنفسه وهو يتميَّز غيظًا: «لن يبرح حظه راكبًا حظي.» ولم يكن يلقى اللعب بالتسامح الخليق باللهو والتسلية، بل الحق لم يكن ثمة فارق — في اهتمامه وحماسه — بين جده ولهوه. على أن تفوق فؤاد في المدرسة لم يكن دون تفوقه في الدومينو، كان أول فرقته بينا كان هو في الخمسة الأوائل، فهل ثمَّة دور للحظِّ في ذلك أيضًا؟ كيف يُعلِّل تفوُّق الشاب الذي ينطوي له في الأعماق على شعور بالاستعلاء ظنَّ أنه ينبغي أن يمتد إلى المواهب العقلية على السواء؟ لم يعدم رأيًا يُهوِّن به من تفوق صاحبه؛ فهو يقول إنه يُكرِّس وقته كله للمذاكرة، وأنه لو كان عقله بالتفوق الذي يَزعُمون لأغنى عنه بعض هذا الوقت، ويقول أيضًا: إنه يتجنَّب الألعاب الرياضية وقد برز هو في أكثر من نوع منها، ويقول أخيرًا: إن فؤاد يَقتصِر في مطالعاته على الكتب المدرسية، وإذا تراءى له أن يقرأ كتابًا غير مدرسي في العطلة لاحظ في اختياره أن يكون مُفيدًا لدراسته اللاحقة، أما هو فلا تحدُّ مطالعته حدود ولا تُوجِّهها منفعة، فما وجه الغرابة في ذلك في أن يَسبقه الشاب في الترتيب؟ غير أن سخطه هذا لم يُعرِّض صداقتهما للوهن، كان يحبه ويجد في رفقته مؤانسة ومسرة إلى أنه لم يضنَّ — على الأقل فيما بينه وبين نفسه — بالإقرار بفضائله ومزاياه.

تواصَل اللعب وانتهت العشرة — على غير ما أنذر به مطلعها — بانتصار كمال. فتطلق وجهه، وضحك ضحكة عالية، ثم سأل غريمه: «عشرة أخرى؟» ولكن فؤاد قال باسمًا: «حسبنا اليوم ما كان.» لعله كان مل اللعب، أو لعله أشفق من أن تجيء نتيجة العشرة المقترحة مخيبة لآمال كمال فينقلب سروره غمًّا، فهزَّ كمال رأسه كالمتعجب، وقال: إنك كالسمك من ذوي الدم البارد.

ثم بلهجة المُنتقِد، وهو يُدلِّك أرنبة أنفه العظيم بإبهامه وسبَّابته: إني أعجب لك، إذا غُلبت لم تأبه للأخذ بثأرك، وتحبُّ سعد ولكنَّك تنكص عن الاشتراك في مَظاهرة أريد بها تحيته يوم ولي الوزارة، وتَتبارك بسيدنا الحسين، ولكن لم تهتزَّ لك شعرة يوم ثبَت لنا من تاريخه أن جثمانه غير ثاو في ضريحه القريب! إني أعجب لك.

شدَّ ما يَحنقه البرود، إنَّ ما يُسمُّونه «العقل» لا يُطيقه، وكأنه يحبُّ الجنون ويَهيم به. إنه يذكر يوم قيل لهما في المدرسة: «إنَّ ضريح الحسين رمز، ولا شيء غير ذلك.» عادا يومذاك معًا وفؤاد يُردد ما قاله مدرس التاريخ الإسلامي، وكان كمال يَتساءل منزعجًا: كيف أوتي صاحبه تلك القوة التي تحمَّل بها الخبر كأنه شأن لا يعنيه؟ أما هو فلم يَستسلِم لتَفكير، لم يستطع أن يُفكر ألبتة، وكيف لثائر أن يُفكِّر؟ سار كالمُترنِّح من هول الطعنة التي نفذت إلى صميم قلبه، كان يبكي خيالًا نضبَ وحلمًا تبدَّد، لم يَعُد الحسين بجارهم، بل لم يكن بجارهم يومًا من الأيام، أين ذهبت القبلات التي طبعت على باب الضريح في صدق وحرارة؟ أين يذهب الاعتزاز بالقرب والإدلال بالجوار؟ لا شيء من هذا كله، لم يبقَ إلا رمز في الجامع ووحشة وخيبة في القلب، وبكى ليلَتَذاك حتى بلَّل وسادته، تلك كانت الصدمة التي لم تُحرِّك في صديقه العاقل إلا لسانه حين علق عليها مُردِّدًا أقوال مدرس التاريخ، ألا ما أبشع العقل!

– هل علم والدك برغبتك في دخول مدرسة المعلمين؟

قال كمال بحدَّة جاءت مُعبِّرة عن ضيقه ببرود صاحبه وألمه المُتخلِّف عن مناقشة أبيه معًا: نعم.

– وماذا قال لك؟

فقال يُروِّح عن صدره بمهاجمة محدِّثه عن طريق غير مُباشر: وا أسفاه … إنَّ والدي كأكثر الناس ممَّن يَهيمون بالمظاهر الزائفة، الوظيفة … النيابة … القضاء … هذا كل ما يُهمُّه، لم أدرِ كيف أُقنعُه بجلال الفكر والقيم السامية الحقيقة بالنشدان في هذه الحياة! غير أنه ترَك لي حرية التصرُّف.

جعلت أصابع فؤاد تعبَث بقطعة من الدومينو، وهو يقول في حذر وإشفاق: قيم جليلة بلا شك، ولكن أين البيئة التي ترفعُها إلى المنزلة اللائقة بها؟

– لا يُمكن أن أنبذ عقيدة سامية لا لشيء إلا أن مَن حولي لا يؤمنون بها.

فعاد يقول في هدوء مسكن: رُوح جديرة بالإعجاب! … ولكن ألا يحسن بك أن تُقدر مستقبلك في ضوء الواقع؟

فتساءل كمال بازدراء: تُرى لو كان زعيمنا قد أخذ بهذه النصيحة، أكان يفكر جديًّا في أن يذهب إلى دار الحماية للمُطالبة بالاستقلال؟

ابتسم فؤاد ابتسامةً كأنها تقول: «رغم ما في حجَّتك من وجاهة فهي لا تصلح قاعدة عامة في الحياة.» ثم قال: ادخل الحقوق حتى تضمَن عملًا محترمًا ولك بعد ذلك أن تُواصِل ثقافتك كما تشاء.

فقال كمال مُحتدًّا: لم يجعل الله لامرئ من قلبين في جوفه، ثم دعني أحتج على ربطك العمل المحترم بالحقوق! كأن التدريس ليس عملًا مُحترمًا!

فبادر فؤاد يقول بتوكيد يدفع به عن نفسه الشبهة: لم أقصد هذا مطلقًا، ومَن ذا الذي يقول إن حفظ العلم ونشره ليس عملًا مُحترمًا؟ لعلي كنت أردِّد رأي الناس وأنا لا أدري، والناس كما أشرت إلى شيء من هذا تبهرهم أضواء القوة والنفوذ.

فهز كمال منكبَيه استهانة، وقال بإصرار: إنَّ حياة تُكرِّس للفكر لهي أجل حياة.

هز فؤاد رأسه كالموافق دون أن ينبس، وظل لائذًا بالصمت حتى سأله كمال: ما الذي دعاك إلى اختيار الحقوق؟

ففكر قليلًا ثم أجابه: لم أكن مثلك واقعًا في غرام الفكر، فكان عليَّ أن أختار دراسة عالية على ضوء المستقبَل وحده، فاخترت الحقوق.

أليس هذا هو صوت العقل؟ بلى إنه هو، شدَّ ما يُثير حنقَه وتمرُّده، أليس من الظلم أن يُمضي العطلة الطويلة وهو حبيس هذا الحي، ولا رفيق له إلا هذا «العاقل»؟ ثمة حياة أخرى تُعارض حياة الحي العتيق معرضة الضد للضد، وثمة رفاق آخرون يخالفون فؤاد مخالفة النقيض للنقيض، إلى تلك الحياة وإلى أولئك الرفاق تهفو نفسه، إلى العباسية، إلى الطراز الطريف من الشباب، وقبل كل شيء إلى الأناقة الرفيعة والنغمة الباريسية والحلم البديع … إلى معبودته، آه … إن نفسه تنازعه إلى البيت، إلى حُجرته كي يخلو إلى نفسه فيدعو كراسته، يراجع تاريخًا، أو يَستعيد ذكرى، أو يسجلُّ نفثة، ألم يَئِن له أن يقوِّض هذا المجلس ويذهب؟

– قابلت أناسًا فسألوني عنك!

تساءل كمال وهو يَنزع نفسه بمشقَّة من تيار الوجد: من؟

فؤاد ضاحكًا: قمر ونرجس.

قمر ونرجس ابنتا أبو سريع صاحب المقلى، قبو قرمز، الأزقة المُظلمة بعد الغروب، العبث المشوب بالسذاجة الدنسة أو الدنس الساذج، المُراهقة المحمومة ألا يذكر هذا كله؟ ما لشفتيه تتقلَّصان تقزُّزًا؟ ذلك تاريخ قديم نسبيًّا، قبل حلول الروح القدس، لا يذكره إلا ويثُور قلبه سخطًا وألمًا وخجلًا كما يَنبغي لقلب أترع بشراب الحب الطهور: كيف قابلتهما؟

– في زحمة مولد الحسين، فسرت إلى جانبهما دون تردُّد أو ارتباك كأنَّنا أسرة واحدة جاءت لتطوف بالمولد.

– يا لك من جريء!

– أحيانًا، سلمتُ فسلَّمتا، وتحادثنا مليًّا، ثم سألتْني قمر عنك.

تورد وجهه قليلًا وهو يسأل: ثم؟

– اتفقنا مبدئيًّا على أن أُخبرك، ثم نتقابل جميعًا.

هَزَّ كمال رأسه في نفور، ثم قال باقتِضاب: كلا!

فقال فؤاد في دهش: كلا؟ ظننتك تُرحب بلقاء تحت القبو أو في فناء البيت المهجور. نضج جسماهما، وعما قليل تَصيران امرأتين بكل معنى الكلمة، وعلى فكرة كانت قمر مُرتدية الملاءة اللف ولكنها كانت سافرةً فقلت لها ضاحكًا: لو لبست البرقع ما تجرأتُ على محادثتك.

قال كمال بإصرار: كلا!

– لِمَ؟

– لَمْ أعد أُطيق القذارة.

ثم بحدة نمَّت عن ألمٍ دفين: لا أستطيع أن ألقى الله في صلاتي وثيابي الداخلية ملوَّثة.

فقال فؤاد بسذاجة: تطهَّر واغتسل قبل الصلاة.

فقال كمال، وهو يهز رأسه للاستعارة الضائعة: إنَّ الماء لا يُطهِّر من الدنس.

ذلك الصراع القديم، كان يمضي في لقاء قمر مُضطربًا بالشهوة والقلق، ويعود بضميرٍ معذَّب وقلب باكٍ، ثم عقب الصلاة يستغفر استغفارًا حارًّا طويلًا، لكنه يمضي مرة أخرى مغلوبًا على أمره، ثم يعود بالعذاب ليستغفر من جديد … يا لها من أيام نضحت بالشهوة والمرارة والعذاب، ثم انبثق النور! هنالك وسعه أن يُحبَّ وأن يُصلي معًا، كيف لا؟ والحب من منبع الدين يقطر صافيًا، قال فؤاد في شيء من الحسرة: انقطعَت علاقتي بنرجس منذ مُنعت من اللعب في الحارة.

فسأله كمال باهتمام: ألم تكن — وأنت المؤمن — تتعذَّب بتلك العلاقة؟

فقال فؤاد، وهو يغضُّ البصر حياء: هنالك أمور ما منها بد.

ثم متسائلًا، وكأنه يُداري حياءه: أترفض حقًّا انتهاز هذه الفرصة؟

– بكل تأكيد!

– لوجه الدين وحده؟

– أليس هذا كافيًا؟

ابتسم فؤاد ابتسامة عريضة، وقال: كم تُحمِّل نفسك ما لا يُحتمل!

فقال كمال بإصرار: إني لكذلك، وما ينبغي لي أن أكون غير ذلك.

وتبادلا نظرة طويلة، أفصحت في عيني كمال عن الإصرار والتحدي، فانعكست في عيني فؤاد مُهادنة، وابتسامة كأشعة الشمس الجهنمية التي تَنعكِس على سطح الماء لألاءً ضاحكًا، ثم واصل كمال حديثه: إني أرى الشهوة غريزة حقيرة، وأمقُت فكرة الاستسلام لها، لعلها لم تُخلق فينا إلا كي تلهمنا الشعور بالمقاومة والتسامي حتى تعلو عن جدارة إلى مرتبة الإنسانية الحقَّة، إما أن أكون إنسانًا، وإما أن أكون حيوانًا.

فتريث فؤاد قليلًا، ثم قال بهدوء: أظنُّ أنها ليسَت شرًّا خالصًا، فهي الدافع إلى الزواج، فالذرية.

خفق قلب كمال خفقة عنيفة لم تجرِ لفؤاد في خاطر، أهذا هو الزواج في النهاية؟ لكنه لم يكن يجهل هذه الحقيقة في جُملتها، وإن كان في حيرة لا يدري كيف يُوفِّق الناس بين الحب والزواج، إنها مُشكلة لم يَرتطِم بها في حبه؛ لأن الزواج بدا دائمًا — ولأكثر من سبب — فوق مُرتقى أمانيه — ولكن ذلك لم يَمنع من قيامها مشكلة تتطلَّب الحل. ما كان يتصوَّر أن يكون اتصال سعيد بينه وبين معبودته إلا عن طريق العطف الرُّوحي من ناحيتها، والتطلُّع الهيمان من ناحيته، طريق بالعبادة أشبه، بل هو العبادة نفسها، فأيُّ شأن للزواج في هذا؟

– الذين يحبون حقًّا لا يتزوجون.

تساءل فؤاد بدهش: ماذا قلت؟

فطنَّ حتى قبل تساؤل فؤاد إلى أن لسانه خان إرادته، فبدا عليه الارتباك لحظة حرجة، وراح يتذكَّر آخر أقوال فؤاد قبل نُدود هذه الجملة الغريبة عنه حتى اهتدى بشيء من الجهد — على حداثة العهد بسماعها — إلى كلماته عن الزواج والذرية، فصمَّم على مداراة هفوته وعلى تصحيح معناها ما أمكن، فقال: الذين يُحبون ما فوق الحياة لا يتزوجون، هذا ما عنيت.

ابتسم فؤاد ابتسامة خفيفة أو لعله كان يقاوم ضحكة، غير أن عينيه العميقتين لم تنمَّا عما وراءهما، واكتفى بأن قال: هذه أمور خطيرة، والحديث عنها الآن سابق لأوانه، فلندَعْها مرهونة بأوقاتها.

فرفع كمال منكبَيه باستهانة وثقة، وقال: فلندعْها ولننتظر.

فؤاد في وادٍ وهو في واد، على ذلك فهما صديقان، لا يسعه أن ينكر أن الخلاف في نفسه يجذبه إليه على ما في ذلك من جهد تعانيه أعصابه المرة بعد المرة، ألم يئن له أن يعود إلى البيت؟ الوحدة ومناجاة النفس تتجاذبانه. الكراسة النائمة في درج مكتبه تُهيِّج جيشان صدره، لا بد للمَكدود في مكابدة الواقع من انتجاع بعض الراحة في الانطواء.

– آن لنا أن نعود.

٧

كان الحنطور يتابع سيره على شاطئ النيل حتى وقف أمام عوَّامة في نهاية المثلث الأول من طريق إمبابة، وما لبث أن غادره السيد أحمد عبد الجواد، ثم تبعه على الأثر السيد علي عبد الرحيم.

كان الليل قد جثَم في مجثمه، وغشيَت الظلمة كلَّ شيء إلا أضواء مُتباعِدة تطلُّ من نوافذ العوامات والذهبيات التي يَنتظمها الشاطئان من جسر الزمالك فهابطًا، وأنوار خافتة لاحت عند موقع القرية في نهاية الطريق كالسحابة الناضجة بوهج الشمس في سماء ملبدة بالغيوم الدكن.

كان السيد أحمد يجيء إلى العوَّامة للمرة الأولى على رغم اكتراء محمد عفت لها منذ أربع سنوات — ذلك أن صاحبها خصَّصها لمَجالس الغرام، وقد حرَّمها السيد أحمد على نفسه منذ مصرع فهمي — فتقدمه علي عبد الرحيم ليدلَّه على المعبر، حتى إذا قارب السلَّم، قال محذرًا: السلم ضيق ودرجاته مرتفعة ولا درابزين له. ضع قدمك على كتفي وانزل على مهل.

هبطا بحذر شديد، وخرير الماء المتلاطم على الشاطئ ومقدم العوامة يداعب آذانهما، وقد فغمت أنفيهما رائحة نباتية مازجها عرف الطمي الذي جاد به الفيضان في ذلك الوقت من أول سبتمبر، قال علي عبد الرحيم وهو يتحسس زر الجرس على جدار المدخل: هذه ليلة تاريخية في حياتك وحياتنا، ينبغي أن نُطلق عليها اسمًا مناسبًا احتفالًا بها، ليلة رجوع الشيخ؟ ما رأيك؟

قال السيد أحمد، وهو يشدُّ قبضته على منكبه: لكنني لستُ شيخًا، الشيخ الحقيقي كان أبوك.

علي عبد الرحيم وهو يضحك: سترى الآن وجوهًا لم ترَها منذ خمس سنوات.

قال السيد كالمتردِّد: لا يعني هذا أنني أُغيِّر من سلوكي أو أحيد عن خطتي (ثم بعد لحظة سكوت) قد … قد …

– تصوَّر كلبًا يَعدُ بألا يقرب اللحم إذا تُرك في المطبخ.

– الكلب الحقيقي كان أبوك يا ابن الكلب.

رنَّ الجرس، فُتح الباب بعد نصف دقيقة عن وجه نوبي عجوز، تنحَّى جانبًا وهو يرفع يديه إلى رأسه تحية للقادمين، فدخل الرجلان ومالا إلى بابٍ على يسار الداخل فجازاه إلى دهليز قصير مضاء بمصباح كهربائي يتدلى من السقف، وقد حُلِّي جداراه المتقابلان بمرآتين قام تحت كل منهما مقعد جلدي كبير وخوان، وكان في نهاية الدهليز المواجه لمدخلِه باب آخر موارب وشى بأصوات السمَّار التي اهتز لها صدر أحمد عبد الجواد، فدفعه علي عبد الرحيم ودخل، فتبعه السيد. ولكنه ما كاد يَعبُر عتبته حتى وجد نفسه حيال الحاضرين وهم وقوف، وقد أقبلوا نحوه مرحِّبين مهلِّلين يكاد يطفو البِشر من وجوههم. وكان محمد عفت أسرعهم إليه فعانقه، وهو يقول: طلع البدر علينا …

ثم عانقه إبراهيم الفار، قائلًا: أتاني زماني بما أرتضي.

وتنحَّى الرجال جانبًا، فرأى جليلة، وزبيدة، وامرأة ثالثة وقفت متأخِّرة عنهما خطوتَين ما لبث أن تذكر فيها زنُّوبة العوادة، آه … الماضي كله قد جُمع في إطار واحد، وتطلقت أساريره وإن بدا عليه شيء من الارتباك، ولكن جليلة ضحكت ضحكة طويلة، ثم فتحت ذراعيها وعانقته، وهي تقول بنبرات غنائية: كنت فين يا حلو غايب.

ولما أطلقتْه رأى زبيدة على بُعد ذراع كالمتردِّدة وإن أضاء وجهها نور الترحيب والسرور، فمد نحوها ذراعه فشدَّت عليها، وعند ذاك زوَت ما بين حاجبَيها المزجوجين في عتاب، قائلة بلهجة لم تخلُ من تهكُّم: من بعد تلتاشر سنة!

فما تمالَكَ أن ضحك من أعماق صدره. وأخيرًا رأى زنُّوبة بموقفها لم تَبرحْه، وقد ارتسمت على ثغرها ابتسامة حياء كأنها لم تجد من ماضيها ما يُعطيها حقًّا في رفع الكُلفة بينهما، فمدَّ لها يده مُصافحًا، وهو يقول مُشجِّعًا ومجاملًا: أهلًا بأميرة العوَّادات!

ورجعوا إلى مجالسهم، فشبك محمد عفت ذراعه بذراع أحمد ومضى به إلى مجلسه، فأجلسه إلى جانبه، وهو يَتساءل ضاحكًا: وقعتَ أم الهوى رماك؟

فغمغم السيد أحمد: رماني الهوى فوقعتُ!

أخذ المكان يستبين لعينَيه اللتَين غابتا عنه أول الأمر في حرارة اللقاء ومزاح المرحِّبين، فوجد نفسه في حُجرة متوسِّطة الحجم، طُليت جدرانها وسقفها بلونٍ زمردي، تُطلُّ على النيل بنافذتين وعلى الطريق بنافذتين. وقد أُغلق خصاص نوافذها وفُتح زجاجها، يتدلى من سقفها مصباح كهربائي ذو غطاء مخروطي من البَلُّور يُركز نوره على سطح خوان توسَّط الحجرة حاملًا الأقداح وقوارير الويسكي، وقد فُرشت الأرض ببساطٍ مُتجانس اللون مع الجدران والسقف، وقامت في كل جانب من الحجرة كنبة كبيرة شُطرت بنمرقة وغشيت بغطاء مُزركش، أما الزوايا فقد احتلَّت بشلت ووسائد. جلست جليلة وزبيدة وزنُّوبة على الكنبة المُجاورة للنيل، واقتعد الرجال الثلاثة الكنبة المواجهة لها، بينا انتشرت على الشلت آلات الطرب كالعود والدف والدربكة والصنج. أجال بصره في المكان مليًّا، ثم تنهد بارتياح، وقال بتلذُّذ: الله … الله، كل شيء جميل، لِمَ لا تفتحون النافذتين المطلتين على النيل؟

فأجابه محمد عفت: يُفتحان عندما ينقطع مرور السفن الشراعية، وإذا بُليتم فاستتروا!

فبادره السيد أحمد باسمًا: وإذا استترتُم فابتلوا.

فهتفت جليلة كالمتحدية: أَرِنا شطارة زمان.

لم يقصد بقوله إلا المزاح، والحق أن إقدامه على هذه الخطوة الثورية — مجيئه إلى العوامة — بعد طول الإحجام أورثه قلقًا وتردُّدًا، لكن ثمَّة شيء آخر، تغيير من نوع ما عليه أن يَكتشِفَه بنفسه ولنفسه، فليسدد بصره ولينعم ليمعن النظر، ماذا يرى؟ هاك جليلة وزبيدة، كلتاهما كالمحمل — كما كان يقول قديمًا — أو لعلَّهما ازدادتا شحمًا ولحمًا، ولكن ثمة شيء يكتنفهما، لعلَّه إلى متناول الشعور أقرب منه إلى متناول الحس، إلا أنه وجه من وجوه الكبر بلا مراء، لعل أصحابه لم يَفطنوا إليه لأنهم لم يَنقطِعوا عن المرأتين مثل ما انقطع، تُرى ألم يطرأ عليه هو أيضًا مثل الذي طرأ عليهما؟ انقبضَ قلبُه وفتر حماسه، الصديق العائد بعد غيبة طويلة هو أفصح مرآة للإنسان، لكن كيف السبيل إلى هذا التغيير حتى يَقبض عليه؟ ليست هنالك شعرة بيضاء واحدة في رأسيهما … ولكن ما للشيب ورءوس الغواني؟ وليس ثمَّة تجعُّدات كذلك، هل غلبت على أمرك؟ كلا، إليك نظرة هاتين العينين. إنها تَعكس روحًا خابيًا رغم ما يكتنفه من لألاءٍ برَّاق يَستخفي حينًا وراء الابتسام واللعب، ثمَّ يُبيِّن على حقيقته فيما بين ذلك؛ فتقرأ فيه نعي الشباب، إنه الرثاء الصامت، أليسَت زبيدة في الخمسين من عمرها؟ وجليلة جاوزتها بأعوام، إنها لِدَته ولن تُكابر في هذا مهما أنكره لسانها، ثمَّة تغيير في قلبه أيضًا يُنذر بالنفور والتقلُّص، لم يكن كذلك حين جاء، جاء يَجري لاهثًا وراء صورة لم يَعُد لها من وجود، ليكن، حاشا أن يستسلم للهزيمة … اشرب، واطرب، واضحك، لن يَدفعك أحد على رغمك إلى ما لا تودُّ.

قالت جليلة: لم أكن أصدق أن عينيَّ ستَقعان عليك في هذه الدنيا.

وجد إغراءً شديدًا في أن يسألها: كيف ترينني؟

فتدخلت زبيدة بينهما قائلة: كالعهد بك، جمل ولا كل الجمال، شعرة بيضاء تَلمع تحت طربوشك ولا شيء خلاف ذلك.

فقالت لها جليلة محتجَّة: دعيني أُجِب أنا؛ لأن سؤاله كان لي، (ثم مخاطبة السيد): أراك كما كنت، لا غرابة في ذلك، ما «نحن» إلا أبناء الأمس القريب.

فطنَ السيد إلى ما رمت إليه، فقال مُتكلفًا الجد والصدق: أما أنتما فقد ازددتما حسنًا ورواءً، لم أكن أنتظر هذا كله.

زبيدة وهي تتفحَّصه باهتمام: ما الذي غيَّبَك عنا ذلك العمر كله؟ (ثم ضاحكة) كان بوسعك، لو كان فيك خير، أن تلقانا لقاءً بريئًا، ألا يكون لقاءٌ بينَنا إلا إذا كان الفراش تحتنا؟

قال السيد إبراهيم الفار، وهو يُرعش ذراعه في الهواء ليَحسر كُمَّ القفطان عنه: لا علم له ولا لنا بأنَّ ثمة لقاءً بريئًا يُمكن أن يجمع بينَنا وبينكنَّ!

زبيدة متأفِّفة: أعوذ بالله منكم يا رجال، لا تودُّون المرأة إلا مطيَّة.

فقهقهت جليلة قائلة: يا ست أمك، احمدي ربنا على ذلك، أكنت تكتنزين هذا الشحم كله لو لم تُضمِري في نفسك أن تكوني مطية أو حشية؟

فقالت لها زبيدة معاتبة: خلى بيني وبين المتهم كي أحقق معه.

قال السيد أحمد باسمًا: كنت محكومًا عليَّ بخمس سنوات بريئة بدون شغل.

فعادت زبيدة تُهاجمه قائلة في تهكُّم: يا ولداه! حرمت على نفسك اللذات كلها، كلها يا ولداه، حتى لم يَبقَ لك منها إلا الطعام والخمر، والطرب والمزاح، والسهر حتى مطلع الفجر كل ليلة.

فقال السيد كالمعتذر: هذه أشياء لا بد منها للقلب الحزين، أما الأخرى …

زبيدة وهي تُلوِّح له بيدها كأنما تقول له: «آه منك آه»: علمت الآن أنك تعدُّنا شرًّا من كافة الذنوب والخطايا.

محمد عفَّت هاتفًا مقاطعًا، كأنما تذكر أمرًا هامًّا كاد يفلت منه: هل جئنا من أقصى الأرض كي نتكلَّم، على حين تطلُّ علينا الأقداح ولا تجد مَن يُعنى بها! املأ الأقداح يا علي، اربطي الأوتار يا زنوبة؟ اخلع ملابسك يا حضرة المتهم، أنت حاسب نفسك في مدرسة؟ انزع الجبة والطربوش، لا تظن أنك أُعفيت من التحقيق، ولكن يجب أولًا أن تَسكَر المحكمة، وأن تَسكر النيابة ثم نعود إلى التحقيق. جليلة أصرت على تأجيل السُّكْر حتى يَحضر سلطان الفرفشة أو كما قالت، هذه الولية تعزك إعزاز الشيطان للضالِّ المزمن، بارك الله لك فيها وبارك لها فيك.

نهض السيد أحمد ليَخلع الجبة، قام علي عبد الرحيم ليتولى — كعادته — مهمَّة الساقي، صدرت عن أوتار العود همسات غير مؤتلِفة للاختبار، دندنت زبيدة في غمغمة، سوت جليلة بأناملها خصلات شعرها وطوق الفستان فيما بين ثدييها، تابعت أعينٌ بتشوُّق يدَي علي عبد الرحيم وهو يملأ الأقداح، تربَّع السيد أحمد في مجلسه وهو يُجيل بصره في المكان والناس حتى التقَت عيناه اتفاقًا بعينَي زنوبة فابتسمت الأعين تحية، قدم علي عبد الرحيم الدفعة الأولى من الكئوس، قال محمد عفت: صحَّتكم ومحبتكم. قالت جليلة: نخب العودة يا سي أحمد. قالت زبيدة: نخب الهداية بعد الضلال. قال أحمد: نخب الأحباب الذين فرَّق الحزن بيني وبينهم. شربوا عندما رفع السيد أحمد كأسه إلى شفتَيه، رأى من فوق سفح الكأس وجه زنوبة مرفوعًا كذلك إلى كأسه فهزَّته نُضارته، قال محمد عفت لعلي عبد الرحيم املأ الثاني، وقال له إبراهيم الفار: والثالث في أثره حتى نثبت الأساس. قال علي عبد الرحيم وهو يُشمر: خادم القوم سيدهم. وجد أحمد عبد الجواد نفسه يتابع أنامل زنوبة وهي تَربط الأوتار، فتساءل عن عمرِها ثم قدَّره بين الخامسة والعشرين وبين الثلاثين، ساءل نفسه مرةً أخرى عما جاء بها … العود؟ … أم أن خالتها زبيدة تُهيِّئ لها سبيل الرِّزق؟ قال السيد إبراهيم الفار: إن النظر إلى ماء النيل يُدوِّخه. فهتفت به جليلة: يا ابن الدايخة، سأل علي عبد الرحيم: إذا رمَيت امرأة في حجم جليلة أو زبيدة إلى الماء فهل تغرق أم تطفو؟ فأجابه السيد أحمد بأنها تطفو إلا إذا كان بها ثقب، ساءل السيد أحمد نفسه عما يحدث لو نزعت به نفسُه إلى زنوبة، فأجابت نفسه بأن ذلك يكون فضيحة لو أرادَه الآن، أما بعد خمس كئوس فلن يخلو من حرج، وأما بعد زجاجة فيكون واجبًا … اقترح محمد عفت أن يَشربُوا كأسًا في صحة سعد زغلول ومصطفى النحاس اللذَين سيُسافران في نهاية الشهر من باريس إلى لندن للمفاوضة، اقترح إبراهيم الفار أن يشربوا كأسًا آخر في صحة مكدونالد صديق المصريين، تساءل علي عبد الرحيم عما عناه ماكدونالد بقوله: «إنه يستطيع أن يحلَّ القضية المصرية قبل أن يفرغ من فنجان القهوة الذي كان بين يديه.» فأجابه أحمد عبد الجواد بأن ذلك يعني أن الإنجليزي يشرب فنجان القهوة — في المتوسط — في نصف قرن، تذكَّر السيد أحمد كيف ثار على الثورة عقب مصرع فهمي، وكيف ثاب رويدًا إلى مشاعره الوطنية الأولى لما أسبَغَه الناس عليه من تقدير وإكبار بصفته والد لشهيد نبيل، ثم كيف انقلبَت مأساة فهمي مع الزمن مفخرة يُباهي بها وهو لا يدري.

رفعت جليلة كأسها صوب السيد أحمد وهي تقول: صحَّتك يا جملي، طالما كنت أسائل نفسي هل نسينا حقًّا السيد أحمد؟ ولكني علمَ الله عذرتك ودعوت الله أن يُلهمك الصبر والعزاء، لا تعجب فأنا أختك وأنت أخي.

فسألها محمد عفت بخبث: إذا كنت أخته وكان أخاك كما تدَّعين، فهل يفعل الأخَوان ما فعلتما في زمانكما؟

فأطلقت ضحكة أعادَت إلى الأذهان ذكريات عام ١٩١٨ وما قبله، وقالت: سَل أخوالك يا رُوح أمك!

قالت زبيدة وهي تَلحظ أحمد عبد الجواد بمكر: بدا لي رأي آخر في تفسير غيبته الطويلة.

سألها أكثر من صوتٍ عما بدا لها، على حين تمتم السيد أحمد بصوت المُستعيذ: يا ساتر استر.

– بدا لي أنه ربما كان حصل عنده ضعف مما يُدرك الكهول أمثاله، فاعتلَّ بالحزن واختفى.

قالت جليلة معترضة، وهي تهز رأسها على أسلوب العوالم: إنه آخر مَن يُدركه الكبر.

فسأل السيد محمد عفت السيد أحمد: أي الرأيين أصح؟

فقال السيد أحمد بلهجة ذات معنى: الرأي الأول يُعبر عن الخوف، والآخر يعبر عن الرجاء.

قالت جليلة بظفرٍ وارتياح: لستَ ممَّن يخيب عندهم الرجاء.

همَّ بأن يقول: «عند الامتحان يُكرم المرء أو يهان»، ولكنه خاف أن يُدعى للامتحان أو أن يَفهم قوله على أنه تقديم في الامتحان، على حين كان كلَّما أنعم النظر تمكَّن منه شعور بالنفور وبالزهد لم يجرِ له في خاطر قبل المَجيء. أجل ثمة تغيُّر لا يُنْكَر، مضى الأمس، وليس اليوم كالأمس، لا زبيدة بزبيدة، ولا جليلة بجليلة، وليس ثمة ما يستحق المغامرة، ليقنع بالأخوة التي نوهت بها جليلة، وليمدها حتى تظل زبيدة نفسها، قال برقة: مِن أين للكِبر أن يدرك آدميًّا وهو بينكن.

تساءلت زبيدة وهي تقلب عينيها في الرجال الثلاثة: أيكم الأكبر؟

فقال السيد أحمد ببراءة: أنا ولدت في أعقاب ثورة عرابي؟

فقال محمد عفت محتجًّا: قل كلامًا غير هذا، لقد بلَغَني أنك كنت من جنود عرابي.

فقال السيد أحمد: كنتُ جنديًّا من بطونهم، كما يُقال الآن: تلميذ من منازلهم.

فتساءل علي عبد الرحيم كالداهش: وماذا صنعت المرحومة والدتك وأنت داخل خارج في المعركة؟

صاحت زبيدة بعد أن أفرغت الكأس في فيها: لا تهربوا بالهزار، إني أسألكم عن أعماركم.

قال إبراهيم الفار بتحدٍّ: ثلاثتنا بين الخمسين والخمسة والخمسين، فهل تُكاشِفاننا بعمركما؟

هزَّت زبيدة كتفَيها استهانة، وقالت: أنا ولدت …

ثم ضاقت عيناها المكحولتان وهما ترفعان إلى المصباح في حال تذكر، غير أن السيد أحمد عاجلها متممًا ما توقفت عن إتمامه: عقب ثورة سعد باشا؟

ضحكوا طويلًا حتى ألعبت لهم الوسطى، ولكن جليلة لم تُرحِّب بالحديث فيما بدا، فصاحت بهم: دعونا من هذه السيرة المقطرنة، ما لنا نحن والأعمار! ليسأل عنها صاحب الأمر في سماواته، أما نحن فالمرأة منَّا شابة ما وجدت من يرغب فيها، والرجل منكُم شابٌّ ما وجد من ترغب فيه.

هتف علي عبد الرحيم بغتة: هنئوني!

وسئل عما يُهنأ عليه، فواصل الهتاف قائلًا: سكرت.

قال أحمد عبد الجواد: إنهم ينبغي أن يلحقوا به قبل أن يضلَّ وحده في عالم السُّكر، حثَّتهم جليلة على أن يتركوه وحده جزاء تعجُّله، آوى علي عبد الرحيم في ركن وفي يده كأس مترعة وهو يقول لهم: ابحثوا عن ساقٍ غيري، قامت زبيدة إلى حيث تركت ملابسها الخارجية، وفحصت في حقيبتها عن حق الكوكايِّين حتى اطمأنت إلى أنه في مكانه، اغتنم إبراهيم الفار فرصة خلو مكان زبيدة فجلس فيه، ثم أسند رأسه إلى كتف جليلة وهو يتنهَّد بصوت مسموع، نهض محمد عفت إلى النافذتين المطلتين على النيل، وأزاح الخصاص عنهما جانبًا فلاح سطح الماء ظلمات متحركة عدا خطوط من الضياء الهادئ رسمتْها على الأمواج الأشعة المرسلة من مصابيح الذهبيات الساهرة، لعبت زنوبة بأوتار العود محدثة نغمة راقصة فاتجهت عينا السيد أحمد إليها مليًّا ثم قام ليملأ كأسه لنفسه، عادت زبيدة فجلست بين محمد عفت وأحمد عبد الجواد وهي تضرب الأخير على سلسلة ظهره، علا صوت جليلة وهي تُغني:

يوم ما عضتني العضة …

هتف إبراهيم الفار بدوره: هنئوني … اشترك محمد عفت وزبيدة في غناء جليلة عند جملة: «وجابولي طاسة الخضة» اشتركت زنوبة في الأغنية، فعاود السيد أحمد النظر إليها وما يدري إلا وهو ينضم إلى المغنِّين. جاء صوت علي عبد الرحيم من ركن الحجرة مؤيدًا، هتف إبراهيم الفار ورأسه لا يزال مسندًا إلى كتف جليلة: مغنون ستة وسميع واحد هو أنا، قال السيد أحمد لنفسِه دون أن يتوقَّف عن الغناء: سوف تُلبي وهي من الرضا والسرور في نهاية، ثم ساءل نفسه أيضًا: ألِلَيلة عابرة أم معاشرة طويلة؟ قام إبراهيم الفار فجأة واندفع يرقص، جعل الجميع يصفقون على الواحدة ثم غنوا معًا:

خدني في جيبك بقه … بين الحزام والمنطقة.

ساءل السيد أحمد نفسه: ترى أتقبل زبيدة أن يكون اللقاء في بيتها؟ … انتهت الأغنية والرقص فاستبقوا إلى التراشق بالدعابات دون توقُّف، جعل أحمد عبد الجواد كلما أطلق دعابة يسترق النظر إلى وجه زنوبة ليرى أثرَها فيه، اشتدَّ الهرج والمرج، ومضى الوقت منسرقًا.

– آن لي أن أذهب.

قال علي عبد الرحيم ذلك، وهو يَنهض متجهًا إلى ملابسه، فصاح به محمد عفت ساخطًا: قلت لك أن أحضرها معك حتى لا نقطع السهرة.

تساءلت زبيدة وهي ترفع حاجبَيها: مَن هي المحروسة؟

فقال إبراهيم الفار: رفيقة جديدة، معلِّمة قدِّ الدنيا وصاحبة بيت بوجه البِركة.

فسأله السيد أحمد باهتمام: مَن …؟

أجاب علي عبد الرحيم، وهو يَحبك الجبَّة ضاحكًا: صاحبتك القديمة سنية القللي.

فاتسعت عينا السيد الزرقاوان، وتجلَّت فيهما نظرة حالِمة، ثم قال باسمًا: اذكرني عندها وأقرئها السلام.

قال علي عبد الرحيم، وهو يَفتِل شاربه ويتأهَّب للذهاب: سألَت عنك، واقترحت عليَّ أن أدعوك إلى قضاء سهرة في بيتها بعد مواعيد العمل، فقلتُ لها إن بكرة اسم النبي حارسه قد بلغ السن التي تُعدُّ في أسرتهم موجبة للدخول في وجه البركة وغيرها من وجوه الفسق، فلا يأمن أبوه إن جاء أن يَلتقي به في إحدى جولاته.

وضحك الرجل ملء شدقيه، ثم سلم وغادر الحجرة إلى الدهليز، فتبعه على الأثر محمد عفت وأحمد عبد الجواد ليوصلاه إلى الباب الخارجي، واستمروا يتحادثون ويتضاحكون حتى غادر السيد علي العوامة، وعند ذاك غمز محمد عفت ذراع أحمد عبد الجواد، وهو يتساءل: زبيدة أم جليلة؟

فقال السيد أحمد ببساطة: لا هذه ولا تلك.

– لِمَ؟ كفى الله الشر.

فقال بلهجة القانع: خطوة خطوة، سوف أكتفي ما بقيَ من هذه الليلة بالشراب وسماع العود.

أَلَحَّ عليه أن يُقدم رجله خطوة أخرى، ولكنه اعتذر فلم يُثقل عليه، عادا إلى الحجرة المبعثرة الفاقدة الوعي فاستردا مجلسَيهما، قام إبراهيم الفار مقام الساقي، افتضحت أمارات السُّكر في وهج العيون، وسلس الحديث، وتحرر الأعضاء، غنوا جميعًا وراء زبيدة:

البحر بيضحك ليه!

لوحظ أن صوت السيد أحمد عبد الجواد علا حتى كاد يُغطِّي على صوت زبيدة، روت جليلة تناتيش من مغامراتها، مذ وقع بصري عليك شعرت بأن الليلة لن تمرَّ بلا مغامرة، ما أملح الصغيرة، الصغيرة؟ هي كذلك ما دامت تكبُرها بربع قرن، تحسَّر إبراهيم الفار على العصر الذهبي للنحَّاس على أيام الحرب، فقال لهم بلسانٍ ثقيل: «كنتم تُقبلون يدي من أجل رطل نحاس.» فقال السيد أحمد: «إن كان لك عند الكلب حاجة قل له يا سيدي.» اشتكت زبيدة شدة السكر فقامت تتمشَّى ذهابًا وجيئة، وعند ذاك جعلوا يصفقون على إيقاع مشيتها المترنِّحة ويهتفون معًا:

تاتا خطي العتبة … تاتا خطي العتبة.

الخمر تشلُّ العضو الذي يُفرز الحزن، غمغمت جليلة قائلة: «حسبنا!» ونهضت فغادرت الحجرة إلى ردهة تُفضي إلى مخدعَين متقابلين، فمالت إلى المخدع المجاور للنيل ودخلت، وما لبث أن ترامت إليهم طقطقة الفراش وهو يتلقَّى جسمها العظيم، راق زبيدة تصرُّف جليلة فاتبعت أثرها إلى المخدع الآخر باعثة وراءها طقطقة أعنف، قال إبراهيم الفار: «إنَّ لسان السرير قد نطق.» تناهى إليهم من المخدَع الأول صوت وانٍ يَترنَّم محاكيًا بحَّة مُنيرة: «يا حبيبي تعالى!» فقام محمد عفت وهو يجيب مترنمًا كذلك: «آديني جي.» نظر إبراهيم الفار إلى أحمد عبد الجواد متسائلًا: فقال له السيد: «إذا لم تَستحِ فاصنع ما شئت!» فقام وهو يقول: «لا حياء في العوامة!» … خلا الجو، ها هي الساعة التي رصدتها طويلًا، نحَّت الصغيرة العود جانبًا، وتربَّعت وهي تسبل حاشية الفستان على ساقيها المتشابكتين، ساد صمت وتُبودل نظر، ثمَّ مدَّت بصرها إلى لا شيء، تَكهرب الصمت فلم يعد يحتمل، نهضت فجأة؛ فسألها: إلى أين؟ فغمغمت وهي تَمرق من الباب «الحمام!» قام بدوره إلى مجلسها فجلس، وتناول العود وراح يَعبث بأوتاره، وهو يتساءل: «أليس ثمَّة حُجرة ثالثة؟» لا يَنبغي لقلبك أن يدقَّ هكذا كأنما الجندي الإنجليزي يسوقُك أمامه في الظلام. ليلة أم مريم هل تذكر؟ لا تَعُد إلى ذكراها فهي ألمٌ، عادت من الحمام … ما أنضرها!

– أتضرب العود؟

أجاب باسمًا: علميني.

– حسبك الدف فإنَّك من رجاله.

وهو يتنهد: تلك أيام خلت، ما ألطفها! كنتِ طفلةً، ما لك لا تجلسين؟

تكاد تلمسك، ما أحلى أول الصيد.

– خُذي العود وأسمعيني.

– شبعنا غناءً وعزفًا وضحكًا، عرفتُ الليلة أكثر من ذي قبل لماذا يفتقدونك في كل سهرة.

فابتسم ابتسامة وشَت بسروره، ثم قال بمكر: ولكنَّكِ لم تَشبعي شربًا؟

فأجابت بالإيجاب وهي تَضحك، فوثب كالجواد إلى المائدة، ثم عاد بزجاجة مملوءة حتى النصف. وكأسين، وجلس وهو يقول: «لنشرب معًا!» الشرهة اللذيذة تنفث عيناها شيطنة وسحرًا، سلها عن الحجرة الثالثة … سل نفسك: ليلة أم معاشرة؟ … وعن العواقب لا تسل، أحمد عبد الجواد بجلالة قدرِه يفتح ذراعيه لزنوبة العوَّادة، بصحاف الفاكهة كانت تقف بين يديك … لكن لتحلَّ بك السعادة جزاء نضارتك، أما الكبر فلم يكن أبدًا من شيمي … رأى كفَّها القابضة على الكأس قريبة من ركبته، فمد راحته وربت عليها بلطف، ولكنها سحبتها في صمت إلى حجرها دون أن تَلتفت إليه، فساءل نفسه ترى هل يحلو التدلُّل في هذا الوقت المتأخر، خاصَّة إذا كان الداعي مثله، وكانت المدعوَّة مثلها؟ غير أنه لم يَحِد عن سنن الملاينة والملاطفة، فسألها بلهجة ذات معنى: أليس ثمة حُجرة ثالثة في العوامة؟

قالت تجيب على ظاهر السؤال مُتجاهلة مغزاه وهي تُشير صوب باب الدهليز: في الناحية الأخرى.

تساءل وهو يَفتِل شاربه مُبتسمًا: أليسَت تسع كلَينا؟

فقالت بصوتٍ لا أثر للدلال فيه، وإن لم يُجاوز حدود الأدب: تسعك وحدك إن طاب لك النوم.

فسألها كالداهش: وأنت؟

فقالت بنفس اللهجة: مستريحة كما أنا.

تزحزح قليلًا مقتربًا منها، ولكنها قامت فوضعت كأسها على المائدة، ثم مضت إلى الكنبة المقابلة له، فجلست راسمة على وجهها صورة الجد والاحتجاج الصامت، حتى عجب الرجل لشأنها فباخ حماسه ووجد وخزة في كبريائه، ثم جعل ينظر إليها وعلى شفتَيه ابتسامة متكلفة حتى سألها: ماذا أغضبك؟

فلازمت الصمت مليًّا، ثم شبَّكت ذراعيها على صدرها.

– إني أتساءل عما أغضبك؟

قالت باقتضاب: لا تسَل عما تعلم.

ضحك فجأة ضحكة عالية مُعلنًا بها عن استهانته وعدم تصديقِه، وقام بدوره فملأ الكأسين، ثم قدم لها كأسًا، وهو يقول: روقي مزاجك.

فتناولت الكأس تأدُّبًا ثم أعادتها إلى المائدة، وهي تُغمغم «أشكرك»، فتراجع إلى مجلسه وقعد، ثم رفع كأسه إلى شفتيه وتجرعها دفعة واحدة وقهقه ضاحكًا.

أكان في وسعك أن تتوقَّع هذه المفاجأة؟ لو أستطيع أن أرجع في الزمن ربع ساعة إلى الوراء، زنوبة … زنوبة … ولا شيء غير زنوبة، فهل تُصدق ذلك؟ لا تتشتَّت حيال الصدمة، من يدري لعله دلال موضة ١٩٢٤ يا حمصاني ١٩٠٠ ماذا تغيَّر فيَّ؟ لا شيء، لكنها زنوبة، أليس ذلك هو اسمها؟ … لكل رجل حتمًا من امرأة تُعرض عنه، وما دامت زبيدة وجليلة وأم مريم يسعَين إليك فمَن غير زنوبة — هذه الخنفساء — تُعرض عنك؟ تحمَّل حتى تحتمل، ليس الأمر على أيِّ حال بكارثة، آه، انظر، انظر، ساقها مليحة مُدملجة، أساسها متين، لم تظنَّ أنها أعرضتْ عنك حقًّا؟

– اشربي يا حلوة.

قالت بصوت يجمع بين الأدب والحزم: عندما يَرُوق لي الشراب.

فسدَّد نحوها بصره، ثم تساءل بلهجة ذات معنى: ومتى يروق لك …؟

فقطَّبت معلنةً عن مدى فهمها لإشارته، ولم تُجب.

تساءل السيد، وكان يشعر في تلك اللحظة بأنه يتدهور: ألم يُصادف تودُّدي القبول؟

فطامنت من رأسها لتُخفي وجهها عن عينَيه، وقالت برجاء حازم: هلا كففتَ عن هذا؟

تملَّكه غضب فُجائي فجاء كردِّ فعلٍ لإحساسه بالتدهور، فتساءل داهشًا: لم تجيئين إلى هنا؟

قالت باحتجاج، وهي تُشير إلى العود المستلقي على الكنبة غير بعيد عنه: أجيء من أجل هذا.

– فقط؟ … لا تناقُض بين هذا وبين ما أدعوك إليه.

تساءلَتْ باستياء: بالقوة؟

فقال وهو يعاني سكَرات الخيبة والحنق: كلا، ولكني لا أجد سببًا للرفض.

قالت ببرود: لعلَّ عندي أسبابًا.

ضحك ضحكة عالية ناضبة، ثم غلبه الحنَق، فقال هازئًا: لعلك تخافين على بكارتك!

رنت إليه بنظرة طويلة قاسية، ثم قالت بحنق وتشف: أنا لا أرضى إلا بمَن أُحبه.

همَّ بأن يضحك مرة أخرى، ولكنه أمسك بعد أن ضاق صدره بهذه الضحكات الآلية المُحزنة، ومد يده إلى القارورة فصبَّ منها في كأسه بلا تدبُّر حتى امتلأت إلى النصف، ولكنه تركها على المائدة، وراح ينظر إلى المرأة في حيرة لا يدري كيف يخرج من المأزق الذي دفع نفسه إليه … الأفعي بنت الأفعى لا ترضى إلا بمَن تحبه، هل يعني هذا إلا أنها تُحب كل ليلة رجلًا! هيهات أن تُمحى من صفحتك فضيحة الليلة، السادة هناك في الداخل، وأنت هنا تحت رحمة عوَّادة مُتدلِّلة … اسلخها بلسانك … اركلها بقدمك … ادفعها أمامك إلى الحُجرة قهرًا، الأجدر أن تُشيح عنها بوجهك وتغادر المكان فورًا، في أعينِنا لعنة تذلُّ الأعناق، ما ألطفَ جيدها، لا تُمار في حلاوتها، طاش الرأي ووجب الألم.

– لم أكن أتوقَّع هذا الجفاء!

وقطَّب مصممًا وقد تجهم وجهه، فنهض رافعًا كتفيه في استهانة، وهو يقول: ظننتُكِ مثل خالتك لطافة وذوقًا فخاب ظنِّي، ولن ألوم إلا نفسي!

سمع وسوسة شفتيها وهي تمتصُّ ريقها مصة الاحتجاج والانتقاد، ولكنه مضى إلى ملابسه فأخذ يلبسها على عجل حتى انتهى منها في أقلَّ من نصف المدة التي تتطلبها عادة أناقته. كان مصممًا غاضبًا، ولكن اليأس لم يَبلغ به نهايته، ظلَّ جزء من نفسه متمردًا يأبى أن يصدق ما وقع أو يعز عليه أن يُسلم به، فتناول عصاه وهو يترقَّب بين لحظة وأخرى أن يحدث شيء فيكذب ظنه، ويصدق أماني كبريائه الجريح، كأن تضحك فجأةً حاسرةً عن وجهها قناع الجد الزائف، أو أن تُهرع إليه مُستنكِرة غضبه، أو أن تَثِب أمامه لتحُول بينه وبين الذهاب، أجل كثيرًا ما تكون مصَّة الريق التي ندَّت عنها مُناوَرة يعقُبها الاستسلام، غير أنَّ شيئًا من ذلك لم يحدث.

ولبثَت وهي بمَجلِسها تنظر إلى لا شيء، مُتجاهِلة إياه كأنها لا تراه، فغادَر الحُجرة إلى الدهليز، ومنه إلى الباب الخارجي، ثم إلى الطريق وهو يتنهَّد في حزن وأسف وغيظ. قطع الطريق المُظلم مشيًا على الأقدام حتى بلغ جسر الزمالك، وجو الخريف الرطيب يتسلَّل في لُطفٍ إلى داخل ملابسه. ومن هناك استقل تاكسي، فطوى به الأرض طيًّا وهو ذاهل من السُّكرِ والفِكر، حتى انتبه إلى ما حوله في ميدان الأوبرا، والسيارة تدور به في طريقها إلى العتبة الخضراء. في أثناء دورانها حانت منه التفاتة فلمَح على ضوء المصابيح سور حديقة الأزبكية فعلق به بصره حتى غيبه عنه منعطف الطريق، ثم أغمض عينَيه وهو يشعر بشكَّة تنفذ إلى أعماق قلبه، ووجد في باطنه صوتًا كالأنين يهتف في عالمه الصامت داعيًا بالرحمة للفقيد العزيز، فلم يَجرُؤ على ترديد الدعاء بلسانه أن يذكر اسم الله بلسان مشبع بالخمر، وعندما رفع جفنَيه، ذرفت عيناه دمعتين غزيرتين.

٨

لم يَدرِ ماذا ركبه! شيطان رجيم أم داء وبيل؟ نام وهو يأمُل أن يكون انتهى من سخف الليلة الماضية، بسخف السُّكر دَعاه، وللسُّكر سخف لا ريب فيه يُفسد لذاته ويقلب مسراته، وعندما ألقى عليه الصباح نوره وجده من قلق يتقلَّب، ورشاش الدش يترشَّش على جسده العاري، تشتت فكره وخفق قلبه، تخايَل لعينيه وجهها وطنت في أذنيه وسوسة شفتيها ورجَّع قلبه صدى الألم، ثم تجتر أفكارك الظامئة كفتًى مراهق والطريق من حولك يحييك تحية الإجلال، يحيون فيك الوقار والورع وحسن الجوار، ولو علموا أنك تردُّ تحياتهم في آلية، وفكرك عنهم غائب مهموم في حلم جارية عالمة … عوَّادة … امرأة تعرض جسدها كل ليلة في سوق المضاجع … لو علموا ذلك. لأولوك بدل التحية ابتسامة هُزء ورثاء. فلتقُلِ الأفعى «نعم» وعند ذاك أعرض عنها بكل ازدراء وارتياح، ماذا دهاني؟ وماذا أروم؟ هل أدركَكَ الكبر؟ أتذكُر ما ابتلى جليلة وزبيدة من عاديات الزمن؟ تلك آثار بغيضة يجدُها القلب ولا يُدركها الحس، لكن مهلًا، حذار أن تُسلِّم للوهم، فيُسلمك الوهم لقمة سائغة للانهيار. ما هي إلا شعرة بيضاء، لغير ذلك من البواعث أعرضَت عنك العوَّادة الحقيرة، الفِظْها كما تلفظ ذبابة اندسَّت في فيك وأنت تَتثاءب، وا أسفاه! أنت تعلم أنك لن تَلفظها، لعلها الرغبة في الانتقام ولا شيء سوى ذلك، رد اعتبارٍ ليس إلا، يَنبغي أن تقول الجارية «نعم»، ولك أن تهجرها بعد ذلك قرير العين، لا شيء فيها يستحقُّ النضال، أتذكر ساقيها وجيدها وشهوة عينَيها؟ لو داويت كبرياءك بلعقة من الصبر لفزت — من ليلتك — بالمتعة والبهجة. ماذا وراء هذا القلق كله؟ إني أتألَّم، أجل، إني أتألم، إني مكروب بما نزل بي من مهانة، أتوعَّدها بالازدراء ثمَّ تخطر منها على القلب خطرة فتَستعرُ عُروقي … استبقِ الحياء ولا تجعل من نفسك أُضحوكة، إني أستحلفك بالأولاد مَن بقي منهم ومَن ذهب … هنية كانت المرأة الوحيدة التي هجرتك فجرَيت وراءها، ماذا لقيت منها؟ ألا تذكُر! فتوة الزفة يَرقُص ويسكر ويصول ويجول، ثم يُعمل عصاه في المصابيح وطاقات الورد والمزامير والمدعوين، حتى يُغطي الصوات على الزغاريد … ذاك رجل؟ كن فتوة العوامة واقتُل أعداءك بالتجاهل والإعراض. ما أضعف أعداءك وما أقواهم! ساقٌ مُسترخية لا تكاد تقوى على المشْي غير أنها تهد الجبال الرواسي، ما أفظع سبتمبر إذا ارتفعت حرارتُه المشبعة بالرطوبة! ما ألطف أماسيه! خاصة ما يكون منها في العوامة، إنَّ بعد العسر يُسرًا!

فكر في أمرك وانظر في أي اتِّجاه تسير، المكتوب لازم تشوفه العين، الإقدام مُر، والنكوص مرعب، كم كنت تراها وهي في ميعة الصبا فلم توقظ فيك نائمًا، ومررت بها كأنها شيء لم يكن، ماذا جدَّ حتى زهدتَ فيمَن أحببت، وأحببتَ مَن كنت تزهد، ليست أجمل من زبيدة ولا جليلة، ولو كان بها جمال يُنافس جمال خالتها ما اصطحبَتْها، على ذلك فأنت تُريدها وتريدها بكل قوة نفسك … آه، ما جدوى المُكابَرة؟ لا أرضى إلا بمَن أُحبه! أحبك برص يا بنت اللبؤة … تألم حتى تختنق، ما أذل الإنسان مثل نفسه! هل تذهب إلى العوامة؟ ليست خير مكان لإذاعة الفضائح. البيت؟ هناك زبيدة، أهلًا، أهلًا، أعدتَ أخيرًا إلى عرينك؟ بمَ تُجيبها؟ لم أعد لذاك، ولكني أريد بنت أختك! يا له من سخف! دع الهذر. هل فقدتَ صوابك؟ استعن بالفار أو بمحمد عفت، السيد أحمد عبد الجواد يبحث لنفسه عن شفيع إلى … زنوبة! … أليس من الأفضل أن تفصد نفسك حتى يتفصد الدم الخبيث الذي يُسيمُك الذل.

كان الليل قد غشيَ الغورية، وأغلقت أبواب حوانيتها، حين أقبل أحمد عبد الجواد من دكانه عقب إغلاقها، يسير في خطوات وئيدة وعيناه تتفحصان الطريق والنوافذ، لاحَ وراء نافذتَي زبيدة ضوء، ولكنه لم يدرِ ماذا كان يدور وراءهما، أوغل في الطريق وقتًا ثم عاد من حيث أتى، فوصل مسيره إلى بيت محمد عفت بالجمالية حيث يَلتقي الأصدقاء الأربعة قبل انطلاقهم إلى السهرة معًا. قال السيد مخاطبًا محمد عفت: ما ألطفَ ليالي العوامة، لا يزال قلبي يحنُّ إليها!

فقال محمد عفت ضاحكًا في ظفر: هي رهنُ إشارتك في أي وقتٍ تشاء.

وعقَّب علي عبد الرحيم على ذلك بقوله: حننتَ إلى زبيدة، يا عكروت.

فبادر السيد قائلًا في جد: كلا.

– جليلة؟

– العوامة ولا شيء عداها.

فسأله محمد عفت بمكر: أتُريدها سهرة قاصرة علينا، أم ندعو إليها صديقات الزمان الأول؟

فضحك السيد ضحكًا أعلن به هزيمته، ثم قال: بل تدعوهنَّ يا ابن الماكرة، وليكن ذلك مساءَ الغد؛ لأن الوقت تأخَّر بنا الليلة، ولكني لن أجاوز الاستِمتاع بالمُجالسة والمؤانسة.

قال إبراهيم الفار «إحم»، وقال علي عبد الرحيم: «على روحي أنا الجاني.» وقال محمد عفت ساخرًا: «سمِّه كما تشاء، تعدَّدت الأسماء والفعل واحد.»

ثم كان اليوم التالي كأنَّما اكتشف قهوة سي علي لأول مرة، انجذب إليها قبيل الأصيل، وجلس على الأريكة تحت الكوة، فأقبل عليه صاحب القهوة مرحبًا. فقال له السيد وكأنه يبرر مجيئه إلى القهوة لأول مرة: كنت راجعًا من بعض الأعمال، فنازعتني النفس إلى احتساء شايك العذب.

زيارة لا يبدو أنه من السهل أن تتكرر. رويدًا، رويدًا، ستفضح نفسك أمام الناس، ما جدوى هذا كله؟ هل يسرُّك حقًّا أن تراك من وراء الخصاص لتهزأ من تدهورك؟ إنك لا تدري ماذا تصنع بنفسك. أتعبت عينيك في محجرَيهما ودوخت دماغك، لن تبدو لك. والأدهى من هذا أن تتفرج عليك ساخرة من وراء خصاص، ماذا جاء بك؟ تريد أن تملأ عينَيك منها، اعترف، تُريد أن تقيس أبعاد جسمها اللدُن … أن ترى ابتسامتها وإغضاءتها … أن تُتابع أناملها المخضبة، فيم هذا كله؟ لم يسلف لك شيء كهذا مع مَن فُقنَها حُسنًا ورواء وشهرة، أقضي عليك أن تتعذَّب وتهون في سبيل الشيء الحقير! لن تبدو … تطلع كيفما شئت … الفِتْ إليك الأنظار … السيد أحمد عبد الجواد في قهوة سي علي يسترق النظر من الكوَّة، لشد ما تدهورت! من أدراك أنها لم تَفشِ سرك؟ لعل التخت يَدري، ولعل زبيدة نفسها تدري، ولعل الجميع يدرون. مدَّ يده المحلاة بالخاتم الماسي إليَّ فصددته، ثمَّ توسل إليَّ؛ فأصررت على صده … هذا هو السيد أحمد عبد الجواد الذي تُشيدون به … لشدَّ ما تدهورت! أقسى التدهور ما تنحدر إليه، بل ما تُصر على الانحدار إليه، وأنت أعلم الناس بما ينطوي عليه فعلك المشين من مذلة وهوان، إذا عرف السرَّ أصحابُك وزبيدة وجليلة، فماذا أنت صانع؟! حقًّا أنت ماهر في مداراة الحرج بالنُّكتة، ولكن سوف تنحسر موجات الضحك والقهقهة عن الحقيقة المرة … هذا مؤلم، وآلم منه أنك تُريدها. لا تكذب على نفسك، فأنت تُريدها حتى الممات. ماذا أرى؟ … تساءل وهو ينظر إلى عربة كارو جاءت فوقفت أمام بيت العالِمة، ثم ما لبث أن فُتحَ الباب فخرجت عيوشة الدفَّافة ساحبة وراءها عبده القانونجي، ثم تبعتها بقية الجوقة؛ فأدرك أنهم ذاهبون إلى فرح من الأفراح، وشعر الرجل شعورًا عنيفًا بخفقان قلبه وهو يتطلَّع إلى الباب في ترقُّب مشوق محزن. اشرأب بعنقه في غير ما حيطة متجاهلًا مَن حوله من الناس، ثم رنت ضحكة وراء الباب، ثم برز العود في جراب بمبي يَسبق صاحبته التي خرجت في نشاط ثوري ضاحكة، ثم وضعت العود على مقدم العربة، وصعدت إليها بمعونة عيوشة، وجلست في الوسط حتى لم يَعد يُرى منها إلا منكبًا يبدو خلال زاوية انفرجت ما بين عيوشة وعبده الضرير. أصرَّ السيد على أسنانه حنينًا وحنقًا معًا. أتبع العربة عينيه وهي تتمايل ذات اليمين وذات الشمال مُوغلة في الطريق، مُخلِّفة في صدره إحساسًا عميقًا بالكآبة والهوان. وتساءل: هل يقوم فيتبعها؟ غير أنه لم يُحرِّك ساكنًا، ولم يزد على أن قال لنفسه: «كان المجيء إلى هنا حماقة جنونية.»

ذهب في المساء الموعود إلى العوامة بإمبابة. لم يكن استقرَّ على رأيٍ فيما ينبغي أن يفعل على كثرة ما أدار الأمر في ذهنه. ثم أخيرًا، رهن حل مشاكله بيد الظروف والفرص، حسبه أنه ضمن رؤيتها ومُجالستها والانفراد بها في آخر الليل، سوف يجسُّ النبض من جديد، وربما أعاد الكرَّة مُستعينًا هذه المرة بكافَّة ضروب الإغراء. دخل العوامة كالوَجِل، وعلى حالٍ لو رآها على غيره، وحدس بواعثها لأغرقه ضحكًا وسخرية. هنالك وجد الإخوان وجليلة وزبيدة، ولكنَّه لم يعثر للعوادة على أثر. وقد استُقبل استقبالًا حارًّا، وما كاد يخلع جبته وطربوشه ويتخذ مجلسه حتى انفجرت القهقهات من حوله فاندمج في جوِّها بقوةِ مرونته، حدَّث ونكَّت، ومازح وداعب مغالبًا قلقه مُحاورًا همه، غير أنَّ مخاوفه كمنت تحت تيار المرح دون أن تتبدَّد كما يكمن الألم إلى حينٍ تحت تأثير المُخدِّر، وما برح يأمُل أن يَنفتح بابٌ فتأتي منه أو أن يشير أحد إليها بكلمة تُفسِّر غيابها أو تَعِد بقُرب حضورها، وكلما مضى الوقت متثاقلًا متثائبًا شحب أمله، وفتر حماسه، وغيَّم المأمول من صفوه.

ترى أيهما كان الطارئ: حضورها أول أمس، أم تخلُّفها اليوم؟ لن أسأل أحدًا، الظواهر تنمُّ على أن سرَّك لا يزال مصونًا، لو علمت به زبيدة ما تورَّعت أن تجعل منه فضيحة وجُرسة. ضحك كثيرًا وشرب أكثر، سأل زبيدة أن تُغنِّيه «أضحك من الفم وأبكي من صميم قلبي»، أوشك مرة أن يخلو بمحمد عفت ليُكاشفَه بما يُريد، أوشك مرة أخرى أن يجس نبض زبيدة نفسها، بيد أنه ضبط نفسه فخرج من أزمته مصون السر والكرامة.

ولما قام علي عبد الرحيم عند مُنتصَف الليل؛ ليذهب إلى رفيقتِه بوجه البركة، قام معه على غير توقع من أحد ليعود إلى بيته، وعبثًا حاوَلوا أن يُثنوه عن عزمِه أو أن يَستنظروه ساعة، فذهب مخلفًا وراءه دهشة، وخيبة للذين حدسوا وراء مجيئه المرسوم ظنونًا لم تقع.

ثم كان يوم الجمعة فخرج إلى جامع الحسين قبيل الصلاة بقليل، وإنه ليسير في شارع خان جعفر، إذ رآها عابرة من حارة الوطاويط في طريق الجامع. آه، لم يَخفق قلبه مثل تلك الخفقة من قبل، وأعقبها على الأثر جمود شمل حركته النفسية كلها، حتى خُيِّل إليه — فيما يُشبه الغيبوبة، وخلافًا للواقع — أنه توقَّف عن السير، وأن العالم من حوله صمَت صمْت القبور، كمثل السيارة التي تتوقَّف مُحركاتها عن الدفع فيَخرس أزيزها، ولكنها تسير بقوة القصور الذاتي في سكون شامل، ولما أفاق إلى نفسه وجدها تتقدمه بمسافة غير قصيرة، فتبعها على الأثر دون تدبُّر أو روية، فمر بالجامع دون أن يعرج إليه، ثم مال وراءها عن بُعد إلى السكة الجديدة. ماذا يبغي؟ إنه لا يدري. كان يُطيع رد الفعل طاعة عمياء، ولم يكن سبق له أن تعقب امرأة في الطريق حتى ولا في أيام شبابه الأول، فأخذ ينتابه الحرج والحذر، ثم دهمتْه فكرة ساخرة مفزعة معًا: أن يهتك سر المطاردة الخفية، ياسين أو كمال، على أنه حرص على ألا تَقصر المسافة بينه وبينها عما كانت عليه مذ بدأت المطاردة، وراحت عيناه ترتويان من هيئة جسمها اللطيف بنهمٍ وظمأ، وهو يستقبل موجات مُتتابعة من الأشواق والآلام، حتى رآها تعدل عن الطريق إلى دكان صائغ من معارفه يُدعى يعقوب. تباطأت قدماه كي يُتيح لنفسه فرصة للتدبر، وتضاعف شعوره بالحرج والحذر. ألا يعود من حيث أتى؟ أم يمرُّ بالدكان دون أن يلتفت نحوها؟ أم ينظر إلى الداخل وينتظر ما يحدث؟

كان يقترب من الدكان رويدًا، حتى إذا لم يبقَ بينه وبينها إلا أقدام خطرت له خاطرة جريئة، فاندفع إلى تنفيذها بلا تردُّد متجاهلًا خطورتها، وهي أن ينتقل إلى الطوار، ثم يسير مُتمهلًا أمام الدكان على أمل أن يراه صاحبه فيدعوه كعادته إلى الجلوس فيُلبي دعوته. مضى متمهلًا فوق الطوار حتى بلغ الدكان، فنظر إلى الداخل كأنَّما ينظر عفوًا، فالتقت عيناه بعينَي يعقوب. وإذا بالخواجا يهتف به: أهلًا بالسيد أحمد، تفضل.

ابتسم السيد مُتودِّدًا، ثم عرج إلى الداخل فتصافَحا بحرارة. ودعاه الخواجا إلى كوب خروب، فقبل الدعوة قبول الكرام، وجلس على طرف كنبة جلدية من قبل الخوان المنصوب عليه الميزان، لم يبدُ عليه أنه فطن إلى وجود ثالث في الدكان حتى جلَس فتراءت أمام عينَيه زنوبة، وهي واقفة حيال الخواجا تُقلب بين يديها قرطًا فتظاهر بالدهش، والتقت عيناهما وهو على تلك الحال … ابتسمت فابتسم، ثم بسط راحته على صدرِه مُحييًا، وهو يقول: صباح الخير … كيف حالك؟

فقالت وهي تعاود النظر إلى القرط: بخير ربنا يكرمك.

كان الخواجا يعقوب يعرض استبدال القرط بإسورة مع دفع فرْق اختلَفا عليه، فانتهز السيد فرصة انشغالها ليملأ عينَيه من صفحة خدها، ولم يغب عليه ما في المساومة والاستبدال من فرص تتيح له التدخل بالحسنى، لعلَّ وعسى … غير أنها قطعت عليه سبيله وإن لم تدرِ بما أضمر، فردت القرط إلى صاحبه، وهي تُعلنه بأنها عدلت نهائيًّا عن المبادلة، وطلبت إليه إصلاح الأسورة، ثم حيته، وحيت السيد بإحناءة من رأسها وغادرت الدكان. حدث هذا كله بسرعة لم يكن ثمَّة داعٍ إليها فيما بدا له، فأخذ وانزعج واستحوذ عليه الفتور والضيق. ولبث مع الخواجا يعقوب يتبادلان حديث المجاملات المألوف حتى شرب كوب الخروب، ثم استأذن في الانصراف وذهب.

– ذكر في خجل شديد — صلاة الجمعة التي أوشكت أن تفوته، ولكنه تردَّد في المُضي إلى الجامع، لم تواته الشجاعة على الانتقال المباشر من تعقُّب امرأةٍ وقت الصلاة إلى الجامع، ألم ينقض نزقه وضوءه؟ بل ألم يجعله غير أهل للوقوف بين يدي الرحمن؟ عدل عن الصلاة محزونًا متألمًا فسار في الطرقات ساعة على غير هدى، ثم عاد إلى البيت معاودًا التفكير في ذنبه. على أن رأسه — حتى في تلك اللحظات الحساسة المليئة بالندم — لم يُغلق بابه دون زنوبة! قال مخاطبًا محمد عفت، وكان قد سبق إلى بيته مساءً ليخلو إليه قبل توافُد الأصدقاء: أريد منك خدمة، أن تدعو مساء الغد زبيدة إلى العوامة.

ضحك محمد عفت، وقال له: إن كنت تُريدها فلم هذا اللف والدوران، لو طلبتها أول ليلة لفتحَت لك ذراعيها على الرحب والسعة.

فقال أحمد عبد الجواد في شيء من الحرج: أريد أن تدعوها وحدها.

– وحدها؟ يا لك من رجل أناني لا تُفكر إلا في نفسك، والفار؟ وأنا؟ بل لنجعلها ليلة من ليالي العمر، ولندعُ زبيدة وجليلة وزنوبة أيضًا.

تساءل أحمد عبد الجواد فيما يُشبه الاستنكار: زنوبة؟

– لِمَ لا؟ إنها احتياطي لا بأس به، يُرجع إليه عند الضرورة.

ما آلمني كيف تمنَّعت بنت القديمة؟ ولم؟

– أنت لم تدرك بعد غايتي، الحق أني لا أنوي المَجيء غدًا.

قال محمد عفت في استغراب: تطلب أن أدعو زبيدة، وتقول إنك لن تَجيء غدًا. ما هذه الألغاز؟

ضحك أحمد ضحكة عالية يُداري بها ارتباكه، ثم لم يجد بدًّا من أن يقول كاليائس: لا تكن بغلًا، سألتك أن تدعو زبيدة وحدها، كي تبقى زنوبة في البيت وحدها.

– زنوبة يا ابن أم أحمد؟

ثم وهو يسترسل في الضحك: لمَ كل هذا التعب؟ لم لَمْ تطلبها أول ليلة في العوامة؟ ولو أشرت إليها بأصبعك لطارت إليك، ولزقَت فيك بالغراء.

ابتسم ابتسامة فارغة، رغم شعوره الأليم بالامتعاض، ثم قال: نفذ ما أمرتَ به، هذا ما أريد.

قال محمد عفت وهو يفتل شاربه: ضعف الطالب والمطلوب.

فقال أحمد عبد الجواد جادًّا جدًّا: ليكن هذا سرًّا بيننا.

٩

طرق الباب في ظلام دامس وفي خلاء من المارة، وكانت الساعة تدور في التاسعة. فُتح الباب بعد حين دون أن يبدو الفاتح، ثمَّ جاءه صوت ارتجَّ له فؤاده ارتجاجًا يتساءل قائلًا: «من؟» فقال بهدوء «أنا.» وهو يدخل بغير استئذان، ثم ردَّ الباب وراءه فوجد نفسه قبالتها، وهي واقفة على آخر درجة من السلم مادة ذراعها بالمصباح. حدجته بنظرة داهشة، ثم غمغمت: أنت!

فوقف صامتًا مليًّا، وعلى فيه ابتسامة خفيفة تنمُّ عن الإشفاق والقلق، ولما لم يأنس منها اعتراضًا أو غضبًا تشجع قائلًا: أهذا هو استقبالكِ لصديق قديم؟

فولَّتْه كشحها، ومضت ترقى في الدرج، وهي تقول: تفضل.

تبعها صامتًا، وقد استنتج من فتحها الباب بنفسها أنها بمُفردها في البيت، وأن مكان الجارية جلجل التي ماتت منذ عامين لا يزال شاغرًا، تبعها حتى دخلا إلى الدهليز، فعلقت المصباح بمسمار مُثبت في الجدار على كثب من الباب، ثم دخلت وحدها حجرة الاستقبال، فأوقدت المصباح الكبير المدلى من السقف — وقد زادته هذه الحركة اطمئنانًا إلى استنتاجه — ثم خرجت فأومأت له بالدخول وذهبت.

مضى إلى الحجرة ثم جلس في الموضع الذي كان يجلس فيه في العهد القديم على الكنبة الوسطى، فنزع طربوشه وحطَّه على النمرقة التي تَشطر الكنبة، ومدَّ ساقه وهو يلقي نظرة فاحصة على ما حوله، إنه يذكر المكان كما لو كان لم يغادره إلا أمس القريب، هذه الكنبات الثلاث، وهذه المقاعد، وهذا البساط الفارسي، وهذه الأخونة الثلاثة المطعمة بالصدف، كل شيء كان بصفة عامة كما كان. هل يذكر متى جلس آخر مرة في هذا المكان؟ إن ذكرياته عن بهو الطرب وحجرة النوم أوضح وأثبت، بيد أنه لا يمكن أن ينسى أول لقاء تم بينه وبين زبيدة في هذه الحجرة، في هذا الموضع بالذات! وجملة ما دار فيه، لم يكن أحد يومذاك مثله خلو بال وثقة بالنفس؟ ترى متى تعود؟ ماذا أحدثت زيارته في نفسها؟ إلى أيِّ درجة سيَرتفِع غرورها؟ وهل أدركت أنه جاء من أجلها هي لا من أجل خالتها؟ إن أخفق هذه المرة فقل عليه السلام.

سمع وقع شبشب خفيف، ثم بدت زنوبة عند الباب في فستان أبيض منمنم بورد أحمر، ملتفعة بوشاح مرصَّع بالترتر، أما رأسها فحاسر، وأما شعرها فمجدول في ضفيرتين غليظتَين استرسلتا على ظهرها، استقبلها واقفًا باسمًا مُتفائلًا بالزينة التي تبدَّت فيها، فحيَّته بابتسامة، وأشارت إليه أن يجلس، ثم جلست على الكنبة التي تتوسط الجدار الذي إلى يمينه، وهي تقول بصوت لم يخلُ من دهش: أهلًا وسهلًا، أيُّ مفاجأة!

فابتسم السيد متسائلًا: من أيِّ نوع يا ترى هذه المفاجأة؟

قالت وهي ترفع حاجبَيها في حركة غامضة لم تنمَّ عما إذا كانت ستتكلم جادة أم ساخرة: سارَّة طبعًا.

ما دمنا قد أطعنا أقدامنا حتى جاءت بنا إلى هنا؛ فعلينا أن نتحمَّل الدلال بكافة أنواعه: ثقيله، وخفيفه.

تفحَّص جسمها ووجهها — في هدوء — كأنما يُنقِّب فيهما عما لوَّعه وعبث بوقاره، فساد الصمت حتى رفعت إليه وجهها دون أن يَنبس، ولكن في حركة نمت عن تساؤل مُشرب بأدب، كأنما تقول له: «نحن في الخدمة.»

فتساءل السيد في مكر: هل يطول انتظارنا للسلطانة؟ ألم تَفرُغ بعد من ارتداء ملابسها؟

فحدجته بنظرة غريبة وهي تُضيِّق عينَيها، ثم قالت: السلطانة ليست في البيت.

فتساءل متظاهرًا بالدهشة: أين هي يا ترى؟

فقالت وهي تهز رأسها، راسمة على شفتَيها ابتسامة غامضة: علمي علمك.

فكَّر في إجابتها قليلًا، ثم قال: ظننتُها تُطلعك على خط سيرها؟

فلوَّحت بيدها كالمُستنكِرة، وقالت: إنك حسن الظن بنا (ثم ضاحكة) السُّلطة العسكرية زمانها انتهى، وإن شئت فأنت أحق منِّي بالاطلاع على خط سيرها.

– أنا!

– لم لا، ألستَ صديقها القديم؟

قال، وهو يحدجها بنظرة باسمة عميقة ناطقة: الصديق القديم والغريب سواء، ترى هل يطَّلع أصدقاؤك القدماء على خط سيرك؟

رفعت منكبها الأيمن وهي تمطُّ بوزها قائلة: ليس لي أصدقاء، لا قدماء ولا حديثون.

فراح يعبث بفردة شاربه وهو يقول: هذا كلام لمَن لا عقل له، أمَّا من له ولو شيئًا من العقل فلا يُتصوَّر كيف يمكن أن تكوني بين قوم يُبصرون ولا يستبقون إلى صداقتك.

– إن هي إلا تصورات الكرماء أمثالك، ولكنها لا تعدو التصورات الخيالية، الدليل على هذا أنك صديق قديم لهذا البيت، فهل راقَ لك يومًا أن تهبَني قسطًا من صداقتك؟

قطَّب في ارتباك، ثم قال بعد تردُّد: كنتِ وقتذاك، أعني أنه كانت ثمة ظروف.

ففرقعت بأصابعها، وقالت ساخرة: لعلها نفس الظروف التي حالت بيني — يا عيني — وبين الآخرين.

ألقى بظهره إلى مسند الكنبة في حركة سريعة تمثيلية ثم مدَّ نظره إليها من فوق أنفه العظيم، وهو يهز رأسه كالمستعيذ بالله منها، ثم قال: أنت عقدة، وها أنا أعترف بأنني لا قِبَل لي بك.

فدارت ابتسامة بعثها الثناء، ثم تظاهرت بالدهشة، وهي تقول: لا أفهم مما تعني شيئًا، الظاهر أنك في وادٍ وأني في واد، المهم أنك قلت: إنك جئت لمقابلة خالتي، فهل من رسالة أُبلغها إياها عند عودتها؟

ضحك السيد ضحكة قصيرة، ثم قال: قولي لها إن أحمد عبد الجواد جاء ليَشكوَني إليك، فلم يجدْك.

– تشكوني أنا! ماذا صنعت؟

– قولي لها: إني جئتُ أشكو إليها ما لقيت منك من قسوة ليسَت من شِيَم الحسان.

– يا له من قولٍ خليق برجل يجعل مِن كل شيء مادة لمزاحه ودعابته.

فاعتدل في جلسته، وقال جادًّا: معاذ الله أن أجعل منك مادة للمزاح أو الدعابة! إن شكواي صادقة، ويُخيَّل إليَّ أنك واقفة على سرها، ولكنه دلال الحسان، وللحسان الحق كل الحق في التدلل. ولكن عليهن مراعاة الرحمة أيضًا.

فمصمصت بشفتيها قائلة: عجب!

– لا عجب ألبتة! أتذكرين ما كان بالأمس في دكان يعقوب الصائغ؟ هل يستحق ذلك اللقاء الجاف من كان يعتز بمثل مودَّتي لكم وقِدَم عهدي بكم؟ وددتُ لو استعنتِ بي مثلًا فيما كان بينك وبين الصائغ، ووددت لو أتحتِ لي الفرصة كي أضع خبرتي في خدمتك، أو أن تتواضَعي درجة أخرى فتسمحي لي بأن أنهض بالأمر كله كما لو كانت الأسورة أسورتي أو كانت صاحبتها صاحبتي.

ابتسمت، وهي ترفع حاجبيها في شيء من الارتباك، ثم قالت باقتضاب: تشكر.

تنفس الرجل تنفسًا عميقًا ملأ به صدره العريض، ثم قال بحماس: مثلي لا يقنع بالشكر، ماذا يفيد الجائع إن أعرضت عنه، وأنت تقولين له: «على الله»؟ الجائع يريد الطعام، الطعام الشهي اللذيذ.

شبكت ذراعها على صدرها وهي تتظاهَر بالدهش، ثم قالت ساخرة: أنت جائع يا سي السيد؟ عندنا ملوخية وأرانب تستاهل فمك.

وهو يضحك عاليًا: عال اتفقنا، ملوخية وأرانب، تضاف إليها زجاجة ويسكي، ثم نُحلي بشيء من العود والرقص، ونتمدَّد ساعة معًا حتى نهضم.

فلوحت له بيدها كأنما تهتف به «إلى الوراء»، وقالت: الله الله، سكتنا له دخل بحماره … بُعدك.

ضم أصابع يمناه الخمس، حتى صارت كفمٍ مزموم، وجعل يرفعها ويخفضها بتؤدة، وهو يقول بلهجة وعظية: يا بنت الحلال لا تُضيِّعي الوقت الغالي في الكلام.

وهي تهز رأسها في زهو ودلال: بل قل لا تُضيِّعي الوقت الغالي مع الكهول.

مسح السيد على صدره العريض بكفه في حركة توحي بالتحدي الباسم، ولكنها هزت منكبيها ضاحكة، وهي تقول: ولو …

– ولو؟ يا لكِ من طفلة، حرام عليَّ النوم إنَّ لم أعلمك ما ينبغي أن تَعلميه، هاتي الملوخية والأرانب والويسكي والعود وزنار الرقص، هيا، هيا.

ثنت سبابة يسراها وألصقتها بحاجبها الأيسر، ثم أرعشت حاجبها الأيمن، وهي تتساءل: ألا تخاف أن تكبسنا السلطانة على غفلة؟

– لا تخافي، لن تعود السلطانة الليلة.

فحدجته بنظرة حادة مريبة، وتساءلت: من أدراك بذلك؟

انتبه إلى عثرة لسانه، فأوشك لحظة أن يَغلبه الارتباك، ولكنه تخلص منه قائلًا في لباقة: السلطانة لا تبقى في الخارج حتى هذه الساعة إلا لضرورة تَستدعي بقاءها حتى الصباح.

جعلت تحدق في وجهه طويلًا دون أن تنبس، ثم هزت رأسها في سخرية ظاهرة، ثم قالت بصوت مليء بالثقة: يا لِمَكر الكهول! يضعف فيهم كل شيء إلا مكرهم، هل حسبتَني غفلانة؟ كلا وحياتك، إني أعلم كل شيء.

عاد إلى العبث بفردة شاربه في شيء من الضيق، ثم سألها: ماذا تعلمين؟

– كل شيء.

وتريثت قليلًا لتَزيد من ارتباكه، ثم استطردت: أتذكر يوم جلست على قهوة سي علي لتسترق النظر من نافذة القهوة؟ يومها عينك حفرت جدار بيتنا من شدة النظر. ولما ركبت العربة الكارو مع أفراد التخت ساءلت نفسي: ترى هل يتبعنا مهللًا وراءنا كما يفعل الصبية؟ ولكنك عقلت وانتظرت فرصة أحسن.

قهقه الرجل حتى اشتدت حمرة وجهه، ثم قال بتسليم: اللهم اعف عنا.

– ولكنك نسيت عقلك أمس، عندما رأيتني أمام خان جعفر فتبعتَني حتى دخلت ورائي دكان يعقوب.

– عرفت هذا أيضًا يا بنت أخت زبيدة؟

– نعم يا زين العشاق، بيد أنني لم أكن أتصوَّر أنك ستدخل ورائي الدكان، ولكني ما لبثت أن وجدتك جالسًا فوق الكنبة ولا عفريت النسوان نفسه، ولما تظاهرت بالدهشة لرؤيتي كدت أطلق لساني فيك بما قسم، ولكن الموقف أملى عليَّ الأدب.

تساءل ضاحكًا، وهو يضرب كفًّا بكف: ألم أقل إنك عُقدة؟

فواصلت الحديث وهي في نشوة من الفوز والسرور: وما أدري ليلة إلا والسلطانة تقول لي: استعدي إننا ذاهبان إلى عوامة محمد عفت، فمضيت لأستعدَّ، ولكني سمعتها تقول بعد ذلك: إن السيد أحمد هو الذي اقترح الدعوة، لعبَ في عبِّي الفار، وقلت لنفسي: السيد أحمد لا يقترح شيئًا لوجه الله، وفهمت الفولة، فلم أذهب مُعتلَّة بصداع.

– يا لي من مسكين! وقعت في مخالب من لا يرحم، هل عندك مزيد؟

– لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع.

– ما أحلى هذا الكلام! قلِّد الوعَّاظ، يا أفسق خلق الله!

وهو يضحك عاليًا: الله يسامحك!

ثم متسائلًا في سرور غير خاف: فهمت الفولة هذه المرة أيضًا، ولكنَّكِ بقيت، فلم تغادري البيت أو تخفي نفسك.

ونهض قبل أن يتم جملته فاتجه نحوها وجلس إلى جانبها، ثم تناول طرف الوشاح المرصَّع بالترتر فقبله، وهو يقول: اللهم إني أشهد بأن هذه المخلوقة الجميلة ألذُّ من أنغام عودها، لسانها سوط، وحبها نار، وعاشقها شهيد، وسوف يكون لهذه الليلة شأنٌ في التاريخ كله.

– أبعدته عنها بكفها قائلة: لا تأخذني في دوكة، هوه! عُد إلى مجلسك.

– لن يفصل بيننا شيء بعد الآن.

جذبت وشاحها فجأة من يده ونهضت مُبتعدة قليلًا، ثم وقفت على بعد ذراع منه تمعن فيه نظرًا صامتًا، وكأنما تراجع نفسها في أمور ذات شأن، ثم قال: لم تسألني عما جعلني أتخلف عن الذهاب إلى العوامة — يوم دعانا محمد عفت — بناءً على اقتراحك.

– كي تزيدي النار اشتعالًا!

ضحكت ثلاث ضحكات متقطعة، ثم صمتت مليًّا، ثم قالت: فكرة لا بأس بها ولكنها قديمة، أليس كذلك يا زين الفسَّاق؟ ستظل الحقيقة سرًّا حتى أرى أن أُفشيه عندما يحلو لي.

– أقدم حياتي ثمنًا له.

ابتسمت ابتسامة صافية لأول مرة، ولاحت في عينيها نظرة رقيقة جاءت في أعقاب سخرياتها، كما يجيء الهدوء في أعقاب زوبعة، وبشر حالها بسياسة جديدة ومعنى جديد، فاقتربت منه خطوة ومدت يديها إلى شاربه برشاقة وراحت تجدله بعناية، ثم قالت بنبرات لم يسمعها من قبل: إذا قدمت حياتك ثمنًا لهذا، فماذا يَبقى لي أنا؟

وجد راحة عميقة لم يجد مثلها منذ تلك الليلة الخاسرة في العوامة، وكأنما كان يفوز بامرأة لأول مرة في حياته. تناول يديها من فوق شاربه وأودعهما بين راحتيه الكبيرتين، ثم قال بحنان وامتنان: أنا نشوان يا ست الكل، نشوان لحد يعجزني عن الوصف، دمت لي إلى الأبد، إلى الأبد، لا عاش من رد لك رجاءً أو طلبًا، أتمي نعمتك عليَّ وهيئي مجلسنا، الليلة ليست كالليالي الأخريات، وهي تستحق أن نحتفل بها حتى مطلع الفجر.

قالت وهي تلعب بأنامها بين راحتيه: ليست هذه الليلة كالليالي الأخريات حقًّا، ولكن ينبغي أن نقنع منها بالقليل.

القليل! هل ثمة صد بعد هذا اللطف كله؟ لم يَعُد بك صبر.

مضى يربت كفيها، ثم بسط راحتيها، ونظر بافتتان في لون الحناء الوردي الذي يَصبغهما، وما يدري إلا وهي تسأله بصوت ضاحك: هل تقرأ الكف يا سيدنا الشيخ؟

ابتسم، وقال مُداعبًا: أنا من المشهود لهم في قراءته، أتُحبِّين أن أقرأ لك كفك؟

أحنت رأسها بالإيجاب، فراح يتأمل راحتها اليمنى متظاهرًا بالتفكير، ثم قال باهتمام: في طريقك رجل سيكون له شأن في حياتك.

تساءلت ضاحكة: في الحلال يا ترى؟

ارتفع حاجباه وهو يُمعن النظر في كفها، ثم قال دون أن يبدو على وجهه أثر ولو خفيف للمزاح: بل في الحرام.

– أعوذ بالله! ما عمره؟

نظر إليها من تحت حاجبَيه، ثم قال: غير واضح ولكن إذا قستِه بمقياس مقدرته فهو في عنفوان الشباب.

فتساءلت بمكر: أهو كريم يا ترى؟

آه، لم يكن الكرم مما يُزكيك عندهن قديمًا.

– لم يعرف البخل قلبه.

فكرت قليلًا، ثم عادت تتساءل: هل يرضيه أن أبقى كالتابعة في هذا البيت؟

العجل وقع هاتوا السكاكين.

– بل سيجعلك سيِّدة قد الدنيا.

– أين يا ترى سأقيم في كنفه؟

زبيدة نفسها لم تُكلفك شيئًا من هذا، سيقولون فيك ويعيدون.

– شقة جميلة.

– شقة؟!

عجب للهجتها المستنكرة، فسألها داهشًا: ألا يُعجبك هذا؟

قالت وهي تُشير إلى راحتها: ألا ترى ماء يجري؟ … انظر جيدًا.

– ماء يجري! … أتودِّين السُّكنى في الحمام؟

– ألا ترى النيل … عوامة أو ذهبية؟

أربعة جنيهات أو خمسة شهريًّا دفعة واحدة، غير النفقات الأخرى، آه، لا تعشقُوا أولاد السفلة.

– لماذا تختارين مكانًا بعيدًا عن العمران؟

اقتربت منه حتى مسَّت ركبتاها ركبتَيه، وقالت: لستَ دون محمد عفت جاهًا، ولستُ دون السلطانة حظًّا ما دمتَ تُحبُّني كما تقول، وفي وسعك أن تسهَر فيها أنت وأصحابك، إنها حُلمي فحققه لي.

أحاط وسطها بذراعَيه، ولبث صامتًا ليَستشعِر في هدوءٍ مسَّها ولينها، ثم قال: لك ما تشائين يا أملي.

فكان الشكر أن ألصقَت راحتيها بخدَّيه، ثم قالت: لا تظن أنك تُعطي دون أن تأخذ، اذكر دائمًا أنه من أجلك سأغادر هذا البيت الذي عشت عمري فيه إلى غير رجعة، واذكر أنني إذ أطالبك بأن تجعلني سيدة فما ذلك إلا لأنه لا يليق بمن كانت صاحبة لك أن تكون أقل من سيدة.

شدَّ ذراعَيه حول وسطها حتى التصق صدرها بوجهِه، ثم قال: إني أُدرك كل شيء يا نظري، سيكون لك ما تُحبِّين وأكثر، أحب أن أراك كما تحبين أن ترَي نفسك، والآن هيِّئي لنا مجلسنا، أريد أن أبدأ حياتي من الليلة.

أمسكت بساعدَيه، ثم ابتسمت إليه ابتسامة اعتذار، وقالت برقة: عندما نجتمع في عوامتنا على النيل.

قال لها مُحذِّرًا: لا تُثيري جنوني، هل تستطيعين أن تُقاومي صولتي؟

فتراجعت وهي تقول بلهجة تجمع بين التوسُّل والإصرار: ليس في البيت الذي عملت فيه وصيفة، انتظر حتى يجمعنا المسكن الجديد، مسكنُك ومسكني، عند ذاك أكون لك إلى الأبد، ليس قبل ذلك وحياتك عندي، وحياتي عندك!

١٠

«خير إن شاء الله …»

هذا ما ردَّده أحمد عبد الجواد في نفسه وهو يُطالع ياسين مُقبلًا نحوه في الدكان، كانت زيارة غريبة وغير مُتوقَّعة، أعادت إلى ذاكرته زيارته القديمة لدكانه، يوم جاءه ليشاوره فيما ترامى إليه من اعتزام المرحومة أمه الزواج للمرة الرابعة، والحق أنه أيقن أنه لم يَجِئه لتبادل التحية والسلام، ولا للحديث في شأنٍ عادي مما يمكن أن يحدثه به في البيت، أجل إن ياسين لا يجيء إلى مقابلته في الدكان إلا لشأنٍ خطير، صافحه ثم دعاه إلى الجلوس، وهو يقول: خير إن شاء الله.

جلس ياسين على كرسي قريب من مجلس أبيه وراء مكتبه، مُوليًا بقية الدكان ظهره حيث وقف جميل الحمزاوي أمام الميزان يزن بضاعةً لبعض الزبائن، ونظر إلى أبيه في شيء من ارتباك وكَّد حدسه، فأغلق الرجل دفترًا كان يُسجِّل فيه أرقامًا، واعتدل في جلسته متأهِّبًا لما يجيء، وقد بدَت إلى يمينه الخزينة نصف مفتوحة، وفوق رأسه صورة سعد زغلول في بدلة الرياسة مُعلَّقة في الجدار تحت إطار البسملة القديم، ولم يكن قصد الدكَّان اعتباطًا، ولكن عن تدبُّر وتفكير باعتباره آمن مكان لمقابلة أبيه بما جاء من أجله؛ إذ إن وجود جميل الحمزاوي به ومن يتَّفق وجودهم من الزبائن خليق بأن يهيئ له درعًا راقيًا من الغضب إذا جاءت دواعيه، وكان يحسب ألف حساب لغضب أبيه رغم الحصانة التي اكتسبها بتقدم العمر، والمعاملة الطيبة التي يحظى بها بوجه عام.

قال ياسين بأدب بالغ: اسمح لي بقليل من وقتك الغالي، لولا الضرورة ما تجرَّأتُ على إزعاجك، ولكني لا يمكن أن أخطو خطوة دون استنارة برأيك، واعتماد على رضاك.

ابتسم باطن السيد أحمد هازئًا من هذا الأدب الجم، وجعل يتأمل فتاه الضخم الجميل الأنيق في حذر، مُلقيًا عليه نظرة إجمالية شملت شاربه المجدول على طريقته — هو — وبذلته الكحلية وقميصه ذا البنيقة المنشية، والبابيون الأزرق، والمنشَّة العاجية، والحذاء الأسود اللامع. ولم يكن ياسين قد مسَّ مظهره — تأدبًا في محضَر أبيه — إلا في نقطتين، فأخفى طرف منديله الحريري الذي يطلُّ من جيب جاكتته الأعلى، وعدل طربوشه الذي يعوجه عادة إلى اليمين. يقول: إنه لا يُمكن أن يخطو خطوة دون استنارة برأيه! مرحى، هل استنار به وهو يَسكر؟ وهو يَسبح على وجهه في وجه البركة الذي حرَّمه عليه؟ هل استنار به ليلة وثب على الجارية فوق السطح؟ مرحى، مرحى، ماذا وراء هذه الخطبة المنبرية؟

– طبعًا، هذا أقل ما يُنتظَر من رجل عاقل مثلك، خير إن شاء الله؟

التفت ياسين التفاتة سريعة لحظ بها جميل الحمزاوي ومن معه، ثم قرَّب الكرسي من المكتب، واستجمع شجاعتَه، قائلًا: اعتزمت — بعد مُوافقتك ورضاك — أن أكمل نصف ديني.

مفاجأة حقيقية! غير أنها مفاجأة سارة على غير ما توقَّع، ولكن مهلًا، لن تكون سارة حقًّا إلا بشروط، فلينتظر حتى يسمع الأهم من الحديث. أليس ثمَّة ما يدعو إلى القلق؟ بلى، تلك المقدمة البالغة في الأدب والتودُّد، إيثاره الدكان مكانًا للحديث لدواعٍ لا يُمكن أن تخفى عن فطنة الفطن، أما الزواج في ذاته فطالَما تمنَّاه له، تمناه حين ألح على محمد عفت ليردَّ إليه زوجته، وتمنَّاه حين دعا الله في أعقاب صلواته أن يهديَه إلى الرشاد وبنت الحلال، بل لعله لولا إشفاقه من أن يُحرجه مع أصدقائه كما أحرجه من قبل مع محمد عفت لما تردَّد من تزويجه مرة أخرى، فلينتظر. وعسى ألا يتحقَّق شيء من مخاوفه.

– اعتزام جميل أُوافق عليه كل الموافقة، فهل وقع اختيارك على أسرة معينة؟

خفض ياسين عينيه لحظة، ثم رفعها قائلًا: وجدت بُغيتي، بيت كريم خبرناه بطول الجوار، وكان ربه من معارفك المحمودين.

رفع السيد حاجبَيه متسائلًا دون أن ينبس، فقال ياسين: المرحوم السيد محمد رضوان.

– لا …!

ندت عن السيد أحمد قبل أن يتمالك نفسه، ندَّت عنه في تأفُّف واحتجاج حتى شعر بأنه ينبغي أن يُبرِّر تأفُّفه واحتجاجه بسببٍ وجيه يُداري به حقيقة مشاعره، ولم يُعوزه ذلك، فقال: أليسَت كريمته مُطلَّقة؟ فهل ضاقت الدنيا حتى تتزوَّج من ثيب؟

لم يُفاجأ ياسين بهذا الاعتراض، كان يتوقَّعه منذ اللحظة التي عزم فيها على الزواج من مريم، غير أنه كان قوي الأمل في التغلُّب على معارضة أبيه التي لم يتصور أن تكون إلا صدى لتفضيل البكر على الثيب، أو تجنبًا لامرأة عسيَّة بأن تذكره بمأساة ابنه الراحل، وكان يؤمن بحكمة أبيه ويَرجو أن تَستهين في النهاية بهذين المأخذَين الواهيين، بل كان يعتمد كل الاعتماد على موافقتِه في التغلُّب على المعارضة الحقيقية التي يتوقَّعها عند امرأة أبيه، تلك المعارضة التي وقف أمام التفكير فيها حائرًا، حتى خطر له أن يغادر البيت مغادرة الهارب كي يتزوج كما يحلو له مواجهًا الجميع بالأمر الواقع، ولولا أن إغضاب أبيه كان فوق طاقته لفعل، إلا أنه عز عليه أن يتجاهَل عواطف أمه الثانية — بل أمه الأولى — قبل أن يَبذل قصاراه لاستمالتها واقتناعها برأيه، قال: لم تَضِق بي الدنيا، ولكنها القسمة والنصيب، أنا لا أبحث عن المال أو الجاه، وحسبي الأصل الطيب والخلق القويم.

إن كان ثمة عزاء وسط هذه الأمور المعقَّدة المؤسِفة، فهو صدق رأيه فيه الذي لا يكذب أبدًا. هذا هو ياسين بلا زيادة ولا نقصان، إنسان — أو حيوان — تَسير المتاعب من بين يدَيه ومن خلفه، ولو جاء بنبأ سعيد أو زفَّ إليه بشرى سارَّة لما كان ياسين، ولخاب تقديره ورأيه فيه، لعله مما لا يعيبه ألا يبحث في الزوجة عن المال أو الجاه، أما الخلق فمسألة أخرى، ولكن البغل معذور ويبدو — وهذا طبيعي — أنه لا يدري شيئًا عن سيرة أم الفتاة التي يرومها زوجة، تلك سيرة يعرفها هو وحده معرفة الفاعل، ولعل آخرين سبقُوه إليها أو لحقوا به. فما العمل؟ أجل قد تكون الفتاة مهذَّبة، ولكن من المؤكَّد أنها لم تظفر بأحسن أم ولا بأحسن بيئة، ومن المؤسف أنه لا يستطيع أن يجهر برأيه — ذاك — ما دام لا يسعه أن يقرن القول بالدليل، خاصة وأنه رأى خليق بأن يُقابل — ممَّن يَسمعه لأول مرة — بالإنكار والانزعاج. والأدهى من ذلك أنه يَخاف أن يُلمِّح إليه، فيدفع ياسين إلى البحث والاستقصاء فيعثر آخر الأمر على أثر بصماته هو — أبيه — فتكون الفضيحة التي ليس وراءها فضيحة.

المسألة إذن دقيقة حَرِجة، ثمَّ إنَّ ثمة شوكة حادة تكمن في تضاعيفها — هي — تاريخ قديم يتصل بفهمي، ألا يذكر ياسين ذلك؟ كيف هان عليه أن يرغب في فتاة تطلَّع إليها قديمًا أخوه الراحل؟ أليس هذا سلوكًا بغيضًا؟ بلى، إنه لكذلك وإن كان لا يشكُّ في إخلاص الشاب لأخيه الراحل، إن منطق الحياة القاسي يُقيم عُذرًا لأمثاله، إنَّ الرغبة طاغية أعمى لا يَرحم وهو أخبر الناس بذلك.

قطَّب الرجل ليُشعِره بتضايُقِه، ثمَّ قال: إنَّ قلبي لم يرتح لاختيارك، لا أدري لماذا! كان المرحوم السيد محمد رضوان رجلًا طيبًا حقًّا، ولكن الشلل حال بينه وبين رعاية بيتِه منذ زمن بعيد سابق لوفاته، لم أقصد بهذه الملاحظة إساءة الظن بأحد، كلا، ولكنه كلام يقال، ربما ردده بعض الناس، هه؟ الأهمُّ عندي أن الفتاة مُطلَّقة، لماذا طُلِّقت؟ هذا سؤال من أسئلة كثيرة ينبغي أن تعلم جوابها، لا يصح أن تأمن مطلقة حتى تستقصي كل شيء عنها، لعلَّ هذا ما أرادت قوله، والدنيا ملأى ببنات الناس الطيبين.

قال ياسين مُتشجِّعًا بأسلوب أبيه، الذي اقتصر على النقاش والنصح: بحثت بنفسي وبواسطة آخرين، فتبين لي أنَّ الحق كان على الزوج، إذ كان مُتزوجًا وأخفى عنهم ذلك، فضلًا عن عجزه عن الإنفاق على بيتين في وقتٍ واحد وسوء خلقه.

سوء خلقه، إنه يتكلَّم — بلا حياء — عن سُوء الخلق، البغل يُمدُّك بمادة بكر لمزاح سهرة كاملة، قال: إذن فرغت من البحث والتقصي!

قال ياسين بحياء، وهو يتهرَّب من عيني أبيه الحادتَين: تلك خطوة بديهية.

فسأله الرجل، وهو يخفض عينَيه: ألم تُدرك أن تلك الفتاة تَرتبِط بذكريات أليمة لنا؟

اعتراه الارتباك حتى اختطف لونه، وهو يقول: لم يكن من المُمكن أن يغيب عني هذا، ولكنه وهم لا أصل له، فإني أعرف عن يقين أن المرحوم لم يهتمَّ بالأمر كله إلا أيامًا معدودات، ثم نسيه نسيانًا تامًّا، وأكاد أجزم بأنه ارتاح فيما بعد إلى فشل مسعاه؛ إذ اقتنع بأن الفتاة لم تكن طلبته كما توهم.

ترى أيقول ياسين الحق، أم يُدافع عن موقفه؟ كان نجيَّ المرحوم، ولعله الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يزعم أنه مطَّلع على ما لا علم للآخرين به من خاصة شئونه، فليته كان صادقًا، أجل، ليته كان صادقًا إذن لأعفاه من عذابٍ يُؤرِّقه كلما ذكر أنه وقف يومًا عثرة في سبيل سعادة الفقيد، أو كلما خطر بباله أنه ربما مات تعيس القلب، أو ناقمًا عليه استبداده وتعنُّته، تلك الآلام التي نهشت قلبه، هل يريد ياسين أن يعفيه منها؟

سأل ياسين بلهفة لم يَفطن الشاب إلى عمقها: أأنت حقًّا على يقين مما تقول؟ هل صارحك به؟

ولثاني مرة في حياته رأى ياسين أباه على حالٍ من الانكسار لم يَشهد مثلها إلا يوم مصرع فهمي، وهو يقول له: كاشِفني الحقيقة عارية عن كل تخفيف، الحقيقة الكاملة، هذا يُهمني فوق ما تتصور (وكاد يعترف له بألمه، ولكنه أمسك الاعتراف وهو على طرف لسانه)، الحقيقة الكاملة يا ياسين.

فقال ياسين دون تردُّد: إني على يقين مما أقول، خبرتُه بنفسي وسمعتُه بأذني، لا شكَّ في ذلك مُطلقًا.

في ظروفٍ أخرى لم يكن هذا القول — ولا أبلغ منه — كافيًا لإقناعه بصدق ياسين، لكنه كان في الحق متعطشًا إلى تصديقه، فصدَّقه وآمن به، وامتلأ قلبه نحوه بامتنان عميق وسلام شامل، لم تَعُد مسألة الزواج — في تلك اللحظة على الأقل — مما يكربه، ولاذ بالصمت مليًّا هانئًا بالسلام الذي غمر قلبه، ورويدًا رويدًا مضى يستردُّ شعوره بالموقف ويرى ياسين بعد أن غيَّبه عن عينَيه الانفعال، فعاد يُفكر في مريم وأم مريم وزواج ياسين وواجبه، وما يستطيع قوله وما لا يستطيع قوله، قال: مهما يكن من أمر فإني أود أن تُوليَ المسألة تفكيرًا أعمق وحذرًا أشدَّ، لا تتعجَّل، مُدَّ لنفسك فسحة التدبر والمراجعة، إنها مسألةُ مُستقبَل وكرامة وسعادة، وإني على استعدادٍ لأنْ أختار لك بنفسي مرةً أخرى إذا وعدتَني وعد رجل صادق ألا تجعلَني أندم على تدخُّلي لما فيه صلاحك، هه؟ ما رأيك؟

صمت ياسين مُتفكِّرًا، مُستاءً من تحوُّل الحديث إلى مجرى ضيق محفوف بالحرج، حقًّا أن الرجل يتحدَّث بحلمٍ عجيب، ولكنه لم يُخفِ قلقه وعدم ارتياحه، فإذا أصر على رأيه بعد ذلك فقد يجرهما النقاش إلى شقاق غير مُستحب، ولكن هل ينكص تفاديًا من هذه العاقبة؟ كلا، لم يعد طفلًا سيتزوَّج بمن يشاء كما يشاء، ولكن فليُعنه الله على الاحتفاظ بمودَّة أبيه، قال: لا أريد أن أجشمك تعبًا جديدًا، شكرًا لك يا بابا، غاية ما أتمنى أن أحظى بموافقتك ورضاك.

لوَّح السيد يده في نفاد صبر، وقال بلهجة لم تَخلُ من حدة: تأبى أن تفتح عينيك على ما في رأيي من حكمة!

فقال ياسين برجاء حار: لا تَغضب يا بابا، أستحلفك بالله ألا تَغضب، إن رضاك بركة، ولا أطيق أن تضنَّ عليَّ بها، دعني أجرب حظي وادع لي بالتوفيق.

اقتنع أحمد عبد الجواد بأن عليه أن يسلم بالأمر الواقع، فسلَّم به في حزنٍ ويأس … أجل، ربما كانت مريم — رغم استهتار أمها — فتاةً شريفة وزوجة صالحة، ولكن لا شكَّ كذلك في أن ياسين لم يُوفَّق إلى اختيار أصلح الزوجات ولا أفضل البيوت.

الأمر لله. مضى الزمن الذي كان يُملي فيه إرادته إملاءً فلا يجد رادًّا لها، وياسين اليوم رجل مسئول ولن يَجني من محاولة فرض رأيه عليه إلا العصيان … فليُسلِّم بالأمر الواقع، وليسأل الله السلامة.

عاود النُّصح والتبصير؛ فلجأ ياسين كرَّةً أخرى إلى الاعتذار والتودُّد حتى لم يَعُد ثمَّة زيادة لمُستزيد، غادر الدكان وهو يُقنع نفسه بأنه نال مُوافَقة أبيه ورضاه. على أنه كان يعلم أن الأزمة الخطيرة حقًّا هي التي تنتظره في البيت، وكان يعلم أيضًا أنه سيترك البيت حتمًا؛ لأنَّ مجرَّد التفكير في إمكان ضمِّ مريم إلى الأسرة ضرب من الجنون، فرجا أن يَتركه بسلام غير مُخلف وراءه عداوةً أو حقدًا؛ إذ لم يكن من اليسير عليه أن يَستهين بامرأة أبيه أو يتنكَّر لعهدها وفضلِها عليه، لم يكن يتصوَّر أن تدفعه الأيام إلى وقوف هذا الموقف الغريب من البيت وآله، ولكن تعقَّدت الأمور وضاقت السبل حتى لم يبقَ من منفذ إلَّا الزواج. والعجب أنه لم تغب عن فطنتِه السياسة النسائية التي رُسمت للإيقاع به، سياسة قديمة تتلخَّص في كلمتين: التودُّد والتمتُّع، ولكن الرغبة في الفتاة كانت قد تسرَّبت إلى دمه، ولم يعد بد من إروائها بأي سبيل ولو كان الزواج. وأعجب من ذاك أنه كان يعلم من تاريخ مريم ما يعلمه أفراد أسرته جميعًا — عدا والدِه بطبيعة الحال — ولكن رغبته طغَت فلم يصدَّه ذلك عن فكرته أو يُزهده فيها، وقال لنفسه: لِمَ أكرب قلبي على ماضٍ فاتَ لست مسئولًا عنه، سنبدأ معًا حياة جديدة، ومن هنا تبدأ مسئوليتي، وإنَّ ثقتي بنفسي لا حدَّ لها. وإذا حدث أن خيبت ظني نبذتها كما يُنبذ الحذاء البالي. والحق أنه لم يستلهم فيما عزم فكره، ولكنه استخدمه في تبرير رغبته الجامِحة التي لا تزدجر، فأقبل على الزواج هذه المرة كبديل من مخادنة امتنعت عليه، غير أن ذلك لا يعني أنه أضمر نحوه سوءًا أو أنه اتخذه ذريعة مؤقَّتة لقضاء لبانة، فالحق أيضًا أن نفسه — رغم تقلُّباتها التي لا تنفكُّ عنها — كانت تهفو إلى حياة الزوجية والبيت المستقر.

مر هذا كله بخاطرِه وهو متَّخذ مكانه — إلى جنب كمال — بمجلس القهوة، ذلك المجلس الذي يبدو أنه يشهد آخر أيامه فيه، ومضى يجيل طرفه بين كنباته، وحصره الملونة، والفانوس الكبير المُدلَّى من سقفه في كثير من الأسى. وكانت أمينة متربعة كعادتها على الكنبة القائمة بين بابَي حجرة نوم السيد وحجرة المائدة، عاكفة على المجمرة رغم دفء الجو لتصنَع قهوتها، وقد تلفَّعت بخمار أبيض فوق جلبابٍ بنفسجي نمَّ عن ضمورها، واكتنفها هدوء يشاب عند الصمت بأمارات الحزن، كماء الشاطئ إذا استكنَّ شفَّ عما في باطنِه. شدَّ ما شعر بالأسف والحرج وهو يأخذ أُهبته للإفصاح عما في ضميره، ولكن لم يكن من الإفصاح بدٌّ، فقال بعد أن فرغ من احتساء قهوته دون أن يذوق لها طعمًا: والله يا نينة لديَّ مسألة أريد أن أستشيرك فيها.

وتبادل مع كمال نظرةً دلت على أن الأخير على علم سابق بموضوع الحديث، وأنه يترقَّب عواقبه باهتمام، لا يقلُّ عن اهتمام ياسين نفسه. قالت أمينة: خير يا بني؟

قال ياسين باقتضاب: قررتُ أن أتزوج.

فتجلَّى في عينَيها العسليتين الصغيرتين اهتمام باسم، ثم قالت: خير ما قرَّرت يا بني، لا ينبغي أن يطول انتظارك أكثر مما طال.

ثم لاحت في عينَيها نظرة متسائلة، ولكنها بدل أن تُفصح عن تساؤلها، قالت وكأنَّما تستدرجه إلى الاعتراف كأن ثمة سر: خاطب والدَك أو دعني أخاطبه، ولن يُعجزه أن يجد لك زوجة جديدة خيرًا من الأولى.

قال ياسين في رزانة بدت لها أكثر مما يَستدعي الأمر: خاطبت أبي بالفعل، وليس هناك حاجة إلى تكليفِه عناءً جديدًا لأني اخترت بنفسي، وقد وافق أبي، فأرجو أن أحوز مُوافقتك أيضًا.

تورَّد وجهها حياءً وسرورًا بما أولاها مِن أهمية، فقالت: ربنا يُوفقك إلى ما فيه الخير، عَجِّل حتى تعمر لنا الدور المهجور، ولكن مَن بنت الحلال التي قرَّرت أن تتخذها زوجة؟

تبادل مع كمال نظرة أخرى، ثم قال في عناء: جيران تعرفينهم.

ارتسم بين حاجبيها تقطيب التذكُّر وهي تمدُّ نظرها إلى لا شيء، محركة سبَّابتها كأنما تُحصي من في مخيلتِها من الجيران، ثم قالت: إنك تُحيِّرني يا ياسين، هلا تكلمت وأرحتني؟

قال وهو يبتسم ابتسامة شاحبة: جيراننا الأقربون.

– مَن …؟

ندَّت عنها في إنكار وانزعاج وهي تُحملِق في وجهه، فخفض رأسه وأطبق شفتيه متجهم الوجه، فعادت تقول بصوت متهدج، وهي تشير بإبهامها إلى الوراء: أولئك؟ مستحيل هل تعني ما تقول يا ياسين؟

فأجاب بالصمت المتجهِّم حتى زعقت: خبر أسود … أولئك الذين شمتوا بنا في أجلِّ مُصاب؟

فلم يتمالك أن هتف بها: أستحلفك بالله ألا تُردِّدي هذا القول، إنه وهم باطل، ولو اقتنع به قلبي لحظة واحدة.

– طبعًا تدافع عنهم، ولكنه دفاع لا ينطلي على أحد، لا تُتعب نفسك في إقناعي بالمُحال، يا ربي! أي ضرورة تدعو إلى هذه الفضيحة؟ كلهم نقائص وعيوب، فهل من فضيلة واحدة نبرِّر هذا الاختيار الجائر؟ قلت إنك نلت موافقة أبيك، الرجل لا يعلم عن هذه الأمور شيئًا، قل إنك خدعته.

قال ياسين بتوسُّل: هدئي روعك، ليس أكره عندي من إغضابك، هدِّئي روعك ولنتكلَّم في هدوء.

– كيف أسمع لك وأنا أتلقى منك هذه اللطمة القاسية؟ قل إن الأمر لا يعدو أن يكون مزاحًا سخيفًا، مريم؟ الفتاة المُستهترة التي تعرف من أمرها ما نعرف جميعًا؟ هل نسيت تاريخها الفاضح؟ هل نسيت حقًّا؟ أتُريد أن تجيء بهذه الفتاة إلى بيتنا؟

قال وهو يَزفر كأنَّما يطرد من صدره الكرب والاضطراب: لم أقل هذا قط، هذا أمر لا أهمية له، المهم عندي حقًّا أن تنظري إلى المسألة كلها نظرةً جديدة خالية من التحامل.

– أي تحامل يا هذا؟ هل ادعيت عليها بالباطل؟ تقول إن أباك وافق، فهل أخبرته عن عبثها الفاضح مع الجنود الإنجليز؟ ماذا جرى لأولاد الناس الطيبين يا ربي؟

– هدئى روعك، دعينا نتحدَّث في هدوء، ماذا يُجدي هذا الهياج؟

صاحت بحدَّة لم تكن من طباعها في الزمن الأول: إنَّ رَوعي لا يُمكن أن يهدأ ما دام الأمر يتعلَّق بالكرامة.

ثم بصوتٍ باك: وأنت تُسيء إلى ذكرى أخيك الغالي.

ياسين وهو يزدرد ريقه: أخي؟ رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، إن هذا الأمر لا يمس ذكراه في شيء، صدقيني فإني أدرى بما أقول، لا تُقلقي مرقده.

– لست أنا التي أُقلق مرقده، إنما يقلق مرقده حقًّا أخوه الذي يتطلع إلى هذه الفتاة. أنت تعلم هذا يا ياسين. ولا تستطيع أن تنكره.

ثم في انفعال شديد: لعلك كنتَ تتطلَّع إليها حتى في ذلك الزمن البعيد!

– نينة!

– لم تَعُد لي ثقة في شيء، كيف تبقى لي ثقة في شيء بعد هذا الغدر؟ هل ضاقت الدنيا وأقفرت حتى لم تجد من فتياتها زوجة إلا الفتاة التي أدمت قلب أخيك؟ ألا تذكر ما أصابه من حزن وهو يستمع معنا إلى قصة الجندي الإنجليزي؟!

بسط ياسين ذراعيه في توسُّل، قائلًا: فلنُؤجِّل هذا الحديث إلى وقتٍ آخر، سأُثبت لك فيما بعد أن المرحوم لبى نداء ربه وليس في قلبه أي أثر لهذه الفتاة، أما الآن فلم يعد الجو صالحًا للكلام.

صاحت به غاضبة: هيهات أن يصلح عندي جو لهذا الكلام، إنك لا تَرعى ذكرى فهمي.

– ليتَكِ تتصوَّرين ما يُحدثه كلامك فيَّ من حزن.

صاحت، وقد بلغ بها الغضب منتهاه: أي حزن؟ إنك لم تَحزن على أخيك. مِن الغرباء مَن حزن عليه أكثر منك.

– نينة!

وهمَّ كمال بالتدخُّل في الحديث، ولكنها أسكتَتْه بإشارة من يدِها، وهتفَت: لا تَدعُني نينة، لقد كنت لك أمًّا حقًّا، ولكنك لم تكن لي ابنًا، ولم تكن لابني أخًا.

لم يَعُد يحتمل البقاء، فنهض محزونًا مُكتئبًا، وغادر الصالة إلى حجرته، وما لبث كمال أن لحق به ولم يكن دونه حزنًا وكآبة، فقال له: ألم أُحذرك؟

فقال ياسين مُقطِّبًا: لن أبقى في هذا البيت دقيقة واحدة بعد الآن.

فقال كمال بجزع: يجب أن تَعذرها، أنت تعلم أن والدتي لم تَعُد كما كانت، إنَّ أبي نفسه يُغضي عن بعض هفواتها أحيانًا، ما هي إلا غضبة لا تلبَث أن تسكت فلا تُحاسبها على كلامها، هذا رجائي إليك.

قال ياسين وهو يتنهد: لن أحاسبها يا كمال، لن أبيع جميل الأعوام بإساءة ساعة، إنها معذورة كما قلت، ولكن كيف أطالعها بوجهي صباح مساء، وهذا ظنها بي؟

ثم بعد لحظات صمت مشحونة بالكآبة: لا تصدق أن مريم أدمت قلب المرحوم، لقد استأذن المرحوم يومًا في أن يخطبها فرفض أبوك، وتناسى المرحوم الأمر حتى نسيَه فانتهى كل شيء، فما ذنب الفتاة في ذلك، وما ذنبي أنا إذا أردت أن أتزوجها بعد ستِّ سنوات من ذلك التاريخ؟

قال كمال برجاء: لم تَعدُ الحق فيما قلت، وسوف تقتنع نينة به عاجلًا، فأرجو أن يكون كلامك عن عدم البقاء في البيت مجرد هفوة لسانية.

فقال ياسين وهو يهز رأسه في حزن: أنا أول من يعز عليه هجر هذا البيت، ولكني سأتركه عاجلًا أو آجلًا ما دام انتقال مريم إليه مُستحيلًا، فلا تنظر إلى مسألة ذهابي إلا مِن هذه الزاوية، سأنتقل إلى بيتي بقصر الشوق، ومن حسن الحظ أن شقة أمي لا تزال خالية، وسأُقابل والدي في الدكان وأوضح له أسباب ذهابي مُتحاشيًا كل ما يعكر صفوه، لست غاضبًا، سأترك البيت آسفًا عليه كل الأسف، آسفًا على فراق أهله وأولهم نينة، لا تحزن، ستعود المياه إلى مجاريها في وقت قريب، ليس في هذه الأسرة قلب أسود، وقلب والدتك أنصعها بياضًا.

ومضى إلى صوان ملابسه ففتحه، وجعل ينظر إلى ملابسه ولوازمه، وتردَّد قليلًا قبل أن يُنفذ ما عقد العزم عليه، فالتفت إلى كمال، وهو يقول: سأتزوج من هذه الفتاة كما قضت بذلك المقادير، ولكني — علم الله — مقتنع كل الاقتناع بأني لم أُسئ إلى ذكرى فهمي، أنت أعلم يا كمال بما كان من حبي له، كيف لا؟ إذا كان هناك من سيُساء بهذا الزواج، فهو أنا.

١١

قادت خادم صغيرة ياسين إلى حجرة الاستقبال ثم انصرفت، كان يقوم بزيارة بيت المرحوم السيد محمد رضوان لأول مرة في حياته، وكانت الحجرة — على طراز الحجرات ببيت أبيه — واسعة الأركان، مُرتفِعة السقف، فيها مشربية تُشرف على شارع بين القصرين ونافذتان تُطلان على العطفة الجانبية التي يفتح عليها مدخل البيت، وقد فُرشت أرضها ببُسُط صغيرة، واصطفت في جوانبها الكنبات والمقاعد، وأسدلت على الباب والمَنافذ ستائر من مخملٍ رمادي باهت من القدم، وعلى الجدار المواجه للباب عُلقت البسملة في إطار أسود كبير، بينا توسَّطت الجدار الأيمن — فوق الكنبة الرئيسية — صورة للمرحوم السيد محمد رضوان تُمثِّله في أوسط العمر.

اختار ياسين أول كنبة صادفته إلى يمين المدخل، فجلس وهو يتفحَّص المكان بعناية حتى ثبتت عيناه على وجه السيد محمد رضوان الذي بدا وكأنه يُبادله النظر بعينَي مريم. ابتسم ابتسامة راضية وراح ينشُّ لا شيء بمنشته العاجية … ثمة مُشكلة قد واجهته مذ فكَّر في المجيء لخطبة مريم، هي خلو البيت من جنس الرجال، وعدم توفيقه إلى إنابة أحد مِن جنس النساء عنه، فكانت النتيجة أن جاء وحده كأنه مقطوع من شجرة — على حدِّ تعبيره — الأمر الذي أخجله بعض الشيء كرجل ورث عن وسطه الاعتزاز بالأهل والأسرة، غير أنه كان مُطمئنًا من ناحية أخرى إلى أن مريم لا بد وأن تكون قد مهَّدت له السبيل عند أمها، بحيث إنَّ مجرد إعلان زيارته سيَشي بما جاء من أجله، ومن ثم يُهيِّئ له جوًّا طيبًا لإنجاز مهمته.

عادت الخادم إلى الظهور حاملة صينية القهوة، فوضعتها على المنضدة أمامه، وتراجعت وهي تُخبره بأن ستها الكبيرة في الطريق إليه. وستها الصغيرة ترى هل علمت بحضوره؟ وما صدى ذلك في نفسها الرقيقة؟ سوف يَحملها بحسنها إلى قصر الشوق، ولتفعل بنا القوة ما تشاء. من كان يظن لأمينة هذه القدرة على الغضب؟ كانت في وداعة الملاك. قاتل الله الحزن! كذلك غضب أبوه وهو يعترف له في الدكان بأنه هجر البيت، ولكن غضبٌ رحيمٌ كشف عن تأثُّره وحزنه، ترى: هل تُطلعه أمينة على تاريخ مريم؟ غضب الثكلى شيء مُخيف، ولكن كمال وعد بأن يحملها على السكوت، في قصر الشوق صادفتْك أول مفاجأة سعيدة في هذا الجو العاصف! هو موت الفكهاني وحلول ساعاتي محله، إلى القبر! سمع نحنحة عند الباب، فاتجه بصره إليه وهو يَنهض، وما لبث أن رأى ست بهيجة وهي تدخل بجنبِها؛ إذ إن مصراع الباب المفتوح لم يكن ليتَّسع لها إذا دخلت بعرضها، ولمح عن غير قصد الخطوط التي تحد تفاصيل جسمها الجسيم، فلم يتمالك من العجب عندما مرت أمام عينيه عجيزتها التي كادت قمتها تبلغ منتصف ظهرها ويفيض أسفلها على فخذيها، فكأنما كرة منطاد. وأقبلت نحوه في خطوات متمهلة ناءت بقناطير اللحم والشحم، ثم مدت له يدًا بضَّة بيضاء برزت من كُمِّ فستانها الأبيض الفضفاض، وهي تقول: أهلًا وسهلًا. شرَّفت ونورت.

فصافحها ياسين بأدب، ولبث واقفًا حتى جلست على الكنبة المُجاوِرة فجلس. كان يراها عن كثب لأول مرة؛ إذ إنَّ علاقتها القديمة بأسرته واكتسابها مع الأيام منزلة أشبه بمنزلة الأم في السن والاحترام حملاه على تجنُّب تفحُّصها — كما يفعل مع غيرها من النساء — كلما لمَحها عن بعد في الطريق، لذلك خُيِّل إليه أنه عثر على كشف جديد. وكانت تَرتدي فستانًا قد غطى على جسمها من العنق إلى ما فوق القدمَين، وحتى القدمان وارتهما في جورب أبيض رغم دفء الجو، بينا امتد كُمَّا الفستان على ذراعيها وساعدَيها حتى المعصمين، ولفت رأسها وعنقها بخمار أبيض طرح ذيله العريض على أعلى الصدر والظهر؛ فبدت في احتشام يُناسب المقام ويوافق العمر الذي قارب الخمسين — فيما علم — وإن تبدَّت في صحة ريَّانة تنطق بصفاء المزاج وشباب القلب. ولاحظ فيما لاحظ أنها تُطالعه بوجه طبيعي لم يمسَّه زخرف أو زواق رغم ما عُرف عنها من حب التبرج وإتقان التزيُّن، الأمر الذي نصبها من قديم مرجعًا لكل ما يتعلَّق بالذوق النسائي من ملبس وزواق في الحي كله. وذكر بهذه المناسبة كيف كانت أمينة تُدافع عن هذه المرأة كلما عنَّ لأحد أن يَنتقِد إفراطها في التبرج، ثم كيف انقلبَت تحمل عليها لأتفه الأسباب في السنوات الأخيرة، رامية إياها بقلة الحياء وتجاهل ما يستوجبه عمرها من احتشام.

– خطوة عزيزة يا ياسين أفندي.

– الله يكرمك!

كاد يختم جملته بقوله: «يا تيزة»، ولكن إحساسًا غريزيًّا خوَّفه في اللحظة الأخيرة من النطق بها، خاصَّة وأنه لاحظ أنها لم تدعُه ﺑ «يا ابني» كما كان المُنتظَر، وعادت المرأة تسأل: كيف حالكم؟ والدك وأم فهمي وخديجة وعائشة وكمال؟

أجاب، وهو يشعر بحياء لسؤالها عن الذين ناصبوها العداء بلا سبب وجيه: كلهم بخير، سألت عنك العافية.

لا شك أنها تُفكر الآن في الجفاء الذي قوبلت به في بيت أبيه عقب وفاة فهمي؛ فاضطرَّها إلى الانقطاع عن أسرته بعد مُعاشَرة دامت العمر كله. يا له من جفاء! بل يا لها من عداوة صامتة! لم يكن إلا أن أعلنت امرأة أبيه يومًا أن «شعورها» يُحدثها بأن مريم وأمها لم يَصدُقا في حزنهما على فهمي. لمَ كفى الله الشر؟ قالت إنه من غير المعقول أن يكون رفض السيد لخطبة مريم لم يبلغهما في حينه عن طريق أو آخر أو حتى استنتاجًا، ومن غير المعقول أن يعلما به ولا يضطغناه عليهم! وردَّدت كثيرًا أنها سمعت أن مريم تندب فهمي في المأتم فتقول: «أسفي على شبابك الذي لم تتمتَّع به.» وزادت على ذلك ما شاء لها حزنها وقهرها، ولم تنفع معها حيلة في تحولها عن «شعورها»، وسرعان ما تغيَّر سلوكها نحو مريم وأمها حتى كانت القطيعة. قال وهو لم يزل تحت تأثير الحياء والحرج: لعن الله الشيطان!

فقالت بهيجة مُؤمِّنة على قوله: ألف لعنة. طالما ساءلت نفسي عما جنَيت حتى ألاقي ما لاقيت من الست أم فهمي، ولكني أعود فأدعو لها بالصبر … المسكينة.

– جزاك الله كل خير على نُبل خلقك وطيبة قلبك، حقًّا إنها مسكينة وفي حاجة إلى الصبر.

– ولكني ما ذنبي أنا؟

– لا ذنب لك، إنه الشيطان لعنة الله عليه!

هزَّت المرأة رأسها هزة الضحية البريئة، وصمتت قليلًا، حتى حانت منها التفاتة إلى فنجال القهوة الذي بدا كالمنسي على صينية القهوة، فقالت وهي تُومئ إليه: ألم تَشرب قهوتك بعد؟

فرفع ياسين الفنجال إلى فيه، وحسا الحسوة الأخيرة، ثم أعاده إلى الصينية، وتنحنح قليلًا، ثم أنشأ يقول: شدَّ ما ساءني ما انتهت إليه صداقة الأسرتين، ولكن ما باليد حيلة، على أي حال ينبغي أن نَتناسى ذلك تاركين أمره للزمن، والواقع أنني لم أكن أحبُّ أن أثير أسيف الذكريات، فما لهذا جئت، إنما جئت لغرض آخر هو أبعد ما يكون عن الذكريات الأسيفة.

هزت المرأة رأسها هزة كأنما تَطرُد بها الذكريات الأسيفة، ثم ابتسمَت ابتسامة استعداد لسماع الجديد، كانت تهزُّ رأسها وابتسامتها كالآلة الموسيقية المصاحبة للمغني إذا غيرت عزفها تمهيدًا لدخول المُغني في طبقة جديدة من النغم، قال ياسين مستمدًّا من ابتسامتها طلاقة: أنا نفسي لا تخلو حياتي من ذكريات أسيفة تتصل بحياتي الماضية … أعني تجربتي الأولى في الزواج الذي لم يُوفِّقني الله فيه إلى بنت الحلال. ولكنِّي لا أريد أن أرجع إلى ذلك، الواقع أنني جئت بعد أن عزمت — مُتوكِّلًا على الله — على فتح صفحة جديدة مُستبشِرًا الخير كله فيما اعتزمت.

التقت عيناهما على الأثر فطالع فيهما الترحيب الجميل … تُرى هل كان مُوفَّقًا في الإشارة إلى زواجه الأول؟ ترى ألم يترامَ إلى سمع هذه المرأة شيء عن الأسباب الحقيقية لفشل ذلك الزواج؟ لا تشغَل بالك، إنَّ ملامحها الجميلة تُوحي بالتسامح إلى غير حدٍّ، ملامحها الجميلة. أليس كذلك؟ بلى، لولا فارق السن لكانت أجمل من مريم، كانت بلا مراء أجمل من مريم في شبابها الذاهب … كلا! إنها أجمل من مريم رغم فارق السن … إنها لكذلك.

– أظنكِ فطنتِ إلى مقصدي، أعني إلى أنني جئت طالبًا يد كريمتك مريم هانم.

أضاء الوجه الرقراق بابتسامة بثَّت فيه حيوية جديدة، وقالت: لا يسعني إلا أن أقول أهلًا وسهلًا، نِعم الأسرة ونعم الرجل، أمس أوقعنا سوء الحظ فيمن لا خلاق له، اليوم يسعى إلى مريم رجل جدير حقًّا بإسعادها، وستكون بفضل الله جديرة بإسعاده، ونحن — مهما فرق بيننا سوء التفاهم — أسرة واحدة من قديم الزمن.

اغتبط ياسين حتى راحت أصابعه تسوي البابيون بلمسات سريعة غير مقصودة، ثم قال وقد تورد وجهه الأسمر الجميل: أشكرك من صميم قلبي، جزى الله عني لسانك الحلو، نحن أسرة واحدة كما قلت رغم أي شيء، ومريم هانم فتاة يزدان بها حيُّنا كله أصلًا وخلقًا، أرجو أن يعوضها الله من صبرها خيرًا وأن يعوضني بها من صبري خيرًا.

غمغمت «آمين» وهي تنهض، ثم أقبلت بجسمها المفتخر نحو المنضدة، فتناولت صينية القهوة وهي تنادي ياسمينة، ثم استدارت حاملة إياها فأعطتها الخادم التي جاءت على عجل، ولفتت عنقها فجأة لتقول له «آنستنا»، فباغتته وهو يحملق في ردفيها الثقيلتين، وشعر لتوِّه بأنه «ضبط في حالة تلبس»، فبادر بخفض عينيه؛ ليوهمها بأنه كان ينظر إلى الأرض، ولكن بعد فوات الأوان. وارتبك، وجعل يسأل نفسه عما عسى أن تظن به، ثم اختلس منها نظرة بعد أن عادَت إلى مجلسها فلمح على شفتيها ابتسامة خفيفة كأنما تقول له: «رأيتك!» لعن عينَيه اللتين لا تعرفان الحياء، وتساءل عما يمكن أن يكون قد دار في رأسها، أجل إنها تُحاول أن تبدو كأنها لم ترَ شيئًا، ولكن هيئتها — بعد ابتسامتها — تقول له أيضًا: «رأيتك!» لينسَ الهفوة فهذا خيرُ حل، ولكن هل تصير مريم مثل أمها يومًا ما؟ متى يجيء هذا اليوم؟ للأم مزايا لا يجود بها الزمان إلا في النادر، يا لها من امرأة! إنَّ خير وسيلة لتغيير أفكاره وتبديد سحابة الشك هي أن يمزق الصمت، قال: إذا حاز طلبي القبول، فستجديني رهن إشارتك لمناقشة التفاصيل الهامة.

ضحكت ضحكة قصيرة، فبدا وجهها في إشراقتها لطيفًا شابًّا، وقالت: كيف لا يجوز القبول يا ياسين أفندي؟ أصل وجوار على رأي المثل.

قال وقد تورَّد وجهه: إنك تأسرينَني بلطفك.

– ما عدوت الحق، والله شهيد.

ثم متسائلة بعد فاصل صمت قصير: هل تمَّت موافقة البيت؟

تجلَّت في عينيه نظرة جد لحظة، ثم ضحك ضحكة فاترة من أنفه، وقال: دعينا من البيت وسيرته.

– لمَ كفى الله الشر؟

– ليس البيت على ما يرام.

– ألم تُشاور السيد أحمد؟

– أبي موافق.

فضربت يدًا على يد، وقالت: فهمت، أم فهمي؟ أليس كذلك؟ إنها أول مَن تبادر إلى ذهني وأنت تفاتحني بالموضوع، طبعًا لم تُوافق، هه؟ سبحان الذي لا يتغيَّر، امرأة أبيك امرأة غريبة!

هز كتفيه استهانة، وهو يقول: لا يُقدم هذا ولا يؤخر.

قالت متشكية: طالما ساءلت نفسي عما جنَيت؟ أي إساءة أسأت بها إليها؟

– لا أحب أن أُقدِّم على حديثنا حديثًا آخر لا يجني منه الإنسان إلا وجع الدماغ، ليكن ظنها ما يكون، المهم أنني ماضٍ إلى هدفي، ولا يعنيني إلا موافقتك أنت.

– إذا لم يتسع لك بيتك فبيتنا تحت أمرك.

– شكرًا، لديَّ بيتي بقصر الشوق بعيدًا عن الحي كله، أما بيت أبي فقد غادرتُه من أيام.

ضربت صدرها بيدها هاتفة: طردتْك!

قال ضاحكًا: كلا لم يبلغ الأمر إلى هذا الحد، المسألة وما فيها أن اختياري آلمها لأسباب قديمة لها صلة بالمرحوم أخي (هنا نظر إليها نظرة ذات معنى)، ومع أنني لم أجد في معارضتها وجه حق مقنع، فإنني رأيت من اللياقة أن أُعدَّ للزوجية بيتًا جديدًا.

سألته وهي ترفع حاجبَيها وتهزُّ رأسها فيما يُشبه الشك: لِمَ لَمْ تنتظر في بيتك حتى يحين ميعاد الزواج؟

فضحك ضحكة تسليم، وقال: آثرت الابتعاد خوفًا من تفاقم الخلاف.

فقالت كالمتهكمة: ربنا يُصلح الحال.

وقامت مرة أخرى قبل أن تُتم جملتها، فاتجهت إلى النافذة المطلَّة على العطفة الجانبية، وفتحتها لتفتح لنور الأصيل بعد أن بات باب المشربية غير كافٍ لإضاءة الغرفة، وجد نفسه على رغمه وحذره يسترق النظر إلى كنزها النفيس وهو يطالعه كالقبة. رآها وهي تعتمد على الكنبة بركبتها ثم تميل على حافة النافذة لتَشبك مصراعيها فرأى منظرًا عجبًا ترك في نفسه أثرًا داميًا، تساءل وهو يشعر بجفاف حلقه: لِمَ لَمْ تدعُ الخادم لتفتح النافذة؟ كيف ارتضت أن تعرض أمام ناظريه — اللذَين باغتتهما منذ قليل في حالة «تلبس» — هذا المنظر الذي لا يَخفى عنها مغزاه؟ لم وكيف؟ وكيف ولم؟ كان فيما يتَّصل بالنساء مُرهف الحس سيئ الظن، فلاحَ له شيء كالشك يتردَّد على عتبة إدراكه لا يُريد أن يدخل، ولا يريد أن يختفي، ولكنه بادر فأغمض عينيه متأثرًا بخطورة الموقف، إما أن يكون مجنونًا، وإما أن تكون — هي — المجنونة، أو لا هذا ولا ذاك؟ مَن له بمن يَنتشله من حيرته! استقام جسمها المائل، فوقفت، ثم تحولت عن النافذة متجهة إلى مجلسها، فبادر إلى رفع عينيه صوب البسملة — قبل تحوُّلها — متظاهرًا بالاستغراق في تفحصها، ولم يلفت رأسه نحوها حتى صدرت عن الكنبة طقطقة تنبئ بجلوسها، وعند ذاك التقت عيناهما، فرأى في عينيها نظرة باسمة ماكرة أشعرتْه بأنه لم تخف عنها خافية، وكأنها تقول له بأفصح لسان «رأيتك.» لبث حينًا مُضطرب النفس والخاطر، ولم يكن على بيِّنة من شيء فخاف أن يكون ظلمها أو أن يكون عرَّض نفسه أمامها للاتهام، وبدا له أنه سيحاسب على كل حركة تبدر منه، وأن أي هفوة قد تنقلب فضيحة.

– ما زال الجو مائلًا إلى الحرارة والرطوبة.

جاء صوتها هادئًا طبيعيًّا ودل — إلى ذلك — على رغبتها في إزاحة الصمت، فقال بارتياح: أجل إنه كذلك.

عاودته الطمأنينة، غير أنه ما لبث أن تخايل لعينيه المنظر الذي رآه عند النافذة، وجد نفسه على رغمه يجتره ويتيه في جاذبيته، ويتمنى لو كان عثر على مثله في إحدى مُغامراته، لو كان لمريم مثل هذا الجسم، ألا في مثله فليتنافس المتنافسون، ولعلَّها ظنَّته — لصمته — لا يزال مشغولًا بما أثارته من حديث خلافه مع امرأة أبيه، فقالت فيما يُشبه الدعابة: لا تشغل بالك، لا شيء في هذه الدنيا يستحق شغلة البال.

ثم لوحت بيديها ورأسها — واهتز جسمها فيما بين ذلك اهتزازة خاصة — كأنما لتحثه على الاستهانة بالهموم، فابتسم مطاوعًا وهو يغمغم: «نطقتِ بالحق.» غير أنه كان يبذل قصاراه ليملك نفسه، أجل؛ فقد حدث أمر جلل، لم يكن في ظاهره إلا تلك الحركة الشاملة التي أرادت بها الإفصاح عن الاستهانة وحثه عليها، إلا أنها كانت حركة بالغة الخطورة من حيث دلالتها على الخلاعة والدلال والاستهتار، وقد ندَّت عنها في لحظة نسيان فخرجت بها عما التزمتْه طوال الجلسة من تأدب واحتشام، وكشفت عن خبيئة طبيعتها وهي لا تدري، أو وهي تدري؟ لا يستطيع أن يقطع بهذا أو بذاك، ولكنه لم يَعُد به شكٌّ في أنه حيال امرأة جديرة حقًّا بأن تكون أم مريم ذات التاريخ القديم، أبى أن يتراجع عن رأيه مهما يكن من أمر، فهذه الحركة الراقصة المغناج لا يمكن أن تصدر عن سيدة مصونة! ولم يكن إزعاجه إلا لحظة عابرة، فسرعان ما حلَّ محلَّه إحساس بسرور شهواني ماكر، وراح يتذكر أين ومتى رأى هذه الحركة من قبل، على زنوبة؟ جليلة ليلة اقتحمت على أبيه المنظرة ببيت آل شوكت؟ آه … هذه هي، وخُيِّل إليه أنها رغم سنِّها أشهى من مريم وألذ، وغلبته فطرته فحدثته نفسه بأن يجسَّ النبض، وألا يقف إن أمكن عند حد، وشعر برغبة في الضحك من غرابة أفكاره، وبأنه سيسلك طريقًا وعرًا لم يطرق من قبل، ولكنه لم يَعتدْ يومًا أن يزجر النفس عن هوى … أين يتأدى به هذا المسلك؟ هل يمكن أن يعدل عن مريم إلى أمها؟ كلا، إنه لا يُضمر ذلك قط. ولكن تصوروا كلبًا قد عثر على عظمة وهو في طريقه إلى المطبخ، فهل يتعفَّف؟ … بيد أنها مجرد أفكار وتخيلات وفروض، فلأنتظر! … وتبادَلا ابتسامة في الصمت الذي عاد فسحب ذيله بينهما، أما ابتسامتها فكانت فيما بدا تحية مُضيف لضيف، وأما ابتسامته فقد انفغمت على فمٍ حائر بهمسات الاعتداء المختنق.

– نورت بيتنا يا ياسين أفندي.

– يا ستي بيتك لا ينقصه النور، أنت تُنوِّرين البلد وما فيها.

ضحكت ضحكة مالت برأسها إلى الوراء، وهي تُتمتِم: الله يكرمك يا ياسين أفندي.

كان ينبغي أن يعود إلى الحديث عن طلبه أو أن يستأذن في الانصراف على أن يُسمِّي موعدًا آخر لمواصلة الحديث، ولكنه لم يعد إلى الحديث، ولم يستأذن في الانصراف … بل راح يحدجها بنظرات ريبة تطول حينًا وتقصر حينًا دون انقطاع وفي صمت مريب. النظرات معانٍ لا تَخفى على ذي عينين، لا بد من إيصال أفكاره إليها بالنظرات وحدها حتى يرى ردَّ الفعل … اعرف لقدمك قبل الخطو موضعها وليسقط اللنبي، خُذي هذه النظرة النارية وخبِّريني إن كنت صادقة عن أي مجنون يسعه أن يتجاهل سوء مقصدها أو يدَّعي براءتها؟ انظر ها هي ترفع عينيها وتخفضهما كالشاردة، وعلى حال بينة من الفهم المريب، تستطيع الآن أن تقول إنَّ الفيضان وصل إلى أسوان وأنه لا مناص من فتح الخزان، وأنت تخطب إليها ابنتها؟ مجنون من لا يؤمن بالجنون بعد اليوم، أنتِ الآن أشهى شيء إلى نفسي، وليكن بعد ذلك الطوفان … منظرُك لا يوحي باليأس أبدًا.

– هل تقيم في قصر الشوق بمفردك؟

– نعم.

– قلبي عندك.

جملة قد تصدر عن شيطان، وقد تَصدُر عن ملاك، ترى هل تتصنت مريم الآن وراء الباب؟

– أنت جربت الوحدة بنفسك في بيتك هذا، إنها شيء لا يحتمل.

– حقًّا لا يحتمل.

وفجأة امتدَّت يدها إلى خمارها فنزعته من حول رأسها وعنقها وهي تقول كالمعتذرة: «لا تؤاخذني الدنيا حارة!» فبدا رأسها في منديل برتقالي وأسفر عنقها الوضيء، رنا إلى عنقها مليًّا في قلق مُتزايد، ثم لحظ الباب كالمتسائل عمن عسى أن يكون رابضًا وراءه، أغيثوا الذي جاء يخطب البنت فوقع في الأم، وقال ردًّا على اعتذارها: خذي راحتك، أنت في بيتك، ولا غريب في البيت.

– ليت أن مريم كانت في البيت لأزفَّ إليها الخبر!

خفق قلبه خفقة حادة كإشارة الهجوم، وتساءل: وأين هي؟

– عند جماعة من معارفنا في الدرب الأحمر.

وداعًا يا عقلي! خاطب بنتك يُريدك وأنت تريدينه، ليرحم الله مَن يُحسنون الظن بالنساء، لا يمكن أن يكون في رأس هذه المرأة عقل، جارة العمر ولا تعرفها إلا اليوم! مجنونة، مراهقة في الخمسين!

– متى تعود مريم هانم؟

– قبيل المساء.

قال بخبث: أشعر بأن زيارتي قد طالت.

– لم تَطُل زيارتك، أنت في بيتك.

فسألها بخبث أيضًا: ترى هل أطمع في أن تردِّي لي الزيارة؟

فابتسمت ابتسامة عريضة، كأنما تقول له: «إني أدرك ما وراء هذه الدعوة.» ثم أطرقت في حياء وإن لم يغب عنه ما في حركتها من تمثيل، ولكنه لم يبالها، وراح يصف لها موقع بيته من الحارة، وموضع شقته من البيت، وهي مطرقة صامتة باسمة، ترى ألم تشعر بأنها تسيء إلى ابنتها أبلغ إساءة، وأنها تعتدي عليها أنكر اعتداء؟

– متى تتكرَّمين بالزيارة؟

غمغمت وهي ترفع وجهها: لا أدري ماذا أقول!

فقال بتوكيد وثقة: أقول أنا بالنيابة عنك، مساء الغد، ستَجدينني في انتظارك.

– ثمة أمور يجب أن نعمل حسابها.

– سنَعمل حسابها معًا، في بيتي.

وقام من فوره وهمَّ بأن يتقدَّم نحوها، فأشارت إليه وهي تلتفت نحو الباب مُحذِّرة، ثم قالت وكأنما لا تقصد إلا التفادي من صولته: غدًا مساءً.

١٢

وعرف بيت قصر الشوق بهيجة زائرة مواظبة، كانت إذا نشر الظلام ستاره، تتلفَّع بملاءتها، وتمضي إلى الجمالية، فإلى بيت هنية، وهنالك تجد ياسين في انتظارها بالحجرة الوحيدة المفروشة في الشقة، ولم يجر لمريم ذكرٌ بينهما إلا حين قالت له مرة: لم أستطع أن أخفيَ عن مريم نبأ زيارتك؛ لأن خادمتنا تعرفك، ولكني قلت لها: إنك فاتحتَني برغبتك في خطبتها بعد تذليل العقبات التي تَعترض سبيلك في محيط الأسرة.

ووجد نفسه مذهولًا عن مناقشتها، فأبدى موافقته واستحسانه، واستقبلا معًا حياة حافلة بالمتع، وجد ياسين ذات «الكنز» مُلبية بين يدَيه، فانطلق انطلاق الجواد الجامح، ولم تكن الحجرة التي أُثِّثت على عجل واقتصاد بالمكان الصالح لمطارحة الغرام، ولكنه لم يألُ عن تهيئة الجو الخلاب بتوفير الطعام والشراب حتى يطيب له الوصال فيُواصل صولاته بذلك النهم الغريزي الذي لا يعرف حدًّا أو اعتدالًا. وما لبث أن أدركه الملال قبل أن يُتمَّ الأسبوع الأول دورته. هي نفس الحلقة التي تدور فيها شهوته حتى غدا الدواء نوعًا من الداء، بيد أنه لم يؤخذ على غرة، كلا! ولم يضمر نحو تلك العلاقة الغريبة من بادئ الأمر أيَّ نية حسنة ولا قدَّر لها أي دوام، بل لعله لم يبلغ من وراء المغازلة في حجرة الاستقبال إلا ضجعة عابرة، غير أنه وجد من المرأة تعلقًا به، وحرصًا عليه، وأملًا في أن يكون قنع بها راضيًا، وعدل عن مشروع الزواج، فلم يرَ بدًّا من مجاراتها كي لا يفسد على نفسه لذتها مؤمنًا بأن الزمن وحده كفيل بإرجاع كل شيء إلى أصله. وما أسرع أن رجع كل شيء إلى أصله بالنسبة إليه هو، بل ربما أسرع مما قدر، وكان جاراها وهو يظنُّ أن جدة محاسنها خليقة بأن تحتفظ برونقها أسابيع أو شهرًا، ألا يا ربما كذب الظن! أما عن مظهرها الشهي فبحسبِه أن جعله يرتكب أكبر حماقة في حياته العامرة بالحماقات، ولكن الكهولة تكمن وراء ذلك كما تكمن الحُمى وراء تورد الخدين الكاذب، وإن القناطر المقنطرة من اللحم البشري المتحكِّبة تحت طيات الثياب — على حد قوله — غيرها إذا تجرَّدت للعيان، وليس كاللحم البشري مُسجِّل لآثار العمر الحزينة، حتى قال لنفسه: «الآن أُدرِك لماذا تعبد النساء الملابس!» لم يكن عجيبًا بعد ذلك أن يقول عنها وقد ضاق باندلاقها عليه أنها «مرض»، وأن يجمع العزم على قطع علاقته بها. وعادت مريم — بعد خمود النزوة الجنونية — إلى سابق مكانتها من نفسه، كلا، لم تكن بارَحتْها، ولكن النزوة الطارئة غشيتها كما تغشى السحابة العجلى وجه القمر، عجبًا! لم تَعُد رغبته في مريم مجرد استجابة لولعه الخالد بجنسها وإن غلب ذلك عليها، ولكنها أرضت من ناحية أخرى حنينه إلى تكوين الأسرة التي كان يعتدها مصيرًا محتومًا ومرغوبًا فيه أيضًا. واستوصى بالصبر — كارهًا — على أن تثوب بهيجة إلى رشدها، أن تقول له يومًا: «حسبنا لعبًا، وهلمَّ إلى عروسك.» ولكنه لم يجد لأملِه صدًى في نفسها، كانت تواظب على الزيارة ليلة بعد أخرى، وما تزداد إلا إغراقًا وتهالكًا. وشعر بأنها تمتلئ مع الزمن إيمانًا بحقِّها عليه كأنه بات محورَ حياتها وملك يمينها.

أجل، لم تكن تنظر إلى الأمر بعين الاستهانة أو اللهو، وإلى هذا تكشفت نفسها له عن خفة وطيش، ونزق أقنعته جميعًا بأن سلوكها الشاذ معه في أول مقابلة لم يكن أمرًا مُستغربًا، فاستهان بها وازدراها، وتضخَّمت عيوبها في عينيه الزاريتين حتى ضاق بها كل الضيق، وصمم على التخلُّص منها في أول فرصة تسنح، وإن حرص على تجنُّب الفظاظة أن تبعثر العراقيل في طريق مريم. قال لها مرة: ألا تتساءل مريم عن سرِّ اختفائي؟

فقالت، وهي تطمئنه بحركة من رأسها: إنها على بينة من معارضة أسرتك.

فقال بعد تردد: أصارحك بأننا كنا نتحادَث أحيانًا فوق السطح، وأني ردَّدت لها مرات بأنني مصمم على الزواج منها مهما يكن من معارضة المعارضين.

فحدجته بنظرة نافذة، وهي تتساءل: ماذا تريد؟

قال متظاهرًا بالبراءة: أريد أن أقول إنها سمعت مني ذلك التوكيد، وأنها علمت بعد ذلك بزيارتي لك، فينبغي أن تقتنع بسبب وجيه لاختفائي.

فقالت بغير مبالاة أدهشتْه: لن يضيرها ألا تقتنع، فليس كل كلام بمفضٍ إلى خطبة، ولا كل خطبة بمفضية إلى زواج، إنها تعلم علم اليقين.

ثم بصوت منخفض: ولن يَضيرها أن تَفقدك، إنها شابة في عز جمالها، ولن تعدم خاطبًا اليوم أو غدًا.

كأنها تعتذر عن أنانيتها، أو تُلمح إلى أنها هي — لا ابنتها — التي يضيرها فقده، فلم يزده قولها إلا ضيقًا ومللًا. إلى أنه أخذ يتوجَّس خيفة من معاشرة امرأة تكبُره بعشرين عامًا، متأثرًا بما يتردد بين العامة من أن مُخادنة الكهلات تُذبل الشبان، حتى شُحنت ساعات اللقاء — من ناحيته — بالتوتُّر والحذر فمقتها مقتًا. وإنه لعلى ذاك إذ صادف مريم يومًا في السكة الجديدة، فتقدم منها دون تردد، وسلم عليها، وسار إلى جانبها كأنه من ذوي قرباها، كانت قلقة عابسة، فأخبرها بأنه كان يقنع والده بالمُوافقة حتى ظفر بها، وأنه يعد مسكنه بقصر الشوق ليكون صالحًا لهما، واعتذر عن طول غيبته بكثرة مشاغله، ثم قال لها: «أخبري والدتك بأنني سأجيء غدًا لمقابلتها للاتفاق على عقد القران.» ومضى سعيدًا بانتهاز الفرصة التي سنحت على غير ميعاد، غير عابئ — في غمرة السعادة — بما سيكون موقف بهيجة منه، وفي مساء ذلك اليوم جاءت بهيجة في ميعادها إلى قصر الشوق، ولكنَّها جاءت هذه المرة منفعلة كسيرة النفس. بادرته هاتفة قبل أن ترفع برقعها: بعتني غيلة وغدرًا.

ثم انحطت على الفراش، وهي تنزع برقعها في نرفزة، وتقول: لم يَطُف بخاطري أنك تضمر لي هذا الغدر كله، ولكنك جبان غادر كسائر الرجال.

قال ياسين برقة المُعتذِر: ليس الأمر كما تتصورين، الحق أني قابلتها صدفة.

فصاحت بوجه مكفهر: كذاب! كذاب! وحق من هو قادر على أن يُريني فيك ما أشتهي، هل تظنني أصدقك ما حييت بعد ما كان (ثم وهي تحاكيه محاكاة كاريكاتورية) الحق أني قابلتها صدفة! أي صدفة يا عمر؟ وهبْها صدفة حقًّا، فلمَ كلَّمتها في الطريق أمام الرائح والغادي؟ أليس هذا فعل الغادر السيئ النية؟ (ثم وهي تعود إلى المحاكاة الكاريكاتورية) الحق أني قابلتها صدفة!

فقال في شيء من الارتباك: وجدتني معها فجأة — وجهًا لوجه — فامتدَّت يدي بالسلام عليها، ما كان بوسعي تجاهلها بعد ما كان من تحادثنا فوق السطح.

فصاحت به بوجه مصفر من الغضب: فامتدَّت يدي بالسلام عليها! اليد لا تمتد إلا إذا مدها صاحبها، قُطعت اليد وصاحبها، قل إنك مددتَ يدك لتتخلص مني.

– لم يكن من السلام بد، أنا إنسان وفي وجهي دم.

– دم؟ أين هو ذاك؟ دم يلطشك يا غادر يا ابن الغادر.

ثم بعد أن ازدردت ريقها: ووعدك إياها بالمجيء للاتفاق على عقد القران، هل أفلتَ منك أيضًا كما أفلتت يدك؟ تكلم يا سي دم.

قال بهدوء عجيب: إنَّ كل الحي يعلم الآن بأنني هجرتُ بيت أبي لأتزوج من ابنتك، فلم يكن من المُستطاع تجاهل ذلك وأنا أحدثها.

فصاحت بحدَّة: كان بوسعك أن تنتحل من الأعذار ما تشاء لو كانت بك رغبة إلى ذلك، لستَ ممَّن يعيبهم الكذب، ولكنَّك أردت التخلُّص مني، هذه هي الحقيقة.

قال وهو يتحاشى نظرتها: ربنا يعلم بحُسنِ نيتي.

فحدجته بنظرة طويلة، ثم سألته في تحدٍّ: أتعني أنك تورطتَ في وعدك لها على غير رغبة منك؟

أدرك خطورة التسليم بذلك، فغضَّ بصره ولاذ بالصمت، فقالت وهي تَزفر من الغيظ: أرأيت أنك كذاب كما قلت لك؟

ثم صارخةً: أرأيت؟ أرأيت يا غادر يا ابن الغادر؟

قال بعد تردُّد: إن سرًّا لا يُمكن أن يخفى إلى الأبد، تصوَّري ماذا يقول الناس لو كشفوا سر علاقتنا، بل تصوَّري ماذا تقول مريم؟

فصرفت بأسنانها من الحنق، وقالت: يا لكَ من خنزير! لِمَ لَمْ تذكر هذه الاعتبارات يوم وقفت أمامي سائل اللعب كالكلب؟ آه يا جنس الرجال، جهنَّم الحمراء عقوبة تافهة لكم.

ابتسم خفيفًا، وكان أوشك أن يضحك لولا فرملة الجبن، ثم قال بتودُّد ورقة: لقد قضينا وقتًا طيبًا سوف أذكره دائمًا بكل خير، حسبُك غضبًا واستياءً، ما مريم إلا ابنتك، وإنك أول من يروم سعادتها.

وهي تهزُّ رأسها بتهكم: أأنتَ الذي ستُسعدها؟ اسمعي يا حيطان، المسكينة لا تدري أي إبليس ستتزوج، أنت دائر ابن دائرة، وربنا يكفيها شر ما وقعَتْ فيه.

قال بهدوئه الذي التزمه من أول الأمر: عند ربنا الصلاح، إني أرغب رغبة صادقة في بيت مُستقر وزوجة بنت حلال.

قالت هازئة: أقطع ذراعي إن صدقتَ، سوف نرى، لا تظن بأمومتي الظنون، إنَّ سعادة ابنتي مقدمة عندي على كل اعتبار، ولولا أنك خدعتني وغدرت بي ما كان يُهمني أن أهديَك إليها على الحذاء.

ساءل ياسين نفسَه: تُرَى هل مرَّت الأزمة بسلام؟ وانتظر أن تلبس برقعها وتُودِّعه، ولكنها لم تحرك ساكنًا، ومضى الوقت — وهي بمجلسها من الفراش، وهو بمجلسه على الكرسي قبالتها — لا يدري كيف، ولا متى تتقوَّض هذه الجلسة الغريبة المتوترة. واسترق النظر إليها، فوجدها ترنو إلى الأرض كالسارحة على حالٍ من التسليم نزعت به إلى العطف عليها. هل تعود مرة أخرى إلى المهاترة؟ غير مستبعد، ولكنها — فيما يبدو — تُفكِّر في موقفها الدقيق بينه وبين ابنتها وتنحني أمام مقتضياته. وما يدري إلا وهي تنتزع الملاءة عن نصفها الأعلى وتغمغم «الجو حار»، ثم تزحزحت حتى نهاية الفراش فاستندت إلى شباكه، ومدت ساقيها غير عابئة بالحذاء الذي انغرز كعباه في طيات اللحاف، ثم واصلت شرودها، ترى: ألا يَزال لديها ما تقول؟ سألها بلهجة بالغ في رقتها: هل تَسمحين لي بأن أزوركم غدًا …؟

تجاهلت سؤاله دقيقة أو نحوها، ثم حدجته بنظرة كاللعنة، وقالت: على الرحب والسعة يا ابن القديمة.

ابتسم قانعًا وهو يشعر بنظراتها تُلهِب وجهه، وعادت هي تقول بعد هُنيهة: لا تظنَّني بلهاء، كنت موطِّنةً النفس على توقُّع هذه النهاية عاجلًا أو آجلًا، ولولا أنك تعجَّلتها بطريقة … (ثم بتسليم وازدراء معًا) … ما علينا.

لم يُصدقها، ولكنه تظاهر بتصديقها، ومضى يقول: إنه كان واثقًا من ذلك، وأنه يرجو أن تعفو عنه وتشمله برضاها، ولكنها لم تعن بالإصغاء إليه، وتزحزحت — مرة أخرى — إلى حافة الفراش، فطرحت ساقيها على الأرض، وقامت فأخذت تَحبك ملاءتها، وهي تقول: «أستودعك الله.» فقام صامتًا وتقدَّمها إلى الباب وفتحه، ثم تقدمها مرة أخرى إلى الخارج. وما يدري إلا وصفعة تهوى على قفاه، على حين مرقَت المرأة من جانبه إلى السلم، وتركتْه وراءها كالذاهل، وكفُّه منطرحة على موضع الصفعة. التفتَت نحوه ويدها على الدرابزين، وقالت: تعيش وتأخذ غيرها، آذيتني أكثر من هذا، ألا يحقُّ لي أن أشفي غليلي ولو بصفعة يا ابن الكلب؟

١٣

– يا سيد أحمد لا تُؤاخذني إذا صارحتك بأنك تبذر نقودك هذه الأيام بلا حساب.

قال جميل الحمزاوي ذلك بلهجةٍ جمعت بين أدب المستخدم وإدلال الصديق. وكان الرجل لا يزال قويَّ البِنية جيد الصحة على بلوغه السابعة والخمسين من عمره، أما رأسه فقد رصعه المشيب، ولم تؤثر السنون في نشاطه شيئًا فلم يزل يومه ينقضي على حركة دائبة في خدمة الدكان وعملائه كعهده منذ التحق به على أيام منشئه الأول. وقد اكتسب مع طول العهد حقوقًا ثابتة، واحترامًا جديرًا بنشاطه وأمانته، فنزل من نفس أحمد عبد الجواد منزلة الصديق، ولم يكن عطف الرجل عليه الذي تمثل أخيرًا في معاونته على إلحاق ابنه فؤاد بمدرسة الحقوق إلا مضاعفًا لإخلاصه وموجبًا عليه مصارحته عندما تجب المصارحة لدفع ضرٍّ أو تحقيق منفعة. على أن أحمد قال بلهجة مطمئنة، ولعلَّه كان يشير إلى الرواج الذي لم تزل تثمل السوق بسَكرته: الحال معدن، والحمد لله.

فقال جميل الحمزاوي باسمًا: ربنا يزيد ويبارك، غير أني لا أزال أكرر القول عليك بأنك لو كنت اتخذت من التجار خلقهم كما اتخذت حرفتهم، لكنت الآن من كبار الأغنياء.

ابتسم أحمد ابتسامة الرضا والقناعة وهو يهزُّ منكبيه استهانة. ربح كثيرًا وأنفق كثيرًا، فكيف يأسف على ما جنى من لذات العيش؟ لم يَفقِد يومًا حاسة التوازن بين دخله ومنصرفه، ولم يخلُ رصيده من الستر، وقد تزوجت عائشة وتزوَّجت خديجة، وطرَق كمال باب المرحلة النهائية من حياته الدراسية، فماذا عليه لو تمتَّع بعد ذلك بطيبات الحياة؟ على أنَّ الحمزاوي لم يَعدُ الحق في ملاحظته على تبذيره، فالحق أنه يبدو — هذه الأيام — أبعد ما يكون عن الاعتدال والقصد، تشعَّبت وجوه نفقاته؛ فالهدايا تستنزف مالًا لا يُستهان به، والعوامة تستحلب دسمه، ومحظيَّتُه تَستأديه القرابين. وفي الجملة فإن زنوبة تدفعُه إلى الإسراف دفعًا، وهو من ناحيته يندفع بلا مقاومة تُذكر. لم يكن كذلك في الأيام الخالية. حقًّا كان يُنفق عن سعة. ولكن امرأة لم تستطع أن تخرجه عن حدِّ الاعتدال أو تضطره إلى ركوب الإسراف. كان بالأمس مُستشعِرًا قوَّته، ولم يكن يُبالي كثيرًا أن تُجاب كل مَطالبه الحبيبة، ولم يكن يُبالي إن تدلَّلت عليه أن يتدلَّل عليها تيَّاهًا بفتوته وفحولته. اليوم أذلَّ حرصُه على حبيبته عنقَه فهان عليه الغالي، وكأنه لم يعد يروم من مطلب في هذه الحياة وراء استبقاء مودتها واستمالة قلبها، ويا لها من مودة متعززة! ويا له من قلب عصي! ولم يكن في واقع حاله ليغيب عن فطنته، شعر به شعور الألم والحزن، وذكر به أيام عزته في لهفة وأسًى وإن لم يُقرَّ بأنها ذهبت وتولت، ولكنه لم يُحرِّك أصبعًا للمقاومة الجدِّية، ولم يكن ذلك في طوقِه. وقال مخاطبًا جميل الحمزاوي فيما يُشبه السخرية: لعله من الظلم أن تعدَّني تاجرًا … (ثمَّ في تسليم) … الله هو الغني.

وجاء نفرٌ من الناس فشُغل بهم الحمزاوي، وما كاد أحمد يخلو إلى نفسه حتى رأى قادمًا يزحم الباب على سعته، ويتَّجه إليه متبخترًا. كانت مفاجأة وذكر لتوِّه أنه لم تقع عيناه على القادم منذ أربع سنوات أو يزيد، ثم نهض مُرحِّبًا مدفوعًا بأدبه وحده، وهو يقول: أهلًا وسهلًا بجارتنا المكرمة.

فمدَّت له أم مريم يدَها ملفوفة في طرف ملاءتها قائلة: أهلًا بك يا سيد أحمد.

ودعاها إلى الجلوس فجلست على الكرسي الذي جلست عليه يومًا يُعْتبَر الآن من التاريخ، ثم قعد وهو يَتساءل، لم يكن رآها منذ جاءت لمقابلته في هذا الدكان بعد مرور عام على وفاة فهمي مُحاولة استدراجه إلى بيتها مرة أخرى. عجب يومئذ لجرأتها — ولم يكن أفاق من الحزن — فقابلها بجفاء وشيعها ببرود. ترى ما الذي جاء بها اليوم؟ وألقى عليها نظرة شاملة فوجدها كالعهد بها: جسامةً وأناقةً، يفوح من أعطافها الطيب، وتتألَّق عيناها فوق البرقع. غير أن تبرُّجها لم يُجدِ في إخفاء دبيب الزمن، فلاحت أمارات الكبر تحت عينيها، وذكر بها جليلة وزبيدة، شد ما يستبسل أولئك النسوة في معركة الحياة والشباب، أما أمينة فسرعان ما تهاوَت فريسةً للحزن والذبول. وقربت بهيجة الكرسي من المكتب، ثم قالت بصوت خافت: لا تُؤاخذني يا سي السيد على هذه الزيارة، فللضرورة أحكام.

فقال أحمد — من فورِه — وقد كان يبدو رزينًا جادًّا: أهلًا وسهلًا، إن زيارتك تشريف لنا وتكريم.

فقالت باسمة، وقد نمَّت نبرات صوتها على الامتنان: تشكر، والحمد لله على أني وجدتك بخير وعافية.

فشكرَها بدوره، ودعا لها بالصحة والعافية، فعادت تَشكُر له شكره ودعاءه وتدعو له من جديد، ثم سكتت لحظات، وقالت باهتمام: جئتك لأمرٍ هام، قيل لي: إنه بلغ إليك في حينه، وإنه نال موافقتك. وأعني طلب ياسين أفندي ليد ابنتي مريم، فهل صحيح ما قيل لي؟ هذا ما جئت من أجل التحقُّق منه.

خفض أحمد عبد الجواد عينيه أن تقرأ فيهما الحنق الذي اشتعلت به جوانحه وهو يتابع كلامها. ولم يُخدع بتظاهرها بالاهتمام بموافقته، فلتُحاوِل خداع غيره ممَّن يجهلون خباياه، أما هو فيعلم علم اليقين أن موافقته وعدمها عندها سواء، بل ألم تُدرك ما وراء تخلُّفه عن زيارتها مع ابنه؟ … ولكنها جاءت لتَحمله على الإقرار بالمُوافقة، وربما لغرض آخر لا يلبث أن يستبينه، رفع إليها عينَين هادئتَين، وقال: حدثني ياسين عن رغبته فدعوت له بالتوفيق، كانت مريم ولم تزل ابنتنا.

– الله يبارك لي في عمرك يا سي السيد، هذه المصاهَرة ستُشرفنا بين الناس.

– أشكر حسن ظنك.

فقالت بحماس: ويسرُّني أن أُصارحك بأنني أجَّلتُ إعلان موافقتي حتى أتأكَّد من موافقتك أنت.

قارحة! لعلها أعلنت موافقتها حتى قبل أن ترى ياسين.

– أُكرِّر الشكر يا ست أم مريم.

– لذلك كان أول ما قلت لياسين أفندي، دعني أتأكد أولًا من موافقة والدك، فإن كل شيء يهون إلا سخطه!

الله … الله! لم تكد تَسرق البغل حتى نشطت لرَمي الأحابيل حول صاحبه.

– ليس بمُستغرَب أن يصدر عنك ذلك القول النبيل.

فواصلت حديثها في حماس مظفر، قائلة: إنك يا سي السيد رجلنا، وخير مَن يفخر به حينًا كله.

مكر النساء، ودلال النساء، ما أضيقه بهما معًا، هل خطر لها ببال أنه يتمرَّغ في التراب مناشدةً لعطف عوَّادة زهد فيها السكارى؟

قال في تواضُع: أستغفر الله.

فقالت بلهجة حزينة علا بها صوتها قليلًا، حتى خاف أن يبلغ الموجودين بالناحية الأخرى من الدكان، فحرَّك رأسه نحوهم مُحذِّرًا: لشد ما حزنت عندما أنبأني بأنه هجر بيت والده.

فبادرها قائلًا، وقد تجهَّم وجهُه: الحق أن سلوكه أغضبني. فعجبتُ كيف تأتَّى له أن يرتكب تلك الحماقة، كان ينبغي أن يَستشيرني أولًا. ولكنه حمل متاعه إلى قصر الشوق، ثم جاء يعتذر إليَّ! عبث صبياني يا ست أم مريم، وقد وبختُه ولم أَكترِث لخلافه المزعوم مع أمينة. ذلك تعلُّل سخيف حاول به أنه يبرر حماقة أسخف منه.

– هذا ما قلته له وحياتك، ولكن الشيطان شاطر، وقلت له أيضًا: إن ست أمينة معذورة، ربنا يصبرها على ما ابتلاها به. وعلى أيِّ حالٍ فمثلُكَ يُرجى منه الصفح يا سي السيد.

فأشار بيده إشارة قصيرة، كأنما تقول «دعينا من هذا»، فقالت متودِّدة: لكنني لا أقنع إلا بالصفح والرضا.

أف، ليتَه يستطيع أن يُصارحها بمدى اشمئزازه منهم جميعًا، هي وابنتها والبغل الكبير.

– ياسين ابني على كل حال، وفقه الله إلى الهداية.

أمالت رأسها إلى الوراء قليلًا، وأبقتْه على وضعه مليًّا ريثما تَستمتِع بلذة النجاح والارتياح، ثم عادت تقول في نبرات لطيفة: ربنا يجبر خاطرك يا سيد أحمد، ساءلت نفسي وأنا قادمة إليك، ترى: أيكسفني ويردُّني خائبة، أم يُعامل جارتَه القديمة بما تعوَّد أن يعاملها به في الأيام الخالية؟ الحمد لله فأنت دائمًا عند حسن الظن بك، مدَّ الله في عمرك ومتعك بالصحة والعافية.

تظن أنها ضحكت على ذقنه، يحقُّ لها هذا، ما أنت إلا أبٌ خائب مات خير أبنائه، وخاب الابن الثاني، وركب الثالث رأسه، كل هذا على رغمي يا قارحة.

– إني عاجز عن شكرك.

وهي تخفض رأسها: مهما قلت فيك فهو دون ما تَستحق، طالما أقررتُ لك به فيما مضى.

آه، ذلك الماضي أَوصدِي ذلك الباب! وحياة البغل الذي جئتِ تُسجِّلين حق ملكيته، وبسط راحته على صدره آيةً على الشكر، فراحت تقول بلهجة حالمة: كيف لا، ألم أعزَّك إعزازًا لم يحظ به إنسان قبلك ولا بعدك؟

هذا هو المطلوب، كيف لم يفطن إليه من أول لحظة؟ لم تَجيئي من أجل ياسين ولا من أجل مريم، ولكن من أجلي أنا، بل من أجل نفسك! أنتِ أنت لم يُغيِّر الزمن منك شيئًا، إلا شبابك، ولكن رويدك، هل تستطيعين أن تردِّي الأمس الذي ولى؟ مَرَّ بقولها دون تعليق مُكتفيًا بابتسامة شكر، فابتسمت ابتسامة عريضة كشفت عن أسنانها من ثقوب البرقع، وقالت فيما يُشبه العتاب: يبدو أنك لا تذكر شيئًا.

أراد أن يعتذر عن فتوره دون أن يمسَّ إحساسها، فقال: لم يبقَ في الرأس عقل أتذكر به.

فهتفت بإشفاق: لشد ما أغرقت في الحزن، الحياة لا تحتمل هذا ولا تُسيغه، وأنت — ولا تؤاخذني على ما سأقول — رجل ألفَ الحياة المَليحة، فالحزن إذا أثَّر في الإنسان العادي قيراطًا يؤثر فيك أربعة وعشرين قيراطًا.

موعظة يُراد بها منفعة الواعظ، ليت أن ياسين كان يَعتصِم بمثل شبعي، لماذا أتقزَّز منك؟ أنت دون شك أطوع من زنوبة وأقل نفقةً بما لا يُقاس، ولكن يبدو أن قلبي أصبح مولعًا بالمتاعب، قال بدهاء ومسكنة معًا: من أين للقلب المحزون أن يَضحك؟

اندفعت تقول بحماس وكأنها شامت برق أمل: اضحك يَضحك قلبك، لا تنتظر حتى يضحك هو، هيهات أن يضحك وحده بعد ما عانى من طول الوجوم، عُد إلى حياتك القديمة تَعُد إليك بهجتها الغافية، ابحث عن مسرَّات زمانك الأول وأحبابه، من أدراك أن ليس ثمة قلوب تهفو إليك، وتُقيم على عهدك رغم إعراضك الطويل عنها؟

طرب الفؤاد على رغمه وتاه، هذا ما يَنبغي أن يُقال حقًّا لأحمد عبد الجواد، وما كان يسكب في أذنَيه على قرع الكئوس في ليالي الطرب، أين العوادة لتسمع هذا المديح علها تُخفِّف من غلوائها؟ لكن يُردِّده مَن أنت عنه راغب، قال بصوت لا أثر فيه للطرب: ولَّى ذلك الزمان.

مال نصفها الأعلى إلى الوراء استنكارًا، وقالت: لم تزل شابًّا وربِّ الحسين، (ثم وهي تبتسم في حياء) جمل له طلعة البدر، لم يُولِّ زمانك ولن يُوليَ أبدًا، لا تكبر نفسك قبل الأوان، أودع الحكم على ذلك للآخرين فلعلَّهم يَرونكَ بغير العين التي ترى بها نفسك.

قال بأدبٍ، ولكن بلهجة تُعبِّر بلُطفٍ عن رغبته في إنهاء الحديث: اطمئنِّي يا ست أم مريم إلى أنني لا أقتل نفسي حزنًا، فإنني أتسلى عن الهم بشتى ضروب التسلية.

تساءلت وقد فتر حماسها قليلًا: أيكفي هذا للترفيه عن رجل مثلك؟

فقال بقناعة: لا تتطلَّع النفس إلى شيء وراءه.

بدا أنه تنغص صفوها، وإن تظاهرت بالارتياح وهي تقول: أحمد الله على أنني وجدتك على ما أحب لك من راحة البال وصفائه.

لم يعد ثمة قول يقال، فنهضت وهي تمدُّ له يدُها ملفوفة في طرف الملاءة، فتصافَحا، ثم قالت وهي تهمُّ بالذهاب: فتَّك بعافية.

وذهبت وهي تحول عنه عينَين لم يجد التصنُّع في إخفاء ما غشيهما من خيبة.

١٤

طوتْ سوارس شارع الحسينية، ثم أخذ جواداها المهزولان يخبان فوق أسفلت العباسية والسائق يُلهبهما بسوطه الطويل. كان كمال جالسًا في مقدمة العربة على طرف المقعد الطويل فيما يلي السائق؛ فأمكنه أن يرى بلفتة من رأسه — في غير جهد — شارع العباسية ممتدًّا أمام عينيه، في اتِّساع لا عهد للحي القديم به وطول لا يلوح له منتهى، أرضه مستوية ملساء، وبيوته على الجانبين ضخمة ذوات أفنية رحيبة بعضها يزدان بحدائق غَنَّاء.

كان يُضمر للعباسية إعجابًا كبيرًا، ويُكنُّ لها حبًّا وإجلالًا يَبلغان حد التقديس، أما الإعجاب فمردُّه إلى نظافتها وهندستها والهدوء المريح المُخيِّم على ربوعها، وكل أولئك سمات لا يعرفها حيُّه العتيق الزيَّاط. وأما الحب والإجلال فمرجعهما إلى أنها وطنُ قلبه، ومَنزل وحي حبِّه، ومثوى قصر معبودته.

منذ أعوام أربعة وهو يتردَّد عليها بقلبٍ مُرهَف وحواس مشحوذة حتى حفظها عن ظهر قلب، فحيثما مدَّ بصره ارتدَّ إليه بصورة مألوفة كأنها وجه صديق قديم، وجميع معالِمها ومناظرها ودروبها وعدد من أهلها قد اقترن في ذهنِه بأفكار وعواطف وأخيِلة أمسَت — في جُملتها — جوهر حياته ومعقد أحلامه، فحيثما ولَّى وجهه فثمَّة مُنادٍ يدعو القلب للسجود.

وأخرج من جيبه خطابًا تلقاه من البريد أول أمس، وكان مُرسله حسين شداد يُنبئه فيه بعودته — وصديقَيه حسن سليم وإسماعيل لطيف — من المصيف، ويدعوه إلى مقابلتهم جميعًا في بيته الذي تسير به سوارس إليه. نظر إلى الخطاب بعينٍ حالِمة شاكرة، وامقة، ساجدة، عابدة، مُتعبِّدة؛ لا لأن مُرسله شقيق معبودته فحسب، ولكن لظنِّه أن الخطاب كان مودعًا في مكان ما بالبيت قبل أن يَكتب حسين عليه رسالته، وأنه والحال كذلك غير مُستبعَد أن تكون عينها الجميلة قد وقعت عليه في ذهابها أو مجيئها، أو أن تكون أناملها قد لمستْه لسببٍ أو لآخَر، أو حتى عفوًا، بل حسبه أن يظن أنه كان مودعًا في نفس المكان الذي يحلُّ فيه جسمها وتعمُرُه روحها كي يستحيل الخطاب إلى رمز قدسي تهفو إليه روحه، ويشتاق إليه قلبه. ومضى يقرأ الخطاب للمرة العاشرة حتى وقف عند هذه الجملة: «عُدنا إلى القاهرة مساء أول أكتوبر.» أي إنها شرَّفت العاصمة منذ أربعة أيام وهو لا يدري، كيف لم يَدرِ؟ كيف لم يَفطن إلى وجودها سواء بالغريزة، أو بالشعور، أو بالبصيرة؟ كيف جاز للوحشة التي غشيَتْه طوال الصيف أن تمدَّ ظلها الثقيل على هذه الأيام الأربعة المباركة؟ هل رانت الكآبة المتواصِلة على حساسيته بطبقةٍ من البلادة والجمود؟ على أيِّ حال فالساعةَ يرفُّ قلبه، وتُحلِّق روحه في أجواءٍ من السمو والسعادة. الساعة يُشرف على الدنيا من ذروة رفيعة تبدو منها معالمُها في هالة من الشفافية والنورانية كأنَّها أطياف في دنيا الملائكية. الساعة يَضطرِم وجدانه بنشاط الحيوية، ونشوة الحبور، وسَكرة الطرب، الساعة — أو حتى في هذه الساعة — يطوف به طائف الألم الذي يُلازم مسرَّة الحب عنده ملازمة الصدى للصوت، قديمًا كانت تحمله سوارس في هذا الطريق نفسه وقلبُه من الحب خالٍ لم يُمسَّ، ماذا كان يجد من مشاعر، وآمال، وخوف، ورجاء؟ لا يذكر حياة ما قبل الحب إلا ذكرى مجرَّدة، يُنكرها ما عرف للحب قدره. ويحنُّ إليها كلما نبا به ألم، ولكنَّها لشدَّة إحساسه بخاطره كادت تلحق بالأساطير، لذلك بات يؤرخ بالحب حياته، فيقول: كان ذلك قبل الحب «ق.ح»، وحدث ذلك بعد الحب «ب.ح».

وقفت العربة عند الوايلية، فأعاد الخطاب إلى جيبِه، وغادرها متجهًا إلى شارع السرايات، وعيناه تتطلَّعان إلى أول قصر على اليمين فيما يلي صحراء العباسية، بدا القصر بدَورَيه من الخارج بناء ضخمًا عاليًا. يتَّصل مقدمه بشارع السرايات، ويَنتهي مؤخَّره بحديقة رحيبة تراءت رءوس أشجارها العالية من وراء سورٍ رَمادي مُتوسِّط الارتفاع، يُحيط بالقصر والحديقة معًا، ويرسم مُستطيلًا هائلًا ممتدًّا في الصحراء التي تكتنفه من الجنوب والشرق. كان منظره مطبوعًا على صفحة نفسه، يَستأسِره جلاله وتفتنُه آي فخامته. ويرى في عظمته تحية مزجاة عن جدارة بصاحبه، وتلوح لعينيه نوافذ مُغلقة، وأخرى مُرخاة الستائر، فيلمح في تحفظها وانطوائها ما يرمز إلى عزة محبوبه، وعصمته، وامتناعه، وغموضه، وهي معانٍ تؤكِّدها الحديقة المترامية والصحراء الغارقة في الأفق، وتعرض هنا أو هناك نخلة سامقة أو لبلابٌ مُتسلِّق جدارًا أو جدائل ياسمين مسترسلة فوق سور فتُناوش قلبه بذكريات انعقدت فوق هاماتها كالثمار تساره بحديث الوجد، والألم، والعبادة، وقد غدت ظلًّا للحبيب، ونفحة من روحه، وانعكاسًا لملامحه، ناشرة بجملتها — وبما عرف من أن باريس كانت لأهل القصر مَنفى — جوًّا من الجمال والحلم تواءَمَ مع حبه في سموه، وقداسته، وبذخه، وتطلُّعه إلى المجهول.

رأى وهو يقترب من مدخل القصر البواب، والطاهي، وسائق السيارة، جالسين فوق أريكة على كثب من الباب كعادتهم في العصاري، فلما بلغ مجلسهم وقف البواب، وقال له: «حسين بك ينتظرك في الكشك.» فدخل مستقبلًا مزيجًا من عرف الفل والقرنفل والورد التي نضدت أصصها على جانبَي السلَّم المُفضي إلى الفراندا الكبيرة التي تطالع القادم على بُعدٍ يسير من الباب، ثم مال يمنةً إلى ممرٍّ جانبي يفصل القصر عن السور، ويسير بينهما حتى مشارف الحديقة فيما يلي الفراندا الخلفية للقصر.

ليس من الهيِّن على قلبه الخفاق أن يَمشي في هذا المحراب الكبير، ولا أن يطأ أديمًا وطئته قدماها من قبل، إنه يكاد من إجلالٍ يتوقَّف، أو يمدُّ يده إلى جدار البيت تبركًا، كما كان يمدها إلى ضريح الحسين من قبل أن يَعلم أنه لم يكن إلا رمزًا، ترى: في أي مكان من القصر يمرح محبوبه الساعة؟ وما عسى أن يَفعل إذا طالعته بلفتتها الفاتنة؟ ليتَه يجدها في الكشك كي تُجزى عين عن طول التصبر، والتشوق، والتسهُّد.

ألقى على الحديقة نظرة شاملة حتى سورها الخلفي الذي ترامت وراءه الصحراء، وكانت الشمس المائلة فوق القصر صوب الشارع تجلُو منها أعالي الأشجار، والنخيل، وسقائف الياسمين المُبطِّنة للسور من كافة نواحيه، ودوائر الأزهار، والورود، ومربَّعاتها، وأهلَّتها، تَكتنفها ممرَّات الفسيفساء، ثمَّ سار في ممشًى وسيط يُفضي إلى كشك قائم وسط الحديقة، وقد تراءى فيه عن بُعد حسين شداد، وضيفاه: حسن سليم وإسماعيل لطيف جلوسًا على كراسي خيزران حول مائدة مُستديرة خشبية انتثرت عليها أكواب حول دورق ماء. سمع هتاف ترحيب صدر عن حسين فآذنه بانتباههم إلى مقدمه، وما لبثوا أن قاموا للقائه فعانقهم واحدًا واحدًا بعد فراقٍ دامَ الصيف كله، حمدًا لله على السلامة، أنت أوحشتنا جدًّا، شدَّ ما اسمرت وجوهكم فلا خلاف الآن بينكما وبين إسماعيل، بل أنت بيننا كأوروبي بين مُلوَّنين، عما قليل يعود كل شيء إلى أصله، كنا نتساءل لم لا تُلوِّنُنا شمس القاهرة؟ مَنْ ذا يجرؤ على التعرُّض لشمس القاهرة إلا مَن رام ضربة شمس. ولكن ما سر هذه السمرة المكتسبة؟ … أذكر أننا تلقَّينا تفسيرًا لهذا في بعض دروسنا، أجل لعله في الكيمياء، لقد درسنا الشمس خلال علوم شتى كالجغرافيا الفلكية، والكيمياء، والطبيعة؛ ففي أيٍّ من أولئك نجد تفسيرًا لسمرة المصيف؟ هذا سؤال متأخر عن أوانه لأننا انتهينا من الدراسة الثانوية. إلينا إذن بأخبار القاهرة، بل عليك أنت أن تحدثنا عن رأس البر، وعلي حسن وإسماعيل أن يُحدِّثانا بعدك عن الإسكندرية، انتظروا فلكلِّ وقتٍ حديثه.

لم يكن الكشك إلا مظلة خشبية مُستديرة تقوم على عمود ضخم، وأرضه رملية تُحدق بها أصص الورد، ويقتصر أثاثه على المائدة الخشبية والكراسي الخيزران، وقد جلسوا وراء المائدة على هيئة نصف دائرة مُولين وجوههم شطر الحديقة. بدوا سعداء باللقاء، وكان الصيف يُفرق بينهم فيما عدا حسن سليم وإسماعيل لطيف اللذَين يُصيِّفان عادة في الإسكندرية، ومضوا يتضاحَكُون لأقل سبب، وأحيانًا لمجرَّد تبادل النظر كأنما يجترُّون ذكريات مزاح ماضية. وكان الأصدقاء الثلاثة يرتدون قمصانًا حريرية وبنطلونات رمادية. كمال وحده بدا في بدلة رصاصية خفيفة؛ إذ كان يَعتبر رحلة العباسية ذات صفة رسمية على خلاف حيِّه الذي يجول فيه مُكتفيًا بلبس الجاكتة فوق الجلباب. كل شيء من حوله كان يُخاطب قلبَه فيهزُّه من الأعماق، هذا الكشك الذي تلقَّى فيه رسالة الحب. وهذه الحديقة التي خُصَّت وحدها بسرِّه، وهؤلاء الأصدقاء الذين يُحبهم للصداقة ويحبهم مرة أخرى لاقترانهم بسيرة حبه، كل شيء يُخاطب حبَّه وقلبه، يتساءل: متى تجيء؟ وهل يُمكن أن تمضي الجلسة دون أن تقع عليها عيناه المشوقتان؟ وعلى سبيل التعويض راح يطيل النظر إلى حسين شداد ما وسعه ذلك، ولم يكن ينظر إليه بعين الصديق فحسب؛ لأنَّ أخوَّته لمعبودتِه أضفت عليه سحرًا من السحر وسرًّا من السر، فبات يُكِن له — إلى الحب — إكبارًا، وتقديسًا، ودهشًا. وكان حسين يشبه شقيقته إلى حد كبير بعينيه السوداوَين، وقامته الطويلة الرشيقة، وشعره السبط العميق السواد، ولفتاته، وسكناته الجامعة بين السمو واللطافة، فلم يكن ثمَّة فارق جوهري بينهما إلا في أنفِه الأقنى المُمتلئ، وبشرته البيضاء التي غشيَتها سُمرة المُصطاف. ولما كان كمال، وحسين، وإسماعيل من الناجِحين في امتحان البكالوريا ذلك العام — مع ملاحظة أنَّ الأوَّلَين كانا في السابعة عشرة، والأخير في الحادية والعشرين — فقد تحدَّثوا عن الامتحان وما تفرع عنه من شئون المستقبل، وكان البادئ بالحديث إسماعيل لطيف، وكان إذا تحدث تطاوَل بعنقِه كأنما ليُداري قصر قامته وضآلة حجمه — على الأقل بالقياس إلى أصدقائه الثلاثة — غير أنه كان مُدمج الخلق، مفتول العضَلات، وفي نظرة عينيه الضيقتَين الحادة الساخرة، وأنفه المدبب الحاد، وحاجبيه الكثيفَين، وفمه العريض القوي ما يَكفي لتحذير مَن تُحدِّثه نفسه بالتهجم عليه، قال: نتيجتنا هذا العام مائة في المائة، لم يحصل شيء كهذا من قبل — على الأقل — فيما يخصُّني أنا، كان ينبغي أن أكون في السنة النهائية من التعليم العالي كحسن الذي دخل معي مدرسة فؤاد الأول في يوم واحد وسن واحدة، وقد سألني أبي ساخرًا لما رأى رقمي في الجريدة بين الناجحين: «ترى هل يمدُّ الله في عمري حتى أراك من حملة الدبلوم؟»

قال حسين شداد: لستَ مُتأخِّرًا إلى الحد الذي يُبرر يأس والدك.

قال إسماعيل ساخرًا: صدقت فقضاء عامين في كل فصل ليس بالشيء الكثير.

ثم موجهًا الخطاب إلى حسن سليم: أما أنت فلعلَّك مشغول منذ الآن بما بعد الليسانس؟

كان حسن سليم بالسنة النهائية بمدرسة الحقوق، فأدرَكَ أن إسماعيل لطيف يدعوه إلى إعلان رأيه فيما ينويه عقب الفراغ من الدراسة، غير أن حسين شداد سبقه إلى الرد على إسماعيل قائلًا: لا داعي لأن يشغل نفسه، سوف يَحصُل حقًّا على وظيفة في النيابة أو في السلك السياسي.

خرج حسن سليم عن هُدوئه المتَّسم بالكبرياء، ولاح في وجهه الحسن الدقيق القسمات التحفز للنضال، فتساءل مُتحديًا: من أين لي بما يجعلني أطمئن إلى رأيك؟

وكان يعتز باجتهاده وذكائه، ويريد الجميع أن يُقروا له بهما، ولم يكن أحد يماري في ذلك، ولكن لم يكن أحد كذلك ينسى أنه نجل سليم بك صبري المستشار بمحكمة الاستئناف، وأنَّ تمتُّعه بهذه الأبوة ميزة يفوق أثرها كل ما للذكاء والاجتهاد من أثر، بيد أن حسين شداد تحاشى ما يهيجه، فقال: في تفوُّقك الضمان الذي تسأل عنه.

ولم يتركه إسماعيل لطيف كي يستمتع بإطراء حسين له، فقال: وهناك والدك، وهو فيما أعتقد أهم من التفوُّق بكثير.

ولكن حسن قابل الهجوم باستماتة غير متوقَّعة، إما لأنه ملَّ مناجزة إسماعيل الذي لم يكد يفترق عنه يومًا طيلة اصطيافهما بالإسكندرية، وإما لأنه بات يرى في صاحبه مشاكسًا «مُحترِفًا» لا يصلح أن يأخذ أقواله دائمًا مأخذ الجد. على أنَّ رابطة الأصدقاء لم تكن تخلو من نقار جدلي يبلغ أحيانًا حد الشغب دون أن يوهن من قوتها. تساءل حسن سليم وهو يَرمق إسماعيل متهكمًا: وأنت كيف انتهى سعي الساعين لك؟

ضحك إسماعيل ضحكة عالية، كشف عن أسنانه الحادة المصفرة من أثر التدخين الذي كان من أوائل رواده من تلاميذ الثانوي، وقال: نتيجة لا تسرُّ، لمْ تَقبلني الطب ولا الهندسة لنقص المجموع، فلم يبقَ أمامي إلا التجارة والزراعة، فاخترت أولاهما.

لاحظ كمال في تأثر كيف تجاهل صاحبه مدرسة المعلمين كأنما ليست في الحسبان، غير أنه وجد في إيثاره لها، مع قدرته على دخول الحقوق التي لا نزاع في مكانتها، وجد في ذلك مثالية تَعزَّى بها على حزنه ووَحشته، ضحك حسين شداد ضحكته اللطيفة التي تجلو جمال ثغره وعينيه، وقال: آه لو اخترت الزراعة! تصوروا إسماعيل في حقلٍ يقضي عمره بين الفلاحين.

قال إسماعيل بقناعة: لا عليَّ من هذا لو كان الحقل في عماد الدين.

عند ذاك نظر كمال إلى حسين شداد متسائلًا: وأنت؟

مدَّ حسين بصره إلى بعيد مُتفكرًا قبل أن يجيب، فأتاح لكمال فرصة كي يتوسمه. شد ما تفتنه فكرة أنه شقيقها؛ أي إن بينهما ما قام يومًا بينه وبين خديجة وعائشة من مخالطة وألفة، تصور يعزُّ عليه أن يعتنقه، لكنه يجالسها، ويحادثها، وينفرد بها، ويلمسها، يلمسها؟! ويُؤاكلها! ترى كيف تتناول طعامها؟ هل تتمطق؟ هل تأكُل الملوخية والمدمس مثلًا؟ ما أبعد هذا عن التصور أيضًا! المُهم أنه شقيقها، وأنه — كمال — يلمس يده التي تلمس يدها، لو أتيح له أن يشم أنفاسه التي تماثل ولا شك أنفاسها؟ أجاب حسين شداد: مدرسة الحقوق بصفة مؤقَّتة.

ألا يحتمل أن يتخذ من فؤاد جميل الحمزاوي صديقًا؟ لم لا؟ لا شكَّ أن الحقوق مدرسة جليلة الشأن حقًّا ما دام حسين سيَلتحِق بها، من المجازفة أن تحاول إقناع الناس بقيمة مثال معنوي.

قال إسماعيل لطيف ساخرًا: لم أكن أعلم أن مِن الطلاب من يلتحق بمدرسة ما بصفة مؤقتة! حدثنا عن هذا من فضلك.

قال حسين شداد جادًّا: جميع المدارس عندي سواء، ليس في هذه المدرسة أو تلك ما يجذبني إليها. حقًّا أريد أن أتعلم، ولكني لا أريد أن أعمل، ولن أجد في مدرسة من مدارسنا ما أبتغيه من علم لا يُراد به عمل، ولكني لم أظفر في بيتنا بشخص يُوافقني على رأيي، ولا أرى مناصًا من أن أجاريَهم إلى حد ما. وساءلتهم أي مدرسة تختارون؟ فأجاب أبي وهل يوجد غير الحقوق! فقلت إذن فلتكن الحقوق.

إسماعيل لطيف مُحاكيًا لهجته وحركاته: بصفة مؤقتة.

ضحكٌ عامٌّ، ثم استطرد حسين شداد قائلًا: أجل بصفة مؤقَّتة أيها المشاكس، فمن غير المستبعَد إذا سارت الأمور على ما أشتهي أن أقطع دراستي المحلية كي أسافر إلى فرنسا، ولو بحجة دراسة القانون في معاهدها، وهناك أنهل من منابع الثقافات بغير قيد، وهنالك أُفكِّر وأرى وأسمع.

إسماعيل لطيف مُصرًّا على محاكاة لهجته وحركاته، وكأنما يتمُّ ما ظن أن الآخر سكت عنه: وأذوق، وألمس، وأشم …!

واصل حسين شداد حديثه بعد فاصل ضحك قائلًا: ثِق بأن مقصدي غير ما تحلُم به.

صدقه كمال بكل قلبه بلا حاجة إلى دليل؛ لا لأنه يُكرمه عن شبهة الكذب فحسب، ولكن لأنه يؤمن بأن الحياة التي يتطلَّع إلى الاستمتاع بها في فرنسا خليقة «وحدها» باستهواء النفوس، هيهات أن يدرك إسماعيل هذه الحقيقة على بساطتها، لا هو ولا أضرابه ممَّن لا يؤمنون إلا بالأرقام والمظاهر، طالَما أثار حسين أحلامه، هذا حلم منها يَمتاز بالرحابة والجمال، حلم عامر بثمار الروح، والفكر، والسمع، والبصر، كم طاف بي في نومي، أو في يقظتي، ثم بعد شدة التطلُّع وطول السعي انتهى المطاف بي وبه إلى مدرسة المُعلمين، وسأل حسين: أتعني حقًّا ما قلت من أنك لا تريد أن تعمل؟

فقال حسين شداد وفي عينيه السوداوين الجميلتين نظرة حالمة: لن أكون مُضاربًا في البورصة كأبي؛ لأني لا أطيق حياة العمل المتواصِل جوهرها، والمال غايتها، ولن أكون موظفًا، لأن الوظيفة عبودية في سبيل الرزق، ورزقي موفور. أريد أن أحيا في الدنيا سائحًا، أقرأ، وأرى، وأسمع، وأفكر، وأنتقل من جبل إلى سهل، ومن سهل إلى جبل.

قال حسن سليم مُعترضًا، وكان يرمقه طيلة الحديث بنظرة استخفاف داراها بتحفظه الأرستقراطي: ليست الوظيفة وسيلة إلى الرزق دائمًا. إني مثلًا في غِنًى عن السعي إلى الرزق، ولكن يهمني بلا شك أن أشغل وظيفة سامية، فإنه يجب على الإنسان أن يعمل، وأن العمل السامي هدف يراد لذاته.

وقال إسماعيل لطيف، مُصدقًا على قول حسن: هذا حق، الأعمال القضائية والدبلوماسية وظائف يتمناها أغنى الأغنياء. (ثم ملتفتًا إلى حسين شداد): لِمَ لا تختار لنفسك وظيفة من هذه الوظائف وهي في حدود طاقتك.

وقال كمال مُخاطبًا حسين أيضًا: السلك السياسي حقيق بأن يُهيئ لك العمل السامي والسياحي معًا.

ولكن حسن سليم قال بلهجة ذات معنى: إنه بابٌ ضيق.

فقال حسين شداد: للسلك السياسي مزايا رائعة بلا ريب، إلا أنه في الغالب وظيفة شرفية فلا يتعارض كثيرًا مع رغبتي عن عبودية العمل، وهو سياحة وفراغ يُتيحان لي ما أحب من الحياة الروحية والجمالية، ولكنَّني لا أظنني بالغه، لا لأنه باب ضيق كما قال حسن، ولكن لأني أشك في أني سأواصل التعليم النظامي حتى نهايته.

إسماعيل لطيف، وهو يضحك مُتخابثًا: يغلب على ظني أنك تريد فرنسا لأمور لا شأن لها بالثقافة، وحسنًا تفعل.

ضحك حسين شداد وهو يهزُّ رأسه سلبًا، ثم قال: كلا، أنت تفكر بأهوائك، إن لرغبتي عن التعليم المدرسي أسبابًا أخرى؛ أولها: أنني غير مكترث لدراسة القانون، ثانيًا: أنه لا توجد مدرسة يمكن أن تمدَّني بما أريد الإلمام به من شتى المعارف والفنون، كالمسرح، والتصوير، والموسيقى، والفلسفة. ما من مدرسة إلا وستشحن رأسك بالتراب كي تعثر فيه — إن عثرت — على ذرات من التبر، في باريس يُتاح لك أن تشهد محاضرات في شتى الفنون والمعارف دون تقيد بنظام أو امتحان، إلى ما يتهيأ لك من الحياة السامية الجميلة.

ثم مستطردًا بصوت خافت، وكأنه يخاطب نفسه: وربما تزوجت هناك كي أقضي العمر سائحًا في عالَمَي الواقع والخيال.

لم يبدُ على وجه حسن سليم أنه يولي الحديث اهتمامًا جديًّا، أما إسماعيل لطيف فرفع حاجبيه الكثيفين، تاركًا عينيه تفحصان عما يضطرب في صدره من مكر وسخرية. كمال وحده الذي بدا مُتأثرًا مُتحمِّسًا، إنه يَستشرف نفس الآمال مع شيء من تعديل لا يمس الجوهر، لا تُهمُّه السياحة ولا الزواج في فرنسا، ولكن من له بهذه المعارف التي لا تتقيَّد بنظام أو امتحان؟ إنها أجدى بلا جدال من التراب الذي سيَشحن به رأسه في المعلمين كي يفوز في النهاية بذرات من التِّبر، باريس؟ غدت حلمًا جميلًا منذ علم بأنها احتضنت عهدًا غضًّا من عمر معبودته، لا تزال تدعو حسين بسحرها، وتَفتن خياله هو بشتى وعودها، كيف الشفاء من لوعة الآمال؟

قال بعد تردُّد وإشفاق: يُخيَّل إليَّ أن أقرب المدارس في مصر إلى تحقيق ولو جزء يسير من رغبتك هي المعلمين العليا.

تحول إسماعيل لطيف نحوه فيما يُشبه القلق، وسأله: ماذا اخترت أنت؟ لا تَقُل مدرسة المعلمين! رباه، نسيت أن بك لوثة قريبة الشبه بلوثة حسين.

ابتسم كمال ابتسامة عريضة كشفت عن مرونة منخرَيه العظيمين، وقال: التحقتُ بالمعلمين للسبب الذي ذكرت.

فنظر حسين شداد إليه باهتمام، ثم قال باسمًا: لا شك أن ميولك الثقافية أتعبتك كثيرًا قبل أن يقع اختيارك.

فقال له إسماعيل لطيف بلهجة نمَّت عن الاتهام: إنك مسئول لدرجة كبيرة عن توكيد ميوله هذه، بل الحق أنك تتكلم كثيرًا وتقرأ قليلًا، أما المسكين فيأخذ الأمر مأخذ الجد، ويقرأ لحد العمى، انظر إلى تأثيرك السيِّئ فيه كيف دفع به إلى المعلمين نهاية الأمر!

استطرد حسين حديثه متجاهلًا مقاطعة إسماعيل: هل ثبت لديك أن في المعلمين ما تود؟

قال كمال بحماس، وقد انشرح صدرُه بأول صوت يتساءل عن مدرسته بلا احتقار أو استنكار: حسبي أن تُتاح لي دراسة الإنجليزية لأتخذ منها وسيلة ناجعة للاطلاع غير المحدود، وإلى هذا فهناك فرصة طيبة — فيما أظن — لدراسة التاريخ، والتربية، وعلم النفس.

فكَّر حسين شداد قليلًا، ثم قال: عرفتُ كثيرًا من المعلمين الذين خالطتهم عن كثب في دروسي الخصوصية، لم يكونوا مثالًا طيبًا للرجل المثقف، ولكن لعلَّ النظام الدراسي العتيق هو المسئول عن ذلك.

فقال كمال بحماس لم يفتر: حسبي الوسيلة، الثقافة الحقة تتوقف على الإنسان لا المدرسة.

وتساءل حسن سليم: أتنوي أن تصير معلمًا؟

ومع أن حسن طرح سؤاله بأدب، فإن كمال لم يطمئنَّ إليه كل الاطمئنان؛ إذ إن التزامه الأدب كان طبعًا مأثورًا عنه فلا يُزايله إلا عند الضرورة القصوى، أو حيث يشرع غيره في العراك، وذلك نتيجة طبيعية لرزانته من ناحية، ولتربيته الأرستقراطية النبيلة من ناحية أخرى، فلم يكن من اليسير على كمال أن يعرف إن كان سؤال صاحبه يخلو حقًّا من الاستنكار أو الازدراء. لذلك حرَّك منكبَيه استهانة، وقال: لا مفر من ذلك ما دمتُ مُصمِّمًا على تعلم ما أروم من العلم.

وكان إسماعيل لطيف يتفحص كمال من طرف خفي … رأسه، وأنفه، وعنقه الطويل، وقامته النحيلة، وكأنما كان يتخيل أثر هذه الصورة في التلاميذ عامة وفي أشقيائهم خاصة، فما ملك أن غمغم: تلك لعمري كارثة!

أما حسين شداد، فعاد يقول في لطفٍ وشى بميله إلى كمال: الوظيفة شيء ثانوي عند ذوي الأهداف البعيدة، على أنه لا ينبغي أن ننسى أن نخبةً من نابهي مصر قد تخرَّجوا في المدرسة.

انقطع حديث المدرسة عند ذاك، فساد الصمت، وحاول كمال أن يُلقي بروحه في أحضان الحديقة، غير أن الحديث ترك في رأسه حرارة كان عليه أن يَنتظِر حتى تَبترِد، وسنحت منه نظرة، فرأى دورق الماء المثلوج على المائدة، فخطرت له خاطرة قديمة طالَما مَنته بالسعادة في مثل ظرفه هذا، أن يملأ كوبًا ويشربه لعله يلمس بشفتيه موضعًا منه يكون قد اتفق أن لمسته شفتاها وهي تَشرب مرة. فقام إلى المائدة، وملأ من الدورق كوبًا وشربه، ثم عاد إلى مجلسه مركزًا انتباهه في نفسه وهو يترقَّب، كأنما كان ينتظر — فيما لو حالفه الحظ فأصاب الهدف — أن يتغير شأنه، أن تنبثق من روحه قوة سحرية لا عهد له بها، أن ينتشيَ بنشوة إلهية يرقى بها في معارج السموات السعيدة، ولكنه، أجل، ولكنه قنع في النهاية بلذَّة المغامرة وبهجة الأمل، ثم راح يتساءل في قلق: متى تجيء؟ … هل يُمكن أن تلحق هذه الفترة الواعدة بأشهر الفراق الثلاثة الماضية؟ … وعادت عيناه إلى الدورق، فطافت به ذكرى حديث قديم دار بينه وبين إسماعيل لطيف عن هذا الدورق، أو بالحريِّ عن الماء المثلوج الذي لا يُقدم إليهم شيء خلافه في سراي شداد. وكان إسماعيل قد أشار — وهو بصدد الحديث عن ذلك — إلى النظام الاقتصادي الدقيق الذي تَخضع له السراي من السطح إلى البدروم، وتساءل: أليس ذلك نوعًا من البخل؟ غير أن كمال أبى أن تُوصَم أسرة معبودته بما يشين، فدفع عنها التهمة مستشهدًا ببذخها، وخدمها، وحشمها، والسيارتين اللتَين تملكهما: المنيرفا، والفيات التي يكاد يختص بها حسين، فكيف تُتَّهم بعد ذلك بالبخل؟ هنالك قال إسماعيل — ولم يكن يعوزه طول اللسان — إن البخل أنواع، وإنه لما كان شداد بك مليونيرًا بكل معنى الكلمة، فإنه رأى لزامًا عليه أن يُحيط نفسه بمظاهر الجاه، ولكنه اكتفى بما يعد في «بيئته» من الضروريات. أما القاعدة المتبعة التي لا يحيد عنها فرد من الأسرة، فهي ألا يتسامح في إنفاق مليم واحد في غير موضعه وبلا موجب … الخدم يتناولون أدنى الأجور ويأكلون أقل الطعام: وإن كسر أحدهم طبقًا خُصم ثمنه من مرتبه. حسين شداد نفسه فتى الأسرة الوحيد لا يُعطى مصروفًا أسوة بأمثاله من الأبناء أن يتعوَّد بعثرة النقود بلا ضرورة، أجل ربما ابتاع له أبوه كل عيد عددًا من الأسهم أو السندات، ولكنه لا يُعطيه قرشًا في يده … أما زوَّار النجل العزيز، فلا يقدم لهم إلا الماء المثلوج! … أليس هذا بخلًا، وإن يكن بخلًا أرستقراطيًّا؟ ذكر كمال ذلك الحديث وهو ينظر إلى الدورق، وتساءل كما تساءل قديمًا في ارتياع: أمن المُمكن أن تَرتقي إلى أسرة معبودته هنة من الهنات؟ أبى قلبه أن يُصدق هذا إباء من ينزه الكمال عن المآخذ وإن هانت، بيد أنه خُيِّل إليه أن ثمة شعورًا بما يشبه الارتياح يُعابثه هامسًا في أذنه: «لا تفزع، أليس هذا النقص إن صح مما يُنزلها ولو درجة إليك، أو يرفعك ولو درجة إليها؟» ومع أنه وقف من أقوال إسماعيل موقف التحفُّظ والارتياب، فإنه وجد نفسه يُعيد النظر وهو لا يدري في «رذيلة» البخل، فيقسمها إلى نوع دنيء وآخر ليس إلا سياسة حكيمة تمدُّ الحياة الاقتصادية بأسس بارعة من النظام والدقة، فمن الإسراف كل الإسراف تسميتُه بخلًا أو اعتباره رذيلة، كيف لا، وهو لا يتعارض مع تشييد القصور، واقتناء السيارات، واتخاذ كافة مظاهر البذخ والبلهنية؟ كيف لا، وهو يصدر عن نفوس سامية مطهرة من الخبائث والضعة؟

استيقظ من أفكاره على يد إسماعيل لطيف وهي تقبض على ذراعه وتهزه، ثم سمعه وهو يقول مخاطبًا حسن سليم: حذار، ها هو مندوب الوفد يرد عليك.

أدرَكَ من فوره أنهم طرقوا حديث السياسة وهو عنهم ساهٍ، حديث السياسة … ما أشقه وما ألذه! دعاه إسماعيل «مندوب الوفد» فلعله يتهكم، فليتهكم ما شاء له أن يتهكم، الوفد عقيدة تلقاها عن فهمي، واقترنت في قلبه باستشهاده وتضحيته. نظر إلى حسن سليم، وقال باسمًا: أيها الصديق الذي لا تبهره إلا العظة، ماذا قلتَ عن سعد؟

لم يَبدُ حسن سليم أنه اكترث لحديث العظمة، ولم يكن كمال يتوقَّع غير ذلك، فطالَما صاوله حتى وقف على رأيه العنيد المُتعجرِف — ولعله رأيُ أبيه المستشار أيضًا — في سعد زغلول الذي يكاد هو من حبٍّ وإخلاصٍ أن يُقدسه. لم يكن سعد زغلول إلا مُهرجًا شعبيًّا في نظر حسن سليم، وكان يردد هذا الوصف في تقزُّز وازدراء مثيرَين خارقًا المعتاد من أدبه ودماثته، ثم يَمضي في السخرية من سياسته ومأثوراته البلاغية، مُنوِّهًا في الوقت نفسه بعظَمة عدلي، وثروت، ومحمد محمود، وغيرهم من الأحرار الدستوريِّين الذين لم يكونوا في نظر كمال إلا «خونة»، أو إنجليز مُطربَشين. أجاب حسن سليم بهدوء: كنا نتحدَّث عن المفاوضات التي لم تستمر إلا ثلاثة أيام، ثم قطعت.

فقال كمال بحماس: يا له من موقف وطني جدير بسعد حقًّا! طالب بحقوقنا الوطنية مُترفعًا عن المساومة. ثم قطع المفاوضة حين وجب قطعها، وقال قولته الخالدة: «لقد دعونا إلى هنا لكي نَنتحر، ولكننا رفضنا الانتحار، وهذا كل ما جرى.»

قال إسماعيل لطيف، وكان يجد في السياسة مادة للعبث: لو قبلَ أن يَنتحِر لتوَّجَ حياته بأجلِّ خدمة يُمكن أن يؤديها إلى بلاده.

انتظر حسن سليم حتى فرغ إسماعيل وحسين من الضحك، ثم قال: ماذا أفدنا من هذه المأثورة؟ ليست الوطنية عند سعد إلا نوعًا من البلاغة التي تستهوي العامة «لقد دعونا إلى هنا لكي ننتحر … إلخ، إلخ!» «يُعجبني الصدق في القول … إلخ، إلخ!» … كلام في كلام، هنالك رجال لا يتكلَّمون ولكنهم يعملون في صمت، وقد حقَّقوا للوطن الفائدة الوحيدة التي جناها في تاريخه الحديث.

احتدم الغيظ في قلب كمال، ولولا ما يُكنه لحسن من احترام لشخصيته وسنِّه لانفجر، وعجب كيف يتابع «شاب» مثله أباه — وهو من جيلٍ قديم على أيِّ حال — في انحرافه السياسي.

– أنت تُقلِّل من شأن الكلام كأنه لا شيء، الحق أن أخطر ما تمخَّض عنه تاريخ البشرية من جلائل الأمور يُمكن إرجاعه في النهاية إلى كلمات، الكلمة العظيمة تتضمَّن الأمل والقوة والحقيقة، نحن نسير في الحياة على ضوء كلمات، على أنَّ سعد ليس صانع كلمات فحسب، إنَّ سجلَّه حافل بالأعمال والمواقف.

تخلَّل حسين شداد شعره الفاحم بأنامله الطويلة الرشيقة وهو يقول: أُوافق على ما قلت عن قيمة الكلمة بصرف النظر عن سعد …!

لم يَعبأ حسن بمقاطعة حسين شداد، فقال مخاطبًا كمال: إنَّ الأمم تحيا وتتقدَّم بالعقول والحكمة السياسية والسواعد، لا بالخطب والتهريج الشعبي الرخيص.

نظر إسماعيل لطيف إلى حسين شداد، وهو يَتساءل ساخرًا: ألا ترى أن مَن يُتعب نفسه في الكلام عن إصلاح هذا البلد كالنافخ في قربة مثقوبة؟

التفت كمال إلى إسماعيل ليُخاطب من وراء حسن بما تردَّد عن مخاطبته به وجهًا لوجه، قال منفِّسًا عن غيظه: أنت لا تُهمُّك السياسة في شيء، لكن مزاحك يفصح أحيانًا عن موقف «فئة» من المحسوبين على المصريِّين كأنك ناطقٌ بلسانهم، تراهم يائسين من نهوض الوطن، يأسَ الاحتقار والتعالي لا يأس الطموح والتطرُّف، ولولا أن السياسة مطية لأطماعهم لاعتزلوها كما تفعل أنت.

ضحك حسين شداد ضحكته اللطيفة، ومدَّ يده إلى ذراع كمال، فشدَّ عليها قائلًا: أنت مُجادل عنيد، يُعجبني حماسك وإن لم أُشاركك الإيمان به، على أنني كما تعلَم مُحايد، لا من الوفديِّين ولا من الدستوريين، لا استهانةً كإسماعيل لطيف، ولكن لاعتقادي بأن السياسة تُفسِد الفِكر والقلب، يَنبغي أن تعلو عليها حتى تَتراءى لك الحياة ميدانًا لا نهائيًّا للحكمة والجمال والتسامح، لا مُعترك صراع وكيد.

ارتاح إلى صوت حسين فسكنت فورته، كان يطرب لموافقته إذا وافقه على رأي، ويتَّسع صدره لمعارضته إذا عارضه فيه، ومع أنه كان يشعر بأن تبريرَه للحياد ما هو إلا اعتذار عن ضعف وطنيته، فإنه لم يَحنق عليه لذلك، ولم يرَ فيه نقيصة ولكن وسعها عفوُه وحلمه وتسامُحُه، قال يُجاريه: الحياة هي هذا كله، هي الصراع، والكيد، والحكمة، والجمال، فأيُّ وجه تتجاهله من وجوهها تفقد به فرصة لاستكمال فهمك لها وقدرتك على التأثير فيها بما يوجهها نحو الأحسن. لا تحتقر السياسة أبدًا؛ فالسياسة هي نصف الحياة، أو هي الحياة كلها إذا عددت الحكمة والجمال مما فوق الحياة!

حسين شداد كالمعتذر: فيما يتعلَّق بالسياسة، أصارحك بأنني لا أثق في جميع أولئك الرجال.

سأله كمال كالمتودِّد: ماذا نزع ثقتك من سعد؟

– بل دعني أسألك عما يجعلني أضع ثقتي فيه؟! … سعد وعدلي، وعدلي وسعد، ما أسخف هذا كله! على أنه إذا كان سعد وعدلي سيَّين عندي في الناحية السياسية فإنني لا أراهما كذلك كرجلين؛ إذ لا يُمكن أن أتجاهل ما يمتاز به عدلي من كريم الأصل، وعظيم الجاه والثقافة، أما سعد — وإياك أن تغضب — فما هو إلا أزهري قديم.

– آه، شدَّ ما يحز في نفسه أن يندَّ عن حسين أحيانًا ما يشي بتعاليه عن الشعب، فيشعر وهو من الحزن في نهاية كأنه يتعالى عنه هو أو — وهو الأدهى والأمر — كأنه يَنطِق بلسان الأسرة جميعًا، أجل إنه إذا حادثه أشعره كأنما يتكلَّم عن شعب غريب «عنهما» معًا، ولكن أكان ذلك عن خطأ في التصوير أم عن مجاملة؟ ومن عجب أن موقف حسين هذا لم يُغضبه من ناحية دلالته العامة بقدر ما أحزنه من ناحية دلالته الخاصة به، فلم يَستثِر عداوته الطبقية ولا إحساسه الوطني. انهزمت هذه المشاعر حيال بشاشة وضيئة تنمُّ عن الصراحة وحسن الطوية، وتراجعَت أمام حبٍّ لا تنال منه الآراء والأحداث، على الضد من هذا كان شعوره حيال موقف حسين شداد منه، فكان — رغم صداقتهما — يهيج غضبه لوطنه — ولم يَشفع له عنده تأدُّبه في الخطاب، وتحفظه في إظهار مشاعرِه، بل لعلَّه آنس فيهما «حكمة» تُضاعف من مسئوليته، وتؤكِّد تعصُّبه الأرستقراطي الموجه ضد الشعب. قال مخاطبًا حسين: أفي حاجة أنا أن أُذكِّرك بأنَّ العظمة شيء غير العمامة والطربوش، أو الفقر، أو الغنى؟ يبدو لي أنَّ السياسة تضطرُّنا أحيانًا إلى مناقشة البديهيات.

قال إسماعيل لطيف: إنَّ ما يُعجبني في الوفديين — أمثال كمال — هو شدَّة تعصُّبهم.

ثم وهو يُجيل بصره في الجالسين: أما ما يسوءُني منهم، فهو شدة تعصُّبهم أيضًا.

قال حسين شداد ضاحكًا: أنت سعيد الحظ؛ لأنك مهما أبديت في السياسة من رأي، فلن يعترض سبيلك معقب.

هنا سأل حسن سليم حسين شداد قائلًا: تزعم أنك تربأ بنفسِك عن السياسة، فهل تصرُّ على ذلك حتى إذا تعلَّق الأمر بالخديو السابق؟

اتجهَت الأعيُن نحو حسين في تحدٍّ باسم لما هو معروف عن تشيُّع والده شداد بك للخديو السابق، الأمر الذي أُبْعِد من أجله أعوامًا قضاها في باريس، ولكن حسين قال في غير مُبالاة: لا تعنيني هذه الأمور في كثير أو قليل، كان والدي ولا يزال من رجال الخديو، ولكنَّني لستُ مُطالبًا باعتناقِ آرائه.

سأله إسماعيل لطيف، وفي عينَيه الضيقتَين بريقٍ ضاحك: أكان والدك من الذين يهتفون «الله حي … عباس جي»؟

فقال حسين شداد ضاحكًا: لم أسمع عن هذا الذِّكر إلا منكم، والحق الذي لا ريب فيه، أنه لم يَعُد بين أبي وبين الخديو إلا الصداقة والوفاء، وفضلًا عن ذلك فليس ثمَّة حزب — كما تعلمون — يدعو اليوم إلى عودة الخديو.

قال حسن سليم: أمسى الرجل وعهده في ذمة التاريخ، الحاضر يُمكن تلخيصه في كلمتَين، وهما: أن سعد يأبى أن يقوم في مصر مَن يتكلم باسمها غيره ولو كان خير الرجال وأحكمهم.

لم يكد يتلقى الضربة كمالُ حتى جاوَبَه قائلًا: الحاضر في كلمة واحدة، أن ليس في مصر من يتكلَّم باسمها إلا سعد، وأنَّ التفاف الأمة حوله جدير في النهاية بأن يَبلغ بها ما نرجو من الآمال.

وشبك ذراعَيه على صدره، ومدَّ ساقيه حتى مس طرف حذائه رجل المائدة، وهمَّ بالاسترسال في حديثه لولا أنَّ جاءهم من الوراء صوت غير بعيد يتساءل: «ألا تُريدين يا بدور أن تُحيي أصدقاءك القدماء؟» فانعقد لسانه، ووثب قلبُه وثبة عنيفة رجت صدره رجًّا أفزعه أول الأمر وآلمه، وفي أسرع من لمعان البرق استغرقتْه سكرة طاغية من السعادة كاد يغمض لها عينيه من شدة التأثر، ثم وجد أن كل خاطرة تنبض بها نفسه قد اتجهت صوب السماء، قام مع الأصدقاء كما قاموا، واستدار معهم إلى الوراء، فرأى على بُعدِ خطوة من الكشك عايدة واقفة ممسكة بيد بدور شقيقتها الصغرى ذات الأعوام الثلاثة، وهما يتطلعان إليهم بأعين هادئة باسمة. ها هي ذي بعد انتظار ثلاثة أشهر أو يزيد، ها هو «الأصل» الذي تملأ «صورته» روحه وجوارحه، ويقظته ونومه، ها هي قائمة أمام عينيه شاهدًا على أن الألم الذي لا حدَّ له والسرور الذي لا وصف له، واليقظة المحرقة للنفس والحلم المدوم في السماء، إن كل أولئك ربما رجعت في آخر الأمر إلى آدمي لطيف تترك قدماه انطباعاتهما على أرض الحديقة. ورنا إليها فجذب مغناطيسُها شعوره كله حتى سلبه الإحساس بالزمان والمكان، والأناسيِّ والنفس، فعاد كأنه رُوح مجرَّدة تَسبح في فراغ نحو معبودها … على أنَّ إدراكه لها هي نفسها لم يكن حسيًّا بقدر ما كان روحيًّا، تمثَّل في نشوة ساحرة، وغبطة شادية، وسبحة عالية، بينا وهنت منه الرؤية أو تلاشت، كأن قوة انفعاله الروحي استأثرت بكل حيويته فغُودرت حواسه وقواه العاقلة، والمدركة، والملاحظة في سُبات أشرف به على نوع من الفناء. لذلك كانت دائمًا أطوع لذاكرته منها إلى حواسه، لا يكاد يرى منها وهو في محضرها شيئًا، ولكنَّها تتراءى فيما يَعُد في ذاكرته بقامتها الهيفاء ووجهها البدري الخمري، وشعر عميق السواد مَقصوص «ألا جرسون» ذي قصة مُسترسِلة على الجبين كأسنان المشط، وعينَين ساجيتَين تلوح فيهما نظرة لها هدوء الفجر ولطفه وعظمته، كان يرى هذه الصورة بذاكرته لا بحواسه كالنغمة الساحرة نفنى في سماعها فلا نَذكر منها شيئًا حتى تفاجئنا مُفاجأةً سعيدة في اللحظات الأولى من الاستيقاظ أو في ساعة انسجام، فتتردَّد في أعماق الشعور في لحنٍ متكامل. وتساءلت أحلامه وأمانيه: ترى هل تُغيِّر من طريقتها المألوفة فتمدُّ يدها للمصافحة فيلمسها ولو مرة في الحياة؟ لكنها حيتهم بابتسامة وتحنية من رأسها، وهي تتساءل بذلك الصوت الذي يُزري بأحبِّ الألحان إليه: كيف حالكم جميعًا؟

فاستبقت الأصوات إليها بالتحية، والشكر، والتهنئة على سلامة العودة، عند ذاك عبثت أناملها الرشيقة برأس بدور وهي تقول لها: صافِحي أصدقاءك.

فثنت بدور شفتيها داخلَ فيها وعضَّت عليهما، وهي تُردِّد عينيها بينهم في حياء حتى استقرتا على كمال، فابتسمَت وابتسم. قال حسين شداد، وكان على علم بما بين الطفلة وكمال من مودَّة: إنها تَبتسِم لمن تحبه.

– أتُحبِّين هذا حقًّا؟ (ثم وهي تدفعُها نحوه) إذن سلمي عليه.

مدَّ لها كمال يدَيه متورد الوجه من السرور، فأقبلت نحوه، فرفعها بين يديه حتى أقرها في حضنه، وراح يُقبِّل خديها في حنان وتأثُّر شديدَين. كان بهذا الحب سعيدًا فخورًا، ليست التي بين يديه إلا فلذة من جسد الأسرة؛ فهو يضمُّ الكل إذ يضمُّ الجزء إلى صدره، هل أمكن اتصال العبد بمعبوده إلا عن وساطة كهذه الوساطة؟ … والسحر كل السحر في هذا الشبه الغريب بين الطفلة وشقيقتها، كأنَّ المُطمئنَّة إلى صدره عايدة نفسها في طور من أطوار حياتها الماضية، كانت يومًا مثل بدور سنًّا، وحجمًا، وجودًا فتأمل! … فليهنأهُ هذا الحب الطاهر … ليَسعد بعناق جسمٍ تُعانقه هي … وبتقبيلِ وجنةٍ تُقبِّلها هي … وليَحلم حتى يشرد منه العقل والقلب، إنه يدري لمَ يُحب بدور ولمَ يحبُّ حسين ولم يحبَّ القصر وحديقته وخدمه، إنه يحبها جميعًا إكرامًا لعايدة، أما الذي لا يدريه فهو حب عايدة نفسها! … ردَّدت عايدة عينَيها بين حسن سليم وإسماعيل لطيف، ثم سألتهما: كيف وجدتما الإسكندرية؟

فقال حسن: رائعة.

على حين تساءل إسماعيل: ماذا يَجذبكم إلى رأس البرِّ دوامًا؟

فقالت بصوت رخيم مشربة نبراته بعذوبة موسيقية: صيفنا مرات في الإسكندرية، ولكن الاصطياف لا يطيب لنا إلا في رأس البر، هنالك الهدوء، والبساطة، وألفة لا تجدها إلا في بيتك.

فقال إسماعيل ضاحكًا: من سوء الحظ أن الهدوء لا يطيب لنا.

ما أسعده بهذا المنظر! … هذا الحديث … هذا الصوت. تأمل أليست هذه هي السعادة؟ فراشة كنسمة الفجر تقطر ألوانًا بهيجة، وترشف رحيق الأزاهر … هذا أنا، لو يدوم هذا الموقف إلى الأبد.

قالت عايدة: كانت رحلة ممتعة، ألم يحدثكم حسين عنها؟

قال حسين بلهجة انتقادية: بل كانوا يتناقشون في السياسة.

فالتفتَت ناحية كمال قائلة: هنا شخص لا يحلو له إلا حديثها.

من عينَيها نظرة تُلقى إليك كالرحمة، صفاؤها يجلو روحًا ملائكيًّا، بعثت كما يبعث عباد الشمس في ضوئها المشرق، لو يدوم هذا الموقف إلى الأبد!

– لم أكن المسئول عن إثارة المناقشة اليوم.

فقالت باسمة: لكنك اغتنمت الفرصة.

ابتسم في تسليم، وعند ذاك حولت عينيها إلى بدور هاتفة: أتنوين أن تنامَي بين ذراعيه! كفاكِ سلامًا.

غلب الحياء بدور، فدفنت رأسها في صدره، فجعل يُربِّت على ظهرها في حنان، غير أن عايدة توعدتها قائلة: إذن سأتركُك وأرجع وحدي.

فرفعت بدور ومدَّت لها يدها وهي تغمغم «لا»، فقبلها كمال وأنزلها إلى الأرض، فجرت إلى عايدة، وقبضت على يدها. ألقت عايدة عليهم نظرة شاملة، ثم لوحت بيدها تحية وذهبت من حيث أتت، عادوا إلى مقاعدهم فواصلوا الحديث كيفما اتفق، هكذا كانت تقع زيارات عايدة في كشك الحديقة، مفاجأة سعيدة قصيرة، ولكنه بدا قانعًا، وشعر بأن تصبُّره طيلة أشهر الصيف لم يذهب هدرًا. لمَ لا يَنتحِر الناس ضنًّا بالسعادة كما يَنتحرُون فرارًا من الشقاء؟ ليس من الضروري أن تَسيح كما يودُّ حُسين أن يَسيح كي تلقى متع الحواس والعقل والروح، فمِن الجائز أن تفوز بكل أولئك في لحظة خاطفة دون أن تبرح مكانك، من أين لبشرٍ أن يُؤتى القدرة على إحداث هذا كله؟ أين فورة السياسة، وحرارة الجدل، واحتدام الخصام، وتصادم الطبقات؟ … ذابت كلها وتوارت تحت نظرة من عينيك يا معبودتي، ما الفاصل بين الحلم والحقيقة؟ وفي أيهما تراني أهيم الساعة؟

– موسم الكرة سيبدأ عما قريب.

– كان الموسم الماضي موسم الأهلي دون شريك.

– هُزم المختلط بالرغم من أن فريقه يضم أبطالًا أفذاذًا.

انبرى كمال للدفاع عن المُختلَط — كما دافع عن سعد — صادًّا عنه هجَمات حسن سليم. كان أربعتهم من لاعبي الكرة على تفاوُت في الحذق والحماس. فكان إسماعيل أمهرَهم إلى حدِّ أنه برز بينهم كالمُحترِف بين الهواة. على حين كان حسين شداد أضعفهم. أما كمال وحسن فكانا بين ذلك. وقد اشتدَّت المناظرة بين كمال وحسن. ذاك يرجع هزيمة المختلَط إلى سوء الحظ، وهذا يردُّها إلى تفوُّق لاعبي الأهلي الجدد … واستمرَّ الجدل دون أن ينزل أحدهما عن رأيه. تساءل كمال: لِمَ يجد نفسَه دائمًا في الجانب المضاد للجانب الذي يقف فيه حسن سليم؟ الوفد الأحرار، المختلط الأهلي، حجازي مُختار، وفي السينما يفضل شارلي شابلن فيفضل الآخر ماكس لندر.

غادَرَ المجلس قبيل المغيب، وفيما هو يسير في الممر الجانبي المُفضي إلى الباب الخارجي إذ سمع صوتًا يهتف: ها هو ذا.

رفع رأسه مسحورًا فرأى عايدة في إحدى نوافذ الدور الأول، مُجلِسةً بدور على حافة النافذة بين يديها وهي تشير لها إليه، وقف تحت النافذة مباشرة مرفوع الرأس، يتطلَّع بوجه باسم إلى الطفلة التي لوَّحت له بيدها الصغيرة، ويلمح بين لحظة وأخرى إلى الوجه الذي استقرت في هيئته ورموزه آمالُه في الحياة وما بعد الحياة، وقلبه يتلاطم بين الضلوع سكْرًا، لوحت له بدور بيدها مرة أخرى، فسألتها عايدة: تَذهبين إليه؟

حنَت الصغيرة رأسها بالإيجاب، فضحكَت عايدة من هذه الرغبة التي لن تتحقَّق، على حين مضى هو يَتوسَّمها مُتشجِّعًا بضحكاتها — غارقًا برُوحه في حور عينيها، ومُلتقى حاجبَيها مُسترجعًا صدى ضحكتها المُترعة، ونبرات صوتها الدافئ حتى اضطربت أنفاسه من وجد وهيام. ولما كان الموقف يملي عليه أن يتكلَّم، فقد سأل معبودته وهو يشير إلى محبوبته الصغيرة: هل ذكَرَتْني في المصيف؟

قالت عايدة وهي تتراجَع برأسها قليلًا: سلْها هي، لا شأن لي بما بينك وبينها.

ثم مُستدركة قبل أن ينبس هو بكلمة: هل ذكرتَها أنت؟

آه، موقفك فوق السطح بين مريم وفهمي، قال بحرارة: لم تَغِب عن ذاكرتي يومًا واحدًا.

نادى عند ذاك صوت من داخل القصر فاعتدلَت عايدة في وقفتها، ورفعت بدور بين يديها، ثم قالت مُعلِّقة على كلامه وهي تهمُّ بالذهاب: يا له من حب عجيب!

وغابت عن النافذة.

١٥

لم يبقَ من رواد مجلس القهوة إلا أمينة وكمال، وحتى كمال كان يَبرحه عند الأصيل إلى الخارج فتلبَث الأم بمفردها، أو تدعو أم حنفي إلى مؤانستها حتى يحين وقت النوم. وكان ياسين قد خلف وراءه فراغًا، ومع أن أمينة حرصت دائمًا على ألا تعود إلى ذكراه، فإن كمال شعر لغيابه بوحشة غاضت أبهج ما كان يجد في مجلس القهوة من متعة. وكانت القهوة — قديمًا — شراب المجلس الذي يجتمع حوله الأبناء للسَّمَر، فانقلب اليوم — عند الأم — كل شيء فيه، فأسرفت في حسوها إسرافًا وهي لا تدري حتى صار صنع القهوة وحسوها سلوةَ وحدتها، فربما احتست خمسة أو ستة — وأحيانًا عشرة — فناجيل تباعًا، وكان كمال يتابع إفراطها بقلق ويحذرها من عواقبه، فترد عليه بابتسامة كأنما تقول له «وماذا أفعل إذا لم أشرب؟» ثم تقول له بلهجة الواثق المطمئن: «لا ضرر من القهوة.» … جلسا متقابلَين، هي على الكنبة الفاصلة بين حجرتي النوم والمائدة، وهو على الكنبة المتوسطة لحجرتي نومه ومكتبه، وكانت عاكفة على المجمرة التي دفنت الكنجة حتى نصفها في جمراتها، وكان صامتًا شارد النظرة، وفجأة سألته: فيم تُفكِّر يا ترى؟ دائمًا ترى وكأنك مشغول الفكر بأمرٍ ذي بال.

آنس من صوتها ما يُشبه العتاب، فقال: العقل يجد دائمًا ما يشغله.

فرفعت إليه عينيها الصغيرتَين العسليتين كالمتسائلة، ثم قالت في شيء من الحياء: مضى زمن كنا لا نجد وقتًا يتَّسع لحديثنا.

حقًّا؟ ذلك ماضٍ مضى، عهد الدروس الدينية، وقصص الأنبياء والشياطين. عهد تعلُّقه بها لحد الجنون، انقضى ذلك العهد، فيم يتحدَّثان اليوم؟ إلا تكن دردشة لا معنى لها فلا وجه للكلام على الإطلاق. ابتسم كأنما يَعتذِر بابتسامة عن صمته السابق واللاحق معًا، ثم قال: نحن نتكلم كلما وجدنا للكلام موضوعًا.

فقالت برقة: ليس للكلام حدود لمن أراد أن يتكلَّم، ولكنك تبدو غائبًا دائمًا أو كالغائب.

ثم بعد تفكير: أنت تقرأ كثيرًا، في عطلتك تقرأ، كما تقرأ في وقت دراستك، لم تَستوفِ يومًا حظك من الراحة، أخاف أن تكون أتعبت نفسك أكثر مما يَنبغي.

فقال كمال بلهجةٍ دلَّت على أنه لم يُرحِّب بهذا التحقيق: اليوم طويل جدًّا، وقراءة ساعات لا يُمكن أن تُتعب إنسانًا، ليست إلا نوعًا من التسلية، وإن تكن تسلية مفيدة.

فقالت بعد تردُّد: أخاف أن تكون القراءة سبب ما يبدو عليك كثيرًا من الصمت والشرود.

كلا ليست القراءة، القراءة ملاذ من التعب لو تَعلمين، شيء آخر يشغل عقله طيلة الوقت ولا يَسلم منه وقت القراءة نفسه، شيء لا علاج له لا عندها ولا عند غيرنا مِن البشر، إنه مرض قلب يتعبَّد حائرًا، ولا يدري ماذا وراء عنائه يرُوم! قال بمكرٍ: القراءة كالقهوة لا ضرر منها، ألا تُحبِّين أن أصير «عالمًا» كجدِّي؟

فشاعت البهجة والفخار في الوجه المُستطيل الشاحب، وقالت: بلى، إني أودُّ ذلك بكلِّ قلبي، ولكنَّني أحب أن أراك دائمًا مُنشرِح الصدر.

قال باسمًا: إني منشرح الصدر كما تُحبِّين، فلا تشغلي البال بمحض أوهام.

كان يلاحظ أن رعايتها له ازدادت في السنوات الأخيرة أكثر مما ينبغي. وأكثر مما يودُّ، وأن تعلُّقها به، وحدبها عليه، وإشفاقها مما يضرُّه — أو مما تتوهم أنه يضرُّه — باتت شغلها الشاغل إلى حدٍّ ضايَقَه واستفزَّه للذَّود عن حريته وكرامته، بيد أنه لم تغب عنه أسباب هذا التطور الذي بدا عقب مصرع فهمي، وابتلائها بفقده، فلم يُجاوز أبدًا في ذوده عن حريته حدود اللطف والأدب: يسرُّني أن أسمع هذا منك وأن يكون حقًّا وصدقًا، لست أبغي إلا سعادتك، ولقد دعوت لك اليوم في سيدنا الحسين دعاءً أرجو أن يمنَّ الله باستجابته.

– آمين.

ونظر إليها وهي ترفع الكنجة لتملأ فنجانها للمرة الرابعة، فانفرج رُكنا فيهِ عن ابتسامة خفيفة … ذكر كيف كانت زيارة الحسين لديها أمنية في حُكم المستحيل، ها هي اليوم تزورُه كلما زارت القرافة أو السكَّرية، ولكن ما أفدح الثمن الذي دفعتْه نظير هذه الحرية الضئيلة! هو نفسه له أمانيه التي في حكم المُستحيل، فأي ثمن تقتضيه كي تتحقَّق؟ ألا إنَّ أي ثمن — وإن جلَّ — يهون في سبيل ذلك. عاد يقول ضاحكًا ضحكة مُقتضبة: إنَّ لزيارة الحسين ذكرياتٍ لا تنسى.

تحسَّست تُرقوتَها بيديها، وهي تبتسم قائلة: وأثر باقٍ لا يزول.

فقال كمال في شيء من الحماس: لستِ اليوم حبيسة البيت كما كنتُ قديمًا، أصبح من حقك أن تزوري خديجة وعائشة أو سيدنا الحسين كلما أردت، تصوري أي حرمان كنتِ تُمنِّين به نفسك لو لم يفك أبي قيودك!

رفعت إليه عينَيها فيما يشبه الارتباك أو الخجل، كأنما كبر عليها أن تُذكَّر بامتياز نالته نتيجة لثُكلها، ثم أطرقت في وجوم ولسان حالها يقول: «ليتني بقيت كما كنت وبقي لي فقيدي.» غير أنها تحاشَت الإفصاح عما جاش به صدرها إشفاقًا من تَكدير صفوه، وقنعت بأن تقول وكأنها تعتذر عما حظيَت به من حرية: ليس خروجي بين حين وآخر فُرجة أستمتع بها؛ إني أزور الحسين لأدعو لك، وأزور أختيك لأطمئنَّ عليهما، ولأحلَّ مشكلات لا أدري من كان غيري يحلُّها.

فابتده المشكلات التي تَعني، ولما كان يعلم أنها زارت السكرية اليوم، فقد تساءل: هل من جديد في السكرية؟

قالت وهي تتنهَّد: العادة.

هز رأسه أسفًا، وهو يبتسم قائلًا: مخلوقة للنقار، هذه هي خديجة.

قالت أمينة بحزن: قالت لي حماتها: إن أيَّ محادثة معها مخاطرة غير محمودة العواقب.

– الظاهر أن حماتها — نفسها — قد خرفت.

– لها من الكبر أعذار، ولكن ما عذر أختك؟

– ترى أآثَرتْها على الحق أم آثرت الحق عليها؟

وضحك ضحكة ذات مغزى، فتنهَّدت أمينة مرة أخرى، وقالت: أختك حامية الطبع، وسرعان ما تضيق حتى بالنصيحة الخالصة. ويا ويلي إذا جاملت حماتها مراعاة لسنِّها ومكانتها، هنالك تسألني وعيناها تحمارَّان: «أنت معي أم عليَّ؟» لا حول ولا قوة إلا بالله، معي أم عليَّ؟! … هل نحن في حرب يا ابني؟ ومن الغريب أن يكون الحق أحيانًا على حماتها، ولكنَّها تتمادى في الخصام حتى ينقلب الحق عليها هي.

هيهات أن يُسخطه عليها شيء، كانت ولا تزال أمه الثانية، ومورد حنان لا يَنضب، أين منها عائشة الجميلة السادرة التي تشبَّعت بالشوكتية حتى ذؤابتها!

– وعمَّ أسفر التحقيق؟

– بدأ الشجار بالزوج هذه المرة وعلى غير المألوف، دخلت الشقة وهما يتجادلان في عنف حتى عجبت لما أهاج الرجل الطيب، فتدخَّلتُ بينهما بالسلام، ثم عرفت سبب هذا كله، كانت معتزمة أن تنفض الشقة، ولكنه ظل نائمًا حتى التاسعة فأصرَّت على إيقاظه حتى استيقظ غاضبًا، وركبه عناد مُفاجئ فأبى أن يُغادر الفراش. وسمعت والدته الزعق، فجاءت على عجل، وما لبثت النار أن اشتعلت. ولم يكد هذا الشجار أن يَنتهي حتى شبَّ آخر بسبب أحمد الذي عاد من الطريق مُطيِّن الجلباب، فضربته وأرادت أن يستحمَّ من جديد، فاستغاث الولد بأبيه، وتصدَّى الرجل لحمايته، فكان الشجار الثاني في نصف نهار.

وهو يَضحك: وماذا فعلت؟

– بذلت ما في وسعي ولكني لم أسلم، فلامتني طويلًا على وقوفي موقف الوسيط، وقالت لي: كان ينبغي أن تنضمِّي إليَّ كما انضمَّت أمه إليه.

ثم وهي تتنهد لثالث مرة: قلت لخديجة: ألا تذكرين كيف كنت ترينني أمام والدك، فقالت بحدة: «هل تظنين أنه يُوجد رجل مثل أبي في هذه الدنيا؟»

وردت مخيَّلته على غير ميعاد صورة عبد الحميد بك شداد وحرمه سنية هانم، وهما يسيران جنبًا إلى جنب، من الفراندا إلى السيارة المنيرفا المُنتظرة أمام باب القصر، لا سيد ولا مسود، ولكن صديقين متساويين، يَتحادثان في غير كلفة وهي تتأبط ذراعه، حتى إذا بلغا السيارة تنحَّى البك جانبًا حتى تركب هي أولًا. هل يتأتَّى لك أن ترى والدَيك في مثل هذه الصورة؟ يا لها من خاطرة مضحكة! يتحركان في جلال خليق بالمعبودة التي أنجباها، ولو أنَّ الهانم لم تكن دون أمِّه كهولة إلا أنها كانت ترتدي معطفًا نفيسًا آيةً في الذوق والأناقة والغندرة، وتنطلق سافرة الوجه، وجه مليح وإن يكن دون الوجه الملائكي بما لا يقاس، وتنشر فيما حولها شذًى عَطِرًا وروعة آسرة. ودَّ لو يَعلم كيف يتحادثان وكيف يأتلفان، وكيف يتخاصمان إن كانا يتخاصمان. شغفًا بمعرفة حياة تمتُّ إلى حياة معبودته بأوثق الوشائج والصلات. أتذكر كيف كنت تطالعهما بعين المتعبِّد الراني إلى كبار الكهنة والسدنة؟ قال بهدوء: لو تطبعت خديجة ببعض طباعك لضمنت حياة سعيدة.

ابتسمَت أساريرها في سرور، غير أنَّ سرورها ارتطم بالحقيقة المرة، وهي أن طباعها لم تستطع على دماثتها أن تضمن لها السعادة دوامًا، ثم قالت والابتسامة لا تفارق شفتيها لتداري بها أفكارها السوداء التي تُشفق من اطلاعه عليها: هو وحده الهادي، ربنا يَزيد طبعك حلاوة حتى تكون من الذين يُحبُّون الناس ويحبُّهم الناس.

فبادرها متسائلًا: كيف تجدينَني؟

فقالت بإيمان: أنت كذلك، وأكثر.

لكن كيف يتأتَّى لك أن تُحبَّك الملائكة؟ ادعُ صورتها السعيدة وتأمَّل قليلًا. هل يُمكن أن تتخيَّلها مسهدة طريحة حبٍّ وجوى؟ وما أبعد هذا عن خوارق الظنون، إنها فوق الحب ما دام الحب نقصًا لا يُدرك الكمال إلا بالحبيب، اصبر ولا تلوِ قلبك من الألم، حسبُك أن تحبَّ، حسبك منظرها الذي يُشعشع بالنور روحك، وأنغام نبراتها التي تسكر بالتطريب جوارحك، من المعبودة يَنبثِق نور تتبدَّى فيه الكائنات خلقًا جديدًا، الياسمين واللبلاب من بعد صمت يَتناجيان، والمآذن والقباب تطير فوق بساط الشفق صوب السماء، معالم الحي العتيق تَنطِق عن حكمة الأجيال، أوركسترا الوجود تستأنف زفرات الصراصير، الحنان يَفيض من الجحور، الأناقة تُزخرف الأزقة والدروب، عصافير الغبطة تزقزق فوق القبور، الجمادات تَتيه في صمت التأمُّلات، قوس قُزح يتجلَّى في الحصيرة التي تطرح عليها قدميك، هذه دنيا معبودتي.

– كنت مارَّة بالأزهر في الطريق إلى الحسين، فقابلتني مظاهرة كبيرة تهتف بهتافات ذكرتني بالماضي، هل جدَّ جديد يا بني؟

قال: الإنجليز لا يُريدون أن يذهبوا بسلام.

قالت بحدة، وفي عينيها نظرة غضب تبرق: الإنجليز … الإنجليز … متى تنزل عليهم نقمة الله العادل؟

انطوت دهرًا لسعد نفسه عن مثل هذه الكراهية، لولا أن أَقنعها في النهاية بأنه لا يجوز أن يبغضوا شخصًا أحبَّه فهمي، وعادت تتساءل في قلق ظاهر: ماذا تعني يا كمال؟ هل نعود إلى أيام البلاء؟

فقال بامتعاض: لا يَعلم الغيب إلا الله.

فاعتراها ضيق بدا في تقلُّصات وجهها الشاحب، وقالت: اللهمَّ قنا العذاب فلنتركهم لغضب القهار، هذه هي الخطة المُثلى، أما أن نلقي بأنفسنا إلى التهلكة فهو الجنون والعياذ بالله.

– هدِّئي من روعك، لا محيد من الموت، الناس يموتون بسبب أو بآخر، وبلا سبب على الإطلاق.

قالت في استياء: لا أنكر أن قولك حق، ولكن لهجتك لا تُعجبني.

– كيف تُريدين أن أتكلم؟

قالت بصوت مؤثر: أريد أن تُعلن مُوافقتك على أنه من الكفر أن يُعرِّض الإنسان نفسه للتهلكة.

قال في تسليم، وهو يداري ابتسامة: أوافق.

فرمقته بارتياب، وقالت بتوسُّل: وأن تقول ذلك بالقلب لا باللسان.

– بالقلب أتكلَّم.

ما أعظم الفارق بين الواقع والمثال، أنت تتطلَّع بحماس إلى المثَل الأعلى في الدين، والسياسة، والفِكر، والحب. الأمهات لا يفكرن إلا في السلامة، أيُّ أمٍّ تَرضى أن تدفن ابنًا في كل خمسة أعوام؟ لا بدَّ للحياة المثالية من قرابين وشهداء … الجسم والعقل والروح قرابينها، فهمي ضحَّى بحياة واعدة في سبيل ميتة رائعة، فهل تستطيع أن تَلقى الموت كما لقيَه؟ قلبُك لا يتردد عن الاختيار ولو حطَّم قلب هذه الأم التعيسة، ميتة تستنزف جرحًا، وتُضمد جروحًا، يا له من حب! … أجل، ولكنه ليس الذي بيني وبين بدور وأنتِ تعلمين، الحب العجيب حقًّا هو حبي لكِ، هو شهادة للدنيا ضد المتشائمين من خصومها. علمني أن الموت ليس أفظع ما نخاف، وأن الحياة ليست أبهج ما نبتغي، وأن من الحياة ما يغلظ ويفرُّ حتى يلتمس الموت، ومنها ما يرق ويثري حتى يهفو إلى الخلود، ومناداتها لك ما أطربها، بصوت لا تدري كيف تصفه، لا رفيع النبرة ولا غليظها، مثل «فا» السلم الموسيقي المنبعثة من كمان، رنينه في صفاء النور، ولونه لو تخيَّلت له لونًا في زرقة السماء العميقة، دافئ الإيمان، داعية إلى السماء.

١٦

– يوم الخميس القادم سأعقد زواجي متوكلًا على الله.

– ربنا يوفقك.

– سيكون التوفيق من نصيبي إذا رضيَ عني أبي.

– إنه راضٍ عنك، والحمد لله.

– سيَقتصر الحضور على الأهل، ولن تلقى هنالك ما يُضايق حضرتك.

– عظيم، عظيم.

– وددت لو كانت نينة في الحاضرين، ولكن …

– ما علينا، المهم أن تمر الليلة في هدوء.

– لم يغب عنِّي هذا بطبيعة الحال، أنا أَعرَف الناس بطبعك، ولن يعدو اليوم كتابة العقد وشرب الشربات.

– عظيم، ربنا يهديك إلى سواء السبيل.

– كلفت كمال أن يبلغ والدته تحياتي وأن يرجوها عني ألا تحرمني من دعائها الطيب كما عودتني من قديم، وأن تعفو عما كان.

– طبعًا … طبعًا.

– أرجو أن تُكرِّر على سمعي أنك راضٍ عني.

– إني راضٍ عنك، واللهَ أسأل أن يكتب لك التوفيق والفلاح إنه سميع الدعاء.

هكذا سارت الأمور ضد مشيئة السيد أحمد، واضطرَّ إلى مجاراتها أن يَنصدِع ما بينه وبين ابنه، وكان قلبه في الحق أرقَّ من أن يتصدَّى لياسين بخصام جدِّي فضلًا عن القطيعة، فقبل أن يُسلِّم بيدِه ابنه البكر إلى بنت بهيجة، وأن يبارك — بنفسه — العلاقة التي ستضمُّ خليلته السابقة إلى صميم أسرته. بل لم يقبل تدخُّل أمينة حين أعربت له عن رجائها في أن يَمتنع «إخوة فهمي» عن شهود زواج ياسين من مريم، فقال لها بلهجة حاسمة: «فكرة سخيفة، مِن الناس مَن يتزوَّج من أرملة أخيه على حبه والوفاء له، ومريم لم تكن زوجة فهمي ولا حتى خطيبته، وذلك تاريخ قديم مضى عليه ستة أعوام، لستُ أنكر أنه لم يُوفَّق في اختياره، ولكنه حسن النية بقدر ما هو بغل، ولم يُسئ إلى أحد كما أساء إلى نفسه، أسرة كان بوسعه أن يصهر إلى خير منها، وفتاة مُطلقة، الأمر لله، وذنبه على جنبه.» … سكتت أمينة كأنما سلمت بحجته، فإنها وإن كانت اكتسبت مع الأيام السود بعض جرأة تُعينها على الإفصاح عن رأيها للسيد، إلا أنها لم تكن من القوة بحيث تجعلها تراجعه أو تُجادله، ولذلك فعندما زارتها خديجة لتُخبرها بأن ياسين دعاها إلى حضور زواجه، وأنها تفكر في ادعاء المرض لتتخلَّف عن الذهاب، لم توافقها على رأيها، ونصحتها بقبول دعوة أخيها.

وجاء يوم الخميس، فذهب السيد أحمد عبد الجواد إلى بيت المرحوم محمد رضوان، حيث وجد ياسين وكمال — الذي سبقه إليه — في استقباله، ثم لحق بهم بعد قليل إبراهيم شوكت وخليل شوكت مصحوبين بخديجة وعائشة، ولم يكن في البيت من آل مريم سوى بضع نساء، فاطمأن السيد أحمد إلى مرور اليوم بسلام. وكان في طريقه إلى حجرة الاستقبال قد رأى معالم مألوفة في البيت، مر بها من قبل في ظروف جد مختلفة، فهجمت عليه ذكريات الماضي مُحدِثة في نفسه ألوانًا من الاستياء والضجر لسخريتها الصامتة من الدَّور الجديد الذي جاء يمثله كوالدٍ وَقور للعريس، وراح يلعن في سرِّه ياسين الذي أوقعه — وأوقع نفسه وهو لا يدري — في هذا المأزق، غير أن الأمر الواقع حمَلَه على أن يُراجع نفسه ويُمنِّيها قائلًا: إنه ليس على الله بكثير أن يخلق البنت على غير مثال الأم، وأن يجد ياسين في مريم زوجًا صالحة — بكل معنى الكلمة — وأن يقيَه نزَقَ أمها، ثم سأل الله الستر.

وكان ياسين آخذًا زينته، بادي السرور رغم تواضُع الحفل المقام لزواجه، وسَرَّه — على وجه الخصوص — أن لم يتخلَّف أحد من إخوته عن الحضور، وكان يُشفق من أن تؤثر الأم في بعضهم فيتخلف. أكان في وسعه أن يستغني عن مريم إكرامًا لهم؟ كلا، أحبُّها، ولم تجعل هي له من سبيل إليها إلا الزواج فلم يكن من الزواج بد، لم لا؟ ليست اعتراضات والده أو زوجه بعادلة، أو مما يُكترَث لعواقبها. ثم إنَّ مريم أول امرأة يرغب الزواج منها عن معرفة ونظر. وهو إلى هذا متفائل جدًّا بزواجه، ويرجو أن تستقرَّ به حياة زوجية دائمة. أليس كذلك؟ بلى وهو يشعر أنه سيكون زوجًا طيبًا، وستكون زوجة طيبة، وسيجد رضوان في مقبل الأيام بيتًا سعيدًا ينمو فيه وينضج، لقد دار كثيرًا وآنَ له أن يستكنَّ. في غير الظروف التي اكتنفت زواجه لم يكن يتردد عن أن يحتفل به احتفالًا شاملًا لشتى ألوان البهجة والسرور، ليس كهلًا ولا فقيرًا ولا هو ممن «يدَّعون» كراهية الليالي الملاح حتى يَرضى بهذا الحفل الموحش الصامت الذي هو بالمأتم أشبه، ولكن مهلًا، فللضرورة أحكام، وليُزجِ تقشُّفه هذا تحية لذكرى فهمي.

وكان لقاء مريم بخديجة وعائشة — بعد فراق طال أعوامًا — مؤثِّرًا على تحفظه، ولم يخلُ من حرج بيِّن. تبادَلن القبلات والتهاني، وتحادثن طويلًا فشرَّقن وغرَّبن، ولكنهن تجنَّبن الماضي ما استطعن إلى ذلك سبيلًا. وكانت اللحظات الأولى أحرَجها جميعًا. فتوقعت كل واحدة منهن ترديدًا لذكرى ماضية على نحو يُثير عتابًا أو ملامًا، ماذا دعا إلى تقاطعهن أو لِمَ تعكر الجو؟ ولكنها مرت بسلام، ثم وجهت مريم الحديث بلباقة إلى ثياب خديجة ورشاقة عائشة التي لا زالت تحافظ عليها رغم إنجابها ثلاثة، ثم سألت مريم وأمها عن: «الوالدة» فكان الجواب: أنها بخير ولم يزدن حرفًا. ونظرت عائشة إلى صديقتها القديمة بعين ملؤها المودة والحنان، وقلب متعطش إلى حب الناس دوامًا، ولولا إحساس بالإشفاق لساقت الكلام إلى الذكريات الماضية، ولضحكت ملء فيها. أما خديجة فجعلت تسترق إليها نظرات متفحصة، ومع أن مريم ظلت سنوات لا تخطر لها على بال فإن أنباء زواجها من ياسين أطلقت لسانها بالملاحظات المُرة، وراحت تُذكر عائشة بواقعة «الإنجليزي» وتتساءل عما أعمى ياسين وأصمه! على أن شعور خديجة العائلي المرهف الذي يتقدم سائر مزاياها، لم يسمح لها بلَوك شيء من ذلك على مسمع من آل شوكت غير مستثنية زوجها نفسه، حتى نبهت أمها إلى ذلك قائلة: «سواء رضينا أم لم نرضَ فستصبح مريم من أسرتنا!» … ولا عجب فما زالت خديجة حتى بعد إنجاب عبد المنعم شوكت وأحمد شوكت تعدُّ آل شوكت «أغرابًا» لدرجة ما.

وجاء المأذون في مطَّلع المساء، ثم عقد الزواج، ودارت أكواب الشربات، وانطلقَت زغرودة واحدة، وتلقَّى ياسين التهاني والدعوات الصالحات. ودُعيت العروس إلى مقابلة «سيدها الكبير» وآل زوجها، فجاءت مُحاطة بأمها وخديجة وعائشة، وقبَّلت يده، وصافحت الآخرين، وعند ذاك قدم السيد لها هدية الزواج، أسورة ذهبية ذات فصوص دقيقة من الماس والزمرُّد، واستمرَّت الجلسة العائلية وقتًا غير قصير، وحوالي التاسعة أخذ الحاضرون في الانصراف تباعًا، ثم جاء حنطور فحمل العروسين إلى بيت ياسين بقصر الشوق الذي جهَّز دوره الثالث لاستقبال العروس، وظنَّ الجميع أن الستار قد أسدل على الزواج الثاني لياسين بخيره وشره، ولكن حدث بعد ولكن حدث بعد مرور أسبوعين من تاريخ الزواج أن شهد بيت المرحوم محمد رضوان حفلًا آخر لزواج جديد، عدَّ بحق مفاجأة غريبة في بيت السيد أحمد والسكرية وقصر الشوق! بل في حي بين القصرين جميعًا! فعلى حين غرة — ودون سابق إنذار — لم يدرِ الناس إلا وبهيجة تعقد زواجَها على بيومي الشربتلي. عجب الناس لهذا الزواج كل العجب، وكأنما كانوا يفطنون — لأول مرة — إلى أنَّ دكان بيومي الشربتلي تقع على ناصية عطفة بيت آل رضوان تحت إحدى مشربيات البيت العتيدة مُباشرة، فوقفوا أمام هذه الحقيقة يتساءلون. وحق للناس أن يعجبوا؛ فالعروس أرملة رجل عرف في حياته بينهم بالطيبة والتقوى، وهي معدودة من «سيدات» الحي المحترمات رغم ولَعِها بالتبرُّج، فضلًا عن بلوغها الخمسين من عمرها. بينا كان الزوج من العامة ذوي الجلاليب يبيع الخروب والتمر هندي في دكان صغير، ولم يجاوز الأربعين من عمره إلى كونه زوجًا رسخت قدمه في الحياة الزوجية عشرين عامًا، أنجب خلالها تسعًا من الإناث والذكور! كل ذلك أثار القيل والقال، فخاض الناس — دون تورع — في مقدمات الزواج التي لم يشعر بها أحد، متى وكيف بدأت؟ ثم كيف نضجت حتى انتهت بالزواج؟ وأي الطرفين كان البادئ الداعي؟ وأيهما كان المستجيب الملبي؟

قال عم حسنين الحلاق، وكان دكانه يقع في الجانب الآخر من الطريق لصق سبيل بين القصرين إنه كثيرًا ما كان يرى ست بهيجة واقفة أمام دكان بيومي تشرب الخروب، ربما تبادَلا حديثًا قصيرًا، فلا يظن — لحسن نيته — إلا خيرًا … وقال أبو سريع صاحب المقلى، وكان دكانه يتأخر ميعاد إغلاقه عن بقية الدكاكين: بأنه — أستغفر الله — لاحظ مرات أن قومًا يتسللون بليل إلى داخل البيت، ولكنه لم يكن يعلم أن بيومي بينهم. وتكلَّم درويش بائع الفول، وتكلم الفولي اللبان، ومع أنهم تظاهروا بالرثاء للأب المعيل وانتقدوا — بمرارة — الرجل الأخرق الذي تزوج امرأة في سن أمه، فإنهم في قرارة النفس نفسوا عليه حظه، ونقموا عليه ارتفاعه عن طبقتِهم بهذه الحيلة «غير المناسبة»، ثم طال الحديث بعد ذلك عن تقدير «ميراثه» المُنتظَر في البيت، وعن الغنائم المحتملة من نقود وحلي.

أما بيت السيد وبيت السكَّرية، بل وبيت قصر الشوق فقد زُلزلوا زلزالًا شديدًا، يا لَلفضيحة! … هكذا هتفت ألسنتهم، وغضب السيد أحمد غضبًا أرعب آل بيتِه فتجنَّبوا مخاطبته أيامًا متتابعات، أليس من حق بيومي الشربتلي أن يدَّعي قرابته من الآن فصاعدًا؟ ملعون ياسين وملعونة شهواته، بيومي الشربتلي أصبح «عمه»، وأنف الجميع في الرغام، وصاحت خديجة عندما تلقَّت النبأ: «يا خبر أسود!» ثم قالت لعائشة: «مَنْ ذا يلوم نينة بعد الآن؟ إن قلبها لا يكذبها أبدًا!» وأقسم ياسين — بين يدي أبيه — على أن الأمر وقع على غير عِلم منه ولا من زوجه، وأنه أحزنها حزنًا فاق كل تصور، ولكن ما حيلتها؟ ولم تقف الفضيحة عند هذا الحد، فإنه ما كادَت زوجة بيومي الأولى تَعلم بالخبر حتى طاش عقلها، فغادرت بيتها كالمجنونة سائقة أمامها ذريتها جميعًا، ثم انقضَّت على بيومي في دكانه، فنشب بينهما عراك عنيف استعمل فيه اللسان، واليد، والقدم، والزعق، والصراخ على مرأى ومسمع من الأطفال الذين جعلوا يعولون ويستنجدون بالمارَّة حتى تجمهر الناس أمام الدكان السابلة، وأصحاب الدكاكين والنساء والأطفال، فخلَّصوا بين الزوجين، وجرُّوا المرأة جرًّا إلى الطريق، فوقفت تحت مشربية بهيجة مشقوقة الجلباب، ممزقة الملاءة، منفوشة الشعر دامية الأنف، ثم رفعَت رأسها إلى النوافذ المغلقة، وأطلقت لسانها كالسوط المُحمَّلة أطرافه بالرصاص المنقوع في السم. والأدهى من هذا كله أنها برحت موقفها رأسًا إلى دكان السيد أحمد بصفته والد زوج بنت زوجها، وتوسَّلت إليه بلهجة خطابية باكية أن يَستعمل نفوذه لإقناع زوجها في الرجوع عن غيه، فاستمع السيد إليها وهو يَكظم غيظه وحُزنه على ما آل إليه أمره، ثم أفهمها برقة — ما استطاع — أن هذا الأمر كله خارج عن دائرة نفوذه بخلاف ما تتصوَّر، وما زال بها حتى صرفها عن الدكان وهو يَغلي من الحنق، على أنه رغم حنقه فكَّر طويلًا وهو بين الحيرة والتساؤل فيما دفع بهيجة إلى هذا الزواج الغريب، خاصة وهو يعلم علم اليقين أنه لم يكن يعزُّ عليها إرضاء قلبها لو كان به رغبة إلى بيومي الشربتلي دون حاجة إلى تعريض نفسها وآلها لشتى القلاقل بالاقتران منه. لم أقدمَت على هذه الحماقة؟ غير مُبالية بزوج الرجل وعياله، ولا عابئة بعواطف ابنتها وآلها الجُدُد كأنما قد أصابها مس، ألا يكون الإحساس المحزن بالكبر هو الذي جعلها تفزع إلى الزواج! بل والتضحية بكثير مما تملك جريًا وراء سعادة كان يضمنها لها الشباب الذي تخلَّى عنها؟ تأمل هذه الفكرة في حزن واكتئاب، وذكر مذلَّته بين يدي زنوبة العوادة التي أبت أن تجود عليه بنظرة عطف حتى حملها إلى العوامة، تلك المَذلة التي زعزعت ثقتَه بنفسه وحملته — على طمأنينته الظاهرة — على التجهُّم للزمان الذي سبق فتجهمه.

على أيِّ حال لم تتمتع بهيجة بزواجها طويلًا.

مع نهاية الأسبوع الثالث منه شكَت دملًا في ساقها، ثم تبين بالكشف الطبي أنها مصابة بمرض السكر فنُقلَت إلى قصر العيني، وترامت الأخبار عن خطورة حالها أيامًا، ثم وافاها الأجل المحتوم.

١٧

أمام سراي آل شداد وقف كمال متأبِّطًا حقيبة صغيرة، في بدلة رمادية أنيقة، وحذاء أسود لامع، وقد استقام طربوشه فوق رأسه الكبير … بدا طويلًا ونحيفًا، وبرز عنقه من فوق بنيقة القميص غير عابئ بحمل الرأس الكبير والأنف العظيم. وكان الجو لطيفًا تتخلَّله نسائم باردة تُؤذِن باقتراب ديسمبر، وكان في السماء سحاب متفرِّق ناصع البياض، يتحرَّك وانيًا فيحجب شمس الصباح حينًا بعد حين. وقف كمال وقفة المنتظر وعيناه متجهتان نحو الجراج، حتى خرجت منه الفيات يسوقها حسين شداد ثم دارت في شارع السرايات ووقفت أمامه، وأخرج حسين شداد رأسه من نافذتها وهو يسأل كمال: ألم يَجيئا بعد؟

نفخ في البوق ثلاثًا، ثم عاد يقول وهو يفتح الباب: تعالَ اجلس إلى جانبي.

ولكن كمال اكتفى بإدخال الحقيبة وهو يُغمغم: «صبرًا!» وترامى إليه صوت بدور من ناحية الحديقة، فالتفت صوبه فرآها مقبلة تركض وفي أثرها عايدة … أجل، المعبودة، تخطر بقوامها البديع في فستان سنجابي قصير على أحدث موضة، توارى أعلاه تحت دراعة من الحرير كحلية اللون كشفَت عن ساعدَيها الخمريتَين الصافيتَين، وكانت هالة شعرها الأسود تُحدق بقذالتها وعارضَيها، وتنوس بحركة مشيتها نوسانًا تموجيًّا، أما أسلاك قُصَّتها الحريرية فاستكنت على الجبين كأسنان المشط، وفي وسط هذه الهالة بدا الوجه البدري في طابع من الحسن أنيق ملائكي كأنه سفير سامٍ لدولة الأحلام السعيدة. تسمر في موضعه تحت تأثير التيار المغناطيسي، على حال بين اليقظة والنوم، ولم يبقَ من الدنيا في وعيه إلا عاطفة امتنان وجيشة وجدان، وجعلت هي تقترب في خفة وتبختُر كأنها نغمة حلوة مجسَّمة حتى سطَعه من أعطافها عبير باريسي، ولما التقت الأعين لمعت في ناظريها وشفتيها المضمومتين ابتسامة موسومة بالبشاشة والهدوء والأرستقراطية معًا، فردَّ عليها كمال بابتسامة حائرة وسجدة من رأسه. عند ذاك خاطبها حسين قائلًا: اجلسي أنت وبدور في المقعد الخلفي.

تأخر كمال خطوة ففتح باب السيارة الخلفي، ووقف مُنتصِب القامة كأحد الحاشية، فكانت مكافأته ابتسامة وكلمة شكر بالفرنسية، وانتظر حتى دخلت بدور فالمعبودة، ثم أغلقه واندس إلى جانب حسين. ونفخ حسين مرة أخرى وهو ينظر صوب القصر، فما لبث أن جاء البواب حاملًا سلة صغيرة فوضعها لصق حقيبة كمال فيما بينه وبين حسين، فقال الأخير ضاحكًا وهو ينقر بأصبعه على السلة والحقيبة: ما جدوى رحلة بلا طعام؟

وزمجرت السيارة وهي تتحرَّك، ثم انطلقت إلى شارع العباسية وحسين شداد يقول مخاطبًا كمال: عرفتُ عنك أشياء كثيرة، اليوم يُتاح لي أن أضيف إليها معلومات جديدة عن معدتك، ويبدو لي أنك رغم نحافتك أكول، فهل تُراني مخطئًا؟

فقال كمال باسمًا، وكان سعيدًا منشرحًا فوق مطمح البشر: انتظر حتى تَعرف بنفسك.

سيارة واحدة تحملهما معًا، مشاركة من نوع ما تعزُّ فيما عدا الأحلام، تهمس الأماني: لو جلست أنت في المقعد الخلفي، وجلست هي في المقعد الأمامي؛ لملأت عينيك منها طوال الطريق ولا رقيب، لا تكن طماعًا جحودًا، واسجد حمدًا وشكرًا، استنفذ رأسك من شتى الفكر، وخلص نفسك من تيار الوجد، وعش بكل وعيك في الساعة الراهنة، أليسَت ساعة بالعمر أو أكثر؟

– لم أستطع أن أدعو حسن وإسماعيل إلى رحلتنا هذه.

نظر كمال إليه كالمتسائل دون أن يَنبس، بيد أن قلبه خفق في سرور وحياء لهذا الامتياز الذي خصَّ به وحده، على حين استطرد حسين قائلًا بلهجة المُعتذر: السيارة كما ترى لا يُمكن أن تتسع للجميع.

فقال كمال بصوتٍ خافت: هذا واضح.

فعاد الآخر يقول باسمًا: وإذا لم يكن من الانتخاب بُد فانتخبْ مَن يُشابهك. ولا شك أن ميولنا متقاربة في هذه الحياة، أليس كذلك؟

فقال كمال بوجهٍ وشَت أساريره بالفرحة التي غمرت قلبه: بلى!

ثم وهو يضحك: غير أني قانع بالرحلة الروحية، أما أنت فيبدو أنك لن تقنع حتى تصل الرحلة الروحية بالرحلة حول الأرض.

– ألا تهفو نفسك إلى السياحة في جنبات الأرض الواسعة؟

فَكَّر كمال قليلًا، ثم قال: يُخيَّل إليَّ أني مطبوع على حب الاستقرار وكأني أجفل من فكرة الرحلات، أعني من الحركة والاضطراب لا من الرؤية والاستطلاع، وددت لو كان من الميسور أن يطوف بي العالم حيث أنا.

ضحك حسين شداد ضحكته اللطيفة المنبعثة من القلب، وقال: قف في منطادٍ ثابت إن استطعت، وانظر إلى الأرض وهي تدور من تحتك.

تملَّى كمال ضحكة حسين اللطيفة الجذابة مليًّا، فوردت ذهنه صورة حسن سليم، وراح يُقارن بين هذين اللونين من الأرستقراطية: أحدهما يَمتاز باللطف والبشاشة، والآخر يتَّسم بالتحفظ والكبرياء، وكلاهما بعد ذلك جليل. وقال كمال: من حسن الحظ أنَّ الرحلات الفكرية لا تقتضي التنقُّل حتمًا.

فرفع حسين شداد حاجبَيه فيما يُشبه الشك، غير أنه عدل عن متابعة الموضوع قائلًا بابتهاج: المهم الآن أننا نقوم برحلة قصيرة معًا، وأنَّ ميولنا متقاربة في هذه الحياة.

وما يَدري إلا والصوت العذب يجيء من الوراء قائلًا: وبالاختصار فإنَّ حسين يُحبك كما تحبك بدور.

نفذت هذه الجملة المعطرة بالحب الملحَّنة بالصوت الملائكي في قلبه فطيَّرته نشوة وطربًا، كالنغمة الساحرة التي تندُّ فجأة في تضاعيف أغنية فوق المنتظر والمألوف والمتخيل من الأنغام، فتترك السامع بين العقل والجنون. المعبود يعبث بألفاظ الحب سادرًا، يُلقيها عليك غافلًا عن أنه يُلقي مغنسيومًا على قلب يَحترق، استرجع صداها لتستعيد رنين الحب في أوتار ثغره، والحب لحنٌ قديم غير أنه يُضحي جديدًا عجبًا في ترنيمة خالقة، يا إلهي! إنني أفنى من فرط السعادة، قال حسين معلقًا على قول أخته: عايدة تُترجم أفكاري بلغتها النسائية الخاصة.

انطلقت السيارة إلى السكاكيني فإلى شارع الملكة نازلي، ثم إلى شارع فؤاد الأول، ومنه مرقت إلى الزمالك في سرعة عدها كمال جنونية: في السماء غيم، ولكنَّا في حاجة إلى مزيد منه لنضمن نهارًا سعيدًا في سفح الهرم.

وعلا الصوت البديع وهو يخاطب بدور فيما بدا قائلًا: انتظري حتى نصل إلى الهرم، وهنالك اجلسي معه كيفما يحلو لك.

فسألها حسين ضاحكًا: ماذا تُريد بدور؟

– تريد يا سيدي أن تجلس مع صاحبك!

صاحبك! لِمَ لَمْ تقولي «كمال»؟ هلا أسعدت الاسم بما لا يَطمح إليه صاحبه؟ وخاطبه حسين قائلًا: أمس سمعها بابا وهي تسألني: هل يجيء معنا أنكل كمال إلى الهرم؟ فسألني من يكون كمال؟ ولما أجبته سألها: «أتحبين أن تتزوجي أنكل كمال؟» فأجابته بكل بساطة «نعم!»

فالتفت كمال إلى الوراء، ولكنها تراجعت حتى التصقت بمسند المقعَد، وأخفت وجهها في كتف أختها، فتزود كمال من الوجه البديع بنظرة خاطفة، ثم أعاد رأسه، وهو يقول بلهجة الرجاء: لعلَّها عند الجد لا تنسى كلمتها.

ولما بلغت السيارة طريق الجيزة ضاعف حسين من سرعتها فعَلا أزيزُها، وساد الصمت، رحَّب كمال بالصمت ليفرغ إلى نفسه، ويتملَّى سعادته. كان أمس حديث الأسرة فاختاره ربها زوجًا للصغيرة، يا أغاريد الزهور والسعادة، احفظ عن ظهر قلب كل كلمة تقال … املأ نفسك بعبير باريس، زود أذنك بالهديل والبغام. علَّك تعود إليها إذا عادت ليالي السهاد، كلمات المعبودة عاطلة عن حكمة الحكماء ودرر الأدباء، فما بالها تهزُّك حتى الأعماق، وفي فؤادك تفجر ينابيع السعادة! هذا الذي جعل السعادة سرًّا تتيه فيه العقول والأفهام، أيها المجدُّون اللاهثون وراء السعادة إني وجدتها في الكلمة الفارغة، والرطانة الغامضة، والصمت أيضًا، وفي لا شيء. رباه ما أعظم هذه الأشجار الباسقة على الجانبَين! تَتعانق أعاليها فوق الطريق فتنتشر سماء من الخضرة اليانعة، وهذا النيل الجاري مكتسيًا من وشي الشمس غلالة من اللآلئ، متى رأيت هذا الطريق آخر مرة؟ في رحلة إلى الهرم وأنا في السنة الثالثة، في كل رحلة عاهدت نفسي بالعودة إليه منفردًا، وراءك تجلس من ترى بوحيِها كل شيء جديدًا جميلًا، حتى مجرى الحياة الأثرية في الحي العتيق، هل لك أمنية فوق ما أنت فيه؟ … نعم، أن تُواصل السيارة انطلاقها على هذه الحال التي نحن عليها إلى الأبد، رباه، أهذا هو الجانب الذي طالما أعياك وأنت تتساءل عما تُريد من هذا الحب؟ هبط عليك من وحي الساعة يكتنفه المحال، اسعد بالساعة المتاحة، ها هو الهرم يلوح من بعيد صغيرًا، وعما قليل تقف عند قدميه كالنملة عند أصل الشجرة الفارعة.

– نحن ذاهبون إلى زيارة قرافة جدنا الأول.

فقال ضاحكًا: لنقرأ الفاتحة بالهيروغليفية.

فقال حسين ساخرًا: وطنٌ أجلُّ مخلفاته قبور وجثث … (وهو يُشير صوب الهرم) انظر إلى الجهد الضائع.

قال كمال بحماس: ذلك الخلود.

– أوه … سوف تنشط كعادتك للدفاع، أنت وطنيٌّ لحد المرض، نحن نختلف في هذا، ربما كان أحب إليَّ أن أكون في فرنسا من أن أكون في مصر.

فقال كمال وهو يواري ألمه تحت ابتسامة رقيقة: ستجد هنالك الفرنسيين أعظمَ أمم الأرض وطنية!

– نعم، الوطنية مرض عالَمي، لكني أحب فرنسا نفسها، وأحب في الفرنسيين مزايا لا تمتُّ إلى الوطنية بسبب.

هذا محزن مُؤسف حقًّا بيد أنه لا يثير حفيظته؛ لأنه صادر عن حسين شداد. إسماعيل لطيف يحنقه أحيانًا باستهانته، حسن سليم يُغضبه أحيانًا بتكبره، أما حسين شداد فيحظى برضاه على أي حال من الأمر.

وقفت السيارة غير بعيد من سفح الهرم الأكبر منضمَّة إلى صف طويل من السيارات الفارغة، ولاح خَلق كثيرون هنا وهناك، تفرقوا جماعات صغيرة، ومنهم من امتطى حمارًا، أو جملًا، أو تسلق الهرم، غير باعة ومكَّاريين وجمالين، أرض واسعة لا تُحدُّ إلا أن الهرم انطلق في وسطها كمارد خرافي، أما تحت المنحدر من الناحية الأخرى فقد ترامت المدينة، رءوس أشجار وخط مياه وأسطح عمارات، ترى أين يقع بين القصرين من هذا كله؟ والبيت القديم؟ أين أمه وهي تسقي الدجاج تحت سقيفة الياسمين؟

– فلنترك كل شيء في السيارة لنتجوَّل أحرارًا.

غادروا السيارة، ومضوا صفًّا واحدًا بدأ من السيارة بعايدة فحسين ثم بدور، وأخيرًا كمال الذي أمسك بيد صديقته الصغيرة، وطافوا بالهرم الأكبر متصفِّحين أركانه، ثم أوغلوا في الصحراء، وكانت الرمال تُقاوم أقدامهم فتُعرقل انطلاقهم، غير أن الهواء هفا لطيفًا مُنعشًا، وراوحت الشمس بين الظهور والاختفاء، وانتشرت تجمعات السحب في آفاق السماء ترسم في اللوحة العلية صورًا تلقائية تعبث بها يد الهواء كيفما اتفق. قال حسين وهو يملأ رئتيه بالهواء: جميل … جميل …

ورطنت عايدة بالفرنسية، فأدرك كمال بمعلوماته المحدودة في تلك اللغة أنها تُترجم قول أخيها، وكانت الرطانة عادة مألوفة لديها، فخفَّفت من غلوائه في التعصب للغته القومية من ناحية، وفرضت نفسها على ذوقه كأمارة من أمارات الحسن النسائي من ناحية أخرى. قال كمال بتأثُّر، وهو يتأمل ما حوله: جميل حقًّا، سبحان الله العظيم.

فقال حسين ضاحكًا: إنك تجد دائمًا وراء الأمور إما الله، وإما سعد زغلول.

– أظن أنه لا خلاف بيننا فيما يتعلَّق بالأول!

– ولكن دأبك على ذكره يضفي عليك مسحة دينية خاصة كأنك من رجال الدين، (ثم بلهجة تسليم) فيم العجب وأنت من حيِّ الدين؟

أتكمن وراء هذه الجملة سُخرية ما؟ وهل يمكن أن تشاركه عايدة في سخريته؟ ترى ما رأيهما في الحي القديم؟ وبأي عين تنظر العباسية إلى بين القصرين والنحَّاسين؟ هل مسَّك الخجل؟ مهلًا إن حسين لا يكاد يبدي أي اهتمام بالدين، المعبودة فيما يبدو أقل اهتمامًا منه، ألم تَقُل يومًا: إنها تحضر دروس الدين المسيحي في الميردي دييه، وأنها تشهد الصلاة وتترنَّم بأناشيدها؟ ولكنها مسلمة، مسلمة رغم أنها لا تعرف عن الإسلام شيئًا يُذْكَر! ما رأيك في هذا؟ أحبُّها، أحبها لحد العبادة، وأحب دينها رغم وخز الضمير، أعترف بهذا مُستغفرًا ربي.

أشار حسين بيده إلى ما يحيط بهم من آي الجمال والجلال، ثم قال: هذا ما يستهويني حقًّا، أما أنت فمجنون بالوطنية. قارن بين هذه الطبيعة الجليلة وبين المظاهرات، وسعد، وعدلي، واللوريات المحمَّلة بالجنود!

فقال كمال باسمًا: الطبيعة والسياسة كلتاهما شيء جليل.

تساءل حسين فجأة كأنما قد تذكر بتداعي المعاني أمرًا هامًّا: كدتُ أنسى، لقد استقال زعيمك.

فابتسم كمال ابتسامة حزينة ولم يُجب، فقال الآخر بقصد إغاظته: استقال بعد أن ضيَّع السودان والدستور، هه؟

قال كمال بهدوء لم يكن يُنتظَر منه في غير هذه الظروف: كان قتْل سير لي ستاك باشا ضربة موجهة إلى وزارة سعد.

– دعني أُكرِّر على سمعك ما قاله حسن سليم، قال: إن هذا الاعتداء مظهر للكراهية التي يضمرها البعض — ومنهم القتلة — للإنجليز، وسعد زغلول هو المسئول الأول عن تهييج هذه الكراهية.

كظم كمال الغيظ الذي أثاره «رأي» حسن سليم في نفسه، وقال بالهدوء الواجب في حضرة المعبودة: هذا هو رأي الإنجليز، ألم تقرأ برقيات الأهرام؟ فليس عجيبًا أن يُردِّده الأحرار الدستوريون، إنَّ من مفاخر سعد أن يُثير العداوة ضد الإنجليز.

تدخلت عايدة مُتسائلة، وفي عينيها نظرة عتاب أو تحذير مازجتها ابتسامة جذابة: رحلة أم سياسة؟

فأشار كمال إلى حسين، وهو يقول معتذرًا: إليكِ المسئول عن فتح هذا الموضوع.

فقال حسين ضاحكًا، وهو يتخلَّل شعره الحريري الأسود بأصابعه الرشيقة: رأيت أن أقدم تعزيتي في استقالة الزعيم، هذا كل ما هنالك.

ثم متسائلًا بلهجة جدية: ألم تَشترِك في المظاهرات الخطيرة التي كانت تقوم في حيِّكم على عهد الثورة؟

– كنتُ دون السن القانونية.

فقال حسين بلهجة لم تخلُ من سخرية لطيفة: على أيِّ حال تعد واقعة دكان البسبوسة اشتراكًا في الثورة.

وضحكوا جميعًا، حتى بدور اشتركت في الضحك محاكاةً لهم، فصدر عنهم أوركسترا رباعي مكون من بوقين وكمان وصفارة، وبعد هنيهةِ صمْت، قالت عايدة كأنما لتدافع عنه: كفاية أنه فقَدَ أخاه!

فقال كمال مدفوعًا بشعور الفخار الذي دبَّ في قلبه، واستزادة من عطفهما: أجل فقَدْنا خير أسرتنا.

فعادت تُسائله باهتمام: كان في الحقوق … أليس كذلك؟ كم كان يكون عمره لو عاش حتى الآن؟

– كان يكون في الخامسة والعشرين … (ثم بلهجة أسيفة) … كان نابغةً بكل معنى الكلمة.

فقال حسين، وهو يُفرقع بأصبعيه: كان! … هذه هي الوطنية، كيف تتعلَّق بها بعد ذلك؟

فقال كمال باسمًا: سوف نكون جميعًا في خبر كان، ولكن شتان بين ميتة وميتة.

فرقع حسين بأصبعه مرة أخرى دون تعليق، يبدو أنه لا يرى في قوله معنى، ماذا أقحم حديث السياسة عليهم؟ لم يَعُد به ما يَسر، شغل الشعب بعداواته الحزبية عن الإنجليز، سحقًا لهذا كله، يَخلُق بمن يتنسَّم الفردوس ألا يكرب صدره بهموم الأرض، ولو إلى حين، أنت تَمشي في معية عايدة في صحراء الهرم، تأمل هذه الحقيقة الرائعة، واهتف بها حتى تسمع بُناة الهرم، معبود وعابده يسيران معًا فوق الرمال، العابد من شدة الوله يكاد يذروه الهواء، والمعبود يتسلى بعدِّ الحصى، لو كان مرض الحب مُعديًا، ما باليت بآلامه، الهواء يهفو بأهداب فستانها، ويتخلل هالة شعرها، ويسري في أعماق صدرها … ألا ما أسعد الهواء! أرواح العاشقين فوق الهرم تُبارك القافلة، معجبة بالمعبود، راثية للعابد، مردِّدة بلسان الزمان: ليس أقوى من الموت إلا الهوى، تراها على بعد أشبار منك، ولكنها في الحق كالأفق تخاله منطبقًا على الأرض، وهو في ذروة السماء يُحلِّق … كم مُنِيَت النفس بأن تمس في هذه الرحلة راحتها، ولكن يبدو أنك ستَرحل عن هذه الدنيا قبل أن تعرف مسها، لم لا تكون شجاعًا فتهوي إلى انطباعة قدمها فوق الرمال فتلثمها؟ … أو تأخذ منها حفنة فتجعلها حجابًا يقي من آلام الحب في ليالي الفكر؟ وا أسفاه! كل الدلائل تشير إلى أنه لا اتصال بالمعبود إلا بالتراتيل أو الجنون، فرتِّل أو جُنَّ.

شعر باليد الصغيرة تجذب يده، فنظر إليها، فرفعت نحوه ذراعيها داعيه إياه إلى حملها، فانحنى فوقها ثم رفعها بين يديه، غير أن عايدة قالت معترضة: كلا، بدأ التعب يساورنا، فلنَسترح قليلًا.

على صخرة عند رأس المنحدر المُفضي إلى أبي الهول جلسوا على نفس الترتيب الذي ساروا عليه، مدَّ حسين ساقيه غارزًا كعبيه في الرمال، جلس كمال واضعًا رجلًا على رجل ضامًّا بدور إلى جنبه، على حين قعَدَت عايدة إلى يسار أخيها فتناولت مشطَها، وراحت تُسرِّح شعرها وتُربِّت خصلاته بأناملها.

وحانت من حسين نظرة إلى طربوش كمال، فسأله مُنتقِدًا: لماذا تلبس الطربوش في هذه الرحلة؟

فنزع كمال طربوشه ووضعه في حِجره قائلًا: ليس من المألوف عندي أن أسير بدونه.

فضحك حسين قائلًا: إنك مثال طيب للرجل المُحافظ.

تساءل كمال: ترى هل يعني بقوله مدحًا أم ذمًّا؟ وأراد أن يستدرجه للإيضاح، ولكن عايدة مالت إلى الأمام قليلًا مُلتفتة نحوه لتلقي نظرة على رأسه فنسى ما كان بسبيله، وتحول انتباهه إلى منطقة الرأس في قلق. إن رأسه يبدو الآن حاسرًا فيَكشف عن ضخامته، ويعرض شعره الأجرد العاطل عن الزينة، وها هما العينان الجميلتان تَرنُوان إليه، فأيُّ أثر يعكسه عليهما؟ تساءل الصوت الموسيقي: لماذا لا تُربي شعر رأسك؟

سؤال لم يخطر له على بالٍ من قبل، هكذا رأس فؤاد جميل الحمزاوي، وجميع الرفاق بالحي العتيق، ياسين لم يُرَ يطلق شعره وشاربه حتى توظَّف، هل يتصوَّر أن يَلقى أباه كل صباح على مائدة الفطور بشعر مُصفَّف؟

– ولم أُربِّيه؟

فتساءل حسين مُفكِّرًا: ألا يكون أجمل؟

– ليس هذا بذي بال.

حسين ضاحكًا: يُخيَّل إليَّ أنك خُلقتَ لتكون معلمًا.

مدح أم ذم، على أي حال ليهنأ رأسك بالرعاية السامية.

– أنا خُلِقت لأكون طالبًا.

– جواب جميل … (ثم رفع طبقة صوته مُتسائلًا) … لمْ تُحدثني عن مدرسة المعلمين حديثًا شافيًا، كيف وجدتها بعد مرور ما يَقرُب من الشهرين؟

– أرجو أن تكون مدخلًا لا بأس به للدنيا التي أتطلَّع إليها، وتُراني أحاول الآن أن أعرف عن سبيل الأساتذة الإنجليز معاني للكلمات المحيِّرة مثل «أدب» و«فلسفة» و«فكر».

– هذه هي الثقافة الإنسانية التي نتطلَّع إليها.

فقال كمال بحيرة: ولكنها خضمٌّ مُضطرب فيما يبدو، ينبغي أن نعرف الحدود، ينبغي أن نعرف ما نُريد على نحو أوضح إنها مُشكلة.

لاح الاهتمام في عيني حسين الجميلتَين وهو يقول: الأمر بالنسبة إليَّ لا يُعدُّ مشكلة، إني أقرأ قصصًا ومسرحيات فرنسية مُستعينًا بعايدة على فهم الصعب من نصوصها. وأستمع معها أيضًا إلى مُختارات من الموسيقى الغربية تَعزف هي بعضها بمهارة على البيانو، وقد طالعت أخيرًا كتابًا يُلخِّص الفلسفة الإغريقية في يُسرٍ وسهولة، لستُ أبغي إلا السياحة للعقل والجسم، أما أنت فتريد أيضًا أن تكتب، وهذا يقتضيك أن تعرف الحدود والأهداف.

– الأدهى من ذلك أنني لا أدري فيم أكتب على وجه التحديد!

تساءلت عايدة بلهجة باسمة: أتُريد أن تكون مؤلفًا؟

فقال وهو يتلقَّى موجة عالية من السعادة التي عزَّت على البِشر: ربما.

– شاعرًا أم ناثرًا؟ … (وهي تَميل إلى الأمام لتتمكَّن من رؤيته) … دعني أخمِّن بفراستي.

استنفدت الشعر في مُناجاة طيفك، الشعر لغتك المقدَّسة فلا أمتهنه، غاضت دموعي يَنابيعه في سواد الليالي، ما أسعدني في مرمى ناظريك وما أتعسَني، إني أحيا تحت نظرتك كما تحيا اليابسة بمُقلة الشمس.

– شاعر، أجل أنت شاعر.

– حقًّا؟ كيف عرفتِ هذا؟

اعتدلت في جلستها، فندَّت عنها ضحكة خافتة كأنها وسوسة الأماني، ثم قالت: الفراسة بداهة، فكيف تُطالب بتفسير لها؟

– إنها تعبث.

قال حسين ذلك وهو يضحك، فبادرت تقول: كلا، إذا كان الشاعر لا يُعجبك فلا تَكُنه.

النحلة فطرتها الطبيعة مَلِكة، البستان مغناها، رحيق الزهر شرابها، الشهد نفثُها، وجزاء الآدمي الطائف بعرشها … لسعة … لكنها قالت: «كلا!» عادت تسأله: هل قرأت من القصص الفرنسية شيئًا؟

– بعض ما تُرْجِم عن ميشيل زيفاكو، لا أستطيع أن أقرأ الفرنسية كما تعلمين.

فقالت بحماس: لن تكون مؤلِّفًا حتى تُتقن الفرنسية، اقرأ بلزاك وجورج صاند، ومدام دي ستال ولوتي، واكتب بعد ذلك قصة.

فقال كمال باستنكار: قصة؟ إنها فنٌّ على الهامش، إنما أتطلَّع إلى عملٍ جدي.

فقال حسين جادًّا: القصة في أوروبا عملٌ جدِّي، ثمة كتَّاب يتفرغون لها دون غيرها من فنون الكتابة فترفعهم إلى درجة الخالدين. لست أهرف بما لا أعرف، ولكن أستاذ اللغة الفرنسية أكد لي ذلك.

هز كمال رأسه الكبير في شك، فاستطرد حسين قائلًا: حاذِر أن تُغضب عايدة، إنها قارئة مُعجَبة بالقصة الفرنسية، بل إنها بطلة من بطلاتها.

فمال كمال إلى الأمام قليلًا، ومدَّ إليها بصره ليقرأ أثر قول حسين فيها مُغتنمًا الفرصة المتاحة ليملأ عينيه من منظرها البهيج، ثم تساءل: كيف كان ذلك؟

– إن القصة تستغرقها استغراقًا غريبًا، فرأسها مُفعَم بحياة خيالية، مرة رأيتها تختال أمام المرآة، فسألتها عما بها؟ فأجابتني: «هكذا كانت تسير أفروديت على ساحل البحر بالإسكندرية!»

قالت عايدة وهي تُقطب تقطيبة باسمة: لا تُصدِّقه، إنه أغرق منِّي في الخيال، ولكنه لا يرتاح حتى يرميني بما ليس فيَّ.

أفروديت؟ … ما أفروديت يا معبودتي؟ يُحزنني وحقِّ كمالك أن تتخيَّلي نفسك في صورة غير ذاتك.

قال بإخلاص: لا عليك من هذا، إنَّ أبطال المنفلوطي وريدر هجارد يستأثرون بخيالي.

فضحك حسين ضحكة رائعة، وهو يهتف: ما أحرى أن يجمعنا كتاب واحد! لماذا نَبقى على الأرض ما دمنا نهفو هكذا إلى الخيال؟ عليك أنت أن تُحقِّق هذا الحلم، لستُ كاتبًا ولا أريد أن أكون كاتبًا، ولكن في وسعك أنت أن تجمعنا إذا شئت في كتاب واحد.

عايدة في كتاب تكون أنت مؤلِّفه، صلاة، أم تصوف، أم جنون؟

– وأنا؟

علا صوت بدور فجأةً متسائلًا في احتجاج فضج ثلاثتهم بالضحك، وقال حسين في لهجة تنبيه: لا تنسَ أن تحجز مكانًا لبدور.

فقال كمال وهو يضمُّ الصغيرة بساعده في حنان: ستكونين في الصفحة الأولى.

تساءلت عايدة وهي ترمي بناظرَيها إلى الأفق: ماذا تكتب عنا؟

لم يدرِ ماذا يقول، فدارى ارتباكه بضحكة وانية، ولكن حسين أجاب عنه قائلًا: كما يكتب المؤلفون، قصة غرامية عنيفة تَنتهي بالموت أو الانتحار. يقذفون كرة قلبك بالأقدام وهم يَلعبون.

– أرجو أن تكون هذه النهاية من نصيب البطل وحده.

قالت عايدة ذلك ضاحكة.

البطل أعجز من أن يتصوَّر معبوده فانيًا. وتساءل: هل حتم أن تنتهي بالموت أو الانتحار؟

فأجاب حسين ضاحكًا: هي النهاية الطبيعية لقصة غرام عنيف.

فرارًا من الألم أو ضنًّا بالسعادة تراءى الموت أمنية. قال كالساخر: شيء مؤسف حقًّا.

– ألم تكن تعرف هذا؟ يبدو أنك لم تُجرِّب الغرام بعد.

من لحظات الحياة الحية لحظة يقوم البكاء فيها مقام البنج في العملية الجراحية. وعاد حسين يقول: المهمُّ عندي ألا تنسى أن تحجز لي مكانًا أيضًا في كتابك ولو كنت بعيدًا عن الوطن.

حدجه كمال بنظرة طويلة، ثم سأله: ألا تزال تُراودك فكرة السفر؟

فانساب الجد في لهجة حسين شداد، وهو يقول: كل ساعة، أريد أن أحيا، أريد أن أسيح على وجهي طولًا وعرضًا وارتفاعًا وعمقًا، ثم ليأتِ الموت بعد ذلك.

وإن جاء قبل ذلك؟ هل يمكن أن يحدث هذا؟ ما للحزن يكاد أن يَقتلك؟ أنسيت فهمي؟ الحياة لا تُقاس بالطول والعرض دائمًا، كانت حياتك لمحةً ولكنها كانت كاملة، أو فما جدوى الفضيلة والخلود؟ لكنك حزين لسبب آخر، كأنما عزَّ عليك أن يهون فراقك على الصديق المتشوِّق إلى السفر، كيف تكون دنياك من بعده؟ كيف تكون إذا حال رحيله بينك وبين قصر الحبيب؟ ما أكذب ابتسامة اليوم، إنها الآن قريبة صوتها في أذنك وعبيرها في أنفك، فهل تستطيع أن توقف عجلة الزمن؟ هل تعيش بقية العمر حائمًا من بعيد حول القصر كالمجانين.

– إن أردت رأيي فأجِّل سفرك حتى تتم دراستك.

فقالت عايدة بحماس: هذا ما قاله له بابا مرارًا.

– هو الرأي الصواب.

فتساءل حسين متهكمًا: أمن الضروري أن أحفظ المدني والروماني كي أتذوَّق جمال دنياي؟

عادت عايدة تخاطب كمال قائلة: شدَّ ما يسخر أبي من أحلامه، إنه يتمنَّى أن يراه قضائيًّا أو عاملًا معه في دنيا المال.

– القضاء … المال! لن أكون قضائيًّا، حتى إذا نلت الليسانس، وفكرت جديًّا في اختيار وظيفة فسيكون السلك السياسي وجهتي، أما المال فهل تَطمعون في مزيد منه؟ إننا أغنى مما يطيق الإنسان.

ما أعجب أن تكون ثروة الإنسان أعظم مما يُطيق؟! قديمًا تخيلت أن تكون تاجرًا كأبيك وأن تملك خزانة كخزانته، لم تَعُد الثروة من أحلامك، ولكن ألا تتمنى أن تكون قادرًا على تجريد نفسك للمغامرات الروحية؟ ما أتعس حياة تستغرقها مطالب الرزق!

– إن أسرتي جميعًا لا تفهم آمالي، يرونني طفلًا مدللًا، قال خالي مرة متهكمًا على مسمع مني: «لا يُنتظر أن يكون الذكر الوحيد في الأسرة خيرًا من هذا!» لِمَ هذا كله؟ لأني لا أعبد المال؛ ولأنَّني أوثر الحياة عليه، أرأيت؟ إن أسرتنا تؤمن بأن أيَّ نشاط لا يؤدي إلى زيادة في الثروة ضرب من العبث الباطل، وتراهم يَحلمون بالألقاب كأنها الفردوس المفقود، أتدري لم يحبون الخديو؟ طالما قالت لي ماما: «لو بقيَ أفندينا على العرش لنال أبوك الباشوية من زمن بعيد.» والمال العزيز يهون ويُنفق بلا حساب في استقبال أمير إذا شرَّفَنا بزيارته … (ثم وهو يضحك) … لا تنسَ أن تسجل هذه الغرائب إذا فرغت يومًا لتأليف الكتاب الذي اقترحته عليك.

لم يَكد يفرغ من حديثه حتى بادرت عايدة تُخاطب كمال قائلة: أرجو ألا تتأثر في تأليفك بتحامُل هذا الأخ العاق حتى لا تظلم أسرتنا.

فقال كمال بلهجة ساجدة: معاذ الله أن ينال أسرتك ظلم على يدي، وفضلًا عن ذلك فليس فيما قال ما يشين.

فضحكَت عايدة في ظفر، على حين ارتسمت على شفتَي حسين ابتسامة ارتياح رغم ارتفاع حاجبَيه كالداهش. وكان الأثر الذي تركه حديث حسين في نفسه أنه لم يكن صادقًا كل الصدق في حملته على أسرته، أجل، لم يشكَّ في قوله إنه لا يَعبد المال، وأنه يُؤثر الحياة عليه، وأبى — إلى ذلك — أن يُرْجِع هذا الخلق إلى وفرة المال وحدها، ولكن إلى اتِّساع أفق صاحبه أولًا ما دام الثراء لا يحول دون عبادة المال عند الكثيرين، ولكنه خُيِّل إليه أن ما ورد في حديثه عن الخديو والألقاب واستقبال الأمراء إنما ورد عن سبيل الفخر المدغم في الانتقاد، لا الفخر وحده، ولا الانتقاد وحده، كأنما كان يُفاخر بها بقلبه، وينتقدها بعقله، أو لعله كان يسخر منها حقًّا، ولكنه لم يجد غضاضة في التشهير بها أمام شخص لا يشكُّ في أنها تبهره وتفتنه مهما يكن من مجاراته له في انتقادها. عاد حسين يتساءل في هدوء باسم: أينا سيكون بطل الكتاب، أنا، أم عايدة، أم بدور؟

هتفَت بدور «أنا!» فقال لها كمال وهو يشدُّ عليها «اتفقنا!» ثم أجاب حسين: سيبقى هذا سرًّا حتى يولد الكتاب.

– وأي عنوان ستختار له؟

– حسين حول العالم.

فضج ثلاثتهم بالضحك بما ذكرهم هذا العنوان المفتوح باسم تمثيلية «البربري حول العالم» التي كانت تُمَثَّل في الماجستيك. وسأله حسين بالمناسبة قائلًا: ألم تعرف الطريق إلى المسرح بعد؟

– كلا، في السينما الكفاية الآن.

قال حسين مخاطبًا عايدة: إن مؤلف كتابنا غير مسموح له بالسهر خارج البيت إلى ما بعد التاسعة مساءً.

فقالت له عايدة متهكِّمة: على أيِّ حال فهو خير من الذين يُسمح لهم بالطواف حول العالم.

ثم التفتت صوب كمال، وسألته برقَّة خليقة بجذبه إلى رأيها سلفًا: أمن العيب حقًّا أن يتمنَّى أب أن ينشأ ابنه على مثاله في النشاط والجاه؟ أمن العيب أن نسعى في الحياة إلى المال، والجاه، والألقاب، والقيم العالية؟

ابقَي حيث أنت يسعَ إليك المال، والجاه، والألقاب، والقيم العالية؛ كي تسمو جميعًا بلثم موطئ قدمَيك، كيف أجيب وفي الجواب الذي تودِّين انتحاري؟ يا ويح قلبك من مرام لا يرام.

– لا عيب في هذا أبدًا … (ثم بعد انقطاع قصير) على شرط أن يُوافق مزاج الشخص.

فاستطردت قائلة: وأي مزاج لا يُوافقه هذا؟ والعجيب أن حسين لا يزهد في هذه الحياة الرفيعة طموحًا إلى ما هو أرفع منها، كلا يا سيدي، إنه يحلم بأن يحيا بلا عمل، في فراغ وبطالة، أليس هذا بعجيب؟

تساءل حسين ضاحكًا في سخرية: ألا يعيش هكذا الأمراء الذين تعبدونهم؟

– لأنه ليس فوق حياتهم حياة يُتطلَّع إليها، أين أنت من أولئك يا تنبل؟

التفت حسين ناحية كمال قائلًا بصوت لم يخلُ من أثرٍ للغيظ: القاعدة المُتبعة في أسرتنا هي العمل على زيادة الثروة، ومصادقة ذوي النفوذ، فتأمُل من وراء ذلك في رتبة البكوية، وعليك بعد ذلك مضاعفة الجهد؛ لإنماء الثروة ومصادقة النخبة الممتازة حتى تنال الباشوية، وأخيرًا أن تجعل غايتك العليا في الحياة التودُّد إلى الأمراء، والقناعة بذلك ما دامت الإمارة لا تُنَال بالعمل أو اللباقة، أتدري كم كلفتنا زيارة الأمير الأخيرة؟ … عشرات الألوف من الجنيهات ضاعت في ابتياع أثاث جديد وتحف نادرة من باريس.

فعارضته عايدة قائلة: لم يُنفَق ذلك المال توددًا لأمير من حيث هو أمير فحسب، ولكن لكونه شقيق الخديو؛ فالدافع إلى المجاملة كان الوفاء والصداقة لا التودد والزلفى، وهو بعدُ شرفٌ لا يماري فيه عاقل.

ولكن حسين تمادى في عناده قائلًا: ولكن بابا لا يفتأ يُوطِّد علاقته بعدلي، وثروت، ورشدي، وغيرهم ممَّن لا يُمكن أن يُتَّهموا بالإخلاص للخديو … أليس في ذلك تسليم بالحكمة القائلة بأن الغاية تُبرر الواسطة؟

– حسين!

هتفت به بصوت لم يَسمعه من قبل، بصوت نمَّ عن الكبرياء، والاستياء والتأنيب، كأنَّما أرادت أن تُنبهه إلى أن هذا الكلام لا يجوز أن يُقال أو في الأقل لا يجوز أن يجهر به على مسمع من «غريب» فاحمرَّ وجهُه خجلًا وألمًا، وفترت السعادة التي حلَّق في أجوائها ساعة بالاندماج في هذه الأسرة الحبيبة. وكانت هامتها مرفوعة، وشفتاها مضمومتَين، وفي عينيها نظرة موحية بالتقطيب وإن لم يَلمح له أثر في جبينها، كانت بالجملة غضبى، ولكن كما يَخلُق بالملكة العريقة أن تَغضب، ولم يكن رآها من قبل مُنفعلة، ولم يكن يتصوَّر أنها تنفعل، فرَنا إلى وجهها في دهَشٍ وارتياع، وامتلأ إحساسًا بالحرج حتى ودَّ لو ينتحل عذرًا يتنحَّى به عن متابعة الحديث، ولكن لم يمضِ على ذلك ثوان حتى أفاق من غشيتِه وراح يتملى جمال الغضب الملَكي في الوجه الملائكي، ويتذوَّق لفحة الكبرياء، واستعلاء الإباء، وتجهُّم السماء، ثم عادت كأنما لتُسْمِعه هو: إن صداقة بابا لمَن ذكرت تعود إلى تاريخ قديم سابق على خلع الخديو.

عند ذلك رغب كمال صادقًا في أن يُبدد هذه السحابة، فساءل حسين مداعبًا: إذا كان هذا رأيك فكيف تَحتقِر سعد لأنه كان أزهريًّا؟

فضحك حسين ضحكته الصافية وهو يقول: إني أكره التودُّد إلى الكبراء، ولكن لا يعني هذا أن أحترم العامة … إني أحب الجمال وأزدري القبح، ومن المؤسِف أنَّ الجمال قلَّ أن يوجد في العامة.

ولكن عايدة تدخلت في الحديث قائلة بصوت مُعتدِل: ماذا تعني بالتودُّد إلى الكبراء؟ إنه سلوك يُعاب على مَن ليس منهم، ولكن أظنُّنا من الكبراء أيضًا، وليس تودُّدنا إليهم دون توددهم إلينا.

فتطوع كمال للإجابة عن حسين قائلًا بإيمان: هذا حقٌّ لا مراء فيه.

وما لبث أن نهض حسين وهو يقول: حسبنا جلوسًا، هلمُّوا نُواصل السير.

نهضوا فاستأنفوا السير متجهين نحو أبي الهول في جو ظليل انتشرت تجمعات السحب في آفاقه حتى تعانقت وحجبت الشمس بستار شفاف، فاكتسى منها لونًا أبيض ناصعًا يقطر صفاءً وملاحة. والتقوا في طريقهم بجماعات من الطلبة والأوروبيين نساءً ورجالًا، فقال حسين مخاطبًا عايدة، ولعله أراد أن يَسترضيَها بطريق غير مُباشر: إنَّ الأوروبيات يتفرَّسن في فستانك باهتمام، مبسوطة؟

فافترَّ ثغرها عن ابتسامة عجب وارتياح، وقالت بلهجة تنمُّ عن ثقة مكينة بالنفس وهي ترفع رأسها في كبرياء لطيف: طبيعي …!

فضحك حسين، وابتسم كمال، ثم قال الأول يخاطب الآخر: عايدة تعدُّ مرجعًا للذوق الباريسي في حينا جميعه.

فقال كمال وهو لا يزال يبتسم: طبيعي …

فكافأته عايدة بضحكة رقيقة خافتة كسجع الحَمام، مسحت عن قلبه الأثر الخفيف الذي تركه النزاع الأرستقراطي البديع! … العاقل من يعرف لقدمه قبل الخطو موضعها، فاعرف أين أنت من هؤلاء الملائكة، المعبود الذي يُشرف عليك من فوق السحاب يتعالى حتى على أهله المقربين، فما وجه العجب في هذا؟ ما كان يَنبغي أن يكون له أهل أو أسرة، فلعلَّه اتخذهم ليكونوا وسطاء بين ذاته وبين عابديه، أعجِب به في هدوئه وحدته، وتواضعه وتكبُّره، وإقباله وإدباره، ورضاه وغضبه، كل أولئك صفاته فاروِ بالعشق قلبك الظامئ، انظر إليها، إن الرمال تعوق مشيتها فتوانت خفتها، واتسعت خطواتها، وتمايل أعلاها كالغصن الثَّمِل بالنسيم الواني، ولكنها وهبت الأبصار صورة جديدة من محاسن المشي تُضارع في جمالها مشيتها المعروفة فوق فسيفساء الحديقة، وإذا التفَّت إلى الوراء فرأيت آثار القدمَين اللطيفتَين مطبوعة فوق الرمال، فاعلم أنها تقيم معالم للطريق المجهول يَهتدي بها السالكون إلى سبحات الوجد وإشراقات السعادة، في زياراتك السالفة لهذه الصحراء كان نهارك يَنقضي في اللعب والوثب سادرًا عن نفحات المعاني؛ لأن برعمة قلبك لم تكن تفتحت، أما اليوم فأوراقها ندية برضاب الهوى، تقطر بهجة، وتنزُّ ألمًا فإن تكن سلبت طمأنينة الجهالة فقد وهبت القلق السامي، حياة القلب، وأنشودة النور.

– جعت.

ندَّت الشكوى عن ثغر بدور، فقال حسين: آن لنا أن نعود، ما رأيكم؟ على أي حال أمامنا مسافة طويلة سيجوع في نهايتها من لم يَجُع.

ولما بلغوا السيارة أخرج حسين الحقيبة والسلة المملوءتين بالطعام، فوضعهما على مقدمة السيارة، وراح يُزيح الغطاء عن سلته، غير أن عايدة اقترحت أن يتناولوا الطعام على درجة من درجات الهرم، فمضوا إليه وارتقوا درجة من درجات الأساس فحطوا الحقيبة والسلة في وسطها، وجلسوا على حافتها تاركين أرجلهم تتدلى. بسط كمال جريدة كانت في حقيبتِه، وطرح عليها الطعام الذي جاء به، دجاجتين، وبطاطسَ، وجبنًا، وموزًا، وبرتقالًا، ثم تابع يدي حسين وهو يستخرج من السلة طعام «الملائكة»، فإذا به: سندويتشات أنيقة، وأكواب أربع، وترموث … ومع أن طعامه كان أدسم فإنه بدا — في ناظرَيه على الأقل — عاطلًا عن حلية الأناقة، فساوره قلق وحياء. وتساءل حسين وهو يرمق الدجاجتين بنظرة ترحاب: عما إذا كان صاحبه قد أحضر أدوات مائدة، فأخرج كمال من الحقيبة سكاكين وشوكًا، وشرع يقطع الدجاجتين شرائح. وهنا نزعت عايدة سدادة الترموث وراحت تملأ الأكواب الأربع، فإذا بها تمتلئ بسائل أصفر كالذهب، فلم يملك كمال أن يسأل داهشًا: ما هذا؟

فضحكت عايدة ولم تُجب، أما حسين فقال ببساطة وهو يغمز أخته بعينه: بيرة.

– بيرة؟!

هتف كمال كالخائف، فقال حسين بتحدٍّ وهو يشير إلى السندوتشات: ولحم خنزير.

– أنت تعبث بي! لا أصدق هذا.

– بل صدِّق وكُل، يا لك من جَحود! جئناك بأنفس ما يؤكل، وألذ ما يُشْرَب.

أفصحت عينا كمال عن دهش وانزعاج، وانعقد لسانُه فلم يدرِ ماذا يقول، وكان أشد ما يزعجه أن هذا الطعام والشراب جُهِّز في البيت، وبالتالي عن علم أهله ورضاهم.

– ألم تَذُق شيئًا من هذا من قبل؟

– سؤال في غير حاجة إلى جواب.

– إذن ستذوقه لأول مرة، والفضل لنا.

– هذا محال.

– لمه؟

– لمه! سؤال في غير حاجة إلى جواب أيضًا.

رفع حسين وعايدة وبدور أكوابهم وشربوا جرعات ثم أعادوها، ونظر الأولان إلى كمال مبتسمين كأنما يقولان له: «أرأيت أنه لم يحدث لنا شيء!» ثم قال حسين: الدين! هه؟ كوب من البيرة لا يُسْكِر، ولحم الخنزير كله لذة وفوائد، لست أدري ما حكمة الدين في شئون الطعام!

تقلص قلب كمال لوقع هذا الكلام، بيد أنه لم يخرج عن رقته وهو يقول معاتبًا: حسين، لا تُجدِّف.

ولأول مرة مذ افتتحت المأدبة تكلمت عايدة، فقالت: لا تُسئ بنا الظن، نحن نشرب البيرة لفتح النفس ليس إلا، ولعلَّ مشاركة بدور لنا تقنعك بحسن نيتنا، أما لحم الخنزير فلذيذ جدًّا، جربه ولا تكن حنبليًّا، لا تزال أمامك فرصة كبيرة كي تُطيع الدين فيما هو أهم من هذا كله.

ومع أن كلامها لم يختلف في جوهره عن كلام حسين، فإنه نزل على قلبه المتألِّم بردًا وسلامًا، وإلى هذا فقد صادف منه نفسًا حريصة كل الحرص على ألا تُكدِّر لهم صفوًا أو تخدش لهم شعورًا، فابتسم في تسامح رقيق، ومضى يتناول طعامه وهو يقول: دعوني آكُل الطعام الذي آلفه، وأكرموني بالمشاركة فيه.

ضحك حسين، ثم قال مخاطبًا كمال وهو يشير إلى أخته: اتفقنا في البيت على أن نُقاطع طعامك إذا قاطعت طعامنا، ولكن يُخيَّل إليَّ أننا لم نحسن تقدير ظروفك، على هذا فإنني سأتحلَّل من ذلك الاتفاق إكرامًا لك، ولعلَّ عايدة أن تقتدي بي.

فنظر كمال نحوها برجاء، فقالت باسمة: إذا وعدتني بألا تسيء الظن بنا.

فقال كمال بابتهاج: لا عاش من أساء بكم الظن.

أكلوا بشهوة عظيمة، حسين وعايدة أولًا، ثم تشجع كمال بهما فتابعهما، وكان يقدم الطعام بنفسه إلى بدور التي اكتفت بسندوتش وقطعة من صدر الدجاجة، ثم أقبلت على الفاكهة. ولم يستطع كمال أن يقاوم الرغبة في استراق النظر إلى حسين وعايدة وهما يأكلان؛ ليرى كيف يتناولان طعامهما، أما حسين فكان يلتهم الطعام دون مبالاة كأنه منفرد، غير أنه لم يفقد طابعه الممتاز الذي يمثل في عيني كمال الأرستقراطية المحبوبة المنطلقة على سجيتها، وأما عايدة فقد كشفت عن أسلوب جديد من الرشاقة، والأناقة، والتهذيب في طبيعتها الملائكية سواء في قطع اللحم، أو القبض بأطراف الأنامل على السندوتش، أو حركات الثغر عند المضغ، ومضى هذا كله يسيرًا هينًا لا أثر للتكلف أو القلق فيه. الحق أنه انتظر هذه الساعة بتشوف وإنكار كأنما كان في شك من أنها تأكل الطعام كسائر البشر. ومع أن معرفته لنوع الطعام أزعجت ضميره الديني أيما إزعاج، فإنه وجد في «غرابته» وخروجه عن مألوف ما يتناوله الناس الذين عهدهم مشابهة تربطه بآكله، فارتاح لها خياله الحائر المتسائل. وتناوبه شعوران متناقضان، قلق بادئ الأمر وهو يراها تقوم بهذه الوظيفة التي يشترك فيها الإنسان والحيوان. ثم داخله شيء من الارتياح لما قربت هذه الوظيفة بينه وبينها ولو درجة واحدة، على أن نفسه لم تعفه من علامات الاستفهام عند هذا الحد، فوجدها تدفعه إلى التساؤل عما إذا كانت تؤدي سائر الوظائف الطبيعية الأخرى؟ لم يسعه أن يقول لا، ولم يهن عليه أن يقول نعم، فأضرب عن الإجابة وهو يعاني إحساسًا لم يعرفه من قبل تضمَّن — فيما تضمَّن — احتجاجًا صامتًا على نواميس الطبيعة.

– إني معجب بشعورك الديني، ومثاليتك الأخلاقية.

نظر كمال إليه في حذر المرتاب، فقال حسين بتوكيد: عن صدق تكلمت لا عن دعابة.

ابتسم كمال في حياء، ثم أشار إلى ما تبقى من السندوتشات والبيرة قائلًا: بالرغم من هذا فإن احتفالكم بشهر رمضان يفوق كل وصف، أنوار تضاء، قرآن يُتلى في بهو الاستقبال، المؤذنون يؤذنون في السلاملك، هه؟

– إن أبي يحيي ليالي رمضان حبًّا وكرامة، واستمساكًا بالتقاليد التي اتبعها جدي، وإلى هذا فهو وماما يواظبان على الصوم.

قالت عايدة باسمة: وأنا.

فقال حسين بجد أريد به السخرية: عايدة تصوم يومًا واحدًا من الشهر، وربما أفلست قبيل العصر.

فقالت عايدة على سبيل الانتقام: وحسين يأكل في رمضان أربع وجبات يوميًّا، الوجبات الثلاث المعتادة ووجبة السحور.

فقال حسين ضاحكًا، وقد كاد الطعام يسقط من فيه لولا أن رفع رأسه بحركة سريعة: أليس غريبًا ألا نعرف عن ديننا شيئًا ذا بال؟ لم يكن عند بابا أو ماما معلومات تستحق الذكر، وكانت مربيتنا يونانية، وعايدة تعرف عن المسيحية وطقوسها أكثر مما تعرف عن الإسلام، نحن بالقياس إليك في حكم الوثنيين … (ثم مخاطبًا عايدة) … إنه يقرأ القرآن والسيرة!

فقالت بلهجة ربما دلت على شيء من الإعجاب: حقًّا؟ برافو، ولكن أرجو ألا تُسيء بي الظن أكثر مما ينبغي، فإني أحفظ أكثر من سورة.

فغمغم كمال كالحالم: بديع، بديع جدًّا، مثل ماذا؟

فكفَّت عن الأكل حتى تتذكر، ثم قالت باسِمة: أعني أني كنت أحفظ بعض السور، لا أدري ماذا تبقى منها … (ثم رفعت صوتها فجأة شأن مَن تذكَّر شيئًا أعياه طلابه) مثل السورة التي يقول فيها إن ربنا واحد … إلخ.

ابتسم كمال، وقدم لها شريحة من صدر الدجاجة فتناولتها شاكرة، ولكنها اعترفت بأنها أكلت أكثر مما تأكل عادة، ثم قالت: لو كان الناس يتناولون الطعام عادةً في الرحلات لاختفت الرشاقة من الوجود.

فقال كمال بعد تردد: إن نساءنا لا تستهويهن النحافة.

فوافقه حسين على رأيه قائلًا: ماما نفسها من هذا الرأي، ولكن عايدة تعدُّ نفسها باريسية.

عفا الله عن استهانة معبودتي، شدَّ ما أزعجت نفسك المؤمنة، كما أزعجتها من قبل خطرات الشك التي صادفتها في مطالعتك، هل تستطيع أن تَلقى استهانة المعبود بما لقيت به من خطرات الشك من نقد وغضب؟ هيهات، نفسك لا تنطوي لها إلا عن الحب الخالص، حتى عيوبها فأنت تحبُّها، عيوبها؟! لا عيب لها، ولو كان ما بها خفة في الدين واجتراء على المحرَّمات، تلك عيوب لو وُجدت في غيرها … أخشى ما أخشاه ألا تروق في عيني حسناء بعد اليوم إذا لم يكن بها خفة في الدين واجتراء على المحرَّمات، هل مسَّك القلق؟ استغفر الله لنفسِك ولها، وقل إن هذا كله عجيب، عجيب كأبي الهول، ما أشبه حبك به، أو ما أشبهه بحبك! كلاهما لغز وخلود.

أفرغت عايدة آخر ما في الترموث في الكوب الرابع، ثم قالت لكمال بإغراء: هلا غيَّرتَ رأيك؟ ما هي إلا شراب منعش.

فابتسم ابتسامة اعتذار وشكر، وعند ذاك خطف حسين الكوب ورفعه إلى فيه، وهو يقول: أنا بدل كمال … (ثم وهو يتأوَّه) … يجب أن نُمسك وإلا متنا امتلاءً.

فرغوا من الطعام، ولكن فضل منه نصف دجاجة وثلاثة سندوتشات، فخطر لكمال أن يوزعها على الغلمان الذين يتجوَّلون في المكان، غير أنه رأى عايدة وهي تُعيد السندوتشات مع الأكواب والترموث إلى السلة، فلم يرَ بدًّا من أن يعيد بقية طعامه إلى الحقيبة، وقد وردته ذكرى حديث إسماعيل لطيف عن الروح الاقتصادية لآل شداد. ووثَب حسين إلى الأرض وهو يقول: لدينا مفاجأة سارة لك، أحضرنا معنا فونوغرافًا وبعض الأسطوانات لتساعدنا على الهضم، ستَسمع أسطوانات أوروبية من مختارات عايدة، وأخرى مصرية مثل: «حزر فزر» و«بعد العشي» و«حوِّد من هنا»، ما رأيك في هذه المفاجأة؟

١٨

انتصف ديسمبر، غير أنَّ الجو لم يُجاوز حدَّ الاعتدال إلا قليلًا على رغم أن الشهر هلَّ بعاصفة من الرياح، والأمطار، والبرد القارص، وكان كمال يقترب من سراي آل شداد في خطوات متئدة سعيدة طارحًا معطفه المطويَّ على ساعده الأيسر، وقد دلَّ مظهره الأنيق — خاصة مع ملاحظة ميل الجو إلى الاعتدال — على أنه جاء بمعطفه استكمالًا لمظاهر الأناقة والوجاهة أكثر منه حيطة لتقلب الجو. وكانت شمس الضحى ساطعة فرجح عنده أن مجلس الأصدقاء سينعقد في كشك الحديقة — لا في الثوى حيث يجتمعون في الأيام الباردة — وأن الفرص بالتالي ستسنح لرؤية عايدة التي لا يتاح لقاؤها إلا في الحديقة، على أن الشتاء إذا كان يحرمه من لقائها في الحديقة، فإنه لم يَحُل دون رؤيتها في النافذة المُشرِفة على الممر الجانبي للحديقة، أو في الشرفة المُطلَّة على مدخل القصر، في هذه أو تلك، وعند مقدِمه أو حال مُنصرفه، ربما لمَحَها وهي مُعتمِدةً الحافة بمرفقيها، أو مفترشةً راحتها بذقنها، فيرفع نحوها عينَيه حانيًا رأسه في ولاء العابد، فتردُّ تحيتَه بابتسامة رقيقة ذات وميض يُضيء له أحلام اليقظة وأحلام المنام. على أمل رؤيتها اختلس من الشرفة نظرة وهو يدخل القصر، ثم من النافذة وهو يقطع الممر الجانبي، ولكنه لم يجدها لا في هذه ولا في تلك، فاتجه — وهو يُمنِّي النفس باللقاء في الحديقة — نحو الكشك حيث رأى حسين جالسًا بمفرده على غير العادة. تصافَحا وقلبه يُشرق بهجة المودة التي تبعثها في نفسه مطالعة هذا الوجه الصبيح، أليف روحه وعقله، واستمع إليه وهو يُرحِّب به في لهجته المرحة الصافية قائلًا: أهلًا بالمُعلِّم! الطربوش والمعطف! لا تنسَ في المرة القادمة الكوفية والعَصا، أهلًا … أهلًا.

خلع كمال طربوشه ووضعه على المنضدة، وطرح المعطف على كرسيٍّ وهو يتساءل: أين إسماعيل وحسن؟

– إسماعيل سافر إلى البلد مع والده فلن تراه اليوم، أما حسن فقد تلفنَ لي صباحًا بأنه سيتأخَّر ساعة أو أكثر لكتابة بعض المحاضرات. أنت تعلم أنه طالب مثالي مثل حضرتك، وهو مُصمِّم على نيل الليسانس هذا العام.

جلسا على كرسيَّين متقابلين موليين القصر ظهريهما، وقد وعد انفرادهما كمال بجلسة هادئة لا شقاق فيها، جلسة يُرحب صدرُها بالتأملات، غير أنها ستخلو في الوقت نفسه من النضال المتعب اللذيذ معًا الذي يدعو إليه حسن سليم، والملاحَظات التهكُّمية اللاذعة التي يبعثرها إسماعيل لطيف دون حساب، استطرد حسين قائلًا: أنا على العكس منكما طالب رديء، أجل إني أستمع إلى المحاضرات مفيدًا من قدرتي على تركيز الانتباه، غير أني لا أكاد أطيق مراجعة كتبي المدرسية. قالوا لي كثيرًا: إنَّ دراسة القانون تتطلب ذكاءً نادرًا. الأحرى أن يقولوا: إنها تتطلَّب غباءً وصبرًا. حسن سليم طالب مُجدٌّ شأن الذين يحدوهم الطموح، طالما تساءلت عما يجعله يُحمِّل نفسه فوق ما تطيق من العمل والسهر، وهو لو شاء — كأمثاله من أبناء المستشارين — لقنع من العمل بما يكفل له النجاح اعتمادًا على نفوذ أبيه الذي سيضمن له في النهاية نيل الوظيفة التي يتطلع إليها، فلم أجد تفسيرًا لذلك إلا كبرياءه الذي يُحبِّب إليه التفوق، ويدفعه إليه دفعًا لا هوادة فيه، أليس كذلك؟ ما رأيك فيه؟

فقال كمال في صدق: حسن شابٌّ جدير بالإعجاب لخُلُقه وذكائه.

– سمعت أبي يقول مرةً عن أبيه سليم بك صبري: إنه مستشار فذٌّ عادل، فيما عدا القضايا السياسية.

صادف هذا الرأي هوى في نفس كمال، لما سبق إلى علمه من تشيُّع سليم بك صبري إلى الأحرار الدستوريين، فقال ساخرًا: معنى هذا أنه قانوني بارع، ولكنه غير أهلٍ للقضاء.

فضحك حسين ضحكة عالية، وقال: نسيتُ أنني أخاطب وفديًّا.

فقال كمال وهو يرفع منكبيه: لكن والدك ليس وفديًا. تصور أن يجلس سليم بك صبري للفصل في قضية عبد الرحمن فهمي والنقراشي!

هل صادف قوله عن سليم بك صبري ارتياحًا في نفس حسين؟ نعم، هذا يبدو جليًّا في العينين الجميلتين اللتَين لم تألفا الكذب أو الرياء، ولعله راجع إلى المنافسة التي تقوم عادة — مهما اتَّسمَت بالتهذيب وآداب اللياقة — بين الأنداد، وقد كان شداد بك مليونيرًا ومن رجال المال ذوي المكانة والجاه، فضلًا عن صلته التاريخية بالخديو عباس، غير أن سليم بك صبري مستشار في أكبر هيئة قضائية، وفي بلد تفتنُها المناصب إلى حد التقديس، فلم يكن بدٌّ من أن يتبادل المنصب الرفيع والمال الوفير نظرات الشزر أحيانًا. ألقى حسين على الحديقة المترامية أمام ناظريه نظرات هادئة يَشُوبها شيء من الأسف؛ فقد تجرَّدت جدائل النخيل، وتعرَّت شجيرات الورد، وشحبت الخضرة اليانعة، واختفت ابتسامات الزهور من ثغور البراعم، وبدت الحديقة غارقة في الحزن حيال زحف الشتاء، ثم قال وهو يشير أمامه: انظر إلى فعل الشتاء، هذه آخر جلسة لنا في الحديقة، ولكنَّك من هواة الشتاء.

إنه يهوى الشتاء حقًّا، ولكن عايدة أحب إليه من الشتاء والصيف والخريف والربيع معًا، فلن يغفر للشتاء حرمانه من مقابلات الكشك السعيدة، غير أنه قال موافقًا: الشتاء فصل جميل وقصير، وفي البرد والغيم والرذاذ حياة يستجيب لها القلب.

– يخيل إليَّ أن هواة الشتاء يكونون عادة من ذوي النشاط والاجتهاد، فهكذا أنت، وهكذا حسن سليم.

ارتاح كمال إلى هذا الثناء، ولكنه أراد أن يُخصَّ — من دون حسن سليم — بأكثره، فقال: ولكني لا أُعطي واجباتي المدرسية إلا نصف نشاطي فحسب، الحق أن حياة العقل أوسع من المدرسة بكثير.

هز حسين رأسه مُستحسِنًا، وقال: لا أظن أن ثمة مدرسة يُمكن أن تستهلك الوقت الطويل الذي تُكرِّسه للعمل يوميًّا. على فكرة: أنا لا أوافقك على هذا الإسراف وإن أكن أغبطك أحيانًا، خبرني ماذا تقرأ الآن؟

ابتهج كمال بهذا الحديث الذي كان — بعد عايدة — أحب شيء إلى نفسه، وأجاب قائلًا: أستطيع أن أقول لك الآن: إن مطالعاتي أخذت تتبع نوعًا من النظام، لم تَعُد قراءة حرة كيفما اتفق ما بين قصص مترجمة، ومختارات شعرية، ومقالات نقدية، أصبحت أتلمَّس سبيلي على قدرٍ من الضوء لا بأس به، فعمدت أخيرًا إلى تخصيص ساعتَين كل مساء للقراءة في دار الكتب، وهنالك أنظر في دائرة المعارف باحثًا عن معاني الكلمات الغامضة الساحرة، كالأدب، والفلسفة، والفكر، والثقافة، مسجِّلًا في الوقت نفسه أسماء الكتب التي تُصادفني، إنه عالم بديع تذوب فيه النفس شغفًا واستطلاعًا.

كان حسين يُصغي إليه بانتباه واهتمام طارحًا ظهره على مسند الكرسي الخيزران، واضعًا يديه في جيبَي جاكتتِه الكحلية الإنجليزية، وعلى شفتَيه العميقتين ابتسامةُ مشاركةٍ وجدانية صافية، قال: جميل جدًّا، بالأمس كنت أحيانًا تسألني عما ينبغي أن يُقرأ، اليوم جاءت نوبتي لأسألك أنا، هل وضح لك الطريق؟

– رويدًا … رويدًا، يغلب على ظني أني سأتجه نحو الفلسفة.

ارتفع حاجبا حسين كالمتسائل، ثم قال باسمًا: الفلسفة؟ إنها كلمة مُثيرة، حذار أن تذكرها على مسمع من إسماعيل. طالَما اعتقدتُ أنك ستتَّجه نحو الأدب.

– لا لوم عليك، الأدب متعة سامية بيد أنه لا يملأ عيني، إن مطلبي الأول الحقيقة، ما الله؟ ما الإنسان؟ ما الروح؟ ما المادة؟ الفلسفة هي التي تجمع كل أولئك في وحدة منطقية مضيئة كما عرفت أخيرًا، هذا ما أروم معرفته من كل قلبي، وهذه هي الرحلة الحقيقة التي تُعدُّ رحلتك حول العالم بالقياس إليها مطلبًا ثانويًّا، تصور أنه سيُمكنني أن أجد أجوبة شافية لهذه المسائل جميعًا!

نوَّر الشوق والحماس وجهَ حسين وهو يقول: هذا بديع حقًّا، لن أتوانى عن مرافقتك في هذا العالم الساحر، بل لقد طالعت بالفعل فصولًا عن الفلسفة الإغريقية وإن لم أخرج منها بشيء يُعتدُّ به. لست أحب الاندفاع مثلك، ولكني أقطف زهرة من هنا وزهرة من هناك، وأسلك بين هذا وذاك سبيلًا. والآن دعني أصارحك بأني أخاف أن تقطع الفلسفة ما كان بينك وبين الأدب من أسباب، فأنت لا تَقنع بالاطلاع، ولكنك تُريد أن تفكر وأن تكتب. ولن يُتاح لك — فيما أعتقد — أن تكون فيلسوفًا وأديبًا في آنٍ.

– لن يَنقطع ما بيني وبين الأدب، إنَّ حب الحقيقة لا يُناقض تذوُّق الجمال، ولكن العمل شيء والراحة شيء آخر، وقد عزمتُ على أن أجعل الفلسفة عملي، والأدب راحتي.

فضحك حسين فجأة، ثم قال: هكذا تتملَّص من تعهُّدك لنا بأن تكتب عنا قصة جامعة!

فلم يَملك كمال أن يضحك قائلًا: ولكني آمُل أن أكتب يومًا عن «الإنسان» فيشملكم ضمنًا.

– لا يُهمني الإنسان بقدر ما يهمني أشخاصنا، انتظر حتَّى أشكوَكَ إلى عايدة.

خفق قلبه لدى سماع الاسم خفقة تحية وحنان وشوق، فانقلب نشوانَ كأنما قد ثمل رُوحه بلحنٍ معربد بالطرب. هل يرى حسين حقًّا أنه أتى من الأمر ما يَستأهل عليه مؤاخَذة عايدة؟ ما أجهل حسين! كيف غاب عنه أنه ما من شعور يستشعره، أو فكرة يتأملها، أو شوق يستشرفه إلا وآفاقها تترقرَق ببهاء عايدة وروحها!

– انتظر أنت، وسوف تُثبت لك الأيام أنني لن أتخلى عن عهدي ما حييت.

ثم متسائلًا بعد قليل بلهجة جدية: لم لا تفكر في أن تكون كاتبًا؟ كل الظروف الراهنة والآتية تهيئ لك التفرغ لهذا الفن.

فهز حسين كتفيه استهانة، وقال: أأكتب ليقرأ الناس؟ ولم لا يَكتب الناس لأقرأ أنا؟

– أيهما أعظم شأنًا؟

– لا تسألني أيهما أعظم شأنًا، ولكن سلني أيهما أسعد حالًا، إني أعدُّ العمل لعنة البشرية؛ لا لأني كسول، كلا، ولكن لأن العمل مضيَعة للوقت، وسجن للفرد، وحائل منيع دون الحياة، الحياة السعيدة هي الفراغ السعيد.

حدجه كمال بنظرة دلَّت على أنه لم يأخذ قوله مأخذ الجد، ثم قال: لا أدري ماذا كانت تكون حياة الإنسان لولا العمل؟ إنَّ ساعة من الفراغ المُطلَق تنقضي أثقل من عام حافل بالعمل.

– يا لَلتعاسة! إن صدق قولك نفسه هو ما يؤكِّد هذه التعاسة، هل حسبتني أطيق الفراغ المُطلق؟ كلا، وا أسفاه لا أزال أشغل وقتي بالنافع والضار، ولكنِّي آمُل يومًا أن أعاشر الفراغ المطلق معاشَرة سعيدة.

همَّ بالتعليق على قوله، ولكن جاء صوت من ورائهما يتساءل: «فيم تتحدَّثان يا تُرى؟» صوت أو بالحريِّ نغمة حلوة ما إن تتردد في مسمعيه حتى تعزف أوتار قلبه مجاوبة إياها من الأعماق كأنها عناصر مؤتلفة في لحن واحد، وسرعان ما خلَت نفسه من مُتواثب الفكر فغمرها فراغٌ مُطلق، ترى أهو الفراغ المطلق الذي يحلم به حسين؟ هو ذاته لا شيء، ولكنه السعادة كلها.

والتفت إلى الوراء، فرأى عايدة قادمة على بُعد خطوات تتقدَّمها بدور حتى وقفتا أمامهما، كانت ترتدي فستانًا كمونيًّا، وسترةً صوفية زرقاء ذات أزرار مُذهَّبة، وقد تجلَّت بشرتها السمراء في عمق السماء الصافية وصفاء الماء المقطر. وهرعت بدور إليه فتلقَّفها بين ذراعَيه، وضمها إلى صدره كأنما ليواري في عناقها ما اعتراه من هيَمان، وعند ذاك جاء خادم مسرعًا؛ فوقف أمام حسين وهو يقول بأدب «التليفون»؛ فقام حسين مُستأذنًا، ومضى نحو السلاملك والخادم يتبعه.

وهكذا وجد نفسَه معها على انفراد — وجود بدور لم يكن ليُغيِّر من هذا المعنى — لأول مرة في حياته، تساءل في إشفاق: ترى أتبقى أم تذهب؟ ولكنها تقدمت خطوتين حتى صارت تحت مظلَّة الكشك جاعلة المنضدة بينها وبينه، فدعاها إلى الجلوس بإشارة من يده، ولكنها هزَّت رأسها بالرفض باسمة، فقام واقفًا ورفع بدور بين يديه فأجلسها على المنضدة، ولبث يُربِّت رأس الصغيرة في ارتباك وهو يَبذُل كل قوته كي يملك عواطفه، ويتغلب على انفعاله … مضت فترة صمت لم يسمع خلالها إلا حفيف الغصون، وخشخشة أوراق جافة مُتناثِرة، وزقزقة عصفور، فبدا المكان فيما لمحت عيناه من أرضه، وسمائه، وأشجاره، وسوره البعيد الفاصل بين الحديقة والصحراء، وقُصة المعبودة المُسبلة على جبينها، والنور البديع المُنبثِق من حور مقلتيها، بدا كل أولئك كأنه منظر بهيج من حلم سعيد، لم يدرِ — على وجه اليقين — إن كان حقيقة ماثلة أمام ناظريه أم خيالة ملوحة حيال ذاكرته، حتى سجع الصوت الرخيم وهو يقول مخاطبًا بدور فيما يُشبه التحذير: «لا تضايقيه يا بدور!» فكان جوابه أن ضمَّ بدور إلى صدره قائلًا: «إن تكن هذه هي المضايقة فما أحبها إلى نفسي!» ورنا إليها وفي عينيه أشواق، وراح يتملَّى منظرها آمنًا هذه المرة من الرُّقَباء، منعمًا فيها التأمل كأنما يَستكنِهُ أسرارها، ويطبع على صفحة مخيلته ملامحها ورموزها، فتاه في سحر المنظر حتى بدا ذاهلًا أو غائبًا، وما يَدري إلا وهي تتساءل: ما لك تنظر إليَّ هكذا؟

فأفاق من غشيته، وتجلَّى في عينَيه الارتباك، فابتسمت متسائلة: هل تريد أن تقول شيئًا؟

هل يُريد أن يقول شيئًا؟ إنه لا يدري ماذا يريد، حقًّا إنه لا يدري ماذا يريد، وتساءل بدَوره: هل قرأتِ في عيني هذا؟

أجابت وثغرها يفتر عن ابتسامة غامضة: نعم.

– ماذا قرأتِ فيهما؟

فرفعت حاجبَيها كالمتعجِّبة، وهي تقول: هذا ما أردت معرفته.

أيبوح لها بسره المكنون قائلًا بكل بساطة «أحبك» وليكن ما يكون؟! لكن ما جدوى البوح؟ وماذا يكون من أمره لو قطع الاعتراف ما بينه وبينها من صداقة ومودة — كما هو الراجح — إلى الأبد؟ وانتبه — وهو يتأمل — إلى النظرة التي تلوح في عينَيها الجميلتَين، نظرة مطمئنة، شديدة الثقة بنفسها، جريئة، لا يعتورها ارتباك أو خجل، نظرة كأنما تهبط عليه من علُ بالرغم من أنها في مستوى نظره، فلم يرتح لها وزادته تردُّدًا، ماذا وراءها يا ترى؟ وراءها فيما رأى شعور بالاستهانة، وربما العبث كأنما هي بالغٌ ينظر إلى طفل، ولعلها لم تخلُ كذلك من تعالٍ لا يمكن أن يُبرِّره فارق السن وحده؛ إذ لم تكن تكبره إلا بعامَين على أكثر تقدير، أفلا تكون هذه النظرة الخليقة بأن يُلقيها هذا القصر الشامخ بشارع السرايات على البيت القديم ببين القصرين؟ ولكن لِمَ لَمْ يلمحها في عينيها من قبل ذلك؟ ربما لأنها لم تَنفرِد به من قبل، أو لأنه لم يُتَح له أن يُنعِم فيها النظر إلا هذه الساعة، وآلمه ذلك وأحزنه حتى فترت نشوته أو كادت. ورفعت بدور نحوه يدَيها داعية إياه لحملها، فتناولها في حضنِه، وإذا بعايدة تقول: يا لَلعجب! لماذا تحبك بدور كل هذا الحب؟!

فقال وهو ينظر في عينيها: لأني أكنُّ لها مثله وأكثر.

فتساءلت كالمرتابة: أهذا قانون يركن إليه؟

– الحكمة السائرة تقول: «من القلب للقلب رسول».

فجعلت تَنقر المنضدة بأنملتها وهي تتساءل: هبْ فتاةً جميلة أحبها كثيرون، فهل تُحبُّهم جميعًا؟ أرني كيف يَصدُق قانونك في هذه الحال.

فقال وقد أذهله سحر الحوار عن كل شيء حتى أحزانه: يكون من أمرها أن تحبَّ أصدقهم حبًّا لها.

– وكيف تفرزه من الآخرين؟

لو يدوم هذا الحوار إلى الأبد!

– أحيلُكِ مرةً أخرى إلى الحكمة السائرة «من القلب للقلب رسول».

فضحكت ضحكة مقتضبة مثل رنة الوتر، وقالت في تحدٍّ: لو صحَّ هذا ما خاب محبٌّ صادق في حبِّه! فهل هذا صحيح؟

صدمه قولها كما تَصدِم حقائق الحياة المستنيم إلى المنطق وحده، فلو صح منطقه لوجب أن يكون أسعد الناس بحبه ومحبوبه، ولكن أين هو من ذلك؟ الحق أن تاريخ حبه الطويل لم يعدم لحظات أمل خلت، كان يضيء ظلمات قلبه بسعادة وهمية على أثر ابتسامة حلوة يجود بها المحبوب، أو كلمة عابرة قابلة للتأويل، أو حلم سعيد عقب ليلةِ فكر، وسهاد، ولواذًا بقول سائر له احترامه في نفسه مثل: «من القلب للقلب رسول»، فكان يتعلق بالأمل الخلَّب في إصرار اليائس حتى تعيده الحقيقة إلى وعيه، ها هو الساعة يتلقى هذه الجملة الساخرة الحاسمة كالدواء المرِّ ليتداوى بها مستقبلًا من كواذب الآمال، وليعرف على وجه اليقين موضعه أين يكون، ولما لم يُحِر جوابًا على سؤالها الذي تحدَّته به، هتفت معبودته ومعذبته بلهجة المنتصِر: غلبت …؟!

واستحكم الصمت مرة أخرى، فعاود مسمعَيه حفيف الغصون، وخشخشة الأوراق الجافة، وزقزقة العصفور، غير أنه تلقَّاها هذه المرة بوجد فاتر وقلب خائب، ولاحظ أن عينيها تتفحَّصانه بإمعان لا داعي له، وأن نظرتها تزداد جرأة وثقةً وما يُوحي بالعبث، وأنها أبعد ما يكون عن منظر أنثى تصدَّت لذكر، فشعر بغمز في قلبه وبرودة، وتساءل هل قدر له أن ينفرد بها لتتقوض أحلامه دفعة واحدة؟ ولاحظت قلقه، فضحكت ضحكة لاهية، وقالت في دعابة وهي تومئ إلى رأسه: لا يبدو أنك شرعت في تربية شعرك؟

فقال باقتضاب: كلا.

– ألا يُروقك ذلك؟

وهو يمط بوزه باستخفاف: كلا.

– قلنا لك: إنه أجمل.

– هل ينبغي للرجل أن يكون جميلًا؟

فقالت باستغراب: طبعًا الجمال محبوب، سواء في الرجال والنساء!

همَّ بأن يردد بعض محفوظاته مثل: «جمال الرجل في أخلاقه» … إلخ، ولكن غريزة من غرائزه أوحت إليه بأن مثل هذا القول — مع صدوره عن شخصٍ في صورته — لن يَلقى عند معبودته إلا الهزء والسخرية، فقال وهو يعاني وخزًا في قلبه داراه بضحكة مُصطَنعة: لستُ من رأيك.

– أو لعلك تنفر من الجمال كما تَنفِر من البيرة ولحم الخنزير!

فضحك ضحكة يعالج بها يأسه وقهره، فعادت تقول: الشَّعر الطبيعي غطاء طبيعي، أعتقد أن رأسك في حاجة إليه، ألا تعلم أن رأسك كبير جدًّا؟

ذو الرأسين! أنسيتَ ذلك النداء القديم؟ … يا للتعاسة!

– هو كذلك.

– لمه؟

أجاب وهو يهز رأسه في إنكار: سليه بنفسك فإنني لا أدري.

ضحكت ضحكة خافتة، أعقبها صمت، معبودك جميل، فاتن، ساحر، ولكنه ذو جبروت كما ينبغي له، ذق جبروته، وتلقَّن شتى أنواع الألم. ولم تَرحمه فيما بدا، لم تزل عيناها الجميلتان تُصعِّدان البصر في وجهه وتُصوِّبان حتى ثبتتا على … أجل، على أنفه! … هنالك وجد قشعريرة في أعماقه حتى قف شعره، وغض البصر وهو خائف يترقَّب، وسمعها تضحك، فرفع عينيه وهو يتساءل: ماذا يضحكك؟

– ذكرتُ أمورًا مُثيرة طالعتها في مسرحية فرنسية معروفة، ألم تقرأ «سيرانو دي برجراك؟»

أنسب الأوقات للاستخفاف بالألم وقت يَزيد فيه الألم عن حده، قال بهدوء واستهانة: لا داعي للمداراة، أنا أعرف أن أنفي أكبر من رأسي، ولكن أرجو ألا تسألي مرة أخرى «لمه؟» سليه بنفسك إن شئت.

وإذا ببدور تمد يدها فجأة فتقبض على أنفه، فأغرقت عايدة في الضحك وهي تميل برأسها إلى الوراء، ولم يملك هو أيضًا إلا أن يَضحك، ثم سأل بدور مداراة لارتباكه: وأنت يا بدور، هل هالَكِ أنفي؟

وترامى إليهم صوت حسين وهو يهبط سلم الفراندا، فغيَّرت عايدة من لهجتها فجأةً، وقالت له بصوت جمع بين الرجاء والتحذير: إياك أن تزعل من مزاحي.

عاد حسين إلى الكشك، فجلس على كرسيه داعيًا كمال إلى الجلوس فاقتدى به — بعد تردُّد — واضعًا بدور على حجره، غير أن عايدة لم تلبث بعد ذلك إلا قليلًا فأخذت بدور وحيَّتْهما، ثم انصرفت وهي تلحظ كمال بنظرة ذات معنًى خاص، وكأنما تُكرِّر تحذيره من الزعل، لم يجد من نفسه أي رغبة في استئناف الحديث، فاكتفى بالإصغاء أو بالتظاهر بالإصغاء مع المشاركة فيه بين حين وآخر بسؤال، أو تعجُّب، أو استحسان، أو استهجان؛ لإثبات وجوده ليس إلا، وكان من حُسن حظه أن عاد حسين إلى طرق موضوع قديم لا يتطلب انتباهًا أكثر مما عنده، وهو رغبته في السفر إلى فرنسا، ومعارضة أبيه التي يأمل في التغلب عليها قريبًا، أما الذي كان يشغل قلبه وفكره معًا فهو ذلك المظهر الجديد الذي تبدَّت به عايدة في الدقائق التي جمعت بينهما على انفرادٍ أو على شبه انفراد، ذلك المظهر الموسوم بالاستخفاف والسخرية والقسوة، أجل القسوة! فقد عبثت به بدون رحمة، وأعملت فيه دعابتها كما يُعمل المصوِّر ريشته في الخلقة الآدمية ليستخرج منها صورة كاريكاتورية فذة في قُبحها وصدقها معًا. ذكر ذلك المظهر ذاهلًا، ومع أن الألم كان يسري في روحه كما يسري السمُّ في الدم ناشرًا فيها ظلًّا ثقيلًا من القنوط والكآبة، فإنه لم يجد في نفسه سخطًا، أو غضبًا، أو احتقارًا له، أليس هو صفة جديدة من صفاتها؟ بلى، لعله أن يكون غريبًا كولعها بالرطانة، وشرب البيرة، وأكل لحم الخنزير، ولكنه ككل أولئك صفة منسوبة إلى ذاتها، خليقة بأن تتشرف بهذا الانتساب، وإن عُدَّت في غيرها نقيصة أو استهتارًا أو معصية، ولا ذنب لها هي أن نشأ عن صفة من صفاتها ألمٌ في قلبه، أو يأس في نفسه ما دام العيب عيبه هو لا عيبها هي، وهل كانت هي التي كبَّرت رأسه أو غلَّظت أنفه؟ أو هل تراها جارت بدعاباتها على الصدق والواقع؟ لم يحدث شيء من هذا فانتفى عنها الملام، وحق عليه الألم، وعليه أن يتقبله بتسليمٍ صوفي كما يتقبَّل العابد القضاء، وهو أصدق ما يكون إيمانًا بأنه قضاء عادل مهما يكن من قسوته، وأنه صادر عن معبود كامل لا مظنَّة في صفة من صفاته، أو إرادة من إراداته. هكذا خرج من التجربة القصيرة العنيفة التي صهرته منذ دقائق وهو أشد ما يكون ألمًا وعذابًا، ولكن دون أن ينال ذلك من قوة حبه وافتنانه بالحبيب. الساعة يحظى بمعرفة ألم جديد، ألم الرضا بحكم قاسٍ قضى عليه بعدم الأهلية، كما عرف من قبل — عن طريق الحب أيضًا — ألم الفراق، وألم الإغضاء، وألم الوداع، وألم الشك، وألم اليأس، وكما عرف أيضًا ألمًا يُحْتَمل، وألمًا يُسْتَلذ، وألمًا لا يَسكن مهما قدم له من قرابين التأوُّهات والدموع، كأنما أحب ليتفقَّه في معجم الألم، ولكنه على التماع الشرر المُتطاير من ارتطام آلامه يرى نفسه ويعرف أشياء، ليس الله والروح والمادة — فحسب — ما يجب أن تَعرفه، ما الحب؟ … ما البغض؟ … ما الجمال؟ … ما القُبح؟ … ما المرأة؟ … ما الرجل؟ … كل أولئك يجب أن تعرف أيضًا، أقصى درجات الهلاك تماسُّ أولى درجات النجاة، اذكر ضاحكًا أو اضحك ذاكرًا أنك هممت بالإفضاء إليها بمكنون سرِّك. اذكر باكيًا أن أحدب نوتردام ملأ حبيبته رعبًا وهو يحنو عليها مواسيًا، وأنه — أحدب نوتردام — لم يَستثِر عطفها البريء إلا وهو يلفظ آخر أنفاسه الأخيرة، «إياك أن تزعل من مزاحي!» حتى راحة اليأس تضنُّ بها عليك، فليُفصح المعبود عن ذات نفسه علَّنا نخرج من جحيم الحيرة، ونطمئنُّ في قبر اليأس، هيهات أن يقتلع اليأس جذور الحب من قلبي، ولكنه على أيِّ حال مناجاة من كواذب الآمال!

والتفت حسين نحوه ليسأله عن سر صمته، ولكنه لمح — فيما بدا — شخصًا قادمًا، فأدار رأسه ثم هتف: ها هو حسن سليم قد أقبل، كم الساعة الآن؟

فالتفت كمال إلى الوراء، فرأى حسن مُقبلًا نحو الكشك.

١٩

غادر حسين وكمال سراي آل شداد والساعة تدور في الواحدة، وهمَّ كمال بافتراق عن صاحبه أمام باب القصر، ولكن الآخر قال له برجاء: هلا تمشَّيت معي قليلًا من الوقت.

فلبَّى كمال الدعوة عن طيب خاطر، وسارا في شارع السرايات جنبًا إلى جنب … كمال بقامته الطويلة، وحسن لا يكاد يبلغ رأسه منكب صاحبه، لم يكن يخلُو من تساؤل! خاصة وأن الوقت لم يكن أنسب الأوقات للمشي الذي ليس وراءه هدف، وما يدري إلا وحسن يلتفت إليه متسائلًا: فيم كنتما تتحدثان؟

فأجاب كمال وهو يزداد تساؤلًا: في أمور شتى كالعادة، سياسة … ثقافة … إلخ.

فكانت مفاجأة حقًّا أن يقول له بصوته الهادئ المتزن: أعني أنت وعايدة.

فاستولت الدهشة على كمال، حتى لبثَ ثوانيَ لا يتكلَّم، ثم تمالك نفسه فسأله: كيف عرفت هذا ولم تكن معنا؟

فقال حسن سليم دون أن يلوح في وجهه أي تغيير: جئتُ في أثناء حديثكما، فتراءى لي أن أذهب إلى حينٍ حتى لا أقطعه عليكما.

ترى أكان يسلك مسلكه لو وجد نفسه في موقفه؟ واشتدَّت به الحيرة، وخالطه شعور بأنه مُقبل على حديث مثير ذي شجون، قال: لا أدري ماذا حملك على ذلك التصرُّف، ولو لمحتُك ما تركتك تذهب.

– للياقة أحكام! أعترف بأنني شديد الحساسية في هذه الناحية.

آداب أرستقراطية! أين أنت من إدراكها!

– لا تُؤاخذني إذا صارحتك بأنك تُدقِّق أكثر مما ينبغي.

ابتسم حسين ابتسامة خفيفة لم تمكُث على شفتيه، ثم بدا كالمنتظر، ولما طال به الانتظار عاد يتساءل: نعم؟ … فيم كنتما تتحدَّثان؟

كيف إذن ارتضت آداب اللياقة مثل هذا الاستجواب؟ وفكر لحظات في توجيه هذه الملاحظة إليه، غير أنه دقَّق في اختيار الصياغة الجديرة بالاحترام الذي يكنه له — احترام يرجع إلى شخصيته أكثر مما يَرجع إلى سنه — حتى قال: المسألة أبسط من أن تحتاج إلى هذا كله، غير أني أتساءل عن مدى التزامي بالإجابة!

فبادر حسن قائلًا بلهجة المُعتذر: أرجو ألا ترميني بلهجة المتطفِّل، أو بدسِّ أنفي في خاص شئونك، فإن لديَّ من الأسباب ما يُبرر هذا السؤال، وسوف أحدثك عن أمور لم تَعرض مناسبة تجعلني أحدثك عنها من قبل، غير أني اعتقدت — اعتمادًا على ما بيننا من صداقة — أنك لن تَضيق بسؤالي، أرجو ألا تفهم الأمر على غير هذا الوجه.

خفَّ التوتر، ولعله سُرَّ لتلقِّي هذا الكلام الرقيق عن حسن سليم بالذات، الشخص الذي طالما رآه مثالًا للأرستقراطية والنبل والكبرياء، فضلًا عن أنه كان أرغب منه في استنفاد أوجه الحديث عن أمر يتعلَّق بمعبودته. لو كان إسماعيل لطيف هو صاحب السؤال ما احتاج الأمر إلى شيء من هذا اللفِّ والدوران حول ما يجب وما لا يجب، وما يليق وما لا يليق، وربما كان أفضى إليه بكل شيء وهما يتضاحكان، ولكن حسن سليم لا يخرج عن تحفُّظه أبدًا، ولا يخلط بين الصداقة ورفع الكُلفة، فلا بأس من أن يؤدِّي ثمن تحفُّظه. قال: أشكرك على حسن ظنك، وثق بأنه لو كان ثمة ما يستحق أن أخبرك به ما كتمتُه عنك، ليس إلا أننا تكلَّمنا بعض الوقت في شئون عادية وهذا كل ما هنالك، غير أنك أيقظت حب الاستطلاع في نفسي فهل لي أن أسألك — ولو من باب العلم بالشيء — عن الأسباب التي تراها مبرِّرة لسؤالك؟ لستُ ألحُّ بطبيعة الحال، بل إني على أتم الاستعداد للنزول عن سؤالي إذا لم يصادف منك قبولًا.

قال حسن سليم بهدوئه واتزانه المألوفين: سأُحدثك عما تسأل عنه، ولكن أرجو أن تنتظر قليلًا، يبدو أنك لا تود إخباري عما دار بينكما من حديث، وهذا حقُّك لا ريب فيه، بل لا أجد فيه إخلالًا بواجب الصداقة، ولكني أود أن ألفت نظرك إلى أن كثيرين يُخدَعون بحديث عايدة، ويُفسِّرونه تفسيرًا لا يمت للواقع بسبب، وربما أحدثوا لأنفسهم بسبب ذلك متاعب لا داعي لها.

أفصح عما تريد قوله، في الجو نذُر تجهُّم لا يلبث أن ينقلب إعصارًا فيعصف بقلبك المطعون، كأن به موضعًا سليمًا لم يُطعن! أنت، أنت المخدوع يا صاح، ألا تدري أنه الحياء وحده الذي يمنعني من أن أفضي إليك بما كان؟ فلتَصعقني الصواعق إن أرحت لك بالًا.

– لم أفهم مما قلت حرفًا.

علا صوت حسن قليلًا، وهو يقول: لسانُها يجود في يسر بألطف الكلام، فيحسبه السامع ذا مغزى، أو أن وراءه عاطفة ما، ولكنه محض كلام لطيف تُخاطب به كلَّ من يحادثها سرًّا أو جهرًا، وكم خدع كثيرين!

برح الخفاء، صاحبك مُصاب بالداء الذي هصرك. من يكون حتى يدَّعي العلم بالبواطن؟ شد ما يثير حنقي! قال باسمًا وهو يتظاهر بعدم الاكتراث: يبدو أنك واثقٌ مما تقول؟

– إني أعرف عايدة حق المعرفة، نحن جيران منذ بعيد.

الاسم الذي يهاب النطق به في السر فضلًا عن الجهر ينطق به هذا الشاب المفتون بلا مبالاة، كأنه اسم فردٍ من غمار الملايين. هذه الجرأة فيه تخفضه في قلبه درجات، وترفعه في خياله درجات، وجملة «نحن جيران منذ بعيد» حزَّت في قلبه كالخنجر فأطاحت به كما تُطيح النوى بالغريب. سأله بلهجة مؤدبة وإن لم يخلُ مدلولها من سخرية: ألا يجوز أن تكون خُدعت أيضًا كالآخرين؟

فتراجع رأس حسن في كبرياء، وهو يقول في يقين: لستُ كالآخرين.

شدَّ ما أحنقه غطرسته، شد ما أحنقه جماله وثقته بنفسه، هذا الابن المدلَّل للمستشار الخطير الذي ترتقي الشبهات إلى أحكامه السياسية. وندَّت عن حسن «هه» كأنه ذيل ضحكة وإن لم تضحك أساريره، أراد أن يُمهد بها للانتقال من طبقة صوتية متغطرسة إلى طبقة أخرى لطيفة، ثم قال: إنها فتاة ممتازة لا تشوبها شائبة، ولو أن مظهرها وحديثها وأُنسَها تجرُّ عليها الظنون أحيانًا.

فبادره كمال قائلًا بحماس: إن مظهرها ومخبرها على السواء لفوق كلِّ ظن.

فحنى حسن رأسه بامتنان كأنما يقول له «أحسنت!» ثم قال: هذا ما ينبغي أن تراه عين بصيرة سليمة، غير أن ثمة أمورًا تُحيِّر بعض الأفهام، سأضرب لك أمثلة على سبيل التوضيح: إن البعض يسيء فهم اختلاطها في الحديقة بأصدقاء أخيها حسين، نابذةً ما جرَت به التقاليد الشرقية، والبعض الآخر يقف مُتسائلًا حيال محادثتِها لهذا وملاطفتها لذاك، وآخرون يتوهَّمون وراء الدعابة اللطيفة — تصدر عنها عفوًا — سرًّا خطيرًا، هل أدركت ما أعني؟

فقال كمال بنفس الحماس السابق: إني أُدرك ما تعني طبعًا، ولكني أخشى أن تكون مُغاليًا في ظنونك، عنِّي أنا شخصيًّا لم يُساورني شكٌّ قطُّ في أي تصرُّف من تصرُّفاتها؛ لأن أحاديثها ودعابتها ظاهرة البراءة، ولأنها من ناحية أخرى لم تتلقَّ تربية شرقية خالصة حتى تُطالب بالمحافظة على التقاليد، أو تؤاخَذ على الخروج عليها، وأظن أن هذا هو رأي الآخرين أيضًا.

هزَّ حسن رأسه كأنما يتمنَّى لو يستطيع أن يؤمن برأيه في «الآخرين»، غير أن كمال لم يُعن بالتعليق على ملاحظته الصامتة، كان سعيدًا بالدفاع عن معبودته، سعيدًا بالفرصة التي تهيَّأت له لإعلان رأيه في طهارتها وبراءتها، أجل لم يكن صادقًا في حماسه — لا لأنه كان يبطن غير ما يعلن، فطالَما آمن بأن معبودته فوق منال الشبهات — ولكن حزنًا على الأحلام السعيدة التي قامت على افتراض وجود «سر» وراء دعابات المعبودة وتلميحاتها الرقيقة، إنَّ حسن يُبدد تلك الأحلام كما بددها حديث اليوم تحت الكشك، ومع أن قلبه المكلوم كان يُجاهد سرًّا للاستمساك ولو بخيط واهٍ من خيوط الأمل، فإنه جارى حسن سليم مجاراة المؤمن برأيه تغطيةً لموقفه، ومُداراة لهزيمته، وإبطالًا لادعاء الآخر بأنه «العارف» وحده لحقيقة المعبودة. عاد حسن يقول: لا غرابة في أن تُدرك هذا فإنك شابٌّ لبيب، الواقع كما قلت إن عايدة بريئة، ولكن … معذرة إذا صارحتك بخصلة فيها ربما بدَت غريبة في عينيك، وربما كانت مسئولة لحدٍّ كبير عن سوء فهم الكثيرين لها، أعني شغفها بأن تكون «فتاة أحلام» كل مَن يتَّصل بها من الشباب … لا تنسَ أنه شغف بريء، فإنني أشهد بأنَّني لم أصادف فتاة أحفظ لكرامتها منها، ولكنها مُولَعة بقراءة الروايات الفرنسية، كثيرة التحدث عن بطلاتها، مفعمة الرأس بالخيال.

ابتسم كمال ابتسامة مطمئنة أراد أن يُعبر بها عن أنه لم يسمع جديدًا فيما قال صاحبه، ثم قال مدفوعًا برغبة في إغاظته: عرفتُ هذا كله من قبل، دار حديثنا يومًا — أنا وحسين وهي — عن الموضوع ذاته.

تمكَّن أخيرًا أن يخرجه عن وقاره الأرستقراطي، فنطقت أساريره بالدهش وتساءل كالمنزعج: متى كان ذلك؟ لا أذكر أنني حضرتُ هذا الحديث. هل قيل أمام عايدة إنها تود أن تكون «فتاة أحلام» كل شاب؟

رمق كمال ما طرأ عليه من تغيُّر بعين الظفر والارتياح، غير أنه أشفق من التمادي، فقال بحذر: لم يَرِد ذكر هذا بلفظه، ولكن بالمعنى الذي يُؤدي إليه خلال حديث دار حول ولعِها بالروايات الفرنسية، وإغراقها في الخيال.

استردَّ حسن هدوءه واتِّزانه، ولزم الصمت مليًّا كأنه يحاول أن يستجمع فكره الذي نجح كمال في تشتيته إلى حين، وبدا كالمتردِّد لحظات حتى شعر كمال بأنه يودُّ أن يعرف كل شيء عن الحديث الذي دار بينه وبين عايدة وحسين، متى وقع؟ ماذا جعلهم يطرَّقون هذه الشئون الحساسة؟ وما تفصيل ما قيل فيه؟ لولا أن كبرياءه كان يمنعه من السؤال، وأخيرًا قال: ها أنت نفسك تشهد لصدق رأيي، ولكن من سوء الحظ أن كثيرين لم يفهموا سلوك عايدة كما فهمتَه أنت، فلم يَفطنوا إلى حقيقة هامة، وهي أنها تحبُّ حبَّ الشخص لها لا الشخص نفسه.

لو اطَّلع الأحمق على الواقع ما تجشَّم كل هذا التعب الضائع، ألا يعلم بأنني لا أطمع حتى في أن تحبَّ حبِّي؟ انظر إلى رأسي وأنفي وانعَم بالًا. قال بصوت لم يخلُ من تهكُّم: تحبُّ حبَّ الشخص لها لا الشخص نفسه! يا لها من فلسفة!

– هي حقيقة أنا بها عليم.

– ولكنك لا تستطيع أن تَضمن صدقها في جميع الأحوال؟

– بلى أستطيع وأنا مغمض العينين.

غالب كمال حزنه وهو يتساءل متظاهرًا بالدهش: أتستطيع أن تؤكد عن يقين أنها لا تحب هذا الشخص أو ذاك؟

فقال حسن بثقة واطمئنان: أستطيع أن أؤكد أنها لم تحبَّ أحدًا ممَّن يتوهمون أحيانًا أنها تحبَّهم.

اثنان يحق لهما أن يتكلما بهذه الثقة: المؤمن والأحمق، وهو ليس بالأحمق، ترى لم يتحرك الألم ولا جديد فيما سمعت؟ الحق أني تألَّمتُ اليوم تألُّمَ عامٍ من أعوام الحب.

– ولكنك لا تستطيع أن تؤكد أنها لا تحب إطلاقًا؟

– لم أقل هذا.

فرمقه بالعين التي يتطلع بها الإنسان إلى العرَّاف، ثم سأله: أتدري إذن أنها تحب؟

فحنى رأسه بالإيجاب، وقال: إنما دعوتك إلى المَشي لأحدِّثك عن هذا.

غاصَ قلبه في أعماق صدره كأنما يُحاول الفرار من الألم، ولكنه غرق في عباب الألم، كان قبل ذلك يتألم لأنَّها لا يُمكن أن تحبه، ها هو مُعذِّبه يُؤكِّد له أنها تحب … إنَّ المعبودة تحب! … إن قلبها الملائكي يخضع لنواميس الشوق، والحنين، والرغبة، واللهفة الموجهة جميعًا إلى شخص معين! أجل، كان عقله — لا شعوره — يسلم أحيانًا بإمكان ذلك، ولكن كما يُسلم بالموت كفكرة مجرَّدة لا كحقيقة باردة ناشبة في جسد عزيز أو في جسده هو بالذات، لذلك فاجأه الخبر كأنه يتحقق لأول مرة في الوجود والفكر معًا، تأمل هذه الحقائق جميعًا، واعترف بأن ثمة آلامًا في هذه الدنيا لم تخطر لك على بال رغم خبرتك العميقة بالألم، استطرد حسن قائلًا: قلت لك من بادئ الأمر إنَّ لديَّ من الأسباب ما يُبرِّر هذا الحديث معك، وإلا ما سمحت لنفسي بالتدخل في خاصِّ شئونك.

ينبغي أن تلتهمه النار المقدَّسة حتى آخر ذرة من رماد.

– إني مُقتنع بما تقول، وها أنا مُصغٍ إليك.

ابتسم حسن ابتسامة خفيفة أوحت بتردُّده حيال الكلمة الأخيرة الفاصلة، فصبر كمال، ثم تعجله — رغم أن قلبه استشفَّ الحقيقة المفجعة — قائلًا: قلت إنك تَدري أنها تُحب؟

فنبذ حسن التردُّد قائلًا: نعم، يوجد بيننا ما يجعل لي الحق في ادِّعاء ما قلت.

عايدة تحبُّ أيتها السماوات! أوتار قلبِك تنقبض باعثة لحنًا جنائزيًّا، هل يُكنُّ قلبها لهذا الشاب السعيد مثل ما يُكنُّه لها قلبك، إن صحَّ أن هذا من المُمكنات فأحرى بالعالَم أن يتصدَّع، ليس صاحبك بكاذب لأنَّ النبيل الجميل لا يكذب، قصارى أملك أن يكون حبها من جنسٍ خلاف حبك، وإذا لم يكن من الفاجعة بد فمن العزاء أن يكون حسن هو المحبوب، من العزاء أيضًا أن الحزن والغيرة لا يطمسان الحقيقة أمام عينيك، هذا الغنيُّ الساحر العجيب! قال كالذي يضغط على زناد المسدس وهو يعلم أنه فارغ: يبدو أنك مُطمئنٌّ إلى أنها تحب — هذه المرة — الشخص نفسه لا حب الشخص لها!

فندَّت عنه «هه» مرة أخرى ليُعرب بها عن ثقته. ولمحه بنظرة سريعة ليرى مدى إيمانه بما يقول، ثم قال: لم يكن حديثنا قط — أنا وهي — من النوع الذي يَحتمِل معنيين.

أي نوع من الحديث هو؟ حياتي كلها أهبها ثمنًا لكلمة منه، أعرف الحقيقة كلها، وأتجرَّع العذاب حتى الثمالة، ترى هل سمع الصوت المُطرب وهو يقول له: «أحبك»؟ بالفرنسية قالها أم بالعربية؟ بمثل هذا العذاب تشتعل النيران، قال بهدوء: أُهنئك، كلاكما فيما أرى جدير بصاحبه.

– شكرًا.

– غير أني أتساءل عما دعاك إلى الإفضاء إليَّ بهذا السرِّ الثمين؟

فرفع حاجبَيه حسن، وهو يقول: لمَّا وجدتُكما تتحدَّثان على انفراد أشفقت أن تُخْدَع ببعض القول كما خُدِعَ كثيرون، فصممت على مصارحتك بالحقيقة؛ لأني كرهت فكرة انخداعك أنت بالذات.

غمغم كمال قائلًا: «شكرًا» تأثُّرًا بالعطف السامي، عطف الشاب الموهوب الذي تُحبُّه عايدة، الذي كره له الانخداع فقتَلَه بالحقيقة، ترى ألم تكن أوهام الغيرة بين البواعث التي أغرته بمصارحته بسرِّه؟ ولكن أليس له عينان يرى بهما رأسه وأنفه؟ استطرد حسن قائلًا: إنها ووالدتها كثيرًا ما يزُوران بيتنا، وهناك تسنح لنا فرص للحديث.

– على انفراد؟

أفلتت العبارة منه بلا وعي، فارتبك نادمًا وتورَّد وجهه، ولكن الآخر قال ببساطة: أحيانًا.

كم يودُّ أن يَراها في هذا الدور — دَور المُحِبة — الذي لم يخطر له في خيال، كيف تتجلى في العين الساجية التي تلقي إليه بنظرتها من عل لمعة الوجد والحنان؟ منظر يُضيء العقل بقبس من الحقيقة المقدَّسة، ويقتل القلب قتلًا، بهذا تستباح لعنة الكفر الأبدية، روحك يتملمَل كطائر سجين يودُّ أن يَنطلِق، العالم مُلتقى خرابات يَستعذِب عنه الرحيل، لكنَّك حتى إذا صحَّ عندك أن الشفاه تلاقت في قُبلة وردية فلن تعدم في دوامة الجنون لذة الحرية المطلقة، وسأله مدفوعًا برغبة انتحارية لم يستطع مقاومتها فضلًا عن فهمها: كيف إذن تُوافق على اختلاطها بأصدقاء حسين؟

تريَّث حسن قائلًا قبل أن يُجيب قائلًا: لعلِّي لا أرتاح إلى ذلك كل الارتياح، ولكني لا أجد فيه مأخذًا وهي تُمارسه على مرأى من أخيها ومن الجميع وبحكم تربيتِها الأوروبية، ولا أُخفي عليك أني فكرت أحيانًا في مكاشفتها بامتعاضي ولكني كرهت أن ترميني بالغيرة، وكم تودُّ لو تثير غيرتي! أنت تعرف طبعًا هذه الحيل النسائية، وأعترف لك بأني لا أستسيغها.

لا عجب أن إثبات دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس قد أطاح بأوهامٍ ودوَّخ رءوسًا.

– كأنها تتعمَّد مضايقتك!

فقال حسن بلهجته الناطقة بالثِّقة: على أنه في وسعي دائمًا أن أحملها على الإذعان لمشيئتي إذا أردت.

أثارته هذه الجملة واللهجة التي قيلت بها إلى حدِّ الجنون، وتمنى لو يجد سببًا يعتل به على ضربه ليمرغه — وإنه لقادر — في التراب، ولحظه من علُ فلاحَ له الفارق بين طوليهما أكثر من الواقع بكثير، لِمَ لَمْ تحبَّ أيضًا الذي دونها سنًّا؟ وآمن قلبه بأنه خسر الدنيا.

ودعاه حسن إلى تناول الغداء على مائدته، فاعتذر شاكرًا، ثم تصافَحا وافترقا.

عاد فاتر النفس مثقل القلب بالقنوط، وكان يود أن يخلو إلى نفسه ليحتضن أحداث يومه متأملًا حتى يستصفي معانيها كلها، بدت الحياة متلفعة بثوب حداد، ولكن ألم يكن يعلم من أول الأمر أن هذا الحب ضائع؟ فأيُّ جديد جلجلت به الحوادث؟ على أي حال ليكن عزاؤه أن الآخرين يتكلمون عن الحب، أما هو فيحب ملء قلبه. إنَّ الحب الذي ينور روحه لا يستطيعه أحد سواه، فهذا هو امتيازه وتفوقه، ولن يتخلَّى عن حلمه القديم بأن يظفر بمعبودته في السماء، في السماء حيث لا فَوارق مُصطنعة ولا رأس كبير ولا أنف غليظ، في السماء ستكون عايدة لي وحدي بحكم قوانين السماء.

٢٠

كأنه لم يَعُد له وجود، تجاهلتْه بحالٍ لا يُمكن أن يتأتَّى إلا عن تعمُّد، فطنَ إلى ذلك أول ما فطن إليه صباح الجمعة التالي — بعد مضيِّ أسبوع على حديث حسن سليم بشارع السرايات — في اجتماع الأصدقاء بكشك الحديقة بسراي آل شداد. كانوا يتحادَثون فجاءت عايدة كعادتها مُصطحبة بدور، لبثت عندهم قليلًا تُخاطب هذا وتداعب ذاك دون أن تُعيره التفاتًا، فظنَّ أول وهلة أن دورَه سيجيء. ولكن طال به الترقب، ولاحظ إلى هذا أن عينيها لا تُريدان أن تلتقيا بعينَيه أو لعلهما تجتنبانه؛ فخرج عن موقفه السلبي، واعترض حديثها بملاحظة عابرة ليَحملها على مخاطبته، ولكنها واصلت الحديث متجاهلة إياه، ومع أن أحدًا لم يتنبَّه فيما بدا إلى مناوراته الفاشلة — لانهماكهم في الحديث المحبوب — فإن ذلك لم يخفف من وقع اللطمة التي تلقاها من غير أن يُدرك لها سببًا، غير أنه مال إلى تكذيب ما قام بنفسِه ودارى شكوكه، وجعل يتحيَّن الفرص لتجربة حظه من جديد، وهو من الإشفاق في غاية، وإذا ببدور تُحاول الإفلات من يد عايدة ملوِّحة له بيدها المطلقة، فتقدم منها ليأخذها بين ذراعيه، ولكن عايدة جذبتها نحوها وهي تقول: «آن لنا أن نذهب!» ثم حيتهم ومضت إلى حال سبيلها.

آه، ما معنى هذا؟ إن عايدة غضبانة عليه، وما أرادت بمجيئها إلا أن تعالنه بغضبها، ولكن فيم آخذته؟ أي ذنب جنى؟ أي هفوة كبيرة أو صغيرة أتى؟ يا لها من حيرة هزئت بمنطقه وشتتت يقينه، بيد أنه قبض على زمام نفسه بيدٍ قوية أن تفضحه شجونه، وكان على ضبط النفس قادرًا، فمثل دوره المألوف تمثيلًا حسنًا، ووارى أثر الضربة القاصمة عن أعين الصحاب، وقال لنفسِه بعد تقوُّض المجلس: إنه يَحسُن به أن يواجه الحقيقة مهما تكن قاسية، وأن يُسلِّم بأن عايدة حرمته — اليوم على الأقل — من نعمة صداقتها. إن في قلبه العاشق مسجلًا كهربائيًّا دقيقًا لا يترك للحبيب همسة أو خطرة أو لمحة إلا سجلها. حتى النوايا يطلع عليها، وحتى الآتي البعيد يبتدهُه، ليكن السبب ما يكون، أو ليكن الأمر بلا سبب كمرضٍ استعصى على الطبِّ سرُّه، فإنه في الحالين يرى كأنه ورقة شجر انتزعتها ريح عاتية من فنن غصن، وألقت بها في غثِّ النفايات.

ووجد فكره يحوم حول حسن سليم، ألم يختم حديثه معه بقوله: «على أنه في وسعي دائمًا أن أحملها على الإذعان لمشيئتي إذا أردت»؟ ولكنها جاءت اليوم كعادتها، إن بلواه من تجاهلها إياه لا من غيابها، ثم إنه وحسنٌ افترقا على صفاء، وليس ثمة ما يدعو حسن إلى مطالبتها بتجاهله، وليسَت هي بالتي تَمتثل أمر إنسان مهما يكن شأنه، وليس هو بالمذنب، فما سر التجني يا رب السماوات؟ إن لقاء الكشك — بينه وبينها — على قسوته، وعبثه الجارح برأسه وأنفه وكرامته، لم يخلُ من مودة ودعابة، ثم ختم بما يشبه الاعتذار، ربما يكون قد قضى على أمله في الحب، ولكنه لم يكن في حبه أمل، أما لقاء اليوم فابتلاه بالتجاهل، بالنبذ، بالصمت، بالموت، ولأن يجفو الحبيب أو يقسو خير على أي حال من أن يمرَّ بعابده وكأنه شيء لم يكن، يا لَلتعاسة! ألم جديد يُضاف إلى معجم الآلام الذي يحمله على صدره، ضريبة جديدة للحب، وما أفدح ضرائبه! يؤدي بها ثمن النور الذي يُضيئه ويحرقه.

واحتقن بالغضب صدره، عزَّ عليه جدًّا ألا يحظى على حبه العظيم إلا بهذا الإعراض البارد المُتعجرِف، وحز في نفسه ألا يتمخض غضبه إلا عن الحب والولاء، وإلا يردَّ اللطمة إلا بالابتهال والدعاء، ولو كان المتجنِّي عليها شخصًا آخر، ولو كان حسين شداد نفسه لقطَّعه دون تردُّد، أما وهو المعبود فقد رُدَّت شظايا الغضب إلى نحره، وانصبت العداوة على هدف واحد هو نفسه، فنزعت به الرغبة في الانتقام إلى إنزال العقاب بالجاني — الذي هو نفسه — قضى عليها بالحرمان من الدنيا، وامتلأ بشعورٍ عنيدٍ محزون أملى عليه الإعراض عنها إلى الأبد. رضيَ فيما رضي بصداقتها، بل اعتبرها فوق أحلام مطمعه بالرغم من أن قوة حبه تضيق عنها السماوات والأرض، ورضيَ أكثر من هذا باليأس من حبها قانعًا من عربدة الأماني بابتسامة حلوة أو كلمة رقيقة، ولو تكون ابتسامة الوداع وكلمته، غير أن التجاهل أحزنه وأذهله وخبله، ثم من الدنيا جميعًا نبذه، ولعله أتاح له أن يشعر بشعور الميت لو كان ميت يشعر، لم تَرحمه الفِكَر ساعة من ساعات يقظته طول الأسبوع الذي قضاه بعيدًا عن قصر آل شداد، وتهالَك شعوره في اجترار الخيبة التي قرعته لحظة بعد أخرى، وهو في البيت صباحًا يُفطر على مائدة أبيه، وهو في الطريق يسير بحواس زائفة، وهو في مدرسة المعلمين يسمع بعقل غائب، وهو يقرأ مساءً بانتباه مشتت، وهو يتذلل للنوم كي يقبله في ملكوته، ثم وهو يفتح عينيه في الصباح الباكر فإذا بالفِكَر تتخاطَفُه كأنما كانت على عتبة الوعي ترصده، أو كأنما هي التي طرقته بجزع النَّهم كي تُواصل الْتهامه كرَّةً أخرى، ألا ما أفظع النفس إذا خانت صاحبها!

ويوم الجمعة ذهب إلى قصر الحب والعذاب، فبلغه قبل الميعاد المعتاد بقليل. لماذا ترقب هذا اليوم بصبرٍ نافد؟ ماذا يرجو عنده؟ هل يطمع أن يجد ولو نبضًا بطيئًا ضعيفًا؛ ليوهم نفسه بأن جثة الأمل لم تفارقها الحياة بعد؟ هل يحلم بمعجزة تردُّ معبوده إلى الرضا على غير انتظار وبلا سبب كما غضب على غير انتظار وبلا سبب؟ أو أنه يَستزيد من الجحيم نارًا ظمأً إلى برودة الرماد؟ سار في ممر الذكريات إلى الحديقة، وإذا به يرى عايدة جالسة على كرسيٍّ واضعة بدور على حافة المائدة أمامها، وليس في الكشك سواها أحد. توقف عن المسير وفكَّر في العودة إلى الخارج قبل أن تلتفت ناحيته، ولكنه نبذ هذه الفكرة بتحدٍّ وازدراء، وتقدَّم صوب الكشك تدفعه رغبة شديدة في مواجهة العذاب وكشف النقاب عن اللغز الذي فتك بأمنه وسلامه، هذا الكائن اللطيف الجميل، هذا الروح الشفاف المتنكر في فستان امرأة، هل يدري ماذا فعل به جفاه؟ هل ينام ضميره قرير العين لو شكا إليه ما عاناه، ما أشبه استبداده باستبداد الشمس بالأرض الذي قضى عليها بأن تدور حولها في دائرة مرسومة — لا تقترب منها فتندمج، ولا تبتعد عنها فتنتهي — إلى الأبد! لو تجود بابتسامة فيتداوى بها من آلامه جميعًا؟ وكان يقترب منها متعمدًا أن يُحدث في مشيته صوتًا لتنبيهها، فأدارت رأسها نحوه كالمُتسائلة، ثم لم تفصح أساريرها عن شيء، فوقف على بُعد ذراعين من مجلسها، وحنى رأسه في خشوع، وقال باسمًا: صباح الخير.

فحنت رأسها حنوة صغيرة، ولكنها لم تَنبس، ثم نظرت فيما أمامها.

لم يعد ثمة شك في أن الأمل جثة هامدة. وخُيِّل إليه أنها ستَصيح به: «اذهب عني برأسك وأنفك حتى لا يحجبا عني ضوء الشمس!» غير أن بدور لوحت له بيدها، فمالت عيناه إلى وجهها الجميل المشرق، ومضى نحوها ليُداري في عطفها البريء هزيمته فتعلقت بذراعيه، فهوى برأسه إليها وقبَّل خدها قبلة حنان وامتنان، وإذا بالصوت الذي فتح له فيما مضى أبواب الموسيقى الإلهية يقول بجفاء: من فضلك لا تُقبِّلها، القُبلة تحية غير صحية.

ندت عنه ضحكة حائرة لم يدرِ كيف ولا لمَ ندَّت، ثم امتُقع لونه، وبعد دقيقة واجمة ذاهلة قال منكرًا: إنها ليسَت القُبلة الأولى فيما أذكر.

فرفعت كتفَيها كأنما تقول «هذا لا يغير من الحقيقة شيئًا!» آه، أيمضي إلى أسبوع جديد من العذاب دون أن يَنطِق بكلمة دفاعًا عن نفسه؟

– اسمحي لي أن أتساءل عن سرِّ هذا التغيُّر الغريب، فقد جعلت أتساءل عنه طوال الأسبوع الماضي دون أن أظفر بجواب!

لم يبدُ عليها أنها سمعته، وبالتالي لم تُعن بالرد عليه؛ فعاد يقول وقد وشى صوته بحيرته وألمه: إن ما يُحزنني حقًّا هو أني بريء لم أجنِ ما أستحق عليه العقاب.

ولم تزل مصرة على الصمت، فخاف أن يَجيء حسين قبل أن يستدرجها إلى الكلام، فبادر يقول بلهجة جمعت بين التشكي والترجي: ألا يستحق صديق قديم مثلي أن يُكاشَف على الأقل بذنبه؟

فرفعت نحوه جانب رأسها، ولحظته بنظرة مُكفهرَّة اكفهرار السحاب المنذر بالمطر، ثم قالت بلهجة غاضبة: لا تدع البراءة الكاذبة.

يا رب السماوات هل تُرْتَكَب الذنوب بلا وعي من الجاني؟ قال في نبرات متدافعة، وهو يربِّت بحركة آلية يدَي بدور التي حاولت أن تجذبه إليها وهي لا تُدرك مما يدور شيئًا: صدقت ظنوني وا أسفاه، هذا ما حدَّثَني به قلبي فكذبته، إني مُذنب في نظرك، أليس كذلك؟ ولكن بأي ذنب تتهمينني؟ خبريني وحياتك، لا تنتظري أن أكون البادئ بالاعتراف لسببٍ بسيط؛ وهو أنني لم أجنِ شيئًا يستحق الاعتراف، مهما أنقِّب في زوايا نفسي وحياتي وتاريخي فلن أعثر على نية أو كلمة أو فعل وجِّه ضدك بسوء، إني أعجب كيف لا تأخُذين هذا مأخذ البديهات من الأمور؟

فقالت بازدراء: لستُ ممَّن يؤثِّر فيهن التمثيل، سل نفسك عما قلت عني!

فقال بانزعاج: ماذا قلت عنك؟ ولمن قلته؟ أقسم لك …

فقاطعته بضيق قائلة: لا يهمني القسم في كثير أو قليل، وفِّره لنفسك، إنَّ الذي يغتاب الناس لا يؤتمن على قَسَم، المهم أن تذكر ماذا قلت عني.

رمى بمعطفه على مقعد كأنما ليأخذ كامل أهبته للنضال، وابتعد خطوة عن بدور؛ ليتخلص من محاولتها البريئة في الاستئثار بانتباهه، ثم قال بحرارة ناطقة بالصدق: لم أقل عنك كلمة أخجل من إعادتها الآن على مسمَعك، لم أتفوه عنك بكلمة سوء في حياتي، وما كان ذلك في وسعي لو تعلمين، وإذا كان «بعضهم» قد أبلغك عنِّي ما أغضبك، فهو واش حقير لا يستحقُّ ثقتك، وإني على استعداد لمواجهته أمامك لتري بنفسك مبلغ صدقه أو بالحريِّ مدى كذبه، ماذا بكِ من عيب حتى أتحدث به؟ لشدَّ ما أسأت بي الظن!

فقالت بتهكم: شكرًا على هذا الثناء الذي لا أستحقه، لا أظنني أخلو من نقص. على الأقل فإني لم أتلقَّ تربية شرقية خالصة.

نشبت هذه الجملة الأخيرة في انتباهه، فذكر كيف وردت على لسانه وهو يُحاور حسن سليم دافعًا الشبهات عن معبودته، فهل يكون حسنٌ أعادها بطريقة أثارت الشك في حُسن مقصده؟ حسن سليم النبيل؟ هل يتأتَّى هذا حقًّا؟ شد ما يدور رأسه! قال وعيناه تنطقان بالدهش والأسف: ماذا تقصدين؟ أعترف لك بأني قائل هذه الجملة، ولكن سلي حسن سليم يُخبرك، أو ينبغي له أن يخبرك، بأنني قلتها وأنا أنوِّه بمزاياك.

فحدجته بنظرة باردة، وتساءلت: مزاياي؟ وهل رغبتي في أن أكون «فتاة أحلام» كل شابٍّ من بين هذه المزايا؟

فهتف كمال بانزعاج وغيظ: هو قائل هذا عنك لا أنا، هلا انتظرتِ حتى يحضر لأتحداه أمامك؟

فواصلت تساؤلها الذي تتابع في مرارة وسخرية قائلة: وهل ملاطفتي إياك من بين هذه المزايا أيضًا؟

قال يائسًا وقد عجز حيال انصباب التهم عن الدفاع: ملاطفتك إياي؟ أين؟ ومتى؟

– في هذا الكشك؟ هل نسيت؟ أتُنكر أنك أوهمته ذلك؟

آلمته سخريتها وهي تتساءل: «هل نسيت؟» وأدرك لتوِّه أن حسن سليم — يا للحماقة — قد ظن بلقاء الكشك الظنون، فكاشف حبيبته بشكوكه، أو نسبها إليه ليتحقَّق منها، حيل خبيثة راح هو ضحيتها، قال بحزن وحنق: أنكر، أنكر بكل قوة وصدق، إني نادمٌ على حُسن ظني بحسن.

فقالت بكبرياء كأنما اعتبرت جملته الأخيرة موجَّهة إليها هي: إنه عند حُسن الظن دائمًا.

زفَر غبارًا، وخُيِّل إليه أنَّ أبا الهول قد رفع قبضته الجرانيتية الهائلة التي لم تتحرَّك منذ آلاف السنين، ثم هوى بها عليه، فهرَسَه وواراه تحتها إلى الأبد، قال بصوت متهدِّج: إذا كان حسن هو الذي أبلغك عني هذه الأكاذيب فهو كاذب وضيع، ويكون هو الذي اغتابني لا أنا الذي اغتبتك.

لاحت في عينَيها الجميلتَين نظرة قاسية، وتساءلت بحدة: أتُنكر أنك انتقدت أمامه اختلاطي بأصدقاء حسين؟

أهكذا يُحرِّف النبل الأرستقراطي الكلام؟ قال بتأثر شديد: كلا، لم يحصل ذلك، علم الله أني لم أقله مُنتقدًا، ولكنه ادَّعى ادعاءات كبيرة، قال … قال إنك تحبينه! وقال إنه إذا شاء منعك من الاختلاط بنا، ولم أكن أقصد …

قاطعته قائلة بازدراء وهي تقف مُنتصِبة القامة في كبرياء، حتى تموَّجَت هالة شعرها الأسود بحركة رأسها المرفوع.

– أنت تهذي، لا يُهمني ما يقال عني، إني فوق هذا كله، ولا خطأ لي فيما أعتقد إلا أنني أهب صداقتي دون تمييز.

وأنزلت بدور إلى الأرض وهي تتكلَّم، فتناولت يدها، ثم ولَّته ظهرها، وغادرت الكشك، فهتف بها متوسلًا: انتظري لحظة من فضلك كي …

ولكنها كانت قد ابتعدت، وكان صوته قد علا أكثر مما ينبغي حتى خُيِّل إليه أنه أسمع الحديقة كلها، وأن الأشجار والكشك والكراسي ترمقُه بنظرة جامدة ساخرة، فأطبق فاه، واعتمد براحته حافة المائدة، فمال فرعه الطويل كأنما انحنى تحت ضغط القهر. لم يَمكث وحده طويلًا، فما لبث أن جاء حسين شداد طلقَ المُحيا كعادته، فحياه تحيَّته الصافية الحلوة، وجلسا على كرسيين متجاورين، وتبعه بعد قليل إسماعيل لطيف، وأخيرًا جاء حسن سليم يسير في خطواته المُتمهِّلة، وحركاته المترفِّعة. وتساءل كمال في حيرة: ترى ألم يَلمحهما حسن من بعيد كما لمحَهما في المرة السابقة؟ ومتى — وكيف — يَدري بما دار بينهما من حديث قاطع أسيف! وانفجر في صدره الغيظ والغيرة كما تنفجر الزائدة، بيد أنه آلى على نفسه ألا يُشمت به غريمًا، وألا يضع شخصه موضع السخرية أو العطف الزائف، وألا يُمكِّن أحدًا من أن يُطالع في صفحة وجهه أثرًا مما تَضطرِب به جوانحه، فألقى بنفسِه في تيار الحديث، ضحك لملاحظات إسماعيل لطيف، وعلَّق طويلًا على تكوُّن حزب الاتحاد وخروج الخارجين على سعد زغلول والوفد، ودور نشأت باشا في هذا كله، بالاختصار مثَّل دوره خير تمثيل حتى انفضَّ المجلس بسلام. وغادر كمال وإسماعيل وحسن سراي آل شداد عند الظهر، وكأن كمال لم يَعُد يحتمل مزيدًا من الصبر، فخاطب حسن قائلًا: أريد أن أحدثك قليلًا.

فقال حسن بهدوء: تفضل.

فنظر كمال إلى إسماعيل كالمُعتذر، وقال: على انفراد.

همَّ إسماعيل بالانسحاب، فأوقفه حسن بإشارة من يده، وقال: لستُ أخفي عن إسماعيل شيئًا.

فأحنقته هذه الحركة فاستشفَّ وراءها مريبًا يتوجَّس، غير أنه قال دون مبالاة: إذن فليسمعنا، فلست أخفي عنه شيئًا أيضًا.

وانتظر قليلًا حتى باعد المشيُ بينهم وبين سراي آل شداد، ثم قال: قبل حضوركم اليوم اتفق لي أن قابلت عايدة في الكشك على انفراد، فدار بيننا حديث غريب أدركتُ منه أنك نقلت إليها بعض حديثنا في شارع السرايات — أتذكره؟ — مشوَّهًا محرَّفًا حتى دخل في روعها أنني حملت عليها حملة ظالِمة باغية.

ردَّد حسن بين شفتَين ممتعضتَين لفظي: «مشوه ومحرَّف»، ثم قال ببرود وهو يُلقي عليه نظرةً كأنما يُريد بها أن يذكره بأنه إنما يخاطب «حسن سليم» لا شخصًا آخر: يَحسُن بك أن تُكلف نفسك بعض الجهد في تخيُّر الألفاظ.

فقال كمال بانفعال: هذا ما فعلته، فالحق أن كلامها لم يدَع لي شكًّا في أنك أردت الوقيعة بيني وبينها.

حال لون حسن غضبًا، ولكنه لم يَستسلِم له، فقال بصوت أمعن في البرود: يُؤسفني أنني أحسنت الظن طويلًا بفهمك وتقديرك للأمور، (ثم بلهجة ساخرة) هلا خبَّرتني عما عسى أن أجنيَه من وراء هذه الوقيعة المزعومة؟ الحق أنك تَندفِع بلا روية أو عقل.

فاشتدَّ الغضب بكمال، وهتف قائلًا: بل سوَّلت لك نفسك سلوكًا شائنًا.

وهنا تدخل إسماعيل قائلًا: إني أقترح عليكما تأجيل الحديث إلى وقت آخر تكونان فيه أملك لأعصابكما.

فقال كمال بإصرار: إنَّ الأمر من الجلاء بحيث لا يحتاج إلى مناقشة، وهو عارف وأنا عارف.

فعاد إسماعيل يقول: قصَّ علينا ما دار في الكشك بينك وبينها لعلنا …

ولكن حسن قاطعه بكبرياء: أنا لا أقبل محاكمة.

فهتف كمال منفسًا عن غيظه، وإن كان يعلم أنه من الكاذبين: على أيِّ حال أخبرتها بالحقيقة لتعلم أينا أصدق قولًا.

فصاح حسن بوجه مُمتقع: فلندَعْها تُوازن بين ما قال ابن التاجر وما قال ابن المستشار.

اندفع كمال نحوه مكورًا قبضته فحال إسماعيل نحوهما، وكان أقوى الثلاثة رغم ضآلة حجمه، ثم قال بحزم: لا أسمح بهذا، كلاكما صديق، محترم ابن محترم، دعانا من هذا العبث الخليق بالأطفال.

عاد ثائرًا هائجًا جريحًا يقطع الطريق بخطوات حادة اعتدائية، وباطنه يستعر بالألم، طُعن في قلبه وكرامته، معبودته وأبيه، فما بقيَ له في الدنيا؟ وحسن، الذي لم يَحترم زميلًا كما احترمه، ولا أعجب بخلق أحد كما أعجب بخلقِه، كيف انقلب في ساعة من الزمان وقاعًا سبَّابًا؟ الحق أنه رغم حنقه عليه لم يَستطع أن يؤمن بالتُّهمة التي اتهمه بها إيمانًا خالصًا من كل شك أو تردُّد، فلم يزل يعاوده التفكير في الأمر، فيسائل نفسه: ألا يجوز أن يكون من وراء ذلك الموقف الأليم ما وراءه من أسرار؟ أيكون حسن شوَّه كلامه؟ أم تكون عايدة قد أساءت الفهم، أو بالغت في التكهُّن، أو استسلمت للغضب؟ غير أنَّ الموازنة بين ابن التاجر وابن المستشار رمت به في جحيم من الغضب والألم جعَلا من مُحاولة إنصاف حسن ضربًا من العبث. وقد ذهب بعد ذلك إلى سراي آل شداد في موعِد اللقاء المعهود، فوجد حسن مُعتذرًا عن التخلُّف بطارئ، وأخبره إسماعيل لطيف عقب انفضاض المَجلس: بأنه — حسن — آسفٌ جدًّا على ما بدر منه حين الغضب عن «ابن التاجر وابن المستشار» وأنه مؤمن بأنه — كمال — ظلَمه ظلمًا فادحًا باستنتاجاته الواهمة وأنه يرجو ألا تقطع هذه الحادثة العارضة أسباب الصداقة بينهما، وأنه — حسن — كلفه بإبلاغه ذلك عن لسانه، ثم تلقى منه خطابًا بهذا المعنى مشددًا الرجاء في ألا يعودا إلى الماضي إذا تلاقيا، وأن يسدلا عليه ستار النسيان، وختمه بقوله: «اذكر جملة ما أسأت به إليَّ وجملة ما أسأتُ به إليك لعلك تَقتنِع معي بأن كلانا مُخطئ، وأنه لا يصح لأحدنا تبعًا لذلك أن يرفض اعتذار صاحبه.» وطابت نفس كمال بالرسالة حينًا، بيد أنه لاحظ أن ثمة تناقُضًا بين كبرياء حسن المعروف وبين هذا الاعتذار الرقيق غير المتوقع، أجل غير المتوقع! فما كان يتصور أنه يَعتذر لأي سبب من الأسباب! فماذا غيَّره؟ لا يُمكن أن يكون لصداقته هو هذا التأثير الضخم في كبرياء صاحبه، فلعله — حسن — أراد أن يستردَّ سُمعته المهذَّبة أكثر مما أراد استرداد صداقته، ولعله حرص أيضًا على ألا يستفحل الشقاق فتترامى أنباؤه إلى حسين شداد أن يستاء الشاب لموقف شقيقته من النزاع، أو يغضب بدَوره إذا بلغه ما قيل عن ابن التاجر — وهو ابن تاجر — وابن المستشار! أي سبب من أولئك له وجاهته وهو أدنى إلى المنطق في حال حسن من اعتذارٍ لا يُراد به إلا وجه الصداقة وحدها؟ كل شيء يهون، فليُصالحه حسن أو فليخاصمه، المهم حقًّا أن يعرف هل قررت عايدة الاختفاء؟ لم تعد تطوف بمجلسهم، أو تبدو في النافذة، أو تلوح في الشرفة. لقد أفشى لها قول حسن بأنه إذا شاء منعها من الاختلاط بأحد ليَضمن — اعتمادًا على كبريائها — إصرارها على زيارة الكشك فلا يُحرم من رؤيتها. لكنها اختفت رغم ذلك، كأنما رحلت عن البيت كله، بل عن الحي كله، بل عن الدنيا كلها فما عاد يجد لها طعمًا، أيُمكِن أن يطول هذا الفراق إلى ما لا نهاية؟ ودَّ لو كان قصدها أن تعاقبه حينًا ثم تعفو، أو في الأقل أن يذكر حسين شداد سببًا لغيابها يكذب مخاوفه، ودَّ هذا أو ذاك كثيرًا، وانتظر وطال انتظاره بلا فائدة.

كان إذا مضى لزيارة السراي أقبل عليها بعينين قَلِقتَين تَضطربان في محجريهما بين اليأس والرجاء، فيسترق إلى شُرفة المدخل نظرة، وإلى نافذة الممر الجانبي نظرة، ثم يلحظ شرفة الحديقة وهو في طريق الكشك أو السلاملك، ويجلس بين الأصدقاء ليحلم طويلًا بالمفاجأة السعيدة التي لا تُريد أن تقع، وينفضُّ المجلس فيُغادره ليختلس نظرات متعبة حزينة من النافذة والشرفات، خاصة نافذة الممر الجانبي التي كثيرًا ما تظهر في أحلام يقظته إطارًا للصورة المعبودة، ثم يذهب مُتجرعًا اليأس، زافرًا الكرب، وبلغ به اليأس أن كاد يسأل حسين شداد عن سر اختفاء عايدة، غير أن تقاليد الحي العتيق التي تَشبَّع بها عقلته فلم ينطق، وجعل يتساءل في قلق عن مدى إلمام حسين بالظروف التي أدَّت إلى تواري المعبودة، أما حسن سليم فلم يُشر إلى «الماضي» بكلمة، ولم يبدُ في صفحة وجهه أنه يُفكِّر على أي وجه فيه، ولكن لا شك أنه كان يرى في كل جلسة تجمعهم شاهدًا على هزيمته — كمال — المجسمة، وكم كان يتألم كمال لهذا الخاطر، تعذب كثيرًا، شعر بالعذاب ينفذ إلى نخاعه، وبهذيان العذاب يخالط عقله، وكان شر ما يُعذبه لوعة الفراق، ومرارة الهزيمة، وضيقة اليأس، وأفظع من هذا كله الإحساس بالهوان، بأنه المنبوذ من روضة الرضا، المحروم من أنغام المعبود وأضوائه، فجعل يُردِّد ورُوحه تذرف دموع الأسى والقهر: «أين أنت من أولئك السعداء أيها المَخلوق المشوَّه؟» ما معنى الحياة إن أصرت على الاختفاء؟ أين تجد عيناه النور؟ ويتلقَّى قلبه الحرارة؟ وتنعم روحه بالغبطة؟ فلتبدُ المعبودة بأيِّ ثمن ترضاه، فلتبد لتحب من تشاء حسن كان أو غيره، فلتبد ولتهزأ برأسه وأنفه ما شاء لها المزاح واللعب، إن اشتياقه إلى اجتلاء طلعتها وسماع صوتها فاق طاقة النفس على الاشتياق، فأين منه نظرة رانية لتمسح عن صدره سخام الكآبة والوحشة! ولتُسرِّ قلبًا أمسى مفتقد السرور منه كالنور من فقيد البصر، فلتبدُ وأن تَتجاهله، فإنه إن خسر سعادة القبول عندها فلن تضيع سعادة رؤيتها، ورؤية الدنيا بعد ذلك في مُجتلى ضوئها البهيج، أما بغير ذلك فلن تكون الحياة إلا لحظات متَّصلة من الألم المُخلخل بالجنون، وهل كان خروجها من حياته إلا كخروج العمود الفقري من الجسم الإنساني يردُّه من بعد توازن وتكامل إلى شبه جثة ناطقة؟

وأخرجه الألم والقلق عن الصبر، فلم يَعُد يحتمل الانتظار حتى يجيء يوم الجمعة؛ فكان يذهب مع الأصدقاء إلى العباسية، فيحوم حول السراي من بعيد لعله يَلمحها في نافذة أو شرفة أو في خطراتها وهي تظنُّ أنها بمنأى عن عينيه، على أن الانتظار في بين القصرين كان من فضائله اليأس بخلاف حوَمان المحموم حول مقام المعبودة، كحوَمان مجموعة من الديناميت حول عمود من النيران. ولم يرَها، ولكنه رأى مرَّاتٍ أحد الخدم وهو ذاهب إلى الطريق أو عائد منه، فكان يتبعه عينًا متفحِّصة متعجبة كأنما تُسائل المقادر عما جعلها تخصُّ هذا الإنسان بحظوة القرب من المعبودة كأنما تُسائل المقادير عما جعلها تخصُّ هذا الإنسان بخطوة القرب من المعبودة، والاختلاط بها، والاطِّلاع على شتَّى أحوالها، مُستلقية أو مترنِّمة أو لاهية، كل ذلك من حظ هذا الإنسان الذي يعيش في المحراب ولا تشغل قلبه العبادة.

وفي جولة من جولاته رأى عبد الحميد بك شداد وحرمه المصون وهما يُغادران القصر ليركبا المنرفا التي كانت في انتظارهما أمام الباب، رأى الشخصين السعيدين اللذين تقف عايدة أمامهما — من دون العالمين — بإجلال واحترام، اللذَين يخاطبانها بلسان الأمر أحيانًا فلا تملك إلا أن تُطيع، وهذه الأم المقدَّسة التي حملتها في بطنها تسعة أشهر، فما من ريب في أن عايدة كانت جنينًا فوليدة كتلك المخلوقات التي كان يَرنو إليها طويلًا في فراشي عائشة وخديجة، وليس من إنسان هو أعرف بطفولة معبودته من هذه الأم السعيدة المقدسة. سوف تبقى الآلام ما بقي في متاهة الحياة أو في الأقل لن تُمحى آثارها. أين تذهب ليالي يناير الطوال وهو دافن في الوسادة عينيه الهامعتَين؟ وبسط راحتَيه إلى رب السماوات وهو يدعو من الأعماق: «اللهم قل لهذا الحب كن رمادًا كما قلت لنار إبراهيم كوني بردًا وسلامًا»؟ وتمنِّيه لو كان للحب مركز معروف في الكائن البشري لعلَّه يَبتره كما يُبْتَر العضو الثائر بالجراحة؟ وهتافه باسمها المحبوب ليتلقى صداه في سكون الحجرة الصامتة بقلب خاشع كأنما كان غيره المنادى؟ ومحاكاته لصوتها حينما دعَت باسمه ليستعيد حلم السعادة المفقودة؟ وتقليبه البصر في كراسة الذكريات للتثبت من أن ما كان كان حقيقة لا وهمًا من الخيال؟

ولأول مرة منذ أعوام تطلَّع إلى ما قبل الحب من الماضي بلهفة كما يتطلَّع السجين إلى ذكريات الحرية الضائعة، أجل لم يتصوَّر شخصًا هو أشبه بحاله من السجين، غير أن قضبان السجن بدَت أطوع للتحطيم وأرق أمام الزمام من أغلال الحب الأثيرية التي تَستأثر المشاعر في القلب والأفكار في العقل والأعصاب في الجسد، ثم لا تُؤذن بانحلال، ووجد نفسه يومًا يتساءل: ترى هل ذاق فهمي مثل هذا العذاب الذي يعانيه؟ وهفت عليه ذكريات أخيه الراحل مثل لحنٍ كامن حزين. تنهَّد في أعماق النفس. فذكر كيف قصَّ يومًا على مسمعه مغامرة مريم مع جوليون، فأغمد خنجرًا مسمومًا في قلبه بلا حيطة أو حذر. وجعل يَستحضر في ذاكرته وجه فهمي، فتخيَّل إليه هدوءه الذي انخدع به وقتذاك، ثم تصور تقلصات الألم في قسماته الجميلة حين خلا إلى نفسه، ومناجاته الشاكية التي لا شك غرق فيها كما هو يغرق الآن في تأوهاته وأنينه، فشعر بغمز في قلبه وراح يقول: لقد عانى فهمي ما هو أشد من الرصاص قبل أن يستقرَّ الرصاص في صدره. ومن عجب أنه وجد في الحياة السياسية صورة مكبَّرة لحياته، فكان يطالع أنباءها في الصحف وكأنما يطالع مواقف مما مر به في بين القصرين أو العباسية. هذا سعد زغلول — مثله هو — شبه سجين، وهدف للطعنات الباغية، والحملات الظالمة، ولخيانة الأصدقاء وغدرهم، وكلاهما — هو وسعد — يكابدان أحزانًا من اتصالهما بأناس علوا بأرستقراطيتهم وسفلوا بفعالهم. تقمص شخص الزعيم في كدره كما تقمص حال الوطن في قهره، وكان يلاقي الموقف السياسي وموقفه الشخصي بعاطفة واحدة وانفعال واحد، فكأنما كان يعني نفسه وهو يقول عن سعد زغلول: «أتليق هذه المعاملة الظالِمة بهذا الرجل المخلص؟» وكأنما كان يعني حسن سليم وهو يقول عن زيور: «خان الأمانة واستحلَّ القبيح في سبيل الاستيلاء على الحكومة.» وكأنما كان يعني عايدة وهو يقول عن مصر: «هل تخلَّت عن رجلها الأمين وهو يذود عن حقوقها؟»

٢١

كان بيت آل شوكت بالسكَّرية من البيوت التي لا تَحظى بنعمة الهدوء والسكينة، لا لأن أدواره الثلاثة أصبحت مأهولة بالسكان من آل شوكت فحسب، ولكن بسبب خديجة قبل أيِّ شيء آخر. كانت الأم العجوز تُقيم في الدور التحتاني. وخليل وعائشة وأبناؤهما: نعيمة، وعثمان، ومحمد في الدور الفوقاني، ولكن ضوضاء أولئك جميعًا لم تكن شيئًا بالقياس إلى ضوضاء خديجة وحدها، سواء ما يَصدُر عنها مباشرة أو ما يصدر عن الآخرين بسببها. وقد حدثت تغيُّرات في نظام البيت كانت خليقة بحصر أسباب الضوضاء في أضيق الحدود، كاستقلال خديجة ببيتها ومطبخها، وكاستئثارها بالسطح لتربية دواجنها، وغرس بستان مُتواضع في جانب منه على مثال بستان البيت القديم بعد أن أجلَتْ عنه حماتها ودواجنها، كان كل ذلك خليقًا بتخفيف الضوضاء إلى حدٍّ كبير، ولكن الضوضاء لم تخف، أو لعلها خفت بقدر لم يلحظه أحد. على أن روح خديجة اعتورها هذا اليوم فتور، ولم يكن سره — فيما بدا — خافيًا؛ فإن عائشة وخليل انتقلا إلى شقتها ليُشاركا في تفريج الأزمة — أجل الأزمة — التي أزمتها. جلسوا: الأخوان، والأختان في الصالة على كنبتَين متقابلتَين، وكانت الوجوه جادَّة، وكانت خديجة متجهِّمة، وكانوا يتبادلون نظرات ذات معنى، ولكن أحدًا منهم لم يشأ أن يطرق الأمر الذي جمعهم حتى قالت خديجة بنَبرة شاكية حانقة معًا: هذه المنازعات تقع في كل بيت، هكذا كانت الدنيا منذ خلقها ربنا، وليس معنى هذا أن ننشر متاعبنا على الناس، خصوصًا أولئك الذين لا ينبغي أن يشغلوا بالكلام الفارغ، ولكنَّها أبت إلا أن تجعل من شئون بيتنا فضائح عامة، حسبي الله ونعم الوكيل.

تحرَّك إبراهيم في معطفه كأنه يستوي في مجلسه، ثم ضحك ضحكة مُختزلة لم يدرِ أحد على وجه الدقة ماذا أراد بها، فحدجته خديجة بنظرة ارتياب وهي تتساءل: ماذا تعني بهئ هئ؟ … ألا يهتم قلبك بشيء في الدنيا؟

وأعرضت عنه كاليائسة، ثم استطردَت تقول مخاطبة خليل وعائشة: هل يُرضيكما ذهابها إلى أبي في الدكان لتشكوَني إليه؟ هل يجوز إقحام الرجال — خاصَّة مَن كان على شاكلة أبي — في منازعات النسوان؟ ما كان ينبغي أن يعلم بشيء من هذا، ولا شك أنه تضايَق من زيارتها وشكواها، ولولا أدبه لصارحها بذلك … ولكنها ما زالت تلحُّ عليه حتى وعدها بالمجيء. ما أبشع تصرفها! لم يُخلق أبي لهذه الصغائر، فهل يُرضيك هذا التصرف يا سي خليل؟

فقطَّب خليل في استياء، وقال: أمي أخطأت، صارحتُها أنا نفسي بذلك حتى صبَّت عليَّ غضبها. غير أنها ست كبيرة، وأنت تعلمين أن الإنسان في مثل سنِّها يحتاج إلى المداراة والحلم كالأطفال، حبذا …

فقاطعه إبراهيم في ضجر قائلًا: حبذا … حبذا! … كم كررتَ حبذا هذه حتى مللتُها، أمك كما قلت ست كبيرة، ولكن قرعتها وقعتْ على مَن لا ترحم.

التفتت خديجة إليه بحدة، وقد عبس وجهها واتسع منخراها، وقالت: الله … الله … لم يبقَ إلا أن تعيد هذا الكلام الجائر أمام بابا.

فقال إبراهيم وهو يُلوِّح بيده آسفًا: بابا ليس معنا الآن، وهو إن جاء فلن يَجيء ليستمع إليَّ أنا، ولكني أُقرِّر الحقيقة التي يُسلم بها الجميع ولا تستطيعين أنت إنكارها، أنت لا تطيقين أمي، ولا تحتملين ظلها، أعوذ بالله، لم كل هذا يا شيخة! بشيء قليل من الحلم والكياسة كان يسعك أن تأسريها، ولكن القمر أقرب منالًا من حلمك، هل تستطيعين أن تُنكري كلمة واحدة مما قلت؟

فردَّدت عينيها بين خليل وعائشة لتُشهدهما على هذا «الظلم» الصارخ، فبدوا حائرين بين الحق والسلامة، حتى تمتمَت عائشة وهي من الإشفاق في نهاية: سي إبراهيم يقصد أن تُغضي قليلًا عما يبدر منها.

وهز خليل رأسه بالموافقة في ارتياح من ظفر أخيرًا بسلَّم النجاة، ثم قال: هو ذلك، أمي سريعة الغضب، ولكنها بمنزلة والدتك، وبشيء من الحلم تعفين أعصابك من مشقة المشاحنة.

فنفخت خديجة وهي تقول: الأصوب أن يُقال إنها هي التي لا تطيقني ولا تحتمل لي ظلًّا، لقد أتلفت أعصابي، وما من مرة نتلاقى إلا وتُسمعني — تصريحًا أو تلميحًا — كلمة تهيج الدم وتسمُّ البدن، ثم أُطالَب أنا بالحلم! كأنني مخلوقة من ثلج، أليس يكفيني عبد المنعم وأحمد اللذان استنفدا صبري وحلمي؟ يا هوه أين أجد منصفًا؟

فقال إبراهيم في تهكُّم وهو يبتسم: لعلك تجدين هذا المنصف في شخص أبيك؟

فهتفت قائلة: أنت شامت بي، أنا أفهم كل شيء، ومع ذلك فربنا موجود.

فقال إبراهيم بصوت ممطوط يدل على التسليم والتحدي في آنٍ: ربنا موجود.

وقال خليل بعطف: هدئي روعك حتى تلقَي والدك بنفس مطمئنة.

من أين لها بالنفس المطمئنة؟ لقد انتقمَت العجوز منها شر انتقام؟ وعما قليل تُدعى إلى لقاء أبيها في موقف يفرُّ منه قلبها ودمها. وهنا ترامى إليهم صياح عبد المنعم وأحمد من وراء باب حجرتهما، وأعقبه صوت أحمد وهو يبكي، فقامت على عجل رغم سمانتها واتجهت نحو الحجرة. فدفعت الباب ودخلت وهي تصيح بدورها: ما معنى هذا؟ ألم أنْهكما عن الشجار ألف مرة؟ خصيمي المعتدي منكما.

قال إبراهيم بعد أن توارَت وراء الباب: مسكينة كأن بينها وبين الراحة عداءً مُستحكمًا، منذ الصباح الباكر تبدأ بخوض معركة طويلة تستغرق النهار كله فلا تسكن حتى تأوي إلى الفراش، يجب أن يذعن كل شيء إلى إرادتها وتفكيرها، الخادم، الأكل، الشرب، الأثاث، الدجاج، عبد المنعم، أحمد، أنا، الكل يجب أن يُذعن لتنظيمها، إني أشفق عليها، وأؤكد لكم أنَّ بيتنا يمكن أن ينعم بأحسن حال من النظام والدقة دون حاجة إلى هذه الوسوسة.

فقال خليل باسمًا: ربنا يعينها.

– ويعينني معها.

قال إبراهيم ذلك وهو يهزُّ رأسه باسمًا أيضًا، ثم أخرج من جيب معطفه الأسود علبة سجائره، ونهَض متجهًا إلى أخيه فقدمها له فتناول خليل سيجارة، ودعا عائشة لتتناول واحدة ولكنها رفضت ضاحكة، وأومأت إلى الباب الذي توارَت وراءه خديجة، وهي تقول: خلِّ الساعة تمر بسلام.

فعاد إبراهيم إلى مجلسه وهو يُشعل سيجارة، ويقول مشيرًا إلى الباب نفسه: محكمة، في الداخل الآن محكمة، ولكنها ستعامل هذين المتهمين بالرحمة ولو على رغمها.

عادت خديجة وهي تقول مُتأفِّفة: كيف يُمكن أن أذوق طعم الراحة في هذا البيت؟! كيف ومتى؟

وجلست وهي تتنهد، ثم قالت مخاطبة عائشة: نظرت من المشربية فوجدت الطين المتخلِّف من مطر الأمس لا يزال يغطي أرض الحارة، فخبريني وربك كيف يشقُّ أبي سبيله؟ ولم هذا العناد كله؟

فسألتها عائشة: والسماء؟ كيف حالها الآن؟

– قطران! ستجعل الحارات بحورًا قبل الليل، ولكن هل أجدى ذلك في حمل حماتك على تأجيل ما بيَّتَت من شرٍّ ولو إلى يوم آخر؟ كلا، ذهبت إلى الدكان رغم ما يُسببه المشي لها من متاعب، وما زالت بالرجل حتى تعهَّد لها بالحضور، ولو سمعها سامع في الدكان وهي تشكوني في هذه الظروف العسيرة لحسبَني ريا أو سكينة.

وضحكوا جميعًا مغتنمين الفرصة التي أتاحتْها لهم للتنفيس عن صدورهم، وتساءل إبراهيم: أتحسبين نفسك أقل شأنًا من ريا وسكينة؟

وسُمعَ نقرٌ على الباب، ولما فتحت الخادم لاح وجه الجارية سويدان فنظرت إلى خديجة بخوف، وقالت: سيدي الكبير حضر.

ثم سرعان ما توارَت، وقامت خديجة شاحبة اللون وهي تقول بصوت خافت: لا تتركونا وحدنا.

فقال خليل ضاحكًا: معكِ إلى النهاية يا خديجة هانم.

فقالت بلهجة وشَت بالرجاء والتوسل: كونوا في جانبي.

وغادرت الشقة بعد أن ألقت عائشة نظرة متفحِّصة على صورتها في المرآة لتتوكد من خلو وجهها من أي أثر للأصباغ.

كان السيد أحمد عبد الجواد يَجلس على كنبة في صدر الحجرة القديمة تحت صورة كبيرة للمرحوم شوكت، على حين جلست الأم على مقعد قريب في معطف كثيف لم تُجدِ كثافته في إخفاء ضآلة جسمها الذي احدودب أعلاه، وقد نحل وجهها، وعمقت تجاعيده وتكاثرت، وجفَّ جلده، فلم يبقَ شيء منه على ما كان عليه إلا أسنانها الذهبية. ولم تكن هذه الحجرة بالغريبة على السيد أحمد، ولم يُهوِّن قِدَمها من فخامتها، وإذا كانت الستائر قد بهتت، وقطيفة بعض المقاعد والكنبات قد انجردت، أو تهتكت عند المقابض والمساند، فإن بساطها العجمي قد صان رونقه أو استجدَّ نفاسته، إلى أن جوَّها تنسَّم برائحة بخور لطيفة مما تُولع به العجوز. وكانت المرأة تميل على مظلَّتها وتقول: قلت لنفسي إذا لم يحضر السيد أحمد كما وعَدني، فلا هو ابني ولا أنا أمه.

فابتسم السيد قائلًا: لا سمح الله، إني طوع أمرك، فأنا ابنك وخديجة ابنتُك.

فمطت بوزها، وقالت: كلكم أبنائي، أمينة هانم ابنتي الطيبة، أنت سيد الناس، أما خديجة (ورنَت إليه وعيناها تتسعان) فلم تَرِث سجية واحدة من سجايا والديها الطيبين … (ثم وهي تهزُّ رأسها) … يا لطيف الطف!

فقال السيد بلهجة المُعتذر: إني أعجب كيف أغضبتكِ لهذا الحد؟! كان الأمر كله مُفاجأة شديدة عليَّ، لا أقبل هذا مطلقًا، ولكن هلا حدثتني عما فعلت؟

فقالت المرأة مقطبة: هذا شيء قديم، كنا نُخفي عنك كل شيء إكرامًا لتوسُّلات والدتها التي أعيتها الحيَل في إصلاحها، ولكني لن أقول كلمة واحدة إلا في وجهها، في وجهها يا سي السيد كما عزمت أمامك في الدكان.

عند ذاك جاءت الجماعة، دخل إبراهيم في المقدمة، وتبعه خليل، فعائشة، ثم خديجة. وصافحوا السيد واحدًا فواحدًا حتى جاء دور خديجة، فانحنَت في أدب مثالي حتى لثمَت يده، فلم تتمالك العجوز من أن تقول في عجب: رباه ما هذه البوليتيكا! أأنت خديجة حقًّا؟ لا تخدعنَّك الظواهر يا سيد أحمد.

فقال خليل معاتبًا أمه: هلا تركتِ والدنا حتى يستريح! ليس ثمَّة ما يدعو إلى محاكمة على الإطلاق.

فعلا صوت المرأة وهي تجيبه قائلة: ما الذي جاء بك؟ ما الذي جاء بكم؟ دعوها واذهبوا عنَّا بسلام.

فقال إبراهيم برقَّة: وحِّدي الله!

فصاحت به: أنا موحِّدة أحسن منك يا بغل! لو كنتَ رجلًا حقًّا ما أحوجتني إلى استدعاء هذا الرجل الطيب، ما الذي جاء بك، وكان يجب أن تكون غاطًّا في نومك كالعادة؟

ابتلَّ صدر خديجة ارتياحًا إلى هذه البداية، فتمنَّت لو تشتدُّ حتى تغطي على قضيتها، ولكن السيد سألها بصوت مُرتفع سد الطريق في وجه المعركة المأمولة: ما هذا الذي سمعتُه عنك يا خديجة؟ أحق أنك لست الابنة المؤدبة المطيعة لوالدتك، أستغفر الله، بل لوالدتنا جميعًا؟

خاب أمل خديجة، فغضَّت بصرها، وتحرَّكت شفتاها في همس دون أن تبين وهي تهز رأسها نفيًا، ولكن الأم لوَّحت بيدها للجميع كي يُنصتوا، ثم أنشأت تقول: هذا تاريخ قديم لن أستطيع أن أسرده عليك في هذه الجلسة، منذ أول يوم لها في هذا البيت وهي تُخاصمني بلا سبب، وتُخاطبني بأطول لسان عرفته في حياتي. لا أحب أن أعيد عليك ما سمعته طوال خمس سنوات أو يَزيد، كثير، كثير، وقبيح، قبيح. عابت إشرافي على البيت وتنقصت طهيي — هل تتصور هذا يا سي السيد؟ — وما زالت حتى انفصلت بشقَّتها عني فانشطر البيت الواحد بيتين، حتى الجارية سويدان حرَّمت عليها دخول شقتها لأنها جاريتي، وجاءت بخادم خصوصية لها. السطح، السطح على سعتِه يا سي السيد، ضيقته عليَّ حتى اضطُررت إلى نقل دواجني إلى الفناء، ماذا أقول أيضًا يا بني؟ هذا قليل من كثير، ولكن ما علينا. قلت لنفسي ما فات فات، واحتملتُه وصبرت عليه، وقد ظننت بعد الانفصال أن أسباب الشقاق ستنتهي، ولكن هل صدق ظني؟ كلا وحياتك.

انقطعَتْ عن الحديث لسعال غلبها، وراحت تسعل حتى انتفخت أوداجها، وخديجة تلحظها وهي تدعو الله في سرها أن يأخذها قبل أن تتمَّ حديثها، ولكن السعال سكت فازدردَت ريقها وتشهدت، ثم رفعت إلى السيد عينين دامعتين، وسألته بصوت لم يخلُ من بح: أتستنكف أنت يا سيد أحمد أن تقول لي يا أمي؟

فقال الرجل الذي تظاهر بالعبوس رغم ابتسام إبراهيم وخليل: معاذ الله يا أمي!

– عُوفيت يا سيد أحمد، لكن ابنتك تستنكف من هذا، تدعوني «تيزة» أقول لها مرارًا: ادعيني «نينة»، فتقول لي: «وماذا أدعو التي في بين القصرين؟» أقول لها أنا نينة، وأمك نينة، فتقول لي: «ليس لي إلا نينة واحدة ربنا يخليها لي!» انظر يا سي السيد، أنا التي تلقيتُها بيدي من عالم الغيب.

ألقى السيد أحمد على خديجة نظرة غاضبة، وسألها محتدًّا: صحيح هذا يا خديجة؟ يجب أن تتكلمي!

كانت خديجة كأنها فقدت القدرة على النطق، كانت من الغيظ في نهاية، وكانت من الخوف في نهاية، وإلى هذا كله كانت يائسة من نتيجة المناقشة؛ فحدَتْها غرائز الدفاع عن النفس على التذرع بكافة ضروب الضراعة والمسكنة، قالت بصوت خافت: أنا مظلومة، كل واحد هنا يعلم بأني مظلومة، مظلومة والله يا بابا.

كان السيد أحمد في دهش مما يسمع، ومع أنه فطن من أول الأمر إلى حال «الكبر» التي تسيطر على المرأة، ومع أنه لم يَغِب عن ملاحظته ما يكتنف الجو من فكاهة بدت آثارها في وجهَي إبراهيم وخليل، فإنه صمم على التظاهر بالجد والصرامة إرضاءً للعجوز وإرهابًا لخديجة. وكان يعجب لما يتكشَّف له من عناد خديجة وحدة طباعها، الأمر الذي لم يَخطر له في خيال من قبل، أكانت على هذا الخلق مذ كانت في بيته؟ أتعلم أمينة من أمرها ما لا يعلم؟ هل يَكتشف على آخر الزمن صورة جديدة لابنته مناقِضة للصورة التي كوَّنَها كما سبق أن اكتشف لياسين؟

– أريد أن أعرف الحقيقة؟ أريد أن أعرف حقيقتك، إنَّ التي تتحدَّث عنها والدتنا امرأة أخرى غير التي عهدتها، فأيتهما تكون الصادقة؟

ضمَّت المرأة أناملها وهزَّت يدها داعية إياه إلى الصبر حتى تتمَّ حديثها، ثم استطردت قائلة: قلت لها: إني تلقيتُك بيدي من عالم الغيب. فقالت لي بلهجة شرِّيرة لم أسمع بمثلها من قبل: «إذن أكون نجوت من الموت بأعجوبة!»

ضحك إبراهيم وخليل، وخفضت عائشة رأسها لتخفي ابتسامتها، فقالت العجوز مخاطبة ابنيها: «اضحكا، اضحكا، اضحكا من أمكما!» ولكن السيد تجهَّم وإن يكن باطنه ضحك، ترى أخلقت بناته على مثاله أيضًا؟ أليس هذا مما يُستحق أن يروى على إبراهيم الفار، وعلي عبد الرحيم، ومحمد عفت؟ قال لخديجة بغلظة: كلا … كلا، لأعرفنَّ كيف أحاسبك على هذا حسابًا عسيرًا.

فواصلت العجوز حديثها بارتياح قائلة: أما سبب شجار الأمس، فهو أن إبراهيم دعا بعض أصدقائه إلى وليمة، فقدمت لهم الشركسية فيما قُدِّم من أطعمة، وفي المساء سهر عندي إبراهيم وخليل وعائشة وخديجة، وجاء ذكر الوليمة فنوَّه إبراهيم بثناء المدعوِّين على الشركسية، فانبسَطَت ست خديجة. ولكنها لم تقنع بذلك، بل راحت تُؤكِّد أن الشركسية هي الصنف المأثور عن بيتها الأول، فقلتُ بحسن نية: إن زينب زوجة ياسين الأولى هي التي أدخلت الشركسية في بيتكم، وأن خديجة لا بد وأن تكون تعلَّمتها منها. أقسم لك أني ما تكلمت إلا عن حسن نية، وأني ما قصدت أحدًا بسوء، ولكن أجارك الله يا حبيب، انتفضت غاضبة وصاحت في وجهي: «هل تَعرفين عن بيتنا أكثر مما نعرف؟» فقلت لها: إني أعرف بيتكم من قبل أن تعرفيه أنت بعمر مديد، فصرخت قائلة: «أنت لا تُحبين لنا الخير، ولا تطيقين أن يُنسَب لنا شيء حميد ولو كان طهي الشركسية، الشركسية تؤكل في بيتنا قبل أن تولد زينب، وعيب أن تكذب واحدة في مثل سنك!» أي والله هذا يا سي السيد ما قذفتني به أمام الجميع، فأيتنا الكاذبة بربِّك وصلاتك؟

قال السيد غاضبًا ساخطًا: رمتْكِ بالكذب في وجهك! يا رب السماوات والأرض، ما هذه ابنتي.

غير أن خليل قال لأمه باستياء: ألهذا جئت بوالدنا؟ أيصحُّ أن نكدر خاطره، ونضيع وقته بسبب نزاع صبياني حول الشركسية؟ هذا كثير يا أماه!

فحملقت المرأة في وجهه مقطبة، وصاحت به: اخرس، اغرب عن وجهي، لست كاذبة، ولا يصح أن يرميني مخلوق بالكذب، إني أعرف ما أقول، ولا حياء في الحق، لم تكن الشركسية بالطعام المعروف في بيت السيد قبل أن تدخله زينب، وليس في ذلك ما يَعيب أحدًا أو ينتقصه، ولكنها الحقيقة. هاكم السيد فليُكذِّبني إن كنت كاذبة، إنَّ طواجن بيتِه مضرب الأمثال، ويَليها الأرز المحشو، أما الشركسية فلم تُقدم على مائدته قبل مجيء زينب، تكلم يا سي السيد، أنت وحدك الحكم.

قاوم السيد أحمد إغراء الضحك طيلة حديث المرأة. ثم قال بلهجة عنيفة: ليت ذنبها اقتصر على الكذب والادِّعاء الباطل من دون أن تضيف إليه سوء الأدب، هل شجعك على هذا السلوك السيئ ابتعادك عن قبضة يدي؟ إن يدي تمتد إلى حيث يجب أن تمتد بلا تردُّد، من المؤسف حقًّا أن يجد أب ابنته مستحقة للتأديب والعقاب بعد أن اكتمل نضجها، واستوت بين النساء زوجة وأمًّا.

واستطرد ملوحًا بيده: إني غاضب عليك، ووالله إنه ليؤلمني أن أرى وجهك أمامي.

أجهشت خديجة بالبكاء فجأةً. جاء ذلك عن تأثير وتدبير معًا، ولم يكن ثمة وسيلة أخرى للدفاع، ثم قالت بصوت متهدج تَخنقه العبرات: أنا مظلومة، والله أنا مظلومة، إنها لا ترى وجهي حتى ترميني بكلمات قاسية، ولا تَفتأ تقول لي: «لولاي لقضيتِ العمر عانسًا!» وأنا لم أنَلْها بسوء أبدًا، وكلهم شهود على ذلك.

لم تعدم الحركة التمثيلية — الصادقة الكاذبة — أثرًا تركته في النفوس، قطب خليل شوكت حانقًا، ونكَّس إبراهيم شوكت رأسه، والسيد نفسه ولو أن مظهره لم يَعتوره تغيير إلا أن قلبه انقبض عند سماعه ما قيل عن العنوس كعهده من قديم، أما العجوز فجعلت تنظر إلى خديجة نظرات نافذة من تحت حاجبَيها الأشيبين، وكأنما تقول لها: «مثلي دورك يا ماكرة، ولكنه لن يجوز علي!» ولما استشعرت في الجو عطفًا على المُمثلة قالت بتحدٍّ: هاكم عائشة أختها، إني أستحلفك بعينَيك، أستحلفك بالقرآن الشريف إلا ما شهدتِ بما سمعت ورأيت، ألم ترمني أختك بالكذب في وجهي؟ ألم أصف نزاع الشركسية دون مبالغة أو تجاوز، تكلمي يا بنية، تكلمي، إن أختك ترميني الآن بالظلم بعد أن رمتني أمس بالكذب، تكلمي ليعلم السيد من الظالم ومن المعتدي.

روعت عائشة بجرِّها المُباغت إلى حومة القضية التي ظنَّت أنها ستقف منها موقف المشاهد إلى النهاية، وشعرت بالخطر يحدق بها من كل جانب، فرددت عينيها الجميلتَين بين زوجها وأخيه كالمستغيثة، فهمَّ إبراهيم بالتدخل، ولكن السيد أحمد سبقه إلى الكلام، فخاطب عائشة قائلًا: إن والدتنا تَستشهد بك يا عائشة، فيجب أن تتكلمي.

فاضطربت عائشة حتى شحب لونها، ولكن شفتيها لم تتحرَّكا إلا عند ازدراد ريقها، وغمضت عينيها فرارًا من عيني أبيها، وأصرت على الصمت. قال خليل محتجًّا: لم أسمع من قبل أن أختًا دعيت للشهادة على أختها!

فصاحت به أمه: ولم أسمع من قبل أن أبناء يتكتَّلون ضد أمهم كما تفعلون. (ثم ملتفتة إلى السيد) ولكن حسبي صمتها، إنَّ صمت عائشة لي يا سي السيد.

ظنت عائشة أن عذابها قد انتهى عند هذا الحد، ولكنها ما تدري إلا وخديجة تقول لها برجاء وهي تُجفِّف عينيها: تكلمي يا عائشة هل سمعتني أشتمها؟

لعنتها في سرِّها من صميم قلبها، وراح رأسها الذهبي يهتز اهتزازة عصبية، فهتفت العجوز: جاءنا الفرج، هي التي تطالب بالشهادة، لم يبقَ لكِ عذر يا شوشو، يا ربي إذا كنت ظالمة حقًّا كما تقول خديجة فلِمَ لَمْ أظلم عائشة؟ لِمَ تسير الأمور بيني وبينها على خير حال! لِمَ يا ربي؟ لِمَ؟

نهض إبراهيم شوكت من مجلسه، ثم جلس إلى جانب السيد، وقال له: يا والدي، يؤسفني أننا أتعبناك وأضعنا وقتك الثمين هباءً، فلندع الشكوى والشهادة جانبًا، لندع الماضي كله جانبًا، ولننظر فيما هو أهم وأجدى، ينبغي أن يكون محضرُك خيرًا وبركة، فلنَعقِد الصلح بين أمي وزوجي، وليتعهدا لك بأن يحافظا عليه على الدوام.

ارتاح السيد أحمد إلى هذا الاقتراح، غير أنه قال بلباقة وهو يهزُّ رأسه معترضًا: كلا، لن أقبل أن أعقد صلحًا، فإن الصلح لا يكون إلا بين ندَّين، والطرفان هنا هما والدتنا من ناحية، وابنتنا من ناحية أخرى، وليست الابنة كالأم، فيجب أولًا أن تَعتذر خديجة إلى أمها عما سلف، لتعفو أمها عنها إذا شاءت، ثم نتكلَّم بعد ذلك في الصلح.

ابتسمت العجوز حتى تضامَّت تجاعيدها، غير أنها نظرت نحو خديجة بحذر، ثم أعادت بصرها إلى السيد ولم تنبس، فاستطرد السيد قائلًا: يبدو أن اقتراحي لم يُصادف قبولًا.

فقالت العجوز بامتنان: إنك لا تنطق إلا عن الصواب، سلمَ فوك، وبارك الله في عمرك.

وأشار السيد إلى خديجة فقامت دون تردُّد، واقتربت منه في انكسار لم تشعر بمثله من قبل حتى مثلت بين يديه، فقال لها بحزم: قبِّلي يدَ والدتك، وقولي لها اصفحي عني يا نينة.

آه، ما كانت تتخيَّل — ولا في الكابوس، أنها يمكن أن تقف هذا الموقف أبدًا، ولكن أباها — أباها المعبود — هو الذي قضى به، أجل قضى به من لا تستطيع لقضائه ردًّا، فلتكن مشيئة الله. تحولت خديجة إلى العجوز، ومالت نحوها، ثم تناولت اليد التي رفعتها إليها — إي والله رفعتها إليها دون ممانعة ولو في الظاهر — ولثمتْها، وهي تشعر باشمئزاز وتقزُّز وقهر أليم، ثم غمغمت قائلة: اصفَحي عنِّي يا نينة.

فنظرت العجوز إليها مليًّا وقد شاع البِشر في وجهها، ثم قالت: صفحتُ عنك يا خديجة، صفحت عنكِ إكرامًا لأبيك، وقبولًا لتوبتك.

وندت عنها ضحكة صبيانية، ثم استطردت تقول بتحذير: لا جدال بعد اليوم في الشركسية، ألا يكفيكم أنكم فُقتم الدنيا في الطواجن والأرز المحشو؟

قال السيد بسرور: الحمد لله على الصُّلح، (ثم وهو يرفع رأسه إلى خديجة) … نينة دائمًا ليست تيزة، هذه نينة كالأخرى سواء بسواء.

ثم بصوت مُنخفِض أسيف: من أين جئت بهذا الخُلق يا خديجة؟ ما كان ينبغي لأحد نشأ في بيتي أن يعرفه، أنسيت أمك وما تتحلَّى به من أدب ودماثة؟ أنسيتِ أن أيَّ شر تأتينه إنما يُسوِّد وجهي أنا؟ لقد عجبت والله وأنا أستمع إلى حديث أمك، ولسوف أعجب طويلًا.

٢٢

رقيت الجماعة في السلَّم عائدة إلى مساكنها عقب رحيل السيد أحمد عبد الجواد. كانت خديجة تتقدَّم القافلة بوجه مربدٍّ تعلوه صفرة الغضب والحنق، وكان الآخرون يشعرون بأن الصفاء لم يزل أبعد ما يكون عن القلوب، فأشفقوا مما سيتمخَّض عنه صمت خديجة. لذلك صحب خليل وعائشة خديجة وإبراهيم إلى شقتهما، رغم أن زياط نعيمة وعثمان ومحمد كان حريًّا بأن يعيدهما إلى شقتهما فورًا. ولما عادوا إلى مجلسهم بالصالة قال خليل — وهو بسبيل جس النبض — مخاطبًا أخاه: كانت كلمتك الختامية حاسِمة فأتت بخير النتائج.

فتكلَّمت خديجة لأول مرة قائلة بانفعال: أتت بالصلح أليس كذلك؟ هي السبب فيما نزل بي من مذلَّة لم أتعرض لمثلها من قبل.

فتساءل إبراهيم كالمُستنكِر: لا مذلَّة في أن تقبِّلي يد أمي أو تستصفحيها.

فقالت دون مبالاة: إنها أمك أنت، ولكنها عدوتي أنا، ما كنت لأدعوها نينة لولا أمر بابا، أجل فما هي إلا نينة بأمر بابا، وبأمر بابا وحده!

مال إبراهيم إلى مسند الكنبة وهو يتنهَّد يائسًا. وكانت عائشة قَلِقة ولا تدري أي أثر تركه امتناعها عن الشهادة في نفس أختها، وزاد من قلقها تجنُّب خديجة النظر إليها، صممت على محادثتها لتحملها على معالنتها بحقيقة مشاعرها، فقالت برقَّة: ليس في الأمر مذلة وقد تصافيتُما، ويجب ألا تذكري إلا حُسن الختام.

فتصلب جذع خديجة ورمقتها بنظرة غاضبة، ثم قالت بحدة: لا تُكلميني يا عائشة، أنت آخر شخص في الدنيا يحقُّ له أن يُكلِّمني.

فتظاهرت عائشة بالدهش، وتساءلت وهي تُقلِّب عينيها بين إبراهيم وخليل: أنا؟ لماذا لا سمح الله؟

فقالت بصوت كالرصاص برودة وحدة: لأنك خُنتِني وشهدت بصمتك عليَّ، لأنك آثرت إرضاء الأخرى على مُظاهَرة أختك، هذه هي الخيانة بعينها!

– أمرك عجيب يا خديجة! … كل واحد يعلم بأن الصمت كان في صالحك.

فقالت بنفس اللهجة أو أشد: لو راعيتِ صالحي حقًّا لشهدت لي بالحق أو بالباطل لا يُهم، ولكنك آثرت التي تُطعمك على أختك، لا تكلميني، ولا كلمة واحدة، لنا أمٌّ يكون عندها الكلام.

وفي ضحى اليوم التالي ذهبت خديجة لزيارة أمها رغم توحُّل الطرقات وامتلاء منخفضاتها بالمياه الراكدة، ومضت إلى حجرة الفرن، فنهضت أمها لاستقبالها في سرور وحرارة، وأقبلت نحوها أم حنفي مُهلِّلة، ولكنَّها ردَّت السلام بكلمات مقتضبة حتى تفحصتها أمها بنظرة متسائلة، فقالت دون تمهيد: جئتك لترَي رأيك في عائشة، فلم يَعُد بي طاقة لأتحمل أكثر مما تحملت.

لاح في وجه أمينة اهتمام مقرون بالأسى، فقالت وهي تُشير إليها برأسها كي تسبقها إلى الخارج: ماذا حدث كفى الله الشر؟ حدثني أبوك بما كان في السكرية، فما دخل عائشة في ذلك؟ (ثم وهما يرقيان في السلَّم) رباه يا خديجة، طالما رجوتك أن تُوسِّعي من صدرك، حماتك عجوز ينبغي مراعاة سنها، إن ذهابها إلى الدكان وحده في جوٍّ كجو أمس برهان على ضعف عقلها، ولكن ما الحيلة؟ كم غضب أبوك! لم يكن يُصدِّق أنه يمكن أن تند عنك كلمة سوء، ولكن ماذا أغضبك من عائشة؟ لقد صمتت أليس كذلك؟ لم يكن في وسعها أن تخرج عن الصمت.

وجلستا في الصالة — مجلس القهوة — على كنبة جنبًا إلى جنب، وخديجة تقول مُحذِّرة: نينة، أرجو ألا تنضمِّي إليهم، ما لي يا ربي لا أجد نصيرًا في هذه الدنيا!

فابتسمت الأم ابتسامة عتاب، وقالت: لا تقولي هذا، لا تتصوَّري هذا يا بنية، ولكن خبِّريني ماذا وجدت من عائشة؟

وهي تدفع بيدها الهواء كأنما تلطم عدوًّا: كل شر. شهدت عليَّ، فأوقعت بي شرَّ هزيمة.

– ماذا قالت؟

– لم تقل شيئًا.

– الحمد لله.

– إن المصيبة جاءت من أنها لم تَقُل شيئًا.

فتساءلت أمينة، وهي تبتسم في عطف: وماذا كان في وسعها أن تقول؟

وكأنما كبر عليها تساؤل أمها، فقالت بعبوس وحدة: كان في وسعها أن تشهد بأنني لم أعتد على المرأة، لم لا؟ لو فعلت ما جاوزت واجبات الأخوة، كان في وسعها على الأقل أن تقول إنها لم تسمع شيئًا، الحق أنها آثرت المرأة عليَّ، خذلَتْني وتركتني أقع تحت رحمة الماكرة الشامتة، لن أنسى هذا لعائشة ما حييت.

قالت أمينة، بإشفاق وألم: خديجة لا تُرعبيني، كان يجب أن يكون كل شيء قد نُسِي في الصباح.

– نُسِي! لم أنَمْ من الليل ساعة، سهدت وبرأسي مثل النار، كل مصيبة كانت تهون لو لم تجئ من عائشة، من أختي! لقد ارتضَت أن تنضم إلى حزب الشيطان، حسنًا، ليكن ما تشاء، كان لي حماة فأصبح لي اثنتان. عائشة! رباه طالما سترتها. لو كنتُ خائنة مثلها لقصصت على أبي ما تزخر به حياتها من قلة الأدب، إنها تحبُّ أن يُعرَف عنها أنها مَلَك كريم، وأنني شيطان رجيم، كلا، أنا خير منها ألف مرة، إن لي كرامة لا يعلو إليها التراب، ولولا أبي (وهنا اشتدت نبراتها حدة) لما استطاعت قوة في الأرض أن تحملني على أن أقبِّل يد عدوتي أو أن أدعوها نينة!

ربتت أمينة كتفها برقة، وهي تقول: أنت غَضْبَى، دائمًا غَضْبَى، هدِّئي من روعك، ستبقين معي حتى نتغدى معًا، ثم نتحادث في هدوء.

– إني في كامل عقلي، وأعرف معنى ما أقول، أريد أن أسأل أبي، أيتهما خير من الأخرى: التي تلزم بيتها، أم التي تزور بيوت الجيران فتُغنِّي وترقص ابنتها؟

تنهدت أمينة، وقالت بحزن: إن رأي أبيك في هذا لا يحتاج إلى سؤال، ولكن عائشة سيدة متزوجة، والرأي الأعلى في سلوكها لزَوجِها، وما دام يسمح لها بزيارة الجيران ويعلم بأنها تُغني بين صديقاتها اللاتي يحببنها ويحببن صوتها فما شأننا نحن؟ لك الله يا خديجة! أتُسمين هذا قلة أدب؟ هل يغضبك حقًّا أن ترقص نعيمة؟ إنها في السادسة، وما رقصها إلا لعبًا، لستِ إلا غاضبة يا خديجة، سامحك الله.

فقالت خديجة بإصرار: إني أعني كل كلمة قلتها، وإذا كان يعجبك أن تغني ابنتك عند الجيران وترقص ابنتها، فهل يعجبك أيضًا أن تدخن كالرجال؟ نعم، ها أنت تدهشين! أكرِّر على مسمعك أن عائشة تُدخِّن، وأن التدخين صار لها كيفًا لا تملك الامتناع عنه، وأن زوجها يُعطيها العلبة، ويقول لها بكل بساطة: «علبتك يا شوشو!» رأيتُها بنفسي وهي تأخذ النَّفَس وهي تخرجه من فمها وأنفها، أنفها أتسمعين؟ لم تَعُد تخفي عني ذلك كما كانت تفعل أول الأمر، بل دعتْني إليه مرة بحُجة أنه مهدئ للأعصاب الحامية. هذه هي عائشة، فما قولك؟ وما قول أبي يا ترى؟

ساد الصمت، وبدت أمينة في حيرة شائكة، غير أنها صمَّمت على خطة التهدئة التي التزمتها، قالت: التدخين عادة قبيحة بالقياس إلى الرجال أنفسهم، أبوك لم يُدخِّن قط، فماذا أقول عنه بالنسبة للنساء؟ ولكن ما القول أيضًا إذا كان زوجها هو الذي أغراها به وعلمها إياه؟ ما الحيلة يا خديجة؟ إنها لزوجها لا لنا، ولم يبقَ إلا النصح إن كان يجدي.

فجعلت خديجة تنظر إليها في صمت وشى بترددها قبل أن تقول: إن زوجها يُدلِّلها تدليلًا معيبًا حتى أفسدها وأشركها في كافة معاصيه، ليس التدخين بشرِّ عاداته، ولكنه يشرب الخمر في بيته دون حياء، إن بيته لا يخلو من الزجاجة كأنها ضرورة من ضرورات الحياة، وسوف يُوقعها في الخمر كما أوقعها في التدخين، لم لا؟ العجوز تَعلم بأن شقة ابنها حانة، ولكنها لا تكترث لذلك، سوف يسقيها الخمر، بل إني أقطع بأنه فعل، فإني شممتُ مرة في فمها رائحة غريبة، وسألتها عنها وضيقت عليها رغم إنكارها. أؤكد لك أنها شربت الخمر، وأنها بسبيل اعتيادها كالتدخين.

صاحت الأم في يأس: إلا هذا يا رب، ارحمي نفسك وارحمينا، اتقي الله يا خديجة.

– إني تقية وربنا عالم، لا أدخن، ولا تفوح من فيَّ روائح مريبة. ولا أسمح للخمر بأن تدخل شقتي، ألم تعلمي بأن البغل الآخر حاول أن يَقتني هذه الزجاجة المحرمة؟ ولكني وقفت له بالمرصاد، قلت له بصريح العبارة: إني لا أبقى مع زجاجة خمر في شقة واحدة، فتراجع أمام تصميمي، وجعل يَحتفظ بزجاجته عند أخيه في شقة الهانم التي خانتني بالأمس، وكلما صرختُ لاعنةً الخمر وشاربيها، قال لي — قطع الله لسانه —: «مِن أين جئتِ بهذه الحنبلية؟ هذا أبوك منبع الأنس كله، وقلَّ أن يخلو له مجلس من الكأس والعود!» أسمعت ماذا يُقال عن أبي في بيت آل شوكت؟

لاحت في عيني أمينة نظرة حزنٍ وجزعٍ، وجعلت تَقبض راحتيها وتبسطهما في اضطراب وقلق، ثم قالت بصوت نمَّت نبراته عن التشكي والتألم: رحماك يا ربي، لم نخلق لشيء من هذا، عندك العفو والرحمة، يا ويل النساء من الرجال، لن أسكت ولا يصح أن أسكت، سأحاسب عائشة حسابًا عسيرًا، ولكني لا أصدق ما تقولين عنها، إن سوء ظنِّك بها جعلك تتخيلين ما لا أصل له، ابنتي طاهرة، وستظل طاهرة ولو انقلب زوجها شيطانًا، سأحدثها حديثًا صريحًا، وسأحادث سي خليل نفسه إن لزم الأمر، فليشرب كما يشاء حتى يتوب الله عليه. أما ابنتي فحدَّ الله بينها وبين الشيطان.

هفت على نفس خديجة نسمة راحة لأول مرة، فتابعت جزع أمها بعين راضية، واطمأنت إلى أن عائشة ستشعر قريبًا بمدى الخسران الذي مُنيَت به جزاء خيانتها، ولم تأبه كثيرًا لما أضفت على الوقائع من مبالغة في التصوير، أو حدة في الوصف مما جعَلها تسمي شقة أختها حانة، وهي تعلم بأن إبراهيم وخليل لا يقربان الخمر إلا في أحوال نادرة، وفي اعتدال لم يبلغ حد السكر أبدًا، ولكنها كانت حانقة ثائرة، أما ما قيل عن أبيها من أنه منبع الأنس … إلخ، فقول أعادته على أمها بلهجة استنكار لا تدعُ مجالًا للشك في كُفرها به، ولكن الحقيقة أنها اضطرت من زمن إلى التسليم بما يُقال أمام إجماع إبراهيم وخليل وأمهما العجوز، خصوصًا وأنهم كاشفوها بما يعلمون عنه في غير ما تحامُل عليه أو انتقاد له، بل وهم يُنوِّهون بأريحيته ويَعقدون له زعامة الظُّرف في عصره، قابلت ذلك بادئ الأمر بعناد غليظ، ثم داخلها الشك رويدًا وإن لم تُعلنه، ووجدت عسرًا شديدًا في مزج هذه الصفات الجديدة بالشخصية الوقور الجبارة التي آمنَت بها طوال حياتها، غير أن هذا الشك لم يُهوِّن من شأنها وجلالها، بل لعلَّها أثرت في نظرها بما انضاف إليها من ظرف وأريحية. لم تَقنع بما أحرزت من نصر، فعادت تقول بلهجة التحريض: عائشة لم تَخُنِّي فحسب، ولكنها خانتك أنت أيضًا.

وصمتت ريثما يتغلغل قولها في الأعماق، ثم استطردت قائلة: إنها تزور ياسين ومريم في قصر الشوق.

هتفت أمينة وهي تُحملِق فيها بفزع: ماذا قلت؟

فقالت وهي تشعر بأنها تسوَّرت ذروة الظفر: هذه هي الحقيقة المحزنة! زارنا ياسين ومريم أكثر من مرة، زارا عائشة وزاراني، أقول الحق أني اضطُررت لاستقبالهما وما كاد يسعني إلا أن أفعل إكرامًا لياسين، غير أنه كان استقبالًا متحفظًا، ودعاني ياسين إلى زيارة قصر الشوق، ولست في حاجة إلى أن أقول لك إنني لم أذهب، وتكررت الزيارة دون أن يُغير ذلك من تصميمي، حتى قالت لي مريم: «لِمَ لا تزورينا ونحن أختان من قديم الزمان؟» ولكني اعتذرت بشتى المعاذير، وبذلَتْ كل حيلها لاجتذابي، وجعلت تشكو لي معاملة ياسين لها، واعوجاج سلوكه، وانصرافه عنها علها تُرقِّق قلبي، ولكني لم أفتح لها صدري، عائشة على خلاف ذلك، تستقبلها بالترحيب والقُبَل. الأدهى من ذلك أنها تبادلها الزيارة، وقد صحبت معها مرة سي خليل، وفي مرة أخرى صحبت نعيمة وعثمان ومحمد. لشدَّ ما تبدو سعيدة بتجديد صداقتها لمريم، وقد نبهتُها إلى مجاوزتها الحد في ذلك، فقالت لي: «لا مأخذ على مريم، إلا أننا رفضنا يومًا أن نجعل منها خطيبةً للمرحوم الغالي، فأي وجه للعدل في هذا؟» قلت لها: «أنسيتِ الجنديَّ الإنجليزي؟» فقالت لي: «لا ينبغي أن نذكر إلا أنها زوجة أخينا الأكبر.» هل سمعت يا نينة عن شيء كهذا من قبل؟

استسلمت أمينة للحزن، فنكَّسَت رأسها ولاذت بالصمت، فجعلت خديجة تنظر إليها مليًّا، ثم عادت تقول: هذه هي عائشة بلا زيادة ولا نقصان، عائشة التي شهدت عليَّ أمس فأذلَّتني أمام العجوز المخرفة.

تنهدت أمينة من الأعماق، ورمقت خديجة بعينَين فاترتَين، ثم قالت بصوت خافت: عائشة طفلة تأبى أن يكون لها عقل أو وزن، ولن تزال كذلك مهما امتدَّ بها العمر، هل يسعني أن أقول غير ذلك؟ لا أودُّ ولا أستطيع، هل هانت عليها ذكرى فهمي؟ لا أستطيع أصدق ذلك، ألم يكن في وسعها أن تقتصد في عواطفها حيال تلك المرأة ولو إكرامًا لي؟ لكن لن أسكت عن هذا، سأقول لها إنها أساءت إليَّ، وإنني غاضبة حزينة لأرى ما يكون منها بعد ذلك.

فأمسكت خديجة بخصلة من سوالفها، وقالت: أَحلِق هذا لو صلح لها حال! إنها تعيش في دنيا غير الدنيا التي نعيش فيها، لستُ أتحامل عليها وربنا يعلم، إنني لم أخاصمها ولا مرة مذ تزوَّجَت، حق أنني طالَما حملت عليها لما يقع منها من إهمال لأطفالها، أو تملُّق مُزرٍ لحماتها وغير ذلك مما حدثتك عنه في حينه، ولكن حملتي لم تُجاوز حد النصح الحازم أو النقد الصريح، هذه أول مرة يضيق بها صدري فأعالنها الخصام.

فقالت الأم برجاء وإن ظلَّ وجهها ممتعضًا: دعي الأمر لي يا خديجة، أما أنتِ فلا أحب أن يفصل بينك وبينها خصام أبدًا، لا يصحُّ أن يفترق قلباكما وأنتما تعيشان معًا في بيت واحد، لا تنسَي أنها أختك وأنك أختها، بل أختها الكبرى، إنَّ قلبك أبيض والحمد لله، وهو مُترع بالحب لأهلك جميعًا، إني كلما اشتد أمرٌ لم أجد عزاءً إلا في قلبك، وعائشة مهما يكن من هفواتها هي أختك، لا تنسَي هذا.

فهتفت في تأثُّر: إني أغفر لها كل شيء إلا شهادتها عليَّ.

– لم تشهد عليك، خافت أن تُغضبك كما خافت أن تُغضب حماتها فلاذت بالصمت، إنها تكره أن تُغضِب أحدًا — كما تعلمين — وإن كانت رعونتُها كثيرًا ما تُغضب الكثيرين. لم تقصد الإساءة إليك أبدًا، فلا تُحمِّلي تصرُّفها أكثر مما يحتمل، سأزوركم غدًا لأصفي حسابي معها، ولكني سأصلح بينكما وإياك أن تمتَنِعي عن الصلح.

ولأول مرة تتجلى في عيني خديجة نظرة قلقة مشفقة، حتى إنها غضَّت عينيها لتُخفيهما عن أمها، وصمتت قليلًا، ثم قالت بصوت خافت: ستَجيئين غدًا؟

– نعم، لم يَعُد الحال يحتمل الصبر.

خديجة كأنما تُحدِّث نفسها: سوف تتَّهمني بأنني أفشيت أسرارها.

– ولو!

ولما آنسَت منها مزيدًا من القلق والإشفاق، عادت تقول: على أيِّ حال أنا أعرف ما يُقال وما لا يقال.

فقالت خديجة بارتياح: هذا أفضل، فهيهات أن تَعترف بحُسن نيتي ورغبتي في إصلاح أمرها.

٢٣

آه!

ندَّت عنه بغتة مُفعمة بالحرارة والانفعال عندما رأى عايدة خارجة من باب القصر. كان يقف كعادته كل أصيل على طوار العباسية يُراقب البيت من بعيد وغاية أمانيه أن يَلمحها في شرفة أو نافِذة. وكان يَرتدي بدلة رصاصية أنيقة كأنما أراد أن يُجاري الجو الذي بعثت فيه الأيام الأخيرة من مارس أريحية ولطفًا وبشاشة، فضلًا عن أنه كان يزداد تأنقًا كلما ازداد ألمًا وقنوطًا. وكانت عيناه لم ترَها مذ خاصمتْه في الكشك، ولكن الحياة لم تكن تتيسر له إلا أن يحج كل أصيل إلى العباسية فيطوف بالقصر من بعيد في مُثابرة لا تعرف اليأس، مُعلِّلًا نفسه بالأحلام، قانعًا إلى حين باجتلاء المقام واجترار الذكريات. وكان الألم في الأيام الأولى للفراق كالمجنون في هذيانه ووسوسته، ولو طال به الأمد على ذلك لقضى عليه، ولكنَّه نجا من تلك المرحلة الخطيرة بفضل اليأس الذي وطَّن النفس عليه من قديم، فانسرب الألم إلى مُستقرٍّ له في الأعماق يؤدي فيه وظيفته من غير أن يعطل سائر الوظائف الحيوية كأنه عضو أصيل في الجسم أو قوة جوهرية في الروح، أو أنه كان مرضًا حادًّا هائجًا ثم أزمن فزايلته الأعراض العنيفة واستقر. غير أنه لم يتعز — وكيف يتعزى عن الحب، وهو أجَلُّ ما كاشفته به الحياة؟ — ولكنه كان يؤمن إيمانًا عميقًا بخلود الحب، فكان عليه أن يصبر كما ينبغي لإنسان مقدور عليه بأن يُصاحب داء إلى آخر العمر.

ولما رآها وهي تُغادر القصر فجأةً ندَّت عنه هذه الآهة، وتابعت عيناه عن بعد مشيتها الرشيقة التي طال تشوُّقه إليها حتى رقصت روحه رقصة قطر هيمانها حنينًا وطربًا. ومالت المعبودة إلى اليمين، وسارت في شارع السرايات، فشبَّت في روحه ثورة اجتاحت الهزيمة التي راضَ عليها النفس قرابة ثلاثة أشهر ففزع به قلبه إلى أن يَطرح همومه عند قدمَيها، وليكن ما يكون. واتجه دون تردُّد إلى شارع السرايات. كان في الماضي يَحذر الكلام أن يفقدها، الآن ليس ثمة ما يخاف عليه، إلى أن العذاب الذي عاناه طيلة الأشهر الثلاثة الماضية لم يدع له سبيلًا إلى التردد أو التراجع. ولم تلبث أن انتبهت إلى اقتراب خطاه، فالتفتَت إلى الوراء فرأته على بعد خطوات منها، ولكنها أعادت رأسها إلى وضعه الأول دون مبالاة. لم يكن يتوقَّع استقبالًا ألطف. ولكنه قال معاتبًا: أهكذا يكون اللقاء بين الأصدقاء القدماء؟

فكان الجواب أن حثَّت الخطى دون أن تعيره أدنى التفات، فأوسع خطوه مستمدًّا من ألمه عنادًا، ثم قال وهو يوشك أن يحاذيها: لا تتجاهليني فهذا شيء يفوق الاحتمال، ولا داعي له لو راعيت الإنصاف.

وكان أخوفَ ما يخاف أن تصرَّ على تجاهله حتى تبلغ هدفها المقصود، ولكن الصوت الرخيم خاطبه قائلًا: من فضلك ابتعد عني، ودعني أسير في سلام.

فقال بإصرار وتوسل معًا: ستَسيرين بسلام، ولكن بعد أن نُصفِّي الحساب.

فقالت بصوت تردد عميقًا واضحًا في صمت الطريق الأرستقراطي الذي بدا خاليًا أو شبه خال: لا أدري شيئًا عن هذا الحساب، ولا أريد أن أدري، أرجو أن تَسلُك سلوك الجنتلمان.

فقال بحرارة ووجد: أعدُكِ بأن أسلك سلوكًا يُعتبر بالقياس إلى الجنتلمان نفسه مثاليًّا، وليس في وسعي أن أفعل غير هذا؛ إذ إنكِ أنت التي توحين إليَّ بسلوكي.

قالت ولم تكن تنظر إلى ناحيته: أعني أن تتركني في سلام، هذا ما عنيته.

– لا أستطيع، لا أستطيع قبل أن تُعْلَن براءتي من التهم الظالِمة التي عاقبتِني عليها دون استماع إلى دفاعي.

– أعاقبتك أنا؟

تغاضَى عن الحديث لحظة خاطفة كي يتملَّى سحر الحال، فقد رضيَت أن تحاوره، وأن تتمهَّل في خطوها السعيد، وسواء أكان هذا لأنَّها تودُّ أن تستمع إليه أم لأنها تتعمَّد إطالة المسافة حتى تتخلَّص منه قبل بلوغ هدفها فلن يُغيِّر هذا من الحقيقة الباهرة، وهي أنهما يسيران جنبًا إلى جنب في شارع السرايات، تَحُفُّ بهما أشجار الطريق الباسِقة، وترنو إليهما من فوق أسوار القصور عيون النرجس الساجية وثغور الياسمين الباسمة، في هدوء عميق يتعطَّش قلبه المُستعر إلى نفحة منه. وقال: عاقبتِني أشدَّ عقاب باختفائك عني ثلاثة أشهر كاملة وأنا أتعذَّب عذاب المتَّهم البريء.

– يَحسُن ألا نعود إلى ذلك.

في انفعال وضراعة: بل يجب أن نعود إليه، إني مُصِرٌّ على ذلك، وأتوسل إليك باسم العذاب الذي عانيتُه حتى لم يعد بي قوة لتحمل المزيد منه.

تساءلت في هدوء: ما ذنبي أنا في ذلك؟

– أريد أن أعرف: ألا تَزالين تَعُدينني معتديًا؟ الأمر المؤكد أنني لا أستطيع أن أسيء إليكِ بحال، ولو تذكرتِ مودَّتي طوال الأعوام الماضية لاقتنعتِ برأيي دون عناء، دعيني أفصِّل لك الأمر بكل صراحة، لقد دعاني حسن سليم إلى مقابلته عقب الحديث الذي دار بينَنا في الكشك.

فقاطعته فيما يشبه الرجاء: دعنا من هذا، إنه ماضٍ انتهي.

وقعت الجملة الأخيرة من أذنه موقع النياحة من أذن الميت لو كان ميت يَسمع، ثم قال بتأثر بدا في نبراته كالنغمة إذا هبطت من الجواب إلى القرار: انتهى! أعلم أنه انتهى، لكنِّي أطمع في حُسن الختام، لا أريد أن تَذهبي وأنت تظنين بي الغدر، أو الغيبة، إنني بريء ويعزُّ عليَّ أن تسيئي الظن بشخص يُكِنُّ لك كل إعزاز واحترام، فلا يَجري لك ذكر على لسانه إلا مقرونًا بكل ثناء.

ألقت عليه نظرة وهي تميل برأسها إلى الناحية الأخرى كأنما تُداعبه قائلة: «من أين لك بهذه البلاغة كلها؟!» ثم قالت بشيء من الرقة: يبدو أنه وقَع سوء تفاهم غير مقصود، ولكن ما فات فات.

بحماس وأمل: بل لا يزال في النفس شيء من الشكِّ فيما أرى.

فقالت بتسليم: كلا، لا أنكر أني أسأت الظن حينًا، ولكن تبيَّن لي الحق بعد ذلك.

فطفا قلبه فوق موجة من السعادة ترنَّح فوقها كالثمل، ثم تساءل: متى عرفت ذلك؟

– منذ زمن غير قصير.

رنا إليها بامتنان، وعبرتْه حال من الوجد يحلو معها نوع من البكاء، ثم قال: عرفت أنني بريء؟

– نعم.

هل يستردُّ حسن سليم احترامه عن جدارة؟

– وكيف عرفتِ الحقيقة؟

فقالت بعجلة توحي بالرغبة في إنهاء التحقيق: عرفتُها … وهذا هو المهم.

تجنَّب الإلحاح أن يضايقها، ولكنَّ خاطرًا خطر فأظلت على قلبه سحابة من الكدر حتى قال مُتشكِّيًا: ومع ذلك أصررت على الاختفاء! لم تُكلِّفي نفسك إعلان العفو ولو بإشارة أو كلمة مع أنك افتننتِ في إعلان الغضب! ولكن عذرك الواضح وهو عندي مقبول.

– أي عذر هذا؟

بصوت حزين: أنك لا تَعرفين الألم، وإني أسأل الله مُخلصًا ألا تعرفيه أبدًا.

قالت كالمعتذرة: ظننت أنه لا يُهمك أن تكون متهمًا.

– سامحك الله، لقد اهتممت أكثر مما تتخيَّلين، وساءني جدًّا أن أجد الشُّقَّة بيننا واسعة، فلم يقف الأمر عند حدِّ أنك تجهلين ما أُكنُّه لكِ من … من مودة، ولكنه جاوز ذلك إلى إلصاق التهم الظالمة بي، فانظري أين كنتِ؟ وأين كنتُ؟ على أني أُصارحُكِ بأن الاتهام الجائر لم يكن أسوأ ما عانيت من ضروب الألم.

باسمة: لم يكن ضربًا واحدًا من الألم إذن؟

فشجعته الابتسامة — كما تُشَجِّع الطفل — على الاسترسال في عاطفته، فقال بوجد وانفعال: بلى، وكانت التُّهمة أخف الآلام، أما أشدها فكان اختفاؤك، كان لكلِّ ساعة من ساعات الأشهر الثلاثة الماضية نصيبها من آلامي، عشتُ أشبه ما يكون بالمجانين، لهذا أدعو الله صادقًا ألا يمتحنَكِ بالألم، دعاء مجرب، فإن لي بالألم تجربة وأي تجربة، وأقنعتْني هذه التجربة القاسية بأنه إذا كان مقدورًا عليَّ أن تَختفي من حياتي، فمن الحكمة أن أبحث لي عن حياة أخرى. كان كل شيء كلعنة طويلة مقيتة، لا تهزئي بي، أنا أتوجَّس من ناحيتكِ شيئًا كهذا دائمًا، ولكن الألم أجلُّ من أن يُهزأ به، لا أتصور أن يَهزأ ملاكٌ كريم مثلك من عذاب الآخرين، ودعي جانبًا أنك سببُه، لكن ما الحيلة؟ قُضِيَ عليَّ من قديم أن أحبَّك بكل قوة نفسي.

ساد صمت مُقطَّع بأنفاسه المتردِّدة، وكانت تنظر إلى الأمام فلم يُطالع عينيها، ولكنه وجد في صمتها راحة لأنه على أي حالٍ أخف من كلمة سادرة وعدَّه توفيقًا. تصور أن يَجيئك صوتها ناعمًا عذبًا معربًا عن الشعور نفسه، يا له من مجنون! لماذا سكب ماء قلبِه المكنون؟ لم يكن إلا كقافز رام الارتفاع قدمًا فوجد نفسه يُحلق فوق هامة الجو! ولكن أي قوة تستطيع أن تشكمه بعد ذلك؟

– لا تُذكريني بما لا أحب سماعه فإني في غِنًى عن ذلك، لن أنسى رأسي لأني أحمله ليل نهار، ولا أنفي فإني أراه مرات كل يوم، ولكن عندي شيء لا نظير له عند الآخرين، حبِّي لا نظير له، إني فخور به، ويجب أن تكوني به فخورًا أيضًا ولو زهدتِ فيه، هكذا كان مذْ رأيتك أول مرة في الحديقة، ألم تشعري به؟ لم أفكر في الاعتراف من قبل لأني خفتُ أن يَقطع ما بيننا من مودة، وأن يَطردني من الفردوس، لم يكن من اليسير عليَّ أن أغامر بسعادتي، أما وقد طُردتُ من الفردوس فعلامَ أخاف؟

سال سرُّه على لسانه كأنه دمٌ تعذَّر منعه. ولم يكن يرى من الوجود إلا شخصها البديع. كأن الطريق والأشجار والقصور والقِلَّة العابرة قد غابت وراء سحابة شاملة لم تنحسر إلا عن فُرجة لاحت منها المعبودة الصامتة بقامتها الهيفاء، وهالتها السوداء، وعارضها الموسوم بالملاحة المُنطوي على الأسرار، يبدو في الظل حينًا أسمر صافيًا، وحينًا — إذا مرَّا بطريق جانبي — وضاء منيرًا تحت شعاع الشمس المائلة للغروب، ولم يكن يبالي أن يسترسل في الحديث حتى الصباح.

– أقلتُ لكِ إنني لم أفكر في الاعتراف من قبل؟ في هذا تجاوز، الواقع أنني هممت بالاعتراف يومَ التقينا في الكشك ونُوديَ حسين للتليفون، كدت أعترف لولا أن عاجلتِني بمهاجمة رأسي وأنفي، فكنتُ (وهو يضحك ضحكة مقتضبة) كالخطيب الذي همَّ بفتح فيه فانهال عليه الحصى من جمهور المستمعين!

هادئة صامتة كما ينبغي لها، ملاك من عالم آخر لا يَطيب له التحدث بلغة البشر أو الاهتمام بشئونهم، أما كان من الأكرم له أن يصون سرَّه؟ … الأكرم؟ الكبرياء حيال المعبود كفر، مواجهة القاتل بالقتيل فنٌّ من الحكمة، أتذكُر الحلم السعيد الذي استيقظت منه ذات صباح فبكَيت عليه؟ الحلم سرعان ما يبتلعه النسيان، أما الدموع أو بالحري ذكراها فتبقى رمزًا خالدًا. وإذا بها تقول: لم أقل ما قلت إلا على سبيل الدعابة، ورجوتُك حينذاك ألا تغضب.

هذا الشعور الرطيب جدير بالتذوق، كالفرحة السعيدة على أثر وجع ضرس وضرباته، وتداعت الأنغام الكامنة في نفسه حتى برَز منها لحنٌ مليح، عند ذاك تراءت قسمات المعبودة رموزًا موسيقية للحنٍ سماوي مرقومة على صفحة الوجه الملائكي.

– ستَجدينني قانعًا بما دون الرجاء، لأنني كما قلت لك: أحبك.

والتفتَت صوبه في رشاقة طبيعية، فألقت عليه نظرةً باسمة ثم استردتها على عجل قبل أن يتمكَّن من قراءتها، أية نظرة كانت يا ترى؟ نظرة رضى؟ تأثر؟ عطف؟ استجابة؟ سخرية مهذبة؟ وهل أصابت الوجه جملة أم اختصت بالرأس والأنف؟ وجاءه صوتها قائلًا: لا يسعني إلا أن أشكرك، وأعتذر لك عن إيلامك الذي لم أتعمَّده، أنت رقيق وكريم.

ونزعت به النفس إلى الارتماء في أحضان الأحلام السعيدة، ولكنَّها استطردت قائلة بصوت خافت: الآن دعني أتساءل عما وراء ذلك؟

ترى أيسمع صوت معبودته أم صدى صوتِه هو؟ هذه الجملة بنصِّها مُحلِّقة في مكان ما من سماء بين القصرين محفوفة بتنهداته، هل آنَ له أن يجد لها جوابًا؟ تساءل في حيرة: هل وراء الحب شيء؟

ها هي تبتسم، تُرى ما معنى ابتسامتها؟ لكنَّك غير الابتسام تروم. عادت تقول: إن الاعتراف بداية وليس نهاية، إني أتساءل عما تُريد؟

فأجاب بحيرة أيضًا: أريد … أريد أن تأذني لي بأن أُحبَّك.

فما ملكت أن ضحكت، ثم تساءلت: أهذا ما تريد حقًّا؟ ولكن ماذا أنت فاعل إذا لم آذن لك؟

فقال وهو يتنهَّد: في هذه الحال أحبك أيضًا.

فتساءلت فيما يُشبه الدعابة، الأمر الذي أرعبه: فيمَ إذن كان الاستئذان؟

حقًّا ما أسخف هفوات اللسان، إن أخوفَ ما يخاف أن ينحطَّ على الأرض فجأةً كما سما عنها فجأة، وسمعها تقول: أنت تُحيِّرني، ويبدو لي أنك تحير نفسك أيضًا.

قال بجزع: إني … حائر؟ ربما، ولكني أحبك، ماذا وراء ذلك؟ يُخيَّل إليَّ أحيانًا أني أطمع إلى أمور تعجز الأرض عن حملها، ولكني إذا تأملت قليلًا عجزت عن تحديد هدف لي. خبِّريني أنت عن معنى هذا كله، أريد أن تتحدَّثي وأن أستمع، هل عندك ما يَنتشلُني من حيرتي؟

قالت باسِمة: ليس عندي مما تسأل شيء، كان ينبغي أن تكون أنت المتحدِّث وأنا المُستمعة، ألستُ فيلسوفًا؟

قال واجمًا ووجهه يتورَّد: أنت تَسخرين مني؟

فقالت بعجلة: كلا، غير أني لم أكن أتوقَّع هذا الحديث عندما غادرت البيت، فاجأتني بما لم أتوقع، وعلى أي حال فإني شاكرة ممتنة، ولا يسع إنسان أن ينسى عواطفك الرقيقة المهذبة، أما أن يسخر منها فهذا ما لا يَخطر على بال.

نغمة آسرة ومُناغمة عذبة، ولكنه لا يَدري أيجد المعبود أم يَلهو، وهل تتفتح أبواب الأمل أم توصد في خفة النسيم، وقد سألته عما يريد فما أجاب لأنه لا يدري ماذا يريد! ولكن ماذا عليه لو قال إنه يطمح إلى الوصال! وصال الروح بالروح، وأن يطرق باب السر المغلق بعناق أو قُبلة، ألا يكون هذا هو الجواب؟ وعند مفترق الطرق الذي ينتهي عند شارع السرايات، توقفَت عايدة عن السير، ثم قالت برقة ولكن بلهجة قاطعة: هنا …!

فتوقف عن السير أيضًا وهو يُحملق في وجهها بدهش، هنا تعني أنه يجب أن نفترق هنا، لم يكن لجملة «أحبك» هذا الامتداد في المعنى الذي يغني عن السؤال، قال دون تدبر أو تفكير: كلا.

ثم هاتفًا كمن ظفر بكشف مضيء بغتة: ماذا وراء الحب؟ أليس هذا سؤالك؟ هاك الجواب: ألا نَفترِق!

قالت بهدوء باسم: ولكن يَجب أن نفترق الآن!

تساءل بحرارة: لا كدرَ ولا سوء ظن؟

– كلا.

– أتعودين إلى زيارة الكشك؟

– إذا سمحت الظروف.

بقلق: كانت الظروف تسمح في الماضي!

– الماضي غير الحاضر.

آلمه الجواب إيلامًا عميقًا، فقال: يبدو أنكِ لن تعُودي.

فقالت كأنما تنبهه إلى وجوب الافتراق: سأزور الكشكَ كلما سمحت الظروف، سعيدة.

وغادرت موقفها متَّجهة نحو شارع المدرسة فوقف يرنو إليها كالمسحور، وعند منعطف الطريق التفتت نحوه فألقت عليه نظرة باسمة، ثم غابت عن ناظريه.

ماذا قال؟ وماذا سمع؟ سيخلو إلى هذا عما قليل، بعد أن يفيق، متى يفيق؟ إنه يسير الآن وحده، وحده؟ وخفقات القلب وهيمان الروح وأصداء النغم؟ ومع ذلك شَعَرَ بالوحدة بقوة هزت صميم فؤاده، وفغمَه شذا ياسمين ساحرًا آسرًا، ولكن ما هويته؟ ما أشبهه بالحب في سحره وأسره وغموضه، لعل سر هذا يفضي إلى ذاك، ولكنه لن يحلَّ هذا اللغز حتى يأتيَ على تراتيل الحيرة.

٢٤

قال حسين شداد: هذه جلسة الوداع وا أسفاه!

امتعض كمال لدى ذكر كلمة الوداع، ورمَق حسين بنظرة سريعة ليرى إن كان وجهه يَنطق بالأسف حقًّا كما نطق به لسانه. على أنه استشعر جو الوداع منذ أكثر من أسبوع؛ إذ إن مجيء يونيو يؤذن عادة برحيل الأصدقاء إلى رأس البر والإسكندرية، فما هي إلا أيام حتى تغيب عن أفقه الحديقة والكشك والأصدقاء، أما المعبودة فقد ارتضت الاختفاء من قبل أن يَقضي به الرحيل، وأصرَّت عليه رغم الصلح الذي توَّج به حديث شارع السرايات. لكن هل يمضي يوم الوداع دون زيارة؟ هل هانت المودة إلى حدِّ الضنِّ بنظرة عابرة قبل سفر ثلاثة أشهر؟ تساءل كمال باسمًا: لم قلتَ «وا أسفاه»؟

فقال حسين شداد باهتمام: وددت لو سافرتم معي إلى رأس البر، يا سلام! … أي تصييف كان يكون.

كان يكون عجبًا بلا ريب، حسبُه أن المعبودة لا تستطيع مواصلة الاختفاء هناك، وخاطبه إسماعيل لطيف: كان الله في عونك! كيف تَحتمِل حر الصيف هنا، إنَّ الصيف لم يكد يبدأ بعد، ومع ذلك انظر إلى حر اليوم.

كان الجو شديد الحرارة رغم تقلُّص ذيل الشمس عن الحديقة والصحراء الممتدة وراءها، غير أن كمال قال بهدوء: لا شيء في الحياة لا يُمكن احتماله.

وفي اللحظة التالية كان يسخر من إجابته ويتساءل كيف أجاب بها! وإلى أي حدٍّ يمكن اعتبار أقوالنا تعبير صدق عما في نفوسنا؟ ونظر فيما حوله فرأى أناسًا سعداء ما في ذلك ريب، بدوا في قمصانهم ذوات الأكمام القصيرة وبنطلوناتهم الرمادية كأنما يتحدُّون الحر، كان هو وحده الذي يرتدي بدلة كاملة — وإن تكن بدلة خفيفة بيضاء — وطربوشًا وقد وضعه على المنضدة، وإذا بإسماعيل لطيف يُنوِّه بنتيجة الامتحان قائلًا: نتيجة نجاح مائة في المائة، حسن سليم نال الليسانس، كمال أحمد عبد الجواد منقول، حسين شداد منقول، إسماعيل لطيف منقول.

قال كمال ضاحكًا: لو اكتفيتَ بذكر النتيجة الأخيرة لعرَفْنا الأخريات بداهة.

فقال إسماعيل وهو يرفع منكبَيه استهانة: كلانا بلغ هدفًا واحدًا، أنت بعد كدٍّ وتعبٍ تَواصَلا طوال العام، وأنا بعد تعب شهر واحد.

– هذا دليل على أنكَ عالِم بالفطرة!

فتساءل إسماعيل ساخرًا: ألم تَقُل مرةً في أحد أحاديثك التافهة: إن برنارد شو كان أخيب تلميذ في عصره؟

فقال كمال ضاحكًا: الآن آمنتُ بأن عندنا نظيرًا لشو، على الأقل في خيبتِه!

عند ذاك قال حسين شداد: عندي خبر يَنبغي إذاعته قبل أن يسرقنا الحديث.

ولما وجد أن قوله لم يُجدِ كثيرًا في لفتِ الأنظار إليه نهض فجأة، ثم قال بلهجة لم تخلُ من تمثيل: دعوني أزف إليكم خبرًا طريفًا وسعيدًا (ثم مستدركًا وهو ينظر نحو حسن سليم) أليس كذلك؟ (ثم وهو يعود برأسه نحو كمال وإسماعيل) تمَّت أمس خطبة الأستاذ حسن سليم على أختي عايدة.

وجد كمال نفسه أمام هذا الخبر بغتةً كما يجد إنسان نفسه تحت الترام، وكان أنعم ما يكون عينًا بالسلامة والأمن، خفق قلبه خفقة عنيفة كسقطة طيارة مُنطلقة في فراغ هوائي، بل هي صرخة فزع باطنية تصدَّعت الضلوع دون تسرُّبها إلى الخارج، وقد عجب — خصوصًا فيما بعد — كيف استطاع أن يضبط مشاعره، ويُلاقي حسين شداد بابتسامة التهنئة، فلعلَّه شُغل عن القارعة — ولو إلى حين — بالصراع الذي نشب بين نفسه وبين الذهول الذي طوَّقها. وكان إسماعيل لطيف أول من تكلم فردَّد عينيه بين حسين شداد وحسن سليم الذي بدا هادئًا رزينًا كعادته، وإن شابَهُ هذه المرة شيء من الحياء أو الارتباك، ثم هتف: حقًّا! يا له من خبر سارٍّ، سار ومُفاجئ، سارٍّ ومفاجئ وغادر! غير أني سأؤجل الحديث عن الغدر إلى حين، حسبي الآن أن أقدم خالص التهاني!

ونهض فصافح حسين وحسن، فقام كمال من فوره للتهنئة كذلك، وكان مأخوذًا رغم ابتسامته الظاهرة بسرعة الحوادث وغرابة الأقوال حتى خُيِّل إليه أنه في حلم غريب، وأن المطر يَنهمِر فوق رأسه، وأنه يتلفَّت باحثًا عن مأوى. وقال وهو يُصافح الشابين: خبر سارٌّ حقًّا، تهانيَّ القلبية.

عاد المجلس إلى سابق هيئته، واختلس كمال من حسن سليم نظرة على رغمِه فرآه هادئًا رزينًا، وكان يُشفِق من أن يجده مختالًا أو شامتًا — كما تصور هذا — فداخله شيء من الارتياح العابر. وراح يَستجدي نفسه أقصى ما لديها من قوة ليستر جرحه الدامي عن العيون اليواقظ، وليتفادى من مواضع الهزء والزراية، تجلَّدي يا نفسي وأنا أعدُك بأن نعود إلى هذا كله فيما بعد، بأن نتألم معًا حتى نهلك، وبأن نُفكر في كل شيء حتى نجنَّ، ما أمتع هذا الموعد في هدأة الليل حيث لا عين ترى ولا أذن تسمع! حيث يُباح الألم والهذيان والدموع دون زراية زار أو لومة لائم، وثمة البئر القديمة أَزحْ عن فوهتها الغطاء، واصرخْ فيها مخاطبًا الشياطين، ومناجيًا الدموع المتجمعة في جوف الأرض من أعين المحزونين، لا تَستسلم، حذار؛ فالدنيا تبدو لناظرَيك حمراء كعين الجحيم. عاد إسماعيل لطيف يقول متَّخذًا لهجة الاتهام: مهلًا، لنا عندكما حساب، كيف حدَث هذا دون سابق إنذار؟ أو فلندع هذا إلى حين، ولنسأل كيف تمت الخطبة دون حضورنا؟

قال حسين شداد مدافعًا عن موقفه: لم يكن هناك حفل كبير أو صغير، اقتصر الجمع على خاصة الأهل، موعدنا يوم الكتاب وعليك خير، ستكونان من الداعين لا المدعوين.

يوم الكتاب! كأنه عنوان لحنٍ جنائزي، حيث يُشيَّع قلبٌ إلى مقره الأخير محفوفًا بالورود، مودَّعًا بالزغاريد، وباسم الحب تعنو ربيبة باريس لشيخ معمَّم يتلو فاتحة الكتاب، وباسم الكبرياء هجر إبليس الجنة. قال كمال باسمًا: العذر مقبول والوعد مأمول.

فصاح إسماعيل لطيف محتجًّا: هذه بلاغة أزهرية إذا لاحت لها في الأفق مائدة تناسَت دواعي العتاب، وتغنَّت بالتسامح والثناء، كل ذلك في سبيل لقمة دسمة! حقًّا إنك أديب، أو فيلسوف، أو ما شاكل ذلك من ضروب الشحاذة، أما أنا فلست كذلك.

ثم مواصلًا حملة الاتهام على حسين شداد وحسن سليم: يا لكما من داهيتين، صمت طويل يعقبه فجأة إعلان خطبة، هه؟ حقًّا يا أستاذ حسن إنك الخليفة المنتظر لثروت باشا.

قال حسن سليم وهو يَبتسِم مُعتذرًا: إن حسين نفسه لم يَعلم بالأمر إلا قبيله بأيام معدودات.

فتساءل إسماعيل: خطبة مِن جانب واحد كتصريح ٢٨ فبراير؟

رفضته الأمة المغلوبة على أمرها بإباء، ولكنَّه فُرِضَ عليها وما كان كان. وضحك كمال ضحكة عالية، فقال إسماعيل وهو يَغمز حسن سليم بعينه: استعينوا على قضاء … لا أذكر ماذا بالكتمان. قالها عمر بن الخطاب، أو عمر بن أبي ربيعة، أو عمر أفندي، والله أعلم.

وقال كمال فجأة: جرَت العادة بأن تنضج هذه الأمور في صمت، على أني أُقرُّ بأن الأستاذ حسن أشار في حديثٍ له معي مرَّة إلى شيء كهذا.

فرمقه إسماعيل بارتياب، على حين ألقى عليه حسن نظرة واسعة، وقال مُستدركًا: كان كلامًا أشبه بالعناوين.

تساءل كمال في دهَش كيف ندَّ عنه ذلك القول؟ إنه كذب أو شبه كذب على أحسن تقدير، كيف يَطمع — بهذا الأسلوب الشاذ — أن يُقنع حسن بأنه كان على علم بنواياه، وأنه لم يُفاجأ بها، أو يكترث لها؟ يا لَلحماقة! أما إسماعيل فقد قال لحسن وهو يحدجه بنظرة عتاب: ولكني لم أحظَ بعنوان واحد من هذه العناوين!

فقال حسن بجدٍّ: أؤكِّد لك أنه إذا كان كمال قد وجَد في حديثي معه ما اعتبره إشارة إلى الخطبة، فإنما يكون قد استعان على ذلك بخيالِه لا بكلماتي.

ضحك حسين شداد ضحكة عالية، وقال مخاطبًا حسن سليم: إسماعيل زميلك القديم، وهو يريد أن يقول لك إنه إذا كنتَ سبقته إلى الليسانس بثلاث سنوات فلا يعني هذا أن تضنَّ عليه بأسرارك، أو أن تُؤثر بها غيره.

فقال إسماعيل باسمًا، وكأنما كان يداري مضايقته: إني لا أرتاب في زمالته القديمة، ولكني أحاسبه حتى لا يعود إلى الوقوع في الإهمال يوم القران.

فقال كمال باسمًا: نحن أصدقاء الطرفَين، فإذا أهملنا العريس فلن تهملنا العروس.

إنه تكلم ليُثبت أنه حي، لكنه حيٌّ يتألم، شدَّ ما يتألم، ترى هل جرى في خاطره يومًا أن يكون لحبِّه نهاية غير هذه النهاية؟ كلا، غير أن الإيمان بأن الموت حتم مقدر لا يمنع من الجزع حين حضوره، وهو ألم مُفترِس لا يعرف المنطق أو الرحمة، لو يستطيع أن يشخصه ليعلم في أي موضع يكمن أو عن أي ميكروب يصدر؟ وبين نوبات الألم يَرشح بالملل والفتور.

– ومتى يُعقَد القران؟

إن إسماعيل يسأل عما يدور بخاطره كأنه مُوكَّل بأفكاره، ولكنه لا ينبغي له أن يصمت، قال: نعم، هذا مُهمٌّ جدًّا حتى لا نؤخذ على غرة، متى يُعقَد القران؟

فتساءل حسين شداد ضاحكًا: لم تتعجلان الأمر؟ فليَهنأ العريس بما بقيَ من عهد عزوبيته.

وقال حسن بهدوئه المعتاد: ينبغي أن أعرف أولًا إن كنتُ سأبقى في مصر أم لا؟

فقال حسين شداد معقبًا: إما أن يُعيَّن في النيابة، أو في السلك السياسي.

هكذا يبدو حسين شداد مسرورًا بالخطبة، فأستطيع أن أزعم أنني كرهته ولو دقيقة عابرة، كأنه خانني فيمَن خانوني، أخانني أحد؟ اختلطت الأمور عليَّ، غير أن هذا المساء يعدُني بخلوة حافلة.

– أيهما تُفضِّل يا أستاذ حسن؟

فليَخترْ ما يحلو له، النيابة … السلك السياسي … السودان … سوريا إن أمكن!

– النيابة بهدلة، إني أُفضِّل السلك السياسي.

– يَحسُن أن تُفهم والدك ذلك جيدًا حتى يركز عنايته في إلحاقك بالسلك السياسي.

أفلتت هذه الجملة أيضًا، ولا شك أنها أصابت الهدف، يَنبغي أن يتمالك أعصابه، وإلا وجد نفسه مشتبكًا مع حسن في نزاع علَني، ثم ينبغي أن يراعي خاطر حسين شداد، فهما الآن أسرة واحدة، ما أقسى هذه الشكة من الألم. هز إسماعيل رأسه كالآسِف، وقال: هذه آخر أيامك معنا يا حسن، بعد عشرة العمر كله، يا لها من نهاية محزنة!

يا لَلحماقة! يحسب أن الحزن يمس قلبًا واحة المعبود مرتعه.

– الواقع أنها نهاية محزنة يا إسماعيل.

كذب في كذب، مثل تهنئتِك له، يستوي في هذا ابن التاجر وابن المستشار. قال: أيعني هذا أنك ستَقضي عمرك كله خارج القُطر؟

– هذا هو المتوقَّع، لن نرى مصر إلا في القليل النادر.

قال إسماعيل متعجبًا: حياة غريبة! هلا فكَّرتَ فيما ينتظر أولادك من متاعب؟

وا قلباه! أيليق هذا العبث بالمعاني! يحسب الشرير أن المعبودة تَحبل وتتوحَّم، وتنداح بطنها وتتكور، ثم يجيئها المخاض فتلد! أتذكر خديجة وعائشة في الأشهر الأخيرة؟ هو الكفر، لِمَ لَمْ تَشترِك في جمعية الكف السوداء؟ الاغتيال خير من الكُفر وأنجع، وتجد نفسك يومًا في قفص الاتهام وعلى المنصَّة سليم بك صبري والد صديقِك الدبلوماسي وحمو معبودتك، كما مثل بين يدَيه قتلة السردار في هذا الأسبوع، الخائن!

حسين شداد ضاحكًا: أتقطَع الدول علاقتها السياسية حتى يُربَّى أولاد الدبلوماسيين في بلادهم؟

بل تقطع الرءوس! عبد الحميد عنايت … الخراط … محمود راشد … علي إبراهيم … راغب حسن … شفيق منصور … محمود إسماعيل … كمال أحمد عبد الجواد الإعدام شنقًا، القاضي الوطني سليم بك صبري، القاضي الإنجليزي مستر كرشو، الاغتيال هو الجواب، أتُريد أن تَقتُل أم تُقتَل!

وخاطب إسماعيل حسين قائلًا: رحيل أختك سيَحمِل والدك على الإصرار على رفض فكرة سفرك أنت!

فقال حسين شداد باطمئنان: قضيَّتي تقترب من الحل المُوفَّق بخُطًى ثابتة.

عايدة وحسين في أوروبا! إنسان يفقد في ساعة حبيبه وصديقه، تفتقد روحك معبودها فلا تجده، ويفتقد عقلك أليفه فلا يجده، وفي الحي العتيق تعيش وحيدًا مهجورًا كأنك صدى حنين هائم منذ أجيال، تأمل الآلام التي ترصدك، آن لك أن تَحصد ثمار ما زرعت من أحلام في قلبك الغِر، توسَّل إلى الله أن يجعل الدموع دواءً للأحزان، وعلق إن استطعت جسمك بحبال المشانق، أو ضعه على رأس قوة مدمرة تنقضُّ بها على العدو، غدًا تلقى روحك خلاءً كما لقيت بالأمس ضريح الحسين، يا خيبة الآمال! والمخلصون قتلى، أما أبناء الخونة فسُفراء. قال إسماعيل لطيف وكأنه يخاطب نفسه: لن يبقى في مصر إلا أنا وكمال، وكمال غير مأمون الجانب؛ لأنَّ صديقه الأول — قبل أو بعد أو مع حسين — هو الكتاب.

فقال حسين في ثِقة وإيمان: لن يقطع الرحيل ما بيننا من أسباب.

فخفق قلب كمال رغم فتوره، وقال: على أنَّ قلبي يحدثني بأنك لن تحتمل الغربة إلى الأبد.

– هذا هو الراجح، ولكنك ستُفيد من رحلتي بما سأُرسله لك من كتب، سنواصل أحاديثنا بالرسائل والكتب.

هكذا يتكلَّم حسين كما لو كان السفر قد بات أمرًا مفروغًا منه، هذا الصديق الذي يسعد بلقياه سعادة فاتنة، فحتى الصمت يَستمتع به في محضره، ولكن عزاء فذهاب المعبودة سيعلمه كيف يستهين بالخطب وإن جل، هكذا هانت وفاة جدته المحبوبة على النفس التي اكتوت بنار الحزن على فهمي، غير أنه ينبغي أن يذكر دائمًا أنه في جلسة الوداع كي يملأ عينيه من الورود والأزهار الثملة بالنضرة لا تُبالي في أي حزنٍ يَهيم، وثمة مشكلة ينبغي أن يجد لها حلًّا: كيف يسمو بشر إلى معاشَرة المعبود؟ أو كيف يهبط المعبود حتى يُعاشرَه بشر؟ فإذا لم يجد لذاك حلًّا فسوف يسير في طريقه بقدمَين ترسفان في الأغلال وفي حلقِه شجًا، والحبُّ حمل ذو مقبضَين متباعدين خُلق لتحمله يدان … فكيف يحمله وحده؟ وكان الحديث يطَّرد ويتفرع وهو يتابعه بعينيه، وهزات رأسه، وكلمات يُثبت بها أن الخطب لم يقضِ عليه بعد، وكان الأمل معقودًا بأن قاطرة الحياة تسير، وأن محطة الموت في الطريق على أيِّ حال، وها هي ساعة الغروب … ساعة الظلام والهدوء … تحبها كما تحب الفجر، وعايدة والألم لفظان لمعنًى واحد؛ فينبغي أن تُحبَّ الألم وأن تَطرب للهزيمة منذ اليوم، ولا تزال عجلة الحديث في دوران غير مُنقطِع، والأصدقاء يتضاحكون ويتناظرون كأن واحدًا منهم لم يعرف الحب قلبه، حسين ضحكة الصحة والصفاء، وإسماعيل ضحكة العربدة والعدوان، وحسن ضحكة التحفظ والاستعلاء، ويأبى حسين إلا أن يتحدَّث عن رأس البر، أعدك بأن أحج إليها يومًا، وأن أسأل عن الرمال التي وطئتْها أقدام المعبودة لألثمَها ساجدًا، الآخران يتغنَّيان بسان استفانو، ويتحدثان عن أمواج كالجبال، حقًّا؟ تصور جثة تقذف بها الأمواج إلى الشاطئ وقد امتصَّ البحر الرهيب جمالها ونُبلها؟ ولنعترف بعد هذا كله بأن الملل يطوق الكائنات، وأن السعادة ربما كانت وراء أبواب الموت. وتواصل السمر حتى آنَ للجمع أن يتفرق، فتصافحوا بحرارة، شد كمال على يد حسين، وشد حسين على يد كمال، ثم مضى وهو يقول: إلى اللقاء … في أكتوبر.

كان في مثل هذا الموقف من العام الماضي وما قبله يتساءل في لهفة متى يعود الأصدقاء؟ الآن ليسَت أشواقه رهينة بعودة أحد، ستظل مُستعرة جاء أكتوبر أو لم يجئ، عاد الأصدقاء أو لم يعودوا. لن يلوم شهور الصيف بعد الآن لأنها تُباعد بينه وبين عايدة، فالهوة التي تفصل بينهما أعمق من الزمن، وقد كان يعالج الزمن بجرعات الصبر والأمل، ولكنه يخاصم اليوم عدوًّا مجهولًا، وقوة خارقة غامضة لا يدري من تعاويذها ورقاها حرفًا واحدًا، فليس أمامه إلا الصمت والتعاسة حتى يقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا، تراءى له حبُّه معلقًا فوق رأسه كالقدر، يشده إليه بأسلاك من الألم المبرح، أشبه ما يكون في جبريته وقوته بالظاهرة الكونية، فتأمله بعين ملؤها الإكبار والحزن.

افترق الأصدقاء الثلاثة أمام سراي آل شداد: فسار حسن سليم إلى شارع السرايات، واتَّجه كمال وإسماعيل نحو الحسينَية في طريقهما المعهود الذي يَفترقان في نهايته، فيمضي إسماعيل إلى غمرة، ويمضي كمال إلى الحي العتيق. وما إن انفردًا حتى ضحك إسماعيل ضحكة عالية طويلة، فسأله كمال عما أضحكه، فقال في خبث: ألم تَفطِن بعدُ إلى أنكَ كنتَ في الأسباب الجوهرية التي دعت إلى الإسراع في إعلان الخطبة؟

– أنا؟!

ندَّت عن كمال وعيناه تتسعان في ذهول، فقال إسماعيل في استهانة: نعم أنت، لم يكن حسن يرتاح إلى صداقتِكما، هذا يبدو لي محقَّقًا رغم أنه لم ينبس لي عنه بكلمة، إنه ذو كبرياء شديد — كما تعلم — ولكنِّي أعرف كيف أصل إلى ما أريد، أؤكِّد لك أنه لم يكن يرتاح إلى صداقتكما، أتذكُر ما نشب بينكما ذلك اليوم؟ الظاهر أنه طالبها بأن تحدَّ من حريتها في الاختلاط بالأصدقاء، والظاهر أنها ذكَّرته بأنه لا حق له في مطالبته؛ فأقدم على هذه الخطوة الكبيرة ليكون من أصحاب الحقوق.

قال كمال وخفقان قلبه يكاد يعلو على صوته: لكنني لم أكن الصديق الوحيد! كانت عايدة صديقتنا جميعًا.

فقال إسماعيل متهكِّمًا: ولكنها اختارتك أنت لتُثير قلقه! ربما لأنها آنست في صداقتك حرارة لم تجدها عند غيرك، على أي حال، إنها لا تُلقي الأمور ارتجالًا، وقد صمَّمتْ منذ قديمٍ على الظفر بحسن؛ فجنَتْ أخيرًا ثمرة صبرها.

«الظفر بحسن»؟ «ثمرة صبرها»! ما أشبه هاتَين العبارتين بقول مأفون «شروق الشمس من الغرب!» قال وقلبه يتأوه: ما أسوأ ظنك بالناس! إنها ليست على شيء مما تتصور.

فقال إسماعيل دون أن يَفطن إلى شعور صاحبه: لعلَّ الأمر وقع اتفاقًا، أو لعل حسن كان واهمًا، على أيِّ حال جاءت العواقب في صالحها.

هتف كمال غاضبًا: صالحها! ماذا تظنُّ؟ سبحان الله! إنك تتحدث عنها كما لو كانت خطبتها لحسن تُعتبر ظفرًا لها لا له!

فحدجه إسماعيل بنظرة غريبة، ثم قال: إنك فيما يبدو غير مُقتنِع بأن أمثال حسن قليلون؟ أسرة ومركز ومستقبل، أما مثيلات عايدة فلسنَ قليلات، هن أكثر مما تتصوَّر، تُرى هل تُقدرها أكثر مما تستحق؟ إن أسرة حسن ارتضت زواجه منها لثروة أبيها الهائلة فيما أعتقِد، إنها فتاة … (ثم بعد تردُّد) … ليست بارعة الجمال على أيِّ حال.

إما أن يكون مجنونًا، وإما أن تكون مجنونًا أنت! حزَّه ألمٌ كهذا من قبل يوم اطلع على كلمة جارحة تهجَّم بها كاتبها على نظام الزواج في الإسلام، ألا لعنة الله على الكافرين جميعًا. تساءل بهدوء يُغطِّي به على لوعته: لم إذن كَثُر المعجبون من حولها؟

أبرز إسماعيل فكه الأسفل فارتفع ذقنه في حركة استهانة، ثم قال: لعلَّك تعنيني فيمن تقصد! لا أنكر أنها خفيفة الرُّوح، وطراز وحدها في الأناقة، إلى أنَّ أسلوبها الغربي في اللباقة الاجتماعية يُريق عليها فتنةً وإغراءً، لكنها بعد ذلك سمراء نحيلة لا شيء فيها يُشتهَى، تعال معي إلى غمرة ترَ ألوانًا من الجمال تُزري بجمالها جملة وتفصيلًا، هنالك ترى الملاحة الحقَّة في البشرة الوضيئة، والنهد الكاعب، والرِّدف المليء، هذا هو الجمال إن أردتَه … لا شيء فيها يُشتهى.

كأنها شيء يُشتهى كقمر ومريم، نهدٌ كاعب وردف مليء! كمن يصف الروح بصفات الجسد، يا لشدة الألم! كُتب عليه اليوم أن يتجرع كأس الألم حتى ثمالتها، إذا توالت الضربات القاتلة فمِن الخير أن تُرحِّب بالموت.

وعند الحسينية افترقا، فسار كلٌّ في سبيله.

٢٥

تنقضي السنون ولا يفتر حبُّه لهذا الطريق، قال لنفسه، وهو يُلقي على ما حوله نظرة ضيقة: «لو شابه حبِّي للمرأة التي يختارها قلبي حبي لهذا الطريق لأراحني من متاعب جمة.» أعجِبْ به من طريق كالتِّيه، لا يكاد يمتدُّ بضعة أمتار طولًا حتى يَنعطف يمنةً أو يسرةً، وفي أي موضع منه يطالعك منحنًى يَطوي وراءه مجهولًا، وضيق ما بين جانبَيه يُريق عليه تواضعًا وألفة فهو كالحيوان الأليف، والجالس في دكان على يَمينه يستطيع أن يُصافح الجالس في دكان على يساره، سقوف بمظلات الخيش تَمتدُّ بين أعالي الحوانيت فتحجُب أشعة الشمس المُحرقة، وتَنفُث في الجو الرطب سمرة حالِمة، وعلى الأرائك والرفوف جوالق مرصوصة مترعة بالحناء الخضراء، والشطة الحمراء، والفلفل الأسود، وقوارير الورد والعِطر، والقراطيس الملوَّنة، والموازين الصغيرة، وتتدلَّى من علُ الشموع في أحجام وألوانٍ شتَّى كأنها التهاويل، في جوٍّ مُفعم بشذا العطارة والعطر، كأنها أنفاس حلم قديم تائه لا يذكر متَّى رآه، أما الملاءات اللف، والبراقع السود، والعرائس الذهبية، والأعين الكحيلة، والأرداف الثقيلة فمنها جميعًا أستعيذ بواهب النعم، سير الحالم في تهاويل حلم جميل رياضة محبوبة بيد أني أشكو ضنى القلب والعين، إن تعدَّ النسوان هنا لا تُحصيهن. مبارك المكان الذي يضمُّهن، ولا مَنجى لك إلا أن تهتف من أعماق الفؤاد: يا خراب بيتك يا ياسين، هنالك يُجيبك صوت أن افتح دكانًا في التربيعة واستقر، أبوك تاجر، سيد نفسه … يُنفق في مسراته أضعاف أضعاف مرتبك، افتحها وتوكل، ولو بِعتَ لذلك ربع الغورية ودكَّان الحمزاوي، تجيء مع الصبح كالسلطان لا ميعاد يربطك ولا رئيس يرعبك، تجلس وراء الميزان فيجيئك النسوان من كل فجٍّ: صباح الخير يا سي ياسين، واقعُد بالعافية يا سي ياسين، عليَّ وعليَّ إن تركت مصونةً دون تحية، أو متهتِّكة دون ميعاد. ما ألذ الخيال وأقساه! على من سيبقى إلى آخر العمر ضابطًا بمدرسة النحاسين! والعشق داء أعراضه جوع دائم، وقلب قلب فوا رحمتاه لمن خلق بشهوة خليفة وسلطان ضابط مدرسة، تهدَّم الرجاء فلا جدوى من الكذب، ويوم حملتها إلى قصر الشوق كان الأمل يعدك بحياة هادئة مطمئنة، قاتل الله الملل كيف يُمازج النفس كما تمازج مرارة المرض اللعاب! عدوت وراءها عامًا ثم مللتها في أسابيع، فما التعاسة إن لم تكن هذا؟ بيتك أول بيت يضجُّ بالشكوى في شهر العسل، سل قلبك أين مريم؟ … أين الملاحة التي لوَّعتك؟ … يجبك بضحكة كالتأوُّه ويقول أكلنا وشبعنا وصرنا نتقزز من رائحة الطعام، وهي ماكرة يستعذب اللعب بها ولا تفوتها شارِدة، مرَة بنت مرَة، اذكروا حسنات موتاكم، هل كانت أمك خيرًا من أمها؟ المهم أنها ليست كزينب يَسهُل خداعها، وما أثقل غضبها إذا غضبت! لا هي بالتي تُغضي، ولا أنت بالذي يقنع، هيهات أن تُشبِع جوعك المستعر امرأة، أو يعرف الاستقرار قلبك، ومع ذلك توهمت أنك ستَظفر بحياة زوجية سعيدة! ما أعظم أباك وما أحقَرَك! لم تستطع أن تكون مثله، ودواؤك أن تكون مثله؟ رباه ما هذا الذي أرى؟ أهذه امرأة حقًّا؟ كم قنطارًا يا ترى تزن؟ اللهم إني لم أرَ من قبل طولًا كهذا الطول، ولا عرضًا كهذا العرض، كيف تملك هذه الضيعة؟ إني أَنذر إذا وقعت بين يدي امرأة في قدرها أن أنيمها في وسط الحجرة عارية، وأن أدور حولها سبعًا وأنا أفقر.

– أنت!

جاء الصوت من وراء فاهتزَّ له قلبه، وسرعان ما تحوَّلت عيناه عن المرأة الضخمة إليه، فرأى شابة في معطف أبيض، فما تمالَك أن هتف: زنوبة!

وتصافحا في حرارة وهي تَضحك، غير أنه حثها على السير حتى لا يَلفتا إليهما الأنظار، فسارا جنبًا إلى جنب يشقان الزحام. هكذا التقيا بعد طول الفراق، ولم تكن تردُّ على خاطره إلا في القليل النادر بعد أن شغلته عنها الشواغل، ولكنه وجدها جميلة كيوم هجرها، أو لعلها ازدادت جمالًا، ثم ما هذا الزي الحديث الذي استبدلته بالملاءة اللف؟ وانبعثت فيه موجة من النشاط والسرور، وإذا بها تتساءل: كيف حالك؟

– عال، وأنت؟

– كما ترى.

– عال جدًّا والحمد لله، أنتِ غيَّرتِ زيَّك! لم أكن أعرفك عند أول نظرة، لا أزال أذكر مشيتك في الملاءة اللف.

– وأنت لم تتغير، لم تكبر، ازددت سمانة، هذا كل ما في الأمر.

– أنت الآن شيء آخر، بنت إفرنجية! … (وهو يبتسم في حذر) … إلا أن ردفها من الغورية.

– لسانك!

– أرعبتِني! كأنك تبتِ أو تزوَّجتِ …!

– لا شيء على الله بكثير.

– أما التوبة فهذا المعطف الأبيض يُكذبها، وأما الزواج فلا يبعد أن تسوقك قلَّة العقل يومًا إليه.

– حاسب، إني متزوجة تقريبًا.

ضحك — وكانا يميلان إلى الموسكي — قائلًا: مثلي تمامًا.

– لكنك متزوِّج بالفعل، أليس كذلك؟

– كيف عرفتِ هذا؟ … (ثم مُستدركًا) أوه … كيف نسيت أن أسرارنا عندكم أول بأول!

وضحك مرة أخرى ضحكة ذات معنى، فابتسمت ابتسامة غامضة، وقالت: تَقصد بيت السلطانة؟

– أو بيت أبي، أليس الود متصلًا؟

– تقريبًا.

– كل شيء عندكِ الآن بالتقريب! أنا كذلك متزوج تقريبًا، أعني أني متزوج وأبحث عن رفيقة.

هشت بيدها ذبابة على وجهها، فوسوست أساورها الذهبية المحيطة بساعدها وهي تقول: أنا مرافِقة وأبحث عن زوج.

– مرافِقة؟ من السعيد ابن اﻟ …

قاطعته وهي تُشير إليه محذِّرة: إياك والسب، إنه رجل ذو مقام.

فقال وهو يلحظها ساخرًا: ذو مقام؟ هق، هق، زنوبة! … أود لو أنطحك.

– أتذكر متى تقابلنا آخر مرة؟

– أوه، ابني رضوان عمره الآن ستة أعوام، فنكون قد تقابلنا آخر مرة منذ سبعة أعوام … تقريبًا.

– عمر طويل.

– ولكن لا ينبغي لحيٍّ أن ييئس في هذه الدنيا من اللقاء.

– ولا الفراق.

– الظاهر أنك خلعتِ الوفاء مع الملاءة اللف.

فحدجته بنظرة مقطِّبة وهي تقول: أتتحدَّث عن الوفاء يا ثور!

فسَّره رفع الكُلفة إلى هذا الحد وشجع مطامعه، فقال: الله وحده يعلم كم سررت بلقائك، كثيرًا ما كنت تخطرين ببالي، ولكنها الدنيا.

– دنيا النسوان، هه؟

فقال متظاهرًا بالتأثُّر: دنيا الموت، ودنيا المتاعب.

– لا يبدو أنك تحمل للمتاعب همًّا، إنَّ البغال لتحسدك على صحتك.

– لولا أن العين الجميلة لا تحسد.

– أتخاف على نفسك! كأنك عبد الحليم المصري طولًا وعرضًا.

فضحك مختالًا، وصمت قليلًا، ثم قال بلهجة جديدة جادة: أين كنت ذاهبة؟

– لِمَ تذهب الواحدة إلى التربيعة؟ أم ظننتَ الناس مثلك لا هم لهم إلا التحكك بالنسوان؟

– مظلوم والله.

– مظلوم! لما لمحتُك وجدتُك تغوص بعينيك في امرأة كالبوابة.

– بل كنت شارد الفكر لا أعي فيم أنظر.

– أنت! إني أنصح من يَرُوم لقاءك أن يُنقِّب في التربيعة عن أضخم امرأة، وأنا كفيلة بأنه سيجدك وراءها لابدًا كما تلبد القراضة في الكلب.

– أنت يا ولية لسانك كل يوم يطول عن يوم.

– اسم الله على لسانك أنت.

– ما علينا، خلينا في الأهم، أين أنت ذاهبة الآن؟

– سأتسوَّق قليلًا، ثم أعود إلى بيتي.

فصمت لحظة كالمتردد، ثم قال: ما رأيك في أن نقضي معًا بعض الوقت؟

فلحظتْه بعيَنيها السوداوَين اللعوبتَين، وقالت: ورائي رجل غيور.

فقال وكأنه لم يَسمع اعتراضًا: في مكانٍ لطيف لنَشرب كأسَين!

فعادت تقول بصوت أعلى من سابقه: قلت لك ورائي رجل غيور …!

فاستطرد قائلًا دون اكتراث: توفابيان، ما رأيك؟ إنه مكان لطيف وابن حلال، سأنادي هذا التاكسي.

فندَّ عنها صوت احتجاج، ثم تساءلت في استياء وشى وجهُها بغيره قائلة: «بالقوة؟» ثم نظرت في ساعتها بمعصمها — وقد كادت هذه الحركة الجديدة تُضحكه — وقالت بلهجة الشارط: على ألا أتأخر، الساعة الآن السادسة، وينبغي أن أكون في البيت قبل الثامنة.

تساءل والتاكسي يطوي بهما الطريق: ترى هل لمحتْهما عين ما بين التربيعة والموسكي؟ غير أنه هز كتفيه استهانة وهو يُزحلق طربوشه المائل فوق حاجبه الأيمن إلى الوراء بمقبض منشته العاجية، ماذا يهمه؟ مريم وحيدة، وليس وراءها وحشٌ مثل محمد عفَّت الذي قوض أول بيت زوجية بناه، وأما أبوه فرجل لبق، وهو يعلم أنه لم يَعُد الطفل الغرير الذي نكل به في فناء البيت القديم. وفي حديقة توفابيان جلسا حول مائدة متقابلين. كان المشرب غاصًّا بالنساء والرجال، والبيانو الميكانيكي يعزف مقطوعاته الرتيبة، على حين هفت رائحة الشواء مع نسيم الأصيل من ركن قصي. وأدرك من ارتباكها أنها تَجلس في مكان عام لأول مرَّة فداخله سرور حريف، ثم أيقن في اللحظة التالية أن ما به حنينًا حقًّا لا محضَ رغبة عابرة، وبدت له أيامها الغابرة أسعد الأيام كلها. وطلب قارورة كونياك، ثم طلب شواءً، وجرى ماء الحياة في خدَّيه، ثم خلع طربوشه فبدا شعره الأسود مفروقًا من الوسط على جانبي الرأس كشعر أبيه، فما إن لمحتْه زنوبة حتى ارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة لم يَفطن بطبيعة الحال إلى ما وراءها. كانت أول مرة يجالس فيها امرأة في حانة غير حانات وجه البركة، وكانت أول مغامرة له بعد زواجه الثاني مع استثناء إلمامة واحدة بدرب عبد الخالق. وربما كانت أول مرة كذلك يَشرب فيها كونياك «راقيًا» خارج البيت؛ إذ إنه لا يَتناول الجيد منه إلا فيما يَقتني من زجاجات في البيت للاستعمال «الشرعي» على حدِّ تعبيره. ملأ الكأسين في زهو وارتياح، ثم رفع كأسه وهو يقول لها: صحة زنوبة مارتل.

فقالت بكبرياء خفيف الظل: إني أشرب الديوارس مع البك!

فقال متأففًا: دعينا من سيرته، ربنا يُقدرنا على جعله في خبر كان.

– بُعدك …

– سنرى، كلما شربنا كأسًا تفتَّحت لنا أبواب وانحلت عقد.

ولإحساسهما بقِصَر الوقت المتاح تعجَّلا الشراب فامتلأ الكأسان وفرغا تباعًا، وهكذا أخذ الكونياك يزغرد بلسانه الناري في معدتيهما فيرتفع زئبق النشوة في ترمومتر العروق، أما الأوراق الخضراء المتطلِّعة من الأصص وراء سور الحديقة الخشبية فافترَّت ثغورها عن بسمات متألقة. وأخيرًا وجد البيانو آذانًا متسامحة، والوجوه الحالمة والمُعربِدة تلاقت أعينها مرارًا في أنس ومودَّة، وجو الأصيل سبح في موجات موسيقية صامتة، وبدا كل شيء طيبًا وجميلًا: أتعرف ماذا طفر إلى لساني أول ما رأيتك اليوم وأنت تُحملِق في المرأة كالمسعور؟

– أفندم؟ … ولكن أفرغي كأسك أولًا حتى أملأه.

وهي تتناول ريشة شواء: كدتُ أصيح بك: يا ابن الكلب!

وهو يضحك ضحكة ريانة: ولم لَمْ تفعلي يا بنت القارحة؟

– أصلي لا أشتُم إلا الأحبَّاء، وكنتَ وقتها غريبًا أو كالغريب.

– والآن ماذا ترينني؟

– ابن ستين …

– يا سلام، الشتيمة تُسكِر أكثر من الخمر أحيانًا، هذه الليلة المباركة ستتحدَّث عنها الجرائد غدًا.

– لمَ كفي الله الشر؟ ناوي تعمل حادثة؟

– الطفْ يا رب بي وبها.

وعند ذاك قالت في شيء من الاهتمام: لمْ تُحدِّثني عن زوجك الجديدة …!

فربت ياسين شاربه وهو يقول: حزينة المسكينة، ماتت أمها هذا العام.

– العمر الطويل لك، كانت غنية؟

– تركَت بيتًا، البيت المُجاور لبيتنا، أعني المجاور لبيت والدي، ولكنها تركت في نفس الوقت شريكًا لزَوجي فيه وهو زوجها!

– لا بد أن زوجك جميلة، فأنتَ لا تقع إلا على النقاوة.

فقال بحذر: لها جمالُها، غير أنه لا يقاس بجمالك أنت!

– آه منك آه …

– هل عرفتِني كاذبًا أبدًا؟

– أنتَ؟ أنا أشك أحيانًا في أن اسمك هو ياسين حقًّا.

– إذن فلنشَربْ هذه الكأس أيضًا.

– تُسكرني كي أصدِّقَك؟

– إذا قلت لكِ إنني أرغب فيكِ وأحنُّ إليك، فهل تَشكِّين في صدقي؟ انظري في عيني، وجسِّي نبضي.

– أنت خليق بأن تقول هذا الكلام لأيَّة امرأة تُصادفك.

– هذا كما يُقال إنَّ الجائع يود ألوان الطعام جميعًا، ولكن الملوخية مثلًا قد تَستأثِر بمنزلة خاصة.

– الرجل الذي يحبُّ امرأة حقًّا لا يتردَّد عن الزواج منها.

فنفخ، ثم قال: أنتِ مخطئة، بودِّي لو أقف فوق هذه المائدة وأصرخ بأعلى صوتي، من يحب منكم امرأة فلا يتزوَّجها، أجل، لا شيء يَقتل الحب كالزواج. صدقيني، إني مُجرِّب، وقد تزوَّجت مرة أخرى وأعرف مدى صدق ما أقول.

– لعلك لم تهتدِ بعدُ إلى المرأة التي تناسبك.

– تُناسبني؟ كيف تكون هذه المرأة؟ وبأي حاسة يُهتدى إليها؟ وأين تكون هذه المرأة التي لا تُمَل؟

فضحكت في فتور، وقالت: كأنك تتمنَّى أن تكون ثورًا في حظيرة أبقار! هذا هو أنت.

ففرقع بأصابعه طربًا، وقال: الله … الله، مَنْ ذا الذي كان في زمانٍ مضى يدعوني بالثور؟ إنه أبي ربنا يُمسِّيه بالخير، كم أودُّ لو أكون مثله، حظي بامرأة هي آية الطاعة والقناعة، وانطلق على هواه لا يجد في حياته المتاعب، مُوفَّقًا في زواجه، موفقًا في عشقه … هذا ما أريد.

– ما عمره؟

– أظنه في الخامسة والخمسين، بَيد أنه أقوى من الشباب.

– لا عظيم أمام السنين، ربنا يُمتِّعه بصحته.

– إلا أبي، إنه معشوق المعشوقات من النساء، ألا ترَينه الآن في بيتكم؟

فقالت ضاحكة وهي تَرمي بعظمة إلى قطة تموء تحت قدمَيها: هجرتُ ذلك البيت منذ أشهر، الآن لي بيتي الخاص وأنا سيدته.

– حقًّا؟ حسبتُك تمزحين، وهل هجرتِ التخت أيضًا؟

– هجرتُه، إنك تُحدِّث سيدة بكل معنى الكلمة.

فقهقه في انبساط، ثم قال: إذن اشرَبي ودعيني أشرب، وربنا يلطف بنا.

في النفس فتنة وفي الجو فتنة، ولكن أيهما الصوت؟ وأيهما الصدى؟ وأعجب من هذا أن الحياة تدبُّ في الجمادات، الأصص تترنح هامسة، والأركان تتناجى، السماء ترنو إلى الأرض بأعين النجوم الناعسة وتتكلَّم، وبينه وبين صاحبته رسائل مُتبادلة تُفصح عن المكنون في جو مشحون بالأضواء المنظورة وغير المنظورة، يبهر الفؤاد ويزغلل العين، وفي الدنيا شيء يدغدغ البشر فلا يتركها حتى تغرق بالضحك، الوجوه والكلمات والحركات وغيرها تغري جميعًا بالضحك، والوقت يمر كالشهاب، وحاملو ميكروب العربدة يُوزِّعونه بين الموائد بوجوه أثقلتها الرزانة، أما أنغام البيانو فتتَرامى من بعيد، فيَكاد يُغطي عليها صليل عجلات الترام، وغلمان الطوار ولاقطو الأعقاب يَنشُرون حولهم لغطًا كطنين الذباب، وجحافل الليل تُعسكِر فوق الربوع وتستقر، كأنك تنتظر حتى يجيئك الساقي فيسألك: أليس للنشوان مقر؟ وأنت عن ذاك وما هو أجلُّ لاهٍ سادِر، لو تسجد مريم بين يديك هامسة: حَسبي غرفة أمارس فيها طاعتك، وأملأ الحجرات بمَن تهوى من النساء، أو يُربِّت ناظر المدرسة كتفَك كلَّ صباح قائلًا: كيف حال والدك يا بني؟ لو تشق الحكومة طريقًا جديدًا أمام دكان الحمزاوي وربع الغورية، لو تقول لك زنوبة: سأهجُر غدًا بيت صاحبي وأكون طوع بنانك، لو حدث هذا لاجتمَع الناس عقب صلاة الجمعة يَتبادلون قُبَل الصفاء، أما حكمة الليلة فهي أن تجلس على الكنبة، وأن تَرقص زنوبة عارية بين يدَيك، هنالك يُتاح لك أن ترعى شامة الحسن النابتة فوق سُرَّتها: كيف حال الشامة المحبوبة؟

تساءل وهو يُشير إلى بطنه باسمًا، فقالت ضاحكة: تبوس يدك.

فألقى نظرة زائغة على المكان، وقال: أترين هؤلاء الناس؟ ما منهم إلا فاسق وابن فاسق، هكذا كل السكِّيرين.

– تشرَّفنا، أما أنا فمخي يتطاير.

– أرجو أن يَطير الجزء الذي يقيم فيه رفيقك.

– آه لو علم بما هو حاصلٌ لنا! سوف يطعنُك يومًا بفردة شاربه.

– أهو شامي من ذوي الشوارب الجبارة؟

– شامي؟ … (ثم ترنَّمت بصوت مسموع) برهوم يا برهوم.

– هس، لا تَلفتي إلينا الأنظار.

– أي أنظار يا أعمى! لم يبقَ إلا نفر قليل.

وهو يَمسح على بطنه نافخًا: الخمر مجنونة.

– المجنونة أمك …

– صوتك يعلو أكثر مما ينبغي، قومي بنا.

– إلى أين؟

– عمرك أطول من عمري، لندع الأمر إلى قدمَينا.

– وهل يفلح من يترك قياده إلى قدمَيه؟

– إنها آمن على كل حال من مخٍّ مُبعثَر.

– فكِّر قليلًا في …

فقاطعها وهو ينهض مترنحًا: علينا أن نُدبِّر أمورنا بلا تفكير؛ لأن التفكير لن يذعن لنا قبل صباح الغد، قومي بنا.

٢٦

أسبلَتِ المساكن جفونها، وأقفرت الطرقات إلا من نِسمة شاردة أو ضوءِ مصباح مهوم، أما الصمت فقد خلا له الجو فتاهَ ونشَرَ جناحَيه، وما جدوى الفنادق إذا كان أصحابها لا يَلقونك إلا بالنظرة الشزراء، كأنك مرضٌ يترنَّح فهم يَجتنبونه، أجل إنك تلاقي الإعراض بالازدراء، ولكنك ستَظل بلا مأوى، وقد ضمَّ الرقاد العاشقين فإلامَ تَهيم على وجهك؟ وها هو حوذيٌّ يرفع رأسه المثقل بالنعاس، ويرنو إليك بنظرة ترحاب، فوا رحمتاه للذي يسحب المرأة في أذيال الليل وهو يتساءل إلى أين؟

– إلى أين؟

أجاب الحوذي باسمًا: تحت الأمر.

فقال له ياسين: لم أقصدك بسؤالي.

فقال الرجل: تحت الأمر على أي حال.

عند ذاك قالت زنوبة: لا تسألني أنا سلْ نفسك، لمَ لَمْ تفكر في ذلك قبل أن تسكر؟!

عاد الحوذي يقول مُتشجِّعًا بوقوفهما أمام العربة: النيل! أحسن مكان، هل أذهب بكما إلى شاطئ النيل؟

فتساءل ياسين مُحتدًّا: أحوذي أنت أم نوتي؟ ماذا نفعل عند النيل في هذا الوقت من الليل؟

قال الحوذي بإغراء: هنالك النور ضئيل والمكان خالٍ.

– جو مُناسب لقطاع الطرق.

زنوبة بخوف: يا خبر أسود، أذناي وعنقي وساعداي محمَّلة بالذهب!

فقال الحوذي وهو يهز منكبَيه: الدنيا بخير، أنا كل ليلة أذهب إلى هناك بأناس طيبين مثلكما، ونعود على أحسن حال.

زنوبة بحدة: لا تَذكُر النيل على لسانك، إنَّ بدني يَقشعِر لذكره!

– بُعد الشرِّ عن بدنك.

صاح ياسين وكان قد اتخذ مجلسه في العربة إلى جانب زنوبة: كلِّمني أنا، ما لك أنت وبدنها!

– يا بِك أنا خدَّامك.

– الليلة كل شيء مُتعقِّد.

– ربنا يحلُّ عسيرها، إن أردت فندقًا ذهبنا إلى فندق.

– تَشاجرنا في ثلاثة فنادق، ثلاثة أم أربعة يا زنوبة؟ شُف غيرها.

– نرجع إلى النيل.

زنوبة بغضب: الذهب يا عمر …!

ياسين وهو يطرح ساقيه على المقعد الخلفي: فضلًا عن أنه ليس هناك مكان.

فقال الحوذي: أما عن المكان فلدَيك العربة!

هتفت زنوبة: هل أنذرتما مُضايقتي؟

فقال ياسين وهو يفتل شاربه: لكِ حق، لك حق، ثم إن العربة مكان غير صالح، ولن أرضى بعبث الأطفال على آخر الزمن، اسمع …

مدَّ الرجل أذنه، فصاح ياسين بنفخة آمِرة: إلى قصر الشوق!

طق، طق، طق، طق، تخوض الظلمات ولا أنيس إلا النجوم، في الأفق قلقٌ يلوح، ثم لا يَلبث أن يغرق في بحر النسيان كالذكرى المستعصية؛ ذلك أنَّ الإرادة ذائبة في كأس من الخمر، وإذا رفيقة الهناء تساءَلَت بلسانٍ مُلعثم عن: أين يقصد في قصر الشوق؟ أجاب: إلى بيتي الذي ورثتُه عن أمي، قضَت مَقادير بأن تعيش فيه للغرام وأن تُوقفه بعد مماتها على الغرام، استقبل بقلب شيق أم مريم ومريم، والليلة يَحتضن سيدة الليالي الخوالي، وزوجك أيها السكران؟ في النوم مغرقة. أليس لكل شيء حساب؟ وأنت مع رجل لا يَعرف الخوف قلبه، اقطفي من لآلئ النجوم ما تُرصِّعين به جبينك، وغني في أذني وحدي: هاتيلي حبِّي يا نينة الليلة.

– وأين أقضي بقية الليل؟

– سأُوصلك إلى حيث تريدين.

– لن تستطيع أن تُوصِّل قشة.

– باريس في الوجه البحري.

– لولا أني أخافه!

– من هو؟

بصوت منكسر وهي تلقي برأسها إلى الوراء: مَن يدريني؟ نسيت.

غشي الجمالية ظلام دامس، حتى القهوة أغلقت أبوابها. وقفت العربة عند مدخل قصر الشوق فغادرها ياسين وهو يتجشَّأ، وتبعته زنوبة مُعتمِدة على ذراعه، ثم مضيا معًا في حذر لم يغنِ عن الترنح، يتعقبهما سعال الحوذي، وأطيط حذاء الخفير الذي مر بالعربة وهي تدور مستطلعًا. وقالت له: إن الطريق وعر. فقال لها: لكن الدار أمان. وقال لها أيضًا: لا تَشغلي البال. وعبثًا حاولت أن تذكره بأن زوجه في الشقة التي إليها يسعيان، فضلًا عن أنها كانت تحاول تذكيره وهي تَبتسم في الظلام ابتسامة بلهاء، وكادت قدمها تعثر مرتين وهي ترقى السلم، حتى وقفا أمام الشقة وهما يلهثان. بعثت رهبة الموقف في شعورهما المبعثر يقظة عابرة حاولت أن تلمَّ شتاته بقبضة وانية، فأدار المفتاح في القفل بحذر، ثم دفع الباب برفق بالغ، وبحث في الظلام عن أذن زنوبة حتى عثر عليها، فمال نحوها وهمس أن تَخلع الحذاء، وفعل مثلها، ثم تقدمها خطوة فوضع راحتها على كتفه، ثم مضى إلى حجرة الاستقبال لقاء المدخل، ثم دفع بابها وانسل إلى الداخل وهي في أثره. تنهَّدا معًا بارتياح، ورد الباب، ثم قادها إلى الكنبة وجلسا معًا. قالت متضايقة: الظلام شديد، أنا لا أحب الظلام.

فقال وهو يضع الحذاءَين تحت الكنبة: ستألفينه بعد قليل.

– بدأ مخي يدور.

– الآن فقط؟!

وقام فجأة دون أن يلقي إلى ما أجابت به بالًا وهو يهمس في ارتياع: لم أغلق الباب الخارجي.

– ومدَّ يده ليخلع طربوشه فهتف: نسيت الطربوش أيضًا! في العربة يا ترى أم في توفابيان؟

– الطربوش في داهية، أغلق الباب يا عمر …!

تسلل مرة أخرى إلى الصالة، ثم إلى الباب الخارجي فأغلقه بحذر شديد، وفي طريق عودته خطرت له فكرة مُغرية، فاتجه نحو الكانصول وهو يمد يده أمامه رائدة لتقيه الاصطدام بكرسي السفرة، ثم عاد إلى حجرة الاستقبال قابضًا على زجاجة كونياك مملوءة حتى نصفها. وضع الزجاجة في حجرها وهو يقول: جئتك بدواء لكلِّ شيء.

فتحسست يداها الزجاجة، وقالت: خمر؟ … حسبك! أتريد أن نطفح؟

– جرعة نسترد بها أنفاسنا بعد هذا الجهد!

شرب حتى ظن أنه قادر على كل شيء، وأن الجنون حال تستطاب، وهاج البحر فعلًا مع موجه وسفل، ثم دار في دوامة ما لها من قرار، وسُلت في أركان الحجرة ألسنة تنطق في الظلمات لغوًا وهذرًا، وتند عنها ضحكات مُعربدة، في ضجة كضوضاء السوق حتى الغناء جرى في أثيرها، وهوت الزجاجة على الأرض فأحدثت صوتًا كالنذير، ولكن كان أمامه شوط عليه أن يقطعه ولو في بحر من العرق. طال الوقت أم قَصُر فليس الزمان في حسبانه؛ لذلك تحرك الظلام وشاب إهابه، والجفون المُغلَقة عنه غافلة، وكما يستيقظ الحالم السعيد وهو يمد اليد ليقطف لذة جديدة استيقظ هو على صوت وحركة، فتح عينيه فرأى نورًا وظلًّا يتراقَص على الجدران، وثنى رقبتَه فلمح عند الباب مريم قابضة على مصباح قد جلا من وجهها ملامح عابسة، وعينين تُشعان شرر الغضب. تُبودل بين المنطرحين على الكنبة والواقفة عند الباب نظرات طويلة غريبة، زائغة بالذهول من ناحية، مُستعرَة بالغضب من الناحية الأخرى، ثم لم يعد الصمت مما يستطاع. أعربت زنوبة عن قلقها بأن فتحت فاها لتتكلم ولكنها لم تقل شيئًا، ثم غلبها بغتة ضحك طارئ فأغرقت فيه حتى اضطرَّت إلى إخفاء وجهها بكفيها. وإذا بياسين يصيح بها بلسان ثقيل: كفي عن الضحك! … هذا بيت محترم!

وبدا أن مريم أرادت أن تتكلم، فلم يسعفها لسانها أو أعجزها الغضب، فقال لها ياسين ولم يكن يدري ماذا يقول: وجدت هذه «الست» في حالة سُكر شديد، فجئت بها إلى هنا حتى تفيق.

ولم تسكت زنوبة، فقالت مُعترضة: هو السكران كما ترين، وقد جاء بي بالقوة.

ندَّت عن مريم حركة خطيرة كأنما همت بأن تقذفهما بالمصباح، فتصلبت قامة ياسين ونظر إليها متحفزًا، ولكنها سرعان ما تراجعت مُتأثرة بخطورة الإقدام، فوضعت المصباح على منضدة وهي تصرُّ على أسنانها بحنق، ثم تكلمت لأول مرة وكان صوتها جافًّا متهدجًا مخشوشنًا بالحقد والغضب، وقالت: في بيتي! في بيتي؟ في بيتي يا مُجرم يا ابن الشياطين!

ودوى صوتها كالرعد يصبُّ عليه اللعنات، وينعتُه بكل خبيث، صرخت وصوتت حتى شق صوتها الجدران، ونادت السكان والجيران وهي تَحلف لتفضحنَّه وتُشهِد عليه النائمين. وكان ياسين ينذرها بشتى الوسائل ليسكتها، لوح لها بيده، وحملق فيها بعينيه، وصاح بها مُزمجرًا، فلما خابت وسائله نهض منفعلًا، واتجه نحوها بخطوات واسعة ليَبلغها في أقصر وقت دون اندفاع خشية أن يختل توازنه، ثم انقض عليها مسددًا راحته إلى فيها ليسدَّه، ولكنها صرخت في وجهه كالهرة اليائسة، وركلته بقدمها في بطنه، فتراجع مترنحًا مكفهر الوجه من الحنق والألم، ثم سقط على وجهه كالبنيان المتهدم، انطلقت من زنوبة صرخة مُدوية، فجرَت مريم نحوها وارتمت عليها. وجذبت شعرها بيمناها، وأنشبت أظافرها الأخرى في عنقها، وجعلت تبصُق في وجهها وهي تسبُّ وتلعن. وما لبث ياسين أن نهض ثانيًا هازًّا رأسه بعنف كأنما ليطرد عنه الخمار، فتحوَّل إلى الكنبة وسدَّد نحو ظهر زوجه الراقدة فوق غريمتها قبضة شديدة فصرَخت مريم وتراجعت زائغة عنه، فتبعها وقد أعماه الغضب موجهًا إليها ضربات متتابعة حتى فصلت بينهما السفرة، وعند ذاك تناولت الشبشب من قدمها وقذفته به، فأصاب صدره فجرى نحوها، وراحا يدوران في الصالة وهو يصيح بها: «اغربي عن وجهي، أنت طالقة … طالقة … طالقة …» وإذا بيد تنقر الباب، وصوت الجارة المقيمة في الدور الثاني ينادي: «ست مريم … ست مريم!» فتوقف ياسين عن الجري وهو يلهث، أما مريم ففتحت الباب، وبادرت تقول بصوت ملأ السلَّم كله: تعالي انظري داخل الحُجرة وخبريني هل رأيت مثل هذا من قبل؟ عاهرة في بيتي تَسكر وتعربد، ادخلي وانظري.

فقالت الجارة باستحياء: هدِّئي نفسك يا ست مريم، تعالي معي حتى الصباح.

هتف ياسين دون مبالاة: اذهبي معها، لا حقَّ لك في البقاء في بيتي.

فصرخت مريم في وجهه: يا فاسق، يا مجرم، تجيئني بعاهرة في بيت الزوجية.

فضرب الجدار بقبضته وصاح بها: أنت العاهرة، أنت وأمك.

– تسبُّ أمي وهي بين يدي الله!

– أنت عاهرة، أنا أعلم ذلك عن يقين، ألا تذكرين الجنود الإنجليز؟ الحق عليَّ لأني لم أستجب إلى تحذير الناس الطيبين.

– أنا ستك وتاج رأسك، أنا أشرف من أهلك ومن أمك، سلْ نفسك عن الرجل الذي يتزوج امرأة وهو يعلم أنها عاهِرة كما قلت! هل يكون إلا قوادًا خسيسًا؟ … (وهي تُشير إلى حجرة الاستقبال) … تزوج من هذه، إنها من النوع الذي يُوافق مزاجك القذر.

– كلمة أخرى ويَسيل دمك حيث تقفين.

ولكن حنجرتها عادت تصرخ وتقذف اللهب حتى تدخَّلت الجارة لتحول بينهما إذا دعا داعٍ، وجعلت تربت منكبها متوسلة إليها أن تمضي معها حتى يطلع الصبح، واشتد الضيق بياسين فصاح بها: خذي ثيابك واخرجي، ابعدي عن وجهي، لا أنتِ زوجي ولا أنا أعرفك، أنا داخل الحجرة الآن وإياك أن أجدك إذا عدت.

واندفع إلى حجرة الاستقبال، ودفع الباب وراءه دفعة عنيفة ارتجت لها الجدران، ثم ارتمى على الكنبة وهو يُجفِّف عرق جبينه. همست زنوبة قائلة: إني خائفة.

فقال بخشونة: اسكتي، ممَّ تخافين؟ (ثم بصوت مرتفع) أنا حر … أنا حر …

فقالت وكأنها تخاطب نفسها: ماذا أصابني في عقلي حتى طاوعتُك وجئت معك إلى هنا!

– اسكتي … ما كان كان، ولستُ آسفًا على شيء … أف …

وترامت إليها الأصوات خلال الباب المغلق، فدلَّت على أن أكثر من جارة قد أحاطت بالزوجة الغاضبة، ثم سمع صوت مريم وهي تقول بلهجة باكية: هل سمعتم عن هذا من قبل؟ عاهرة من عرض الطريق في بيت الزوجية؟ استيقظت على ضوضائهما وهما يضحكان ويُغنيان. إي والله كانا يغنيان بلا حياء بعد أن أذهلهما السكر، خبروني أهذا بيت أم ماخور؟

وإذا بصوت امرأة تقول محتجَّة: أتجمعين ثيابك وتغادرين بيتك؟ هذا بيتك يا ست مريم ولا يصح أن تغادريه، فلتغادره الأخرى.

فهتفت مريم: لم يَعد بيتي، لقد طلقني المُحترم.

فقالت أخرى: لم يكن في وعيه، تعالَي الآن معنا ولنؤجل الحديث إلى الصباح، ومهما يكن من أمر، فياسين أفندي رجل طيب وابن ناس طيبين، لعنة الله على الشيطان، تعالي يا ابنتي ولا تحزني.

فصاحت مريم: لا كلام ولا حساب، لا طلع الصباح عليه المجرم ابن المجرمة.

ثم تتابع وقع الأقدام مبتعدًا حتى لم يعد يسمع من المتحدِّثات إلا أصوات مبهمة، ثم دوت صفقة الباب وهو يغلق، نفخ ياسين طويلًا، ثم استلقى على ظهره.

٢٧

عندما فتح عينيه كان نور الضحى قد ملأ الحجرة، وجد في رأسه ثقلًا لا عهد له به، رغم أنها لم تكن أول مرة يستيقظ بعد ليلة مخمورة، وبحركة من رأسه غير مقصودة وقعَت عيناه على زنوبة وهي تغطُّ في نومها إلى جانبه، هنالك استعادت ذاكرته حوادث الليلة الماضية في لقطة واحدة: زنوبة في فراش مريم، ومريم؟ عند الجيران، والفضيحة؟ في كل مكان، يا لها من وثبة جبارة في هاوية التدهور! ما جدوى الغضب أو الندم الآن؟ ما كان كان، وكل شيء قد يتغير إلا أمس. أيوقظها؟ ولكن لمه؟ فلتمتلئ نومًا حتى تَشبع، ولتبقَ حيث هي، فما ينبغي أن تغادر البيت قبل أن يُقبل الظلام. ولم يكن بدٌّ من استعادة شيء من حيويته ليلاقيَ به يومه العسير، فأزاح الغطاء الخفيف عن جسمه، وانزلق إلى أرض الغرفة، ثم مضى إلى الخارج ثقيلًا، منفوش الشعر، منتفخ الجفون، محمرَّ العينين، تثاءب في الصالة بصوتٍ كالخوار، ثم نفخ وهو ينظر إلى باب حجرة الاستقبال المفتوح، ثم أغمض عينَيه مُتأوهًا من ثقل رأسه وقصد إلى الحمام. أمامه يوم عسير حقًّا، مريم عند الجيران، والأخرى محتلَّة فراشها، وقد أدركه النهار قبل أن يخفي آثار جريمته، فيا للجنون! كان يجب أن يُسربها قبل أن يأوي إلى فراشه، فكيف توانى عما يجب؟ أي غاشية غشيته؟ بل ومتى وكيف مضى بها من حجرة الاستقبال إلى حجرة النوم؟ إنه لا يذكر شيئًا، لا يذكر حتى كيف ومتى استجاب للنوم، والجملة أنها فضيحة كبرى بلا ثمن، وليلة بريئة ولكنها مُثقَلة بالعار مثل رأسه المثقل بالهمِّ والصداع، ولكن لا عجب، فهذه الشقَّة مسكونة من قديم بشياطين الفضائح، تركة أمٍّ غفر الله لها، مضَت الأم وبقيَ الابن ليكون مُضغة الأفواه، ونادرة السكان والجيران، وغدًا تهرع الأنباء إلى بين القصرَين … فإلى الأمام. قرار هاوية سحيقة من العربدة والسفالة، فليت هذا الماء البارد الذي تَغتسل به يُطهر النفس من ذكريات السوء، ومن يَدري فلعلَّك إذا أطللتَ من النافذة وجدت أمام بابك لمَّة ترصُد خروج المرأة التي طردت الزوجة واحتلَّت مكانها، كلا لن تسمح لها بالخروج مهما يكن من أمر، أما مريم فقد طلَّقتُها! طلقتها وما أردت ذلك، وأمُّها لم يجفَّ ماؤها في قبرها بعد، فماذا يقول عنك الناس أيها المفتري؟! وشعر بحاجة ماسة إلى فنجان قهوة يُنعِش به حواسَّه، فغادر الحمَّام إلى المطبخ. وفي أثناء عبوره الدهليز الذي يفصل بينهما لمح الكنصول في الصالة، فذكر زجاجة الكونياك المهراقة في غرفة الاستقبال، وتساءل لحظة عما أصاب السجادة، ثم ذكر في اللحظة التالية وفي أسفٍ ساخر أن أثاث الشقة كله لم يَعُد ملكه، وأنه سيلحق عما قليل بصاحبته. وبعد دقائق معدودات كان يحمل كوبًا مملوءًا حتى نصفه بالقهوة ويسير نحو حجرة النوم، وهنالك وجد زنوبة جالسة في الفراش تتمطَّى وتتثاءب، فالتفتت نحوه وقالت: صباحنا خير، وإن شاء الله نُغيِّر ريقنا في القسم!

فرشف رشفة وهو ينظر إليها من فوق الكوب، ثم قال: قولي يا فتَّاح يا عليم.

فلوَّحَت بيديها حتى وسوست الأساور الذهبية حول ساعديها، وقالت: أنت السبب في كل ما حصل.

فجلس على حافة السرير فيما يلي ساقيها الممدودتين، وقال بضيق: محكمة! هه؟ قلت لك: قولي يا فتاح يا عليم.

فربتت سلسلة ظهره بكعب قدميها، وهي تقول متأوِّهة: خربت بيتي، الله وحده يَعلم ما ينتظرني هناك.

فوضع ساقًا على ركبته حتى انحسر الجلباب عن الأخرى، فبدت مكتنزة مُغطَّاة بغابة من الشعر الفاحم، وقال: رفيقك؟ خيبة الله عليه! ما يكون هذا إلى طلاق زوجي؟ أنت التي خربت بيتي، وبيتي أنا الذي خُرِب.

قالت وكأنها تُحدِّث نفسها: ليلة سوداء لم أعرف لي فيها رأسًا من قدمين، لا تزال الضوضاء تدوي في رأسي، لكن الحق عليَّ، ما كان ينبغي لي أن أطاوعك من بادئ الأمر.

خُيِّل إليه أنها راضية رغم تشكِّيها، أو أنها تدَّعي التشكِّي ادعاء، ألم يعرف في الأزبكية نساء يتباهين بكلِّ عراك دموي ينشب من أجلهن؟ على أنه لم يغضب، كانت الأمور قد بلغت حد اليأس فأعفتْه من مشقَّة النهوض لمعالجتها، فلم يَملك إلا أن يضحك وهو يقول: شر البلية ما يضحك! اضحكي، خربت بيتي واحتللتِه، قومي فأصلحي من شأنك، واستعدي لإقامة طويلة حتى يُقبل الليل، لن تغادري البيت حتى يأتي الليل.

– يا خبر أسود! سجينة! أين زوجك؟

– لم يَعُد لي زوجة.

– أين هي؟

– في المحكمة الشرعية إن صدق ظنِّي.

– أخاف أن تعتدي عليَّ عند خروجي.

– تخافين؟ ربنا يرحمنا! إن ليلة أمس على فظاعتها لم تُوهن من مكرك وخبثك يا بنت أخت زبيدة!

ضحكت ضحكة طويلة فبدا أنها تقرُّ بالتهمة الموجهة إليها، وفي مباهاة أيضًا، ثم مدت يدها إلى كوب القهوة فتناولته واحتسَت قليلًا منها، ثم ردَّتها إليه وهي تتساءل: والآن؟

– كما ترين، لا علم لي أكثر منك، ولكن يحز في نفسي أن أنكشف أمام الناس كما انكشفتُ في الليلة الماضية.

هزت منكبَيها في استهانة قائلة: لا تهتمَّ بذلك، ما من رجل إلا ويُخفي تحت ذقنه مخازي تضيق عنها الأرض.

– رغم هذا فالفضيحة فضيحة، تصوَّري الشجار والعويل والطلاق عند الفجر! تصوري الجيران وقد فزعوا إلى شقتي مُستطلِعين فرأت أعينهم كل شيء.

قطَّبت قائلة: كانت هي البادئة.

لم يَملك أن ضحك ضحكة ساخرة، فعادت تقول بإصرار: كانت تستطيع أن تعالج الأمور بحكمة لو كانت عاقلة، الغرباء في الطريق يَتسامحون مع السكارى المُعربدين، هي التي جنت على نفسها بالطلاق، وماذا كنت تقول لها؟ … يا عاهِرة يا بنت العاهرة، هه؟ وكلام آخر عن الجنود الإنجليز؟

تذكَّر هذا الآن فقط وهو يحدجها بنظرة مُحنقة متسائلًا: كيف رسخت هذه الألفاظ في ذاكرتها؟! وغمغم في ضيق: كنت غاضبًا لا أدري ماذا أقول!

– إحم!

– إحم في يافوخك …!

– الجنود الإنجليز؟ … هل جئتَ بها من بار فنشي؟

– أستغفر الله، إنها بنت ناس وجيران العمر، ولكنه الغضب عليه ألف لعنة.

– لولا الغضب ما انكشفت الأسرار.

– وحياة خالتك حسبنا ما نحن فيه.

– خبرني عن الجنود الإنجليز وخذ شعر رأسي.

بصوت عالٍ مُحتد: قلت إنه الغضب وكفى.

شهقت ساخرة، ثم قالت: أتُدافع عنها؟ … اذهب فاستردَّها.

– ملعون أبو البارد الذي لا يَستحي.

– ملعون أبوه.

غادرت الفراش إلى المرآة، فتناولت مشط مريم، وراحت تمشط شعرها بعجل وهي تتساءل: ما عسى أن أفعل لو قطع الرجل علاقته بي؟

– قولي له: مع السلامة، أما بيتي فمفتوح لك على الدوام.

فالتفتت إليه قائلة بلهجة أسيفة: أنت لا تَفقه معنى ما تقول! كنَّا بسبيل التفكير الجدي في الزواج.

– الزواج! وهل ما زلتِ تُفكِّرين فيه بعد ما رأيت من أحواله في الليلة الماضية؟!

قالت في دهاء: أنت لا تفهمني! لقد ضقت ذرعًا بالحياة الحرام، ليس وراءها إلا البوار، إن مثلي إذا تزوَّجت قدرت الحياة الزوجية خير قدرها.

مَن المُغفَّل يا ترى؟ التخت لم يكن يعدُّها بأكثر من عوادة، وحياة الهوى ليس وراءها بعد الثلاثين — وستَبلغها قريبًا — إلا التلف، فالزواج هو الأمل الموعود، هل تقصدك بهذا الحديث؟ … ما ألذَّ الشيطانة! لا أنكر أنني أريدها، أريدها بكل قوة، وفضيحتي تشهد على ذلك.

– أتحبِّينه؟

كالغاضبة: لو كنتُ أحبه ما وجدتني الآن سجينة هنا.

اهتزَّ صدره حنانًا رغم ارتيابه في صدقها، أجل إذا لم يكن يعرف الإخلاص قلبها أبدت له ميلًا لا شك فيه: لا غِنى لي عنكِ يا زنوبة، في سبيلك ارتكبت جنونًا غير مبالٍ بالعواقب، أنت لي وأنا لك من قديم الزمان.

وساد الصمت. بدت كأنها تَنتظِر مزيدًا على لهف، ولكنه لم ينبس فقالت: هل أقطع أسبابي بهذا الرجل؟ لست من اللاتي يستطعن أن يجمعن بين رجلين.

– من هو؟

– تاجر من ناحية القلعة يُدعى محمد القللي.

– متزوج؟

– وله أولاد، ولكنه كثير المال.

– وعدك بالزواج؟

– يُغريني به، ولكنني متردِّدة؛ لأن ظروفه وكونه زوجًا وأبًا مما يُنذِر بالمتاعب.

احتمل مكرهًا من أجل جمال عينَيها.

– لمَ لا نعود كما كنا؟ لست فقيرًا على أي حال.

– لا يعنيني مالك، ولكن ضقت بحياة الحرام.

– والعمل؟

– هذا ما أسأل عنه.

– أفصحي.

– قلت ما فيه الكفاية.

يا له من هجوم غير متوقع، أجل إنه يبدو أول ما يبدو مضحكًا، غير أنه يريدها فلا يسعه أن يرد على الهجوم بمثله، قال بعد صمت: لا أخفي عنك أني بتُّ أتطير من الزواج.

– كما أتطير من الحرام …!

– لم تكوني كذلك أمس!

– كان في قبضة يدي زوج، أما اليوم!

– قليل من المرونة حتى نتلاقى، شيء واحد لا ينبغي أن يغيب لك عن بال، وهو أني مهما تَطُل بي عشرتك فلن أتخلَّى عنك.

فهتفت محتدَّة: سوابقك تَشهد على صدقك.

فقال بلهجة جدية يداري بها ضعف مركزه: الإنسان لا يتعلَّم بلا ثمن.

– لم تَعُد تُغرِّر بي الأقوال، آه منكم يا رجال!

ومنكن يا نساء أليس ثمة آه؟ يا بنت أخت زبيدة رحمتك، جاءت بعد منتصف الليل سكرى، وفي الصباح ضاقت بالحرام، لعلَّها قالت لنفسها: إذا كانت زوجُه الثانية عاهرة فلم لا أكون زوجه الثالثة! هان ياسين، أنسيت ما يَنتظرك في الخارج من المتاعب؟ دع المتاعب تنتظرك، ولكن لا تفقد زنوبة بكلمة نابية، كما فقدت مريم، مريم؟ الآن كفَّرتُ عن ذنبي يا أخي. قال بهدوء: يجب ألا ينقطع ما اتصل بيننا.

– بيدك انقطاعه واتصاله.

– يجب أن نَلتقي كثيرًا ونفكر كثيرًا.

– من جانبي لا حاجة بي إلى تفكير جديد.

– فإما أن أقنعكِ برأيي، وإما أن تُقنعيني برأيك.

– لن أقتنع برأيك.

وغادرت الحجرة وهي تُداري عنه ابتسامة فأتبع ظهرها المتأوِّد نظرة استغراب، أجل كل شيء يبدو غريبًا، ولكن أين مريم؟ وحيدة على أي حال، ولن تذوق نفسه الراحة والسلام، وسيُسأل غدًا في بين القصرَين، وبعد غدٍ في المحكمة الشرعية، ولكن كانت حياتهما في الأيام الأخيرة نضالًا مُتواصِلًا، حتى قالت له بصريح العبارة: كرهتك وكرهت عيشتك، لم أخلق كي أوفَّق في الزواج، أهكذا كانت حياة جدي؟ إني أشبه الأسرة به فيما يُقال، ورغم هذا كله تُريد المجنونة أن تتزوَّج منِّي.

٢٨

كانت الشمس تُؤذن بالمغيب عندما عبر السيد أحمد عبد الجواد القنطرة الخشبية المُؤدية إلى العوامة، ودقَّ الجرس فَفُتِحَ الباب بعد قليل عن زنوبة في فستان من الحرير الأبيض نمت شفافيته عن محاسن جسدها، فلما رأته هتفت: أهلًا … أهلًا، قل ماذا فعلت أمس؟ تصورت حضورك ودقك الجرس دون نتيجة، ووقوفك حينًا ثم ذهابك، (وهي تَضحك) ووساوسك، قل ماذا فعلت؟

بالرغم من أناقة مَظهره والعرف الطيِّب الذي يتطاير منه بدا وجهه متجهمًا، وعيناه جامدتين تعكس حدقتاهما استياء. سأل قائلًا: أين كنتِ أمس؟

فتقدمته إلى حجرة الجلوس وتبعها حتى وسط الحجرة بين نافذتَين مفتوحتين على النيل ولم يجلس، أما هي فجلست على مقعد بين النافذتين وهي تتظاهر بالهدوء والثقة والابتسام، ثم قالت: خرجت — كما تعلم — أمس لأستبضع، فقابلت في بعض الطريق ياسمينة العالِمة فدعتني إلى بيتها. وهنالك أبت عليَّ أن أنصرف، وما زالت بي حتى أجبرتْني على المبيت عندها، لم أكن رأيتها منذ انتقلت إلى هذه العوامة، لو سمعتَها وهي تطعن في وفائي وتسألُني عن سر الرجل الذي أنساني عشيرتي وجيراني!

صادقة أم كاذبة؟ هل عانى آلام أمس واليوم بلا سببٍ حقًّا؟ إنه لا يربح مليمًا ولا يخسر مليمًا بلا سبب، فكيف عانى تلك الآلام المروِّعة بلا سبب؟ دنيا ماكرة … غير أنه على استعداد لأن يلثم ترابها إذا صحَّ عنده صدق هذه الشيطانة، فليصحَّ له صدقها ولو يفقد ما بقي من عمره، هل آنَ له أن يثوب إلى رشده؟ مهلًا.

– متى عدت إلى العوامة؟

فرفعت ساقها حتى مستوى المقعد، وراحت تتأمل شبشبها البمبي ذا الوردة البيضاء، وأصابعها المخضَّبة بالحناء، ثم قالت: هلا جلست أولًا وخلعت طربوشك لأرى مفرق شعرك؟ عدتُ يا سيدي مع الضحى.

– كذابة!

انطلقت من فيه كالرصاص مُفعَمة غضبًا ويأسًا، ثم استطرد قائلًا في عنف قبل أن تفتح فاها: كذابة، لم تعودي مع الضحى ولا مع العصر، لقد جئتُ إلى هنا أثناء النهار مرتين فلم أجدك.

وجمت قليلًا، ثم قالت بلهجة جمعت بين التسليم والضجر: الحق أني عدتُ قُبيل المغرب، منذ ساعة تقريبًا، لم يكن ثمة ما يدعوني إلى اختلاق الكذب لولا أني لمحتُ في عينيك استياءً لا أساس له فأردت أن أزيله، الحق أن ياسمينة ألحت عليَّ في الصباح كي أتسوَّق معها، ولما علمتْ بانفصالي عن خالتي عرضت عليَّ أن أنضمَّ إلى تختها على أن تنيبَني عنها في بعض الأفراح، وطبعًا لم أوافق، لسابق علمي بأنك لن تَرضي عن سهري مع التخت، المقصود أني بقيت معها لعِلمي بأنك لن تجيء إلى هنا قبل التاسعة مساءً، هذه هي الحكاية، فاجلس وصلِّ على النبي.

حكاية مُختلَقة أم صادقة؟ لو يطلع أصحابك على موقفك هذا؟ لشدَّ ما تهزأ بك المقادير، على أني أعفو على أضعاف هذا في سبيل قطرة من الراحة، تشحذ الراحة وما اعتدت الشحاذة من قبل، هكذا هانت عليك نفسك أمام العوادة، كانت موكَّلة يومًا بخدمتك تُقدِّم لك في مجلس الأنس الفاكهة، وتنصرف في صمت وأدب، إما الراحة أو فلتَستعِر نيران الجحيم.

– ياسمينة العالِمة ليست في جبال الواق، سوف أسألها عن حقيقة الحكاية.

قالت وهي تلوِّح بيدها في استهانة واستياء: سلها كيفما بدا لك.

وغلبته أعصابه الثائرة المنهكة فجأة، فقال بعناد: سوف أسألها هذا المساء، إني ذاهب إليها الآن … لقد حققتُ لك كل رغباتك فينبغي أن تَحترمي حقوقي كاملة.

وانتقلت إليها عدوى هياجه، فقالت بحدة: مهلًا … لا تَرمِني في وجهي بالتهم، لقد اتسع لك حلمي حتى الآن، ولكن لكل شيء حد، أنا إنسانة من لحم ودم، فتح عينك وصلِّ على أبي فاطمة …!

تساءل في ذهول: أبهذه اللهجة تخاطبينني؟

– نعم ما دمت تُخاطبني بمثلها!

اشتدَّت قبضة يده على مقبض عصاه وهو يهتف: أنا أستاهل، فأنا الذي خلقتُ منك سيدة، وهيَّأتُ لك حياةً تَحسُدك عليها زبيدة نفسها!

واستفزها قوله فبدت كاللبؤة الهائجة، وصاحت: خلَقني الله سيدة لا أنت، لقد ارتضيت هذه الحياة بعد توسُّلاتك الحارة، فهل نسيت هذا؟ لست أسيرة أو عبدة لك، تحقيق ومحضر، ماذا تظن بي؟ هل اشتريتني بمالك؟ إذا كانت حياتي لا تُعجبك فليذهب كلٌّ منا إلى حال سبيله.

يا رب السماوات أهكذا تستحيل الأظافر المدلَّلة إلى مخالب؟ إن كنت في شك من الليلة البارحة فاستخبر هذه اللهجة الوَقِحة، جنس نمرود ابتُليت به فتجرَّع الألم حتى الثمالة، انهَلْ من الإهانة حتى تكتفي، والآن ما جوابك! بأعلى صوتك اصرخ في وجهها: اخرجي إلى الطريق الذي التقطتُكِ منه. اصرخ، أجل اصرخ، ماذا يمنعك؟ لعنة الله على ما يَمنعك، خيانة القلب شرٌّ من ألف خيانة، هذا هو ذل القلوب الذي كنت تَسمع عنه وتهزأ منه، شدَّ ما أكره نفسي إذ تحبها.

– تطردينني؟

بنفس النبرات المحتدة الغاضبة: إذا كان معنى هذه الحياة أن تحبسني هنا كالرقيق وأن ترميني بالتهم كلما حلا لك، فمن الخير لي ولك أن نَنتهي.

وأدارت عنه وجهها؛ فتأمَّل عارضها وصفحة عنقها في هدوء غير طبيعي بالذهول أشبه. أقصى ما أسأل الله من سعادة أن أنبذَها دون مبالاة، هي ذلك وحنقك، ولكن هل تُطيق أن تعود إلى هذا المكان فلا تجد لها من أثر؟

– لم أكن شديد الثقة في نُبلِك، ولكني لم أتصوَّر أن يذهب بك الجحود هذا المذهب!

– تُريدني حجرًا لا شعور له ولا كرامة!

– أنتِ أحقر من هذا لو تَعلمين … بل أريدُكِ شخصًا يعرف للجميل حقه وللعشرة حقها.

مغيرة لهجتها من الغضب إلى السخط والتشكِّي: فعلتُ لك أكثر مما تصور، ارتضيت أن أهجر أهلي وعملي لأبقى حيث تُريد، حتى الشكوى كتمتُها كي لا أكدر صفوك؛ فلم أشأ أن أصارحك بأن «بعض الناس» يودُّ لي حياة خيرًا من هذه، فلم أُلْقِ إليهم بالًا!

أثمة متاعب أخرى لم تقع لي في حسبان؟ تساءل كالجريح: ماذا تَعنين؟

فعكفت على أسورة ذهبية تديرها حول ساعدها الأيسر، وهي تقول: رجلٌ مُحترَم يريد أن يتزوجني ويلحُّ في ذلك بلا ملل.

الحرارة والرطوبة يُخنقانك خنقًا، أما «العكننة» فقد فغرَت فاها لتبتلعك، ما أسعد هذا الملاح الذي يطوى شراعه أمام النافذة!

– مَن هو؟

– رجل لا تَعرفه، فسمِّه كيف شئت!

تراجع خطوة، ثم جلس على كنبة تتوسَّط مقعدَين كبيرين، وشبك راحتيه فوق مقبض عصاه وهو يسألها: متى رآك؟ وكيف علمت برغبته؟

– كان يراني كثيرًا حينما كنتُ أقيم مع خالتي، وفي الأيام الأخيرة كان يُحاول مكالمتي كلما صادفني في طريقه، ولكني تجاهلته؛ فحرَّض إحدى صديقاتي على إبلاغي رغبته، هذه هي الحكاية.

ما أكثر حكاياتك، عندما افتقدتُك أمس قاتَلَني ألم واحد، لم أفطن وقتذاك إلى كل هذه الآلام والمتاعب، اتركها إن استطعت، اهجرها، فهجرها هو سبيل السلام. أليس الناس مخطئين في تصورهم أن الموت شر ما يبتلون؟

– أحب أن أعرف صراحة، هل تودِّين قبول هذا العرض؟

تركت ساعدها بحركة عصبية وشخصت إليه بوجهها فيما يُشبه الكبرياء، ثم قالت بتوكيد: قلت لك إني تجاهلته، يجب أن تفهم معنى ما أقول.

يجب ألا تعود الليلة إلى فِراشك بأفكار قاتِلة حتى لا تتكرر ليلة أمس، غربل نفسك من الهواجس.

– صارحيني: هل زارَكِ أحد في العوامة؟

– أحد؟ أي أحد تعني؟ لم يَدخل هذه العوامة أحد سواك.

– زنوبة، إني أستطيع أن أعرف كل شيء، لا تُخفي عني شيئًا، صارحيني بكل كبيرة وصغيرة، ولك عندي بعد ذلك العفو مهما يكن من أمرك.

قالت محتجة غاضبة: إذا أصررتَ على الشك في صدقي فخير لنا أن نفترق.

أتذكر الذبابة التي رأيتَها تحتضر في صباح اليوم في خيط العنكبوت؟

– حسبنا، دعيني أسألك الآن: هل قابلك هذا الرجل أمس؟

– أخبرتك أين كنت أمس.

نافخًا على رغمه: لماذا تُعذبينني، وما حرصتُ على شيء حرصي على سعادتك؟

ضربتْ كفًّا بكف، كأنما قد كبر عليها شكُّه، ثم قالت: لمَ لا تُريد أن تفهمني؟ … إني أرفض كل غالٍ في سبيلك.

ما أجمل هذه النغمة! المأساة أنها يُمكن أن تصدر عن قلب فارغ، كالمغني الذي يذوب في نغمة حزينة شاكية وقلبه ثَمِل بالسعادة والفوز.

– إني أُشهد الله على قولك، صارحيني الآن: مَنْ يكون هذا الرجل؟

– ماذا يهمك منه؟ قلت لك: إنك لا تَعرفه، تاجر من غير حينا، ولكنه كان يجلس من حين لآخر في قهوة سي علي.

– اسمه؟

– عبد التواب ياسين، هل عرفتَه؟

اكتريتُ هذه العوامة لقضاء وقتٍ سعيد، هل تذكر أوقاتك السعيدة؟ أيتها الدنيا هل تذكرين أحمد عبد الجواد الذي لم يكن يُبالي شيئًا؟ زبيدة … جليلة … بهيجة … سليهن عنه، إنه بلا ريب غير هذا الرجل الحائر الذي اشتعل الشيب في فوديه.

– إن شيطان النكد هو أنشط الشياطين.

– بل هو شيطان الشك؛ لأنه يخلق من لا شيء.

جعل ينقر الأرض بطرف عصاه، ثم قال بصوت عميق: لا أريد أن أعيش أعمى، كلا ولا شيء بقادر على أن يجعلني أتهاوَنُ في رجولتي وكرامتي، بالاختصار لا أستطيع أن أهضم مبيتَكِ في الخارج ليلة أمس.

– رجعنا مرةً أخرى!

– وثالثة ورابعة، لستِ طفلة، إنك امرأة ناضجة عاقلة، واليوم تُحدِّثينني عن ذلك الرجل! هل غرك حقًّا وعدُه بالزواج منه؟

أجابت بكبرياء قائلة: إني أعلم أنه لا يَخدعني، وآي ذلك أنه وعَدني بألا يقربني حتى يعقد زواجه مني.

– أترغبين في هذا الزواج؟

قطبت في استياء، ثم قالت بلهجة المتعجِّب: ألم تسمع ما قلت؟ إني أعجب لما تُبدي اليوم من كسل، لكن على أيِّ حال لستَ الساعة كالعهد بك، أَفِق من الكدر الذي جلبته على نفسك بلا سبب، واسمع منِّي للمرة الأخيرة: لقد تجاهلتُ الرجل ورغبته إكرامًا لك.

رغب أن يعرف سنه، ولكنه لم يدر كيف يصوغ السؤال، الشباب والكهولة أمور لم تجر له في حساب من قبل، قال بعد تردد: لعله من الأغرار الذين يُلقون القول بلا تردد.

– ليس طفلًا، إنه في الثلاثين من عمره.

أي إنه يتأخَّر عنه بربع قرن، والتأخُّر مكروه إلا في العمر، أما الغيرة فتقتلنا بلا حياء.

وعادت هي تقول: تجاهلتُه رغم أنه وعدني بالحياة التي أتمناها.

يا بنت القديمة! فاتَ زبيدة أن تتعلَّم منك الكثير.

– حقًّا؟

– دعني أصارحك بأني لم أَعُد أُطيق هذه الحياة.

اذكر مرة أخرى الذبابة والعنكبوت.

– حقًّا!

– أجل، أريد حياة مطمئنة في ظل الحلال، أم تراني مخطئة؟

جئتَ للتحقيق معها فأين تقف الآن؟ هي التي طردتْك فمِن أين لك هذا الحلم كله؟ اخجل من نفسك ما بقي لك من أيام، أتفهم ما تَعني إيماءاتها؟ ما أجمل الأمواج المتلاطمة في ساعة المغيب! ولما طال به الصمت استطردت قائلة بهدوء: لن يُغضبك هذا، أنت رجل تقي رغم كل شيء، فلا يُمكن أن تحول بين امرأة وبين الحلال الذي تودُّه، لا أريد أن أكون بردعة لكل راكب، لست كخالتي، لي قلب مؤمن وأخاف الله، وقد صدق عزمي على هجر الحرام.

استمعَ إلى قولها الأخير بدهشة وانزعاج، وجعل يتفحَّصها بحنقٍ داراه بابتسامة باهتة، ثم قال: لم تُحدِّثيني عن هذا من قبل، كنا حتى أول أمس على خير حال.

– لم أكن أدري كيف أكاشفك بما في نفسي.

إنها تبتعد عنك بسرعة مخيفة خبيثة، يا خيبة الأمل! إني مُستعدٌّ أن أنسى ليلة أمس المشئومة، أنسى شكِّي وألَمي، على أن تُقلع عن هذا المكر الخبيث.

– كنا نعيش في سعادة ووئام، فهل هانت عليك العشرة؟

– لم تَهُن ولكني أريد أن أجعل منها شيئًا أفضل، أليس الحلال خيرًا من الحرام؟

تقلَّصت شفته السُّفلى مُحدِثة ابتسامة لا معنى لها، ثم قال بصوت خافت: الأمر بالنسبة لي مُختلِف جدًّا.

– كيف؟!

– أنا زوج، وابني زوج، وبناتي أزواج، الأمر دقيق جدًّا كما ترَين … (ثم بلهفة): ألم نكن نعيش في سعادة كاملة؟

قالت بضجر: لم أقُلْ لك طلِّق زوجتك وتبرَّأ من ذريتك! كثيرون هم الذين يجمعون بين أكثر من زوجة.

فقال بإشفاق: ليس الزواج في مثل … حالي مما يهُون أمره، أو يعرض في حياة الإنسان بلا قيل وقال.

ضحكت ساخرة، ثم قالت: كل الناس يَعلمون أنك عشيق وأنت لا تُبالي بهم، فكيف تُشفق من قيلهم وقالهم عن زواج مشروع إن أردت الزواج …؟

قال باسمًا في ارتباك وضيق: قليل من الناس من اطَّلع على أسراري، إلى أنَّ أهل بيتي هم أبعد الناس عن الشك في أمري.

رفعت حاجبيها المزججين في إنكار، ثم قالت: هذا ظنُّك، أما الحقيقة فلا يعلمها إلا الله، أي سر يُصان ووراءه ألسنة الناس؟

ثم استدركت غاضبة قبل أن يتكلم: أم لعلَّك لا تراني أهلًا للتشرُّف بالانتساب إليك؟

أستغفر الله، زوج زنوبة العوادة على سن ورمح!

– ما قصدت هذا يا زنوبة.

فقالت باستياء: لن تُخفي عني حقيقة مَشاعرك طويلًا، سأعرفها غدًا إن لم أعرفها اليوم، فإن كان زواجي يُعرُّك فمع السلامة.

تجيء لتطرده فيطردَك. لم تَعُد تسألها أين كانت ولكنها تخيرك بين الزواج أو الذهاب، ماذا أنت صانع؟ ماذا يبقيك بلا حراك؟ إنه القلب الخائن، إن نزع عظامك من لحمك أهون من هجر هذه العوَّادة، أليس من المحزن ألا تبتلى بهذا الحب الأعمى إلا على كبر؟

تساءل في عتاب: أهذا هو قدري عندك؟

– لا قدر عندي لمن يَأنف مني كأني بصقة مُعدية!

قال بهدوء حزين: أنت أعزُّ عليَّ من نفسي.

– كلام سمعنا منه الكثير.

– ولكنه صدق وحق.

– آن لي أن أعرف هذا من غير اللسان.

غضَّ بصره في كرب ويأس، لم يكن يدري كيف يَقبل ولم يكن بوسعه أن يرفض، وكان حرصه عليها من وراء ذلك يغلُّه ويُشتِّت فكره، قال بصوت خفيض: أعطني مهلة كي أدبِّر أمري.

فقالت بهدوء وهي تخفي ابتسامة ماكرة: لو كنتَ تُحبُّني حقًّا ما ترددت.

فقال بعجلة: ليس هذا، أعني أموري الأخرى.

وحرَّك يده كأنما يُفسر بها قوله، وإن كان لا يدري على وجه التحديد ما تعني، فابتسمت قائلة: إذا كان الأمر كذلك فأنا رهن انتظارك.

فشعر براحة وقتية، كالراحة التي يجدها الملاكم المُوشك على السقوط إذا أدركه الجرس المؤذن بانتهاء الجولة غير الأخيرة. وانبعثت في نفسه رغبة إلى الترويح عن همِّه والتنفيس عن قلقه، فقال لها وهو يمدُّ نحوها يده: تعالي إلى جانبي.

فتراجعت في مقعدها إلى الوراء بإصرار وهي تقول: عندما يأذن الله.

٢٩

غادر العوامة يشقُّ سبيله في ظلام، فسار وشاطئ النيل في طريق مقفر متَّجهًا إلى جسر الزمالك، كان الهواء يهفو لطيفًا فنفخ رأسه المُلتهب، وبعث في أغصان الأشجار الهائلة المتشابكة حركة وانية ندَّ عنها هسيس كالهمس، وكانت تبدو في الظلام كالكثبان أو السحب الجون، كلما رفع رأسه وجدها مطبقة عليه كالهم الجاثم على صدره. وهذه الأضواء المنبعثة من نوافذ العوامات هل تنبعث من بيوتٍ خلت من الهم؟ ولكن ليس كهمِّك هَم، ليس من يموت كمَن ينتحر، وأنت بلا جدال قد وافقت على الانتحار. واصل السير، لم يكن أحبَّ إليه وقتذاك من المشي ليُريح أعصابه ويستعيد أفكاره قبل أن يَمضي إلى الإخوان، وهنالك يخلو إليهم ويُكاشفهم بكل شيء، لن يقدم على هذه الخطوة حتى يُشاورهم وإن خمن سلفًا ما سيقولون، ولكنه سيعترف أمامهم مهما كلفه الأمر، وإنه ليجد إلى مكاشفتهم رغبة دافعة كأنها استغاثة غريق يتخطَّفه الموج العاتي. لم يغب عنه أنه يعدُّ في حكم الموافق على الزواج من زنوبة، ولم ينكر شعوره الذليل بالرغبة فيها والحرص عليها، ولكنه لم يتصور كيف يمكن أن يتحقَّق هذا في صورة زواج رسمي، ولا كيف يزفُّ البشرى إلى الأهل والأبناء والناس جميعًا. ومع أنه كان يريد أن يطيل المشي ما وسعه ذلك إلا أنه اندفع يسير بسرعة، وفي خطوات واسعة، وعصاه تضرب الأرض التَّرِبة كأنما يتعجل الذهاب إلى هدفٍ ولا هدف له. تأبَّت عليه وصدَّته! هل تغيب عن تجربته وحنكته هذه الأساليب؟ … ولكن الضعيف يقع في الشرَك وهو يدري. ومع أنه استجد بالمشي والهواء النقي بعض الراحة إلا أنه لم يزل مشتت الفكر مشعث الوجدان، ولم تزل الأفكار تطرُق رأسه بغير انتظام حتى لم يَعُد يحتمل حاله فخيِّل إليه أنه سيجنُّ إن لم يحسم الأمر بحَلٍّ ولو يكن الضلال نفسه.

في هذا الظلام يستطيع أن يخاطب نفسه بلا تردُّد أو حياء، تحجبه الأغصان المتلاحمة عن السماء، وتُواري خواطره الحقول المترامية إلى يمينه، ويبتلع مشاعره ماء النيل الجاري إلى يساره، ولكن حذار من النور، حذار أن تكتنفَه هالة منه فينطلق كعربة السِّرك داعيًا وراءه الغلمان وهواة العجائب، أما سمته وجلاله وكرامته فسلام الله عليها. كان ولم يزل ذا شخصيتين، يعيش بواحدة بين الإخوان والأحباب، ويُطالع بالأخرى الأهل وسائر الناس، وهذه الأخيرة التي تُمسك عليه جلاله ووقاره، وتُقرِّر له منزلة لا يطمع إليها أحد، وهي هي التي تتآمَر نزواته عليها وتُهدِّدها بالفناء الأبدي. وتراءى له الجسر بمصابيحِه الوهاجة فتساءل: إلى أين؟ بيد أنه رغب في مزيد من الوحدة والظلام؛ فمرَّ أمام الجسر إلى طريق الجيزة. ياسين! ذكرُه يُرعبك، جبينك يحترق خجلًا، لمَ؟ سيكون أول من يَفهمك ويتسامح معك أم تراه يشمَت بك ويتندَّر؟ طالما زجرته وأدبته، ولكن قدمه لم تَنزلِق بَعدُ إلى مثل هاويتك! كمال؟ يجب أن تلقاه منذ الساعة بقناع غليظ أن يطَّلع على الذنب في أساريرك، خديجة وعائشة؟ سيُنكِّس منهما الجبين في بيت آل شوكت، زنوبة امرأة أبيك، زفاف يُصفِّق له أهل المجون. في صدرك غوايات فاختر مسرحًا غير دنياك لها، هل ثمة مملكة ظلام بعيدًا عن متناول البشر كي تمارس رذائلك في سلام؟ غدًا فلتنظر إلى نسيج العنكبوت لترى ماذا تبقى من الذبابة؟ استمع إلى نقيق الضفادع، وزفرات الصراصير، ما أسعد هذه الحشرات، كن حشرة لتسعدَ بلا حساب، أما فوق سطح الأرض فلن يُسعدك إلا أن تكون «السيد» أحمد، مُرَّ الليلة بأهل بيتك جميعًا … زوجك … كمال … ياسين … خديجة … عائشة … ثم كاشِفهم بنيتِك إن استطعت، وإن استطعت فاعقد زواجك بعد ذلك.

هنية! أتذكُر كيف نبذتها على حبِّها؟ لم تحبَّ امرأة كما أحببتها، ولكن يبدو — وا أسفاه! — أننا نخسر العقول في كهولتنا، لتشرب هذه الليلة حتى يرفعوك على الأعناق، ما أحنَّه إلى الشراب، كأنك لم تشرب منذ عام الفيل، إنَّ الآلام التي تجرعتها في عامك هذا خليقة بأن تمحو حسنات السعادة التي تمتَّعت بها العمر كله.

ضرب بعصاه الأرض، ثم توقف عن السير. ضاق بالظلام والسكون والطريق الحاشد والأشجار، وفزع قلبه إلى الإخوان، ليس هو بالذي يستطيع أن يخلو إلى نفسه طويلًا، فما هو إلا عضو في جماعة وجزء من كل، وهنالك تُحل المشكلات كما اعتادَت أن تُحل، واستدار ليرجع إلى الجسر، وعند ذاك انتفض جسمه غضبًا وتقزُّزًا، فقال بصوت غريب تُمزِّقُه الشكوى والألم والحنق: «ليلة كاملة تبيتها في الخارج … في مكان مجهول، ثم تُوافق على الزواج منها!» وطئَه إحساس ثقيل بازدراء النفس عصر جذعه وعصر قلبه. ياسمينة! … يا للسخرية! بل أمضت ليلتها في حضن الرجل الذي لم يُزايلها حتى وافاهما عصر اليوم التالي، لبثَت عنده وهي عالِمة بمواعيد حضوره، فماذا يعني هذا؟ ليس إلا أن الغرام أنساها الوقت. يا جحيم الآخرة! أو أنك هنتَ للحدِّ الذي لا تُبالي عنده بغضبك، كيف حاورتَها مُسترضيًا بعد ذلك أيها المسحور؟ وكيف تمضي حاملًا وعد الزواج بها يا عار الدنيا والآخرة، كأنك لم تشعر بالقرن الذي ارتضيتَه من شدة ضغط الهم على رأسك، قرن تُكلِّل به هامة أسرة لتُخزي به جيلًا بعد جيل، ما عسى أن يقول الناس عن هذا القرن فوق الجبين الأغر؟ إن الغضب والمقت والدم والدموع لا تكفي للتكفير عن استسلامك وضعفك، لشدَّ ما تضحك منك الآن وهي مستلقية على ظهرها في العوامة، ولعلها لم تغتسل بعد من عرق رجلها الذي سيضحك منك بدوره، لا ينبغي أن يَطلع الغد وفمٌ يضحك منك، اعترف بخورك واعرضه على مائدة الإخوان لتَسمع قهقهاتهم … اعذروه كبر وخرف … اعذروه فقد جرَّب كل شيء إلا متعة القرون! زبيدة: أبيت أن تكون سيدًا في بيتي وارتضيت أن تكون قوَّادًا في بيت عوَّادتي. جليلة: لستَ أخي ولا حتى أختي! إني أشهد هذا الطريق الرهيب، وهذا الظلام الكثيف، وهذه الأشجار الهرمة على هرولتي في الظلام باكيًا كالطفل الغرير، لا بتُّ ليلتي حتى أرد الإهانة إلى الطاغية، وتمنَّعت عليك! لمَ؟ لأنها ضاقت بالحرام! الحرام الذي لم تغتسل منه، قل إنها لم تَعُد تُطيقك وكفى، ما أفظع الألم! ولكنه حق عليَّ وعبادة، كمن يَنطح الجدار حتى يُهشم رأسه تكفيرًا عن ذنب، الشيخ متولي عبد الصمد يظن أنه يَعرف أمورًا كثيرة، ألا ما أجهله! مرَّ بجسر الزمالك مرة أخرى إلى طريق إمبابة. وجعل يحث خطاه بعزم وعناد مُصممًا على غسل ما لطَّخه من خزي، وكلما ألحَّ عليه الألم جدَّ في السير ضاربًا بعصاه الأرض كأنما يسير على ثلاث.

وبدت له العوامة يلوح من نافذتها الضوء فاشتدَّ هياجه، بيد أنه كان قد استعاد ثقته بنفسه، وشعوره برجولته وكرامته، واطمأنَّ خاطره بعد أن استقر على رأي، وانحدر على السلم فمر فوق الجسر الخشبي، ثم طرق الباب بطرف عصاه. وكرر ذلك بعنف، حتى جاءه الصوت متسائلًا في انزعاج: من الطارق؟

فأجاب بقوة: أنا.

انفتح الباب عن وجهِها المتعجب، فأفسحت له وهي تغمغم: «خيرًا!» فمرق إلى حجرة الجلوس حتى توسطها ثم استدار ووقف ينظر إليها وهي تَقترب منه متسائلة حتى وقفت حياله وراحَت تتفحَّص وجهه المتجهِّم بقلق، قالت: خير إن شاء الله! ما عاد بك؟

فقال بهدوء مريب: خير والحمد لله كما ستَعلمين.

جعلت تتساءل بعينيها دون أن تتكلم، فاستطرد قائلًا: جئت لأُخبرك بألا تتعلَّقي بما قلت، فإن الأمر كله لم يكن إلا دعابة سخيفة.

هبط جذعها هبوط الخيبة، ونطَق وجهها بالإنكار والحنق، ثم هتفت: دعابة سخيفة! كيف لا تفرق بين دعابة سخيفة وبين كلمةِ شرفٍ ارتبطت بها؟

قال ووجهه يزداد اكفهرارًا: يَحسُن بك وأنت تخاطبينني أن تلتزمي حدَّ الأدب الواجب، فإن نساءً من طبقتك يَرتزقن في بيتي خادمات.

صاحت وهي تُحملِق في وجهه: هل رجعت لتُسمعني هذا الكلام؟ لِمَ لَمْ تقله من قبل؟ لم وعدتني واستعطفتني وتودَّدت إليَّ؟ أتحسب أن هذا الكلام يُخيفني؟ لم يَعُد بي متَّسع للدعابات السخيفة.

لوَّح لها بيده غاضبًا فأسكتها، ثم هتف: جئت كي أقول لك: إن الزواج من واحدة مثلك خزيٌ لا يليق بكرامتي، وأنه لا يَصلح أكثر من أن يكون دعابة يتندَّر بها هواة الدعابات المُخجلة، وأنه ما دامت أمثال هذه الأفكار تدور برأسك فأنت لم تعودي أهلًا لمُعاشرتي؛ إذ لا يصح أن أعاشر المجانين.

كانت تُصغي إليه وشرر الغضب يتطاير من حدقتيها، بيد أنها لم تَستسلم لتيار الغضب كما تمنى، ولعل منظر غضبه بثَّ في حناياها خوفًا وتقديرًا للعواقب، فقالت بلهجة أخف من السابقة: لن أتزوجك بالقوة، لقد كاشفتُك بما يجول بخاطري تاركة لك الخيار، الآن تريد أن تتحلَّل من وعدك، لك ما تشاء، ولا داعي لسبِّي وإهانتي، ليذهب كلٌّ منَّا إلى حال سبيله في سلام.

أهذا قصارى جهدها في الحرص عليك؟! ألم تكن تكون أسعد حالًا لو — في سبيل امتلاكك — أنشبت فيك الأظافر؟ استمدَّ من ألمك غضبًا: سيذهب كلٌّ منَّا إلى حال سبيله، غير أني أردتُ أن أصارحك برأيي فيك قبل أن أذهب، لا أنكر أني سعيت إليك بنفسي، ربما لأنَّ النفس تولع أحيانًا بالقاذورات، فهجرت من كنتِ تسعدين بخدمتهنَّ كي أرفعك إلى هذه الحياة؛ لذلك لا أدهش لأني لم أحظَ عندك بما حظيت به عندهنَّ من الحب والتقدير، ذلك أن القذر لا يُقدر إلا من كان على شاكلته، وقد آن لي أن أربأ بنفسي عنك، وأن أعود إلى حظيرتي الأولى.

بدا في وجهها القهر، قهر مَن يَحجزه الخوف عن التنفيس عن صدره المستعر، وتمتمت بصوت مرتعش النبرات: مع السلامة، اذهب ودعني في سلام.

قال بحنَق وهو يكظم آلامه: لقد نزلتُ فهُنت.

هنا أفلت الزمام، فصاحت به: حسبُك، كفاية، ارحم الحشرة القذرة واحذرها، اذكر كيف كنت تُقبِّل يدها والخشوع في عينيك، نزلت فهنت؟ … هه؟ … الحق أنك كبرت، قبلتُك على كبر، وها أنا أتلقى الجزاء.

لوَّح بعصاه وهو يصيح بغضب: اخرسي يا بنت الكلب، اخرسي يا دون، لمِّي ثيابك وغادري العوامة.

فصاحت بدورها وهي ترفع رأسها في تشنج: املأ أذنَيك بما أقول، كلمة أخرى أملأ عليك العوامة والنيل والطريق صواتًا حتى تحضر الحكمدارية كلها، سامع؟ … لست لقمة سائغة، أنا زنوبة والأجر على الله، اذهب أنت، هذه العوامة عوَّامتي، وعقد إيجارها باسمي، فاذهب بالسلامة قبل أن تذهب في زفة.

لبث قليلًا كالمتردِّد ينظر إليها باحتقار وازدراء، ولكنه عدَل عن مغامرة قاسية تفاديًا من الفضيحة، ثم بصق على الأرض، ومضى إلى الخارج في خطوات واسعة ثابتة.

٣٠

ذهب من تَوِّه إلى الإخوان، فوجد محمد عفت، وعلي عبد الرحيم، وإبراهيم الفار، وآخرين. شرب حتى سكر كعادته وتعدَّى عادته، وضحك كثيرًا، وأضحك كثيرًا، ثم مضى في الهزيع الأخير من الليل إلى بيته فنام نومًا عميقًا. واستقبل مع الصباح يومًا هادئًا، خلا في أوله من الفكر، وكان كلما نزع به الخيال إلى منظرٍ من مناظر حياته القريبة أو الماضية صده بعزم، اللهم إلا منظرًا واحدًا رحب باستعادته عن طيب خاطر، ذلك هو المنظر الأخير الذي سجَّل انتصاره على المرأة وعلى نفسه معًا، وراح يؤكد الأمر لنفسه فيقول: «انتهى كل شيء والحمد لله، ولأكوننَّ شديد الحذر فيما يقبل من أيام حياتي.»

بدا اليوم هادئًا في مطلعه، فاستطاع أن يفكر في فوزه المبين، وأن يهنئ نفسه عليه، ولكن انقلب اليوم بعد ذلك خاملًا بل خامدًا، فلم يجد من تفسير لذلك إلا أنه رد الفعل للجهد العصبي المضني الذي بذله في اليومين الماضيَين، بل في الأشهر الماضية على تفاوت في الدرجة؛ إذ الحق أن مُعاشرته لزنوبة بدت لعينيه في تلك اللحظة مأساة خاسرة من أولها لآخرها. لم يكن من الهيِّن عليه أن يسلم بأول هزيمة تلحقه في حياته الغرامية الطويلة، كان لذلك رجع شديد الأثر في قلبه وخياله، وكان يثور كلما همس له عقله بأن الشباب قد ولى، معتزًّا بقوته وجماله وحيويته، ثم يصر على ذلك التعليل الذي جاهر به المرأة أمس وهو أنها لم تحبَّه؛ لأن القذر لا يُقدِّر إلا القذر! لشد ما تشوَّق طوال يومه إلى مجلس الإخوان، فلما دنا موعده نفد صبره فمضى متعجلًا إلى بيت محمد عفت بالجمالية، فاجتمع به قبل أن يتوافد الإخوان، وسرعان ما قال له: انتهيت منها.

فتساءل محمد عفت: زنوبة؟

فأومأ بالإيجاب، فتساءل الآخر باسمًا: بهذه السرعة؟

ضحك كالساخر، ثم قال: هل تُصدقني إذا قلت: إنها طالبتني بالزواج حتى ضقت بها؟

فضحك كالساخر، ثم قال: زبيدة نفسها لم تُفكِّر في ذلك، يا للعجب! لكنها معذورة، فقد وجدتك تُدلِّلها أكثر مما تحلم به فطمعت في المزيد.

فغمغم السيد أحمد قائلًا باستهانة: مجنونة.

فضحك محمد عفت مرة أخرى، وقال: لعلها تهالكَت في حبك؟

يا لها من طعنة! اضحك بقدر ما تجد من ألم.

– قلت: إنها مجنونة وكفى.

– وماذا فعلت؟

– صارحتها بأنني ذاهب إلى غير رجعة، وذهبت.

– كيف تلقَّت ذلك؟

– سبَّت مرة، وهددت أخرى، وقالت: في داهية ثالثة، ثم تركتها كالمجنونة، كانت غلطة من بادئ الأمر.

قال محمد عفت وهو يهز رأسه مقتنعًا: نعم، ما منَّا إلا مَن ضاجعها، ولكن أحدًا لم يفكر حتى في مجرد معاشرتها.

تصول وتجول في ميادين الأسود، ثم تُهزَم أمام فأرة، أخف عارك حتى عن أقرب المقرَّبين، واحمَدِ الله على أن كل شيء قد انتهى.

لكن شيئًا في الواقع لم يَنته، لم تبرح مخيلته، وصحَّ لديه فيما تلا ذلك من أيام أن تفكيره فيها لم يكن مجرَّدًا، ولكنه اقترن بألم عميق تزايد وتفشى، وصح لديه أيضًا أن ذلك الألم لم يكن غضبًا لكرامته فحسب، ولكن كان ألم الحسرة والحنين، وأنه فيما بدا عاطفة طاغية لا تَقتنع بأقل من تدمير من يعانيها. بيد أنه كان شديد الاعتزاز بما سجل ساعة انتصاره، فمنَّى نفسه بقهر مشاعره المستبدة الخائنة في مهلة تطول أو تقصر كيفما اتَّفق. ومهما يكن من أمر فقد غادره السلام فأمضى وقته متفكرًا مُجترًّا أحزانه، معذبًا بخيالاته وذكرياته. وكان يبلغ به الضعف أحيانًا أن يفكر في مصارحة محمد عفت بما ينوء به من آلام، بل تمادى به الخاطر مرة إلى حد الاستعانة بزبيدة نفسها، ولكنها كانت فترات ضعف كنوبات الحمى، ثم يُفيق إلى نفسه وهو يهز رأسه متعجبًا متحيرًا.

وقد صبغت أزمته سلوكه العام بلون من القسوة قاوَمَه ما استطاع بحلمه وكياسته، فلم يفلت منه الزمام إلا قليلًا، وهذا القليل لم يلحظه إلا الأصدقاء والمعارف الذين ألفوا منه الدماثة والتسامح والرقة، أما أهل بيته فلم يَفطنوا إلى شيء؛ لأن سلوكه حيالهم بقي هو هو لم يكد يتغير؛ إذ إن الذي تغير حقًّا هو العاطفة المُستترة وراءه فاستحالت من شدة مُصطنعة إلى شدة حقيقية لم يُدرك مداها سواه. على أنه هو نفسه لم ينجُ من قسوته هذه، بل لعله كان هدفها الأول، فيما حمل به على نفسه من تقريع وما عبرها به من مهانة، وأخيرًا بما أخذ يفر به رويدًا رويدًا من ذلِّه وتعاسته وهجران شبابه. ثم يعزِّي نفسه فيقول: لن أتحرَّك، لن أسيم نفسي مزيدًا من الذل، فلتَدُر بي الأفكار كل مدار، ولتنقلب بي العواطف كل منقلب، ولأبقينَّ حيث أنا لا يعلم بألمي إلا الله الغفور الرحيم. لكنه ما يدري إلا وهو يسائل نفسه: ترى ألا تزال في العوامة أم تركتها؟ وإذا كانت بها، فهل ما يزال لديها بقية من ماله تغنيها عن الناس، أم يكون الرجل قد لحق بها هنالك؟ تساءل كثيرًا وفي كل مرة يَلقى عذابًا ينفذ من روحه إلى لحمه وعظمه فيهصره هصرًا. لم يكن يجد شيئًا من القرار إلا عند استحضاره المنظر الأخير في العوامة الذي أوهمها فيه — وتوهَّم — أنه نبذها وعلا عليها، ولكنه كان يستدعي مناظر أخرى سجلت ذله وضعفه، ومناظر غيرها سجَّلت ألوانًا من السعادة لا تُنسى. وخلق الخيال له مناظر جديدة التقيا فيها، فتشاجرا وتحاسبا وتعاتبا، ثم أدركهما سلام الصلح والوصال … حلم كثيرًا ما يتراءى له في عالم الباطن الزاجر بما لا يُحصى من ألوان الشقاء والسعادة. لمَ لا يتأكَّد بنفسه مما طرأ على العوامة وسكانها؟ في الظلام يستطيع أن يسير هنالك دون أن يراه أحد.

وذهب متسترًا بالظلام كاللص، فمرَّ أمام العوامة، ورأى النور يوصوص من خصائص النافذة، ولكنه لم يدرِ إن كانت هي التي تستضيء به أم ساكن جديد، بيد أن قلبه شعر بأن النور نورها هي دون غيرها، وخُيِّل إليه وهو يتطلَّع إلى العوامة أنه يستشف روح صاحبتها، وأنه ليس بينه وبين رؤيتها رؤية العين إلا أن يطرق الباب فيفتح عن وجهها كما كان يفتح في الأيام الذاهبة، السعيد منها والتعيس على السواء، ولكن ما عسى أن يفعل لو طالعه وجه الرجل؟ حقًّا إنها قريبة ولكن ما أبعدها! وقد حرم عليه هذا المعبر إلى الأبد. آه … هل مرت به هذه الحالة في حلم من الأحلام؟! قالت له: اذهب، قالتها من قلبها، ثم مضت في سبيلها كأنه لم يَعرض لها يومًا، وكأنها لا تشعر له بوجود! إذا كان الإنسان بهذه القسوة، فكيف يتطلَّع إلى طلب الرحمة أو المغفرة!

وذهب مرات ومرات حتى صار التردُّد أمام العوامة بعد جثوم الليل عادة يمرُّ بها قبل ذهابه إلى مجلس الإخوان، ولم يبد عليه أنه يُريد أن يفعل شيئًا ذا بال، وكأنه كان يرضي بها حب استطلاع عقيم جنوني، وكان يهم بالعودة مرة إذ انفتح الباب وخرج شبح لم يتبينه في الظلام، فدق قلبه في خوف ورجاء، ثم عبر الطريق مسرعًا ووقف في جوار شجرة وعيناه تُحملقان في الظلام. قطع الشبح المعبر الخشبي إلى الطريق ثم سار في اتجاه جسر الزمالك، فوضح له أنه امرأة … وحدثه قلبه بأنها هي، وتبعها عن بُعد وهو لا يدري على أي وجه تنتهي الليلة، هي أو غيرها فماذا يقصد؟ غير أنه واصل سيره مركزًا انتباهَه في شبحها. ولما بلغت الجسر ودخلت في مرمى مصابيحه توكد إحساس قلبه وأيقن أنها زنوبة، غير أنها كانت مُلتفَّة في الملاءة اللف التي تخلَّت عن ارتدائها طوال معاشرتها له. عجب لذلك وتساءل عن معناه فظن — ما أكثر ظنونه — وراءه أمرًا. رآها تتَّجه إلى محطة ترام الجيزة وتنتظر، فسار محاذيًا للحقول حتى جاوز الموضع قبالتها، ثم عبر إلى ناحيتها ووقف بعيدًا عن مرمى بصرها. وجاء الترام فاستقلَّته، وعند ذاك هرول إليه فركب جاعلًا مجلسه في نهاية المقعد المطلَّة على السلَّم ليراقب النازلين. وعند كل محطة راح يتطلع إلى الطريق، وقد زايله الإشفاق من اكتشاف أمره؛ لأنه حتى إذا وقع فقد فاتها أن تعلم أنه كان يرصدها أمام العوامة مُتجسِّسًا. نزلت في العتبة الخضراء فنزل وراءها، ورآها تتجه إلى الموسكي مشيًا على الأقدام، فتبعها على بُعدٍ مرحبًا بظلمة الطريق. ترى هل عاودت الاتصال بخالتها؟ أم تراها ماضية إلى السيد الجديد؟ ولكن ماذا دعاها إلى الذهاب إليه وعندها عوَّامة تنادي العاشقين؟ وبلغت حي الحسين فضاعف انتباهه أن تَضيع منه في زحمة الملاءات اللف. لم تستبن له غاية وراء هذه المطاردة الخفية، ولكن كان مدفوعًا برغبة في الاستطلاع أليمة وعقيمة وإن تكن في نفس الوقت عنيفة لا تجدي معها المقاومة … سارت أمام الجامع فاتجهت إلى حارة الوطاويط حيث يقلُّ المارة ويلبد الشحاذون المتعبون، ثم إلى الجمالية حتى مالت إلى قصر الشوق فتبعها مشفقًا من أن يَلقاه ياسين في الطريق أو يراه من نافذة، فارتأى إن صادفه أن يزعم له أنه ذاهب لزيارة صديقه غنيم حميدو صاحب معصرة الزيوت وجار ياسين بقصر الشوق. وما يدري إلا وهي تنعطف إلى أول حارة، تلك الحارة التي لم يكن بها من بيت إلا بيت ياسين، فدقَّ قلبُه بقوة وثَقُلت قدماه، كان يعرف سكان الدورَين الأول والثاني، وهما أسرتان لا يمكن أن تربطهما بزنوبة رابطة. وزاغ بصره قلقًا واضطرابًا، غير أنه وجد نفسه يميل إلى العطفة غير مقدِّر للعواقب، فاتجه نحو الباب حتى ترامى إلى سمعه وقع الأقدام الصاعدة، ثم دخل بئر السلم رافعًا رأسه منصتًا إلى وقع الأقدام فشعر بمرورها بالباب الأول ثم الثاني، ثم وهي تَطرُق باب ياسين!

تسمَّر في مكانه وهو يلهث، فدار رأسه وشعر بخور وتهدُّم، ثم تنهد من الأعماق، وانتزع نفسه من موضعه راجعًا من حيث أتى، وقد غاب الطريق عن عينيه في زحمة الأفكار، وارتطام الخواطر.

ياسين كان الرجل! فتُرى هل علمت زنوبة بعلاقته الأبوية بياسين؟ وراح يدفع الطمأنينة في نفسه كما يدفع سدادًا غليظًا في فوَّهة ضيقة قائلًا: إنه لم يجرِ على لسانه ذكرٌ لأحد أبنائه أمامها، فضلًا عن أنه من غير المعقول أن يكون ياسين واقفًا على سرِّه، وإنه ليذكر كيف جاءه منذ أيام لينهي إليه طلاق مريم، فطالَعه بوجه المُذنب المرتبك، ولكن في براءة وإخلاص لا تشوبهما شائبة، وإنه ليفترض كل شيء إلا أن يقدم ياسين على خيانته وهو عالم بما يفعل، بل من أين لياسين أن يعلم بأن أباه ذو صلة أو كان ذا صلة بأيِّ امرأة في الوجود، فله أن يطمئن من هذه الناحية، وحتى إذا كانت زنوبة قد عرفت علاقته بياسين، أو إذا عرفتْها يومًا من الأيام، فلن تُطلع ياسين على سرٍّ خليق بأن يقطع ما بينهما، وواصل السير مؤجِّلًا الذهاب إلى الإخوان ريثما يسترد أنفاسه، ويملك جنانه فمضى في اتجاه العتبة على تعبه وإعيائه.

أردتَ أن تعرف وها أنتَ قد عرفت، ألم يكن الأفضل أن تَنفض يديك من الأمر كله قانعًا بالصبر؟ احمد الله على أن الظروف لم تجمعك بياسين وجهًا لوجه في بؤرة الفضيحة، كان ياسين هو الرجل، متى عرفتْه؟ وأين؟ وكم من مرة خانته معه وهو لا يدري؟ أسئلة لن تبحث لها عن جواب، افترض إذا شئت أسوأ الفروض، فلن يُغيِّر هذا من الأمر شيئًا، وهل عرفها قبل أن يُطلِّق مريم أم بعد الطلاق أم كانت الشيطانة الباعث على الطلاق؟ أسئلة أخرى لن تعرف الجواب عنها ولن تبحث عنه، فافترض أسوأ الفروض أيضًا إراحة لرأسك المصدوع. ياسين كان الرجل! قال: إنه طلَّقها لقلة أدبها! كلام كان يُمكن أن يُعلِّل به طلاق زينب لو لم يطلع هو على السبب الحقيقي حال وقوعه، سوف تعرف الحقيقة يومًا، ولكن ماذا يُهمك من أمرها؟ ألا زلت مشغوفًا بالجري وراء الحقيقة؟ أنت مبعثر الرأس معذَّب القلب، أيُمكن أن تغار من ياسين؟ كلا، ليست هذه بالغيرة، على العكس مما تظن أنت خليق بالتعزي، إذا لم يكن بدٌّ من أن يكون لك قاتل فليكن ابنك هو قاتلك، ياسين جزء منك، جزء منك انهزم، وجزء منك انتصر، أنت المغلوب، وأنت الغالب، ياسين قلب مغزى المعركة، كنت تشرب كأسًا مزاجها الألم والهزيمة فصار مزاجها الألم والهزيمة والفوز والعزاء، لن تتحسَّر على زنوبة بعد اليوم، غاليت في الاعتداد بنفسك، عاهد نفسك على ألا تُسقط الزمن من حسابك بعد الآن، ليتك تستطيع أن تُوجِّه هذه النصيحة إلى ياسين حتى لا يؤخذ على غرة إذا جاء دوره، أنت سعيد، لا داعي للندم، ينبغي أن تواجه الحياة بخطة جديدة، وقلب جديد، وعقل جديد. دع الراية في يد ياسين، وسوف تُفيق من دوارك ويمضي كل شيء وكأنه لم يكن، لن يُتاح لك أن تجعل من حوادث الأيام الأخيرة حديثًا يُدار على مائدة الإخوان كسابق عهدك، علَّمتْك هذه الأيام المخيفة أن تَطوي الصدر على أمور كثيرة، آه … ما أعظم تشوُّقي إلى الشراب!

أثبت السيد أحمد في الأيام التالية أنه أقوى مما اعترضه من أحداث، فسار في طريقه قدمًا، وقد ترامت إليه أنباء طلاق ياسين على حقيقتها من السيد علي عبد الرحيم نقلًا عن غنيم حميدو وآخرين، وإن لم يتعرَّف الراوُون على حقيقة المرأة التي نجم عن مغامرتها طلاق الزوجة. وابتسم السيد، وضحك طويلًا من كل شيء، وكان ماضيًا إلى بيت محمد عفت — ذات مساء — حين شعر بثقل قبيح في أعلى الظهر والرأس حتى لهث. لم يكن الأمر جديدًا كل الجدة، فقد جعل الصداع ينتابه كثيرًا في الأيام السابقة، ولكنه لم يشتَّد عليه كهذه المرة. ولما شكا حاله إلى محمد عفت أمر له بقدح من شراب الليمون المثلوج. وأمضى سهرته حتى نهايتها. ولكنه استيقظ في اليوم التالي أسوأ حالًا من الأمس، وبلغ به الضجر أن فكَّر في استشارة الطبيب، والواقع أنه لم يكن يفكر في استشارة الطبيب إلا حين الضرورة القصوى.

٣١

تتطور الأشياء بالمناسبات كما تتطوَّر الألفاظ بما يستجدُّ من معانٍ جديدة، لم يكن قصر آل شداد في حاجة جديدة كي يَزداد في عينَي كمال جلالًا، ولكنه بدا في ذلك المساء من ديسمبر في زي جديد من أزياء الحياة. أريقت عليه الأنوار حتى غمرته. أجل، كان كل ركن من أركانه وكل موضع من جدرانه يتقلَّد عقدًا من اللآلئ المضيئة … مصابيح كهربائية مختلفة الألوان تُومض فوق رقعة جسده من أعلى السطح إلى أسفل الجدار، كذلك السور الكبير، والباب الضخم، كذلك أشجار الحديقة بدَت كأنما استحالت أزهارها وثمارها أنوارًا حمرًا وخضرًا وبيضًا، ومن النوافذ جميعًا انبعثت الأضواء، فكل شيء يهتف مؤذنًا بالفرح. وعندما رأى كمال وهو مقبل ذلك المنظر آمن بأنه يحج إلى مملكة النور لأول مرة في حياته، وازدحم الطوار المُواجِه لمدخل البيت بالغلمان، وفُرِش المدخل برمل فاقع لونه كالذهب، وفتح الباب على مصراعيه، كذلك باب السلاملك فلاحت من داخله نجفة كبيرة في سقف البهو المُعَد لاستقبال المدعوِّين، على حين امتلأت الشرفة العليا الكبيرة بمجموعة وضيئة من الغيد في ثياب السهرة البهيجة. ووقف شداد بك وجماعة من رجال الأسرة في مدخل السلاملك يستقبلون الوافدين، أما شرفة السلاملك فقد ازدانت برجال أوركسترا عجيب ترامَت أنغامه إلى حدود الصحراء.

ألقى كمال على المنظر كله نظرة شاملة سريعة، ثم تساءل: ترى أعائدة في الشرفة العليا بين المُطِلات؟ وهل وقعت عيناها عليه وهو يقبل مع المُقبِلين بقامته الفارعة، وزينته الكاملة، والمعطف على ساعده، يتقدمه رأسه الكبير وأنفه الشهير؟ لم يخلُ من إحساس بالارتباك وهو يجتاز الباب، ولكنه لم يتجه إلى السلاملك كالآخرين، وإنما مال إلى «ممرِّه» القديم المُفضي إلى الحديقة كما نبه حسين شداد من قبل كي يُتاح لجماعتهم البقاء معًا أطول مدة ممكنة في الكشك المحبوب. كأنما كان يخوض بحرًا من نور، وقد وجد السلاملك الخلفي — كالأمامي — مفتوح الباب، مُضاءً بالأنوار، يعج بالمدعوين، كذلك الشرفة العليا معمورة بأسراب الحسان، أما في الكشك فلم يجد سوى إسماعيل لطيف في بدلة سوداء أنيقة أضفَت على منظره العُدواني هيئة لطيفة لم يره في مثلها من قبل. ألقى إسماعيل عليه نظرة سريعة، ثم قال: بديع، لكن لِمَ أتيت بالمعطف؟ حسين لم يَمكُث معي إلا ربع ساعة، ولكنه سيعود إلينا حين يفرغ من الاستقبالات، أما حسن فقد لبث معي دقائق ولا أظنه سيتمكَّن من مجالستنا كما نودُّ، هذا يومه وله عنا أمور تغنيه، كان حسين يفكر في دعوة بعض الزملاء إلى هنا، ولكني منعته فاكتفى بأن يدعوهم إلى مائدتنا، سيكون لنا مائدة خاصة، هذا أهم خبر أزفُّه إليك الليلة.

هنالك ما هو أهم، سوف أعجب من نفسي طويلًا لقبولي هذه الدعوة، لِمَ قبلتُها؟ لتبدو كأنك لا تُبالي، أم لأنك غدوت مغرمًا بالمغامرات المخيفة؟

– هذا حسن، ولكن لمَ لا نذهب ولو قليلًا إلى البهو الكبير لنُشاهِد المدعوين؟

قال إسماعيل لطيف بازدراء: لن تحظى بما تُريد حتى لو ذهبنا، فإن الباشوات والبكوات خُصُّوا بالبهو الأمامي وحدهم، فإذا ذهبت فستجد نفسك بين الشباب من الأهل والأصدقاء في البهو الخلفي، وليس هذا ما تُريد، وددتُ لو أمكن أن نندسَّ في الحجرات العليا التي تموج بأفخر مُثُل الجمال.

– مثال واحد يَعنيني، مثال المُثُل، الذي لم تقع عليه عيناي منذ يوم الاعتراف، هتك سرِّي وذهب.

لا أكتمك أني مشوق إلى رؤية الكبراء، قال حسين لي: إن والده قد دعا كثيرين ممن أقرأ عنهم في الصحف.

ضحك إسماعيل ضحكة عالية، وقال: أتحلم بأن ترى كبيرًا وله أربع أعين أو ستُّ أرجل؟ إنهم أناس مثلي ومثلك فضلًا عن أنهم طاعنون في السن وذوو منظر لا يسرُّ كثيرًا، إني أفهم سرَّ تطلُّعك إليهم، ما هو إلا ذيل لاهتمامك المُفرط بالسياسة.

يجدر بي ألا أهتم بشيء ما في هذه الدنيا، لم تَعُد لي ولم أعد لها، غير أن اهتمامي بالكبراء مُستمَد في الحقيقة من هُيامي بالعظمة، أنت تود أن تكون عظيمًا لا تنكر، ولك مؤهلاتك الواعدة من خلقة سقراط وآلام بتهوفن، أنت مدين بهذا التطلُّع للتي حرمتك النور بذهابها، غدًا لن تجد لها أثرًا في مصر كلها، يا جنون الألم! إن لك لسكرة! … قال بتشوُّف: قال لي حسين: إن الحفلة ستجمع بين رجالٍ من جميع الأحزاب.

– صحيح، بالأمس دعا سعد الأحرار والوطنيين إلى حفلة الشاي المعروفة بالنادي السعدي، واليوم شداد بك يدعوهم إلى زفاف كريمته، رأيتُ من أصدقائك الوفديين: فتح الله بركات، وحمد الباسل، وجاء من الآخرين: ثروت، وإسماعيل صدقي، وعبد العزيز فهمي. شداد بك يعمل بهمة عالية، وحسنًا فعل، لقد ولى عهد أفندينا، كان الشعب يَهتف منشدًا «الله حي … عباس جي!» ولكن الحقيقة أنه ذهب إلى غير رجعة، فكان من الحكمة أن يعمل شداد بك للمُستقبل حسابه، ويجب أن يسافر كل أعوام قلائل إلى سويسرا ليُقدم إلى الخديو فروض طاعة كاذبة من باب الحيطة، ثم يعود ليواصل سيره الموفق.

قلبُك يَمقت هذه الحكمة، إن محنة سعد بالأمس القريب أثبتت أن الوطن مليء بهؤلاء الحكماء، ترى أشداد بك واحد منهم؟ والد المعبودة؟ مهلًا إن المعبودة نفسها نزلت من علياء السماء لتَقترن بواحد من البشر، ليتفتَّت قلبك حتى يعجزك لم أجزائه المتناثرة.

– تصور أن حفلة كهذه تمضي بلا مُطرب ولا مطربة!

قال إسماعيل بلهجة ساخرة: آل شداد نصف باريسيين، ينظرون إلى تقاليد الأفراح بازدراء غير قليل، ولا يسمحون لعالِمة بأن تحيي حفلة في بيتهم، ولا يعترفون بمطرب من مُطربينا، ألا تذكر حديث حسين عن هذا الأوركسترا الذي أراه الليلة لأول مرة في حياتي؟ إنه يعزف مساء الأحد من كل أسبوع في جروبي، وسيَنتقِل إلى البهو بعد العشاء ليُطرب الكبراء، دع هذا واعلم أن زينة الليلة هي العشاء والشمبانيا.

جليلة وصابر، وزفاف عائشة وخديجة؟ شتان بين الجوَّين، كم كنت سعيدًا في تلك الأيام! الليلة يُشيِّع الأوركسترا حلمك إلى القبر، أتذكر الذي رأيت من ثُقب الباب؟ … أسفي على الآلهة التي تتمرَّغ في التراب!

– هذا شيء يهون، الذي آسف عليه حقًّا وسآسف عليه طويلًا هو أنني لم أتمكَّن من مشاهدة الكبراء عن كثب، كنت أتطلع إلى سماع حديثهم لأفهم أمرَين هامَّين: أولهما الموقف السياسي على حقيقته، وهل بات من المأمول حقًّا بعد الائتلاف أن يعود الدستور والحياة النيابية؟ والثاني كلام هؤلاء الناس العادي الذي يَتبادلونه في مناسبة سعيدة كهذه، أليس بديعًا أن تُصغي إلى ثروت باشا مثلًا وهو يثرثر ويمزح؟

قال إسماعيل لطيف وهو يتظاهر الاستهانة وإن نمَّت حركات الاستهانة نفسها عن مباهاة: أتيح لي أكثر من مرة أن أجلس مع أصدقاء أبي من أمثال سليم بك والد حسن وشداد بك، أؤكِّد لك أنك لن تجد لديهم ما يستحق هذا الاهتمام.

من أين جاء الفارق إذن بين ابن المستشار وابن التاجر؟ كيف كان جلُّ حظ أحدهما أن يعبد المعبود على حين يتزوج الآخر منه؟ أليس هذا الزواج آية على أن هؤلاء القوم من طينة غير طينة البشر؟ لكنك لا تدري كيف يتكلَّم أبوك بين أصحابه وأقرانه.

– على أي حال سليم بك ليس من العظماء الذين أعني.

ابتسم إسماعيل لهذه الملاحظة الأخيرة دون أن يعلق عليها. هذه الضحكات تجيء من الداخل مفعمة بالغبطة، وأخرى تهبط من الشرفة العليا مُعبقة بشذا الأنوثة الساحر، وبين هذه وتلك تجاوب كالذي بين أنغام الآلات المترامية من بعيد تستقبلها الأذن وحدة حينًا، وطاقة من ألحان شتى حينًا آخر، ثم تكون كلها — الضحكات والأنغام — إطارًا ورديًّا يبدو فيه القلب الحزين المترع بالوحشة كبطاقة سوداء في طاقة ورد.

وما لبث حسين شداد أن جاء مُتهلِّلًا بقامته الفارعة ووجهه المتألِّق يختال في الردنجوت. فتح ذراعيه عندما اقترب ففعل كمال مثله وتعانَقا بحرارة، ثم لحق به حسن سليم في بزته الرسمية، جميلًا في كبريائه الطبيعي الملفوف في مظهره المؤدب المهذب وإن بدا إلى جانب حسين قصيرًا صغيرًا، فتصافحا أيضًا بحرارة، وهنأه كمال من أعماق لسانه. وقال إسماعيل لطيف بصراحته المعهودة التي لا تكاد في أغلب الأحيان تتميَّز من المكر السيئ: كمال آسفٌ لأنه لم تُتح له مجالسة ثروت باشا وصحبه.

فقال حسن سليم بمرح غريب أطاح بتحفُّظه المعهود: فلينتظر حتى يُسجِّل مؤلفاته المنتظرة، وعندها يجد نفسه واحدًا منهم.

أما حسين شداد فقال مُحتجًّا: أهاوي تزمُّت أنت؟ إنما أريد أن تمر الليلة كلها ونحن مستمتعون بحريتنا الكاملة.

وقبل أن يجلس حسين استأذن حسن سليم مُنصرفًا؛ إذ كان في الواقع كالفراشة لا يستقر بموضع، ومد حسين ساقه أمامه، وراح يقول: غدًا يسافرون إلى بروكسل، سبَقاني إلى أوروبا، ولكن بقائي هنا لن يطول، وغدًا تكون مَلهاتي التنقل ما بين باريس وبروكسل.

وتنتقل أنت ما بين النحاسين والغورية، بلا حبيب ولا صديق، هذا جزاء مَنْ يتطلَّع إلى السماء، ستُردِّد بصرك بين أركان المدينة حائرًا، ولن تبرأ عيناك من لوعة الشوق، املأ رئتيك من هذا الهواء الذي تعبقه أنفاسها، غدًا سوف ترثى لنفسك.

– يُخيل إلي أنني سألحق بك يومًا.

تساءل حسين وإسماعيل معًا: كيف؟

لتكن كذبتك ضخمة كألمك.

– ثمة اتِّفاق بيني وبين أبي على أن أسافر في بعثة على حسابي الخاص بعد إتمام دراستي.

هتف حسين بسرور: لو تحقَّق هذا الحلم!

أما إسماعيل فقال ضاحكًا: أخاف أن أجد نفسي وحيدًا بعد بضع سنين!

تلاقت آلات الأوركسترا جميعًا في حركة متدفِّقة سريعة، أعلنت — فيما أعلنت — عما في كل آلة من مرونة وقوة، كأنما تشترك كلها في سباق عنيف بات الهدف منه في مرمى العين ومتناول الطموح، فسما بها اللحن إلى ذروته العليا، تلك الذروة التي تُوحي بتداني الختام. انجذب وعيه إلى الأنغام المستعرة رغم استغراقه بالشجن، فانخرط في عدوها حتى تدافع دمُه ولهثت منه الأنفاس، وسرعان ما داخلته رقة، وأسكرته أريحية جعلت من حزنه نشوة دامعة، فتنهد مع النهاية من الأعماق. وتملَّى أصداء اللحن المترنمة في روحه بانفعال وتأثر، فخُيل إليه أنه يتساءل: ألا يُمكن أن تنتهي عواطفه المتأججة في ذروتها إلى ختام كذلك؟ ألا يُمكن أن يكون للحب — كهذا اللحن وككل شيء — نهاية؟ وذكر أحوالًا مرت به في أوقات نادرة، فترات من الفتور حتى بدا وكأنه لم يبقَ من عايدة إلا اسمها، أتذكر هذه الفترات؟ وكان يهز رأسه حيرة، ثم يتساءل: هل انتهى حقًّا كل شيء؟ وإذا بخيال يطوف، أو فكرة تخطر، أو منظر يُرى، فيستيقظ من غفوتِه ويَلقى نفسه غريقًا في بحر الهوى مُكبلًا بأصفاد الأسر. جرب إذا حلَّت بك فترة من هذه الفترات أن تقبض عليها بكل قواك، وألا تدعها تفلت حتى يستقرَّ بك الشفاء، أجل حاول أن تفني خلود الحب. قال حسين شداد باسمًا: بدأت الحفلة بتلاوة سورة على سبيل البركة.

القرآن؟ ما ألطف هذا! الباريسية الحسناء نفسها لا تستطيع أن تعقد قرانها إلا بمأذون وقرآن! وهكذا سيقترن زواجها في ذهنك بالقرآن والشمبانيا!

– حدثنا عن نظام الحفلة؟

قال حسين وهو يشير براحته إلى البيت: عما قليل يُعقد القران، وبعد ساعة يُدعى الجميع إلى الموائد، ثم ينتهي كل شيء، وتبيت عايدة هذه الليلة في بيتنا لآخر مرة، ثم تسافر مع الصباح إلى الإسكندرية لتستقلَّ بعد غدٍ الباخرة إلى أوروبا.

ستضيع منك مناظر ما أخلقها بالتسجيل لتكون زادًا لألمك الشره، كرؤية اسمها الجميل وهو يكتب في الوثيقة الشرعية، ومنظر وجهِها المتطلع إلى إعلان النبأ السعيد، ولون الابتسامة التي يفترُّ عنها ثغرها عند زفاف البشرى، ثم منظر العروسين وهما يتلاقيان، حتى ألمك يُعوزه الزاد.

– وهل يعقد القران مأذون؟

– طبعًا.

هكذا أجاب حسين، أما إسماعيل فضحك ضحكة عالية، وقال: بل قسِّيس!

أي سخافة في سؤالك! … سل أيضًا هل يبيتان الليلة معًا! أليس من المُحزن أن يسدَّ مجرى حياتك رجل لا شأن له كهذا المأذون؟ ولكن دودة حقيرة هي التي تأكل جدَثَ أكبر الكبراء. فكيف ستكون جنازتك حين يحمُّ القضاء؟ شيء هائل يملأ الطريق أم لمَّة تمضي؟ … وإذا بالصمت يشمل البيت حتى استحال نورًا بلا تغاريد فشعر بخوف وانقباض. الآن في مكان ما، لعلها هذه الحُجرة أو تلك. ثم لعلعت زغرودة طويلة مُجلجلة أحيت ذكرى قديمة، زغرودة كتلك الزغاريد التي عرفها من قبل فلا تمتُّ إلى باريس بسبب، ثم تبعتْها زغاريد مجتمعة كالصواريخ، لشدَّ ما يبدو هذا القصر الليلة كأي بيت من بيوت القاهرة. وتابعت دقات قلبه الزغاريد حتى لهث، ثم سمع إسماعيل يُهنِّئ فهنأ بدوره، وتمنَّى عند ذاك لو كان منفردًا، ثم تعزى بأنه سينفرد بنفسه أيامًا وليالي فوعد ألمه بزاد لا يفنى. وانبعثت الأوركسترا تعزف مقطوعة يعرفها حق المعرفة هي «العفو يا سيد الملاح»، فنادى قدرته الهائلة على التحمُّل والتصبر وإن كانت كل قطرة من دمه تطرق جدران عروقه مؤذنة بأن كل شيء قد انتهى، إنَّ التاريخ نفسه قد انتهى، إنَّ الحقيقة جميعًا قد انتهت، إنَّ الأحلام التي فوق الحياة قد انتهت، وإنه يواجه الصخر المدبَّب الأطراف ولا شيء غيره. قال حسين متأملًا: كلمة ثم زغرودة ويدخل الواحد منَّا في دنيا جديدة، سوف نَعرف ذلك كلنا يومًا ما.

فقال إسماعيل لطيف: سوف أباعد ما استطعت بيني وبين ذلك اليوم.

– كلنا؟ إما السماء وإما لا شيء.

– لن أذعن لذلك اليوم أبدًا.

بدا عليهما أنهما لم يَكترثا لقوله، أو أنهما لم يحملاه على محمل الجد، بيد أن إسماعيل عاد يقول: لن أتزوَّج حتى أقتنع بأن الزواج ضرورة لا محيص عنها.

وجاء نوبيٌّ حاملًا أكواب الشربات، ثم تبعه آخر بصينية محملة بعلب الحلوى الفاخرة. علبة من البللور على قوائم أربع مذهبة، مموه زجاجها الكحلي بزخارف فضية، وقد انعقد عليها شريط أخضر من الحرير سُجِّل على لافتة هلالية في عقدته الحرفان الأولان لاسمَي العروسين «ع. ح». شعر وهو يتناول العلبة بارتياح لعلَّه كان أول شعور بالارتياح يحظى به في ذلك اليوم. فقد وعدته العلبة الفاخرة بأن معبودته ستترك وراءها أثرًا خالدًا كحبِّها، وأن هذا الأثر سيبقى ما بقي هو على الأرض رمزًا لماضٍ غريب، وحلم سعيد، وفتنة سامية، وخيبة رائعة. ثم لفه شعور بأنه ضحية اعتداء مُنكَر تآمَر به عليه القدر، وقانون الوراثة، ونظام الطبقات، وعايدة وحسن سليم، وقوة خفية غامضة لم يشأ أن يُسميَها … وتراءى له شخصه التعيس وهو يقف وحده أمام هذه القوى مجتمعة وجرحه يَنزف فلا يظفر بأسى. ولم يجد ما يرد به على هذا الاعتداء إلا ثورة مكبوتة حرمت من الإفصاح، بل أجبرته الظروف على التظاهر بالسرور كأنما يهنئ القوى الباغية على تنكيلها به، بل ونبذه خارج حدود البشرية السعيدة، فأضمر لها جميعًا حنقًا خالدًا ترك للمستقبل أمر تكييفه وتوجيهه، أجل شعر بأنه لن يأخذ الحياة بعد تلك الزغرودة الفاصلة مأخذًا سهلًا، أو يرضى فيها بالقريب، أو يتسامح معها تسامح الكرم والصفاء، وأن طريقه سيكون شاقًّا، عسيرًا، ملتويًا، غاصًّا بالمضض والغضاضة والألم، ولكنه لم يفكر في التراجع قبل الحرب وأبى الصلح، وأنذر وتوعد، غير أنه ترك للقدر اختيار الغريم الذي سينازله، والوسيلة التي سيحارب بها. قال حسين شداد وهو يزدرد ريقه المشرب بالشربات: لا تُعلن الثورة على الزواج، أعتقد — إذا أتيح لك أن تُسافر كما تقول — أنك ستجد زوجة تُعجبك.

كأنك لم تجد التي تعجبك هنا، ابحث عن وطن جديد لا يتأذَّى جنسه اللطيف بمنظر الرءوس الشاذة، والأنوف الكبيرة، إما السماء وإما الموت. قال وهو يهزُّ رأسه كالمقتنع: هذا رأيي.

فقال إسماعيل لطيف ساخرًا: أتعرف ماذا يعني الزواج من أوروبية؟ إنه كلمة واحدة «الظفر» بامرأة من أحطِّ طبقات الشعب، امرأة ترضى بأن تكون تحت رَجُل تشعر في أعماقها بأنه عبد من العبيد.

حظيت بهذه العبودية في وطنك الكريم لا في أوروبا التي لن تراها.

قال حسين مستنكرًا: مغالاة.

– انظر إلى المدرِّسين الإنجليز كيف يعاملوننا!

قال حسين شداد بحماس هو بالرجاء أشبه: الأوروبيون في بلادهم غيرهم في بلادنا.

هل من سبيل إلى قوة قاهرة تُبيد الظلم والظالمين؟ يا رب العالمين أين عدالتك السماوية؟

دعا الداعي إلى الموائد، فمضى الأصدقاء الثلاثة إلى السلاملك، ثم إلى حجرة جانبية تتفرع عن البهو الخلفي، فوجدوا مقصفًا صغيرًا يتَّسع لعشرة على الأقل، ولحق بهم شبان بعضهم من أقرباء آل شداد والبعض من أصدقاء المدرسة، ومع أن العدد دون الحد المقرَّر للمقصف وهو ما شكر عليه حسين من الأعماق، إلا أنهم سرعان ما اندفعوا إلى الطعام بقوة وعنف حتى ساد الجو نشاط السباق. وكان ينبغي لهم أن يتحرَّكوا دوامًا ليطوفوا بشتى ألوان الطعام التي امتدت صحافها على طول المائدة تفصل بين كل مجموعة منها وأخرى طاقة صغيرة من الورود. ولوَّح حسين بإشارة من يده إلى السفرجي، فجاء بقوارير الويسكي وزجاجات الصودا، فهتف إسماعيل لطيف: أقسم أني تفاءلت خيرًا بهذه الإشارة من قبل أن أعرف مغزاها.

ومال حسين على أذن كمال قائلًا برجاء: كأسًا واحدة من أجل خاطري.

وقالت له نفسه «اشرب» لا رغبةً في الشراب فإنه لم يعرفه، ولكن رغبة في الثورة، بيد أن إيمانه كان أقوى من حزنِه وتمرُّده. قال مبتسمًا: أما هذه فلا، شكرًا.

قال إسماعيل لطيف وهو يرفع كأسًا مترعة: لا حق لك في هذا، حتى الوَرِع يُبيح لنفسه السكر في حفلات الزفاف.

مضى يتناول طعامه الشهي في هدوء، وكان يُراقب بين حين وآخر الآكلين والشاربين، أو يشترك معهم في الحديث والضحك. إنَّ سعادة المرء تتناسَب تناسبًا طرديًّا مع عدد مرات شهوده لمقاصف الأفراح، ولكن هل مقصف الباشوات مثل مقصفنا؟ نَلتهم طعامهم ونُحقِّق معهم! شمبانيا! … هذه فرصة لتذوُّق الشمبانيا … شمبانيا آل شداد ماذا قلتم؟ ما للأستاذ كمال لا يقرب الخمر؟ لعلَّه ملأ بطنه فلم تعد تتَّسع لمزيد، الحق أني آكل بشهوة لا تُجارى، كأنما أعصاب معدتي لا تتأثَّر بالحزن، أو أنها تتأثر به تأثرًا عكسيًّا، هكذا تغديت في مأتم فهمي، امنعوا إسماعيل عن الأكل والشرب وإلا نفق، موت المنفلوطي وسيد درويش وضياع السودان أحداث كلَّلت زماننا بالسواد، لكن الائتلاف وهذا المقصف من أنباء زماننا السارة، أكلنا ثلاثة من الديكة الرومية وثمة رابع لم يُمسَس بعدُ … هو هذا! رباه إنه يشير إلى أنفي فيضجُّون جميعًا بالضحك. إنهم سكارى فلا تغضَب. اضحك معهم متظاهرًا بالاستهانة والمرح، أما قلبي فينتفض غضبًا، إن استطعت أن تغزو العالم فاغزُه، أما آثار هذه الليلة البهيجة فهيهات أن تنجو منها أبد الدهر، وهاك اسم فؤاد الحمزاوي تتناقله الألسن، عن تفوُّقه ونبوغه يتحدثون، فهل لذعتك الغيرة؟ سيكون حديثك عنه مدعاة لإكبارك ولو على نحو ما: كان طالبًا مجدًّا منذ طفولته.

– أتعرفه؟

أجاب حسين شداد عنه: والده موظف في متجر والد كمال.

في قلبي ارتياح لعَن الله القلوب.

قال كمال: كان والده ولا يزال الرجل المُجدَّ الأمين.

– وما تجارة والدك؟

كم أحيط «التاجر» في خيالي بهالة الإكبار، حتى قيل لك ابن تاجر وابن مستشار: تاجر جملة للبقالة.

الكذب أداة نجاة حقيرة، انظر إليهم كي تَستشفَّ ما يدور وراء أقنعة وجوههم، ولكن أي رجل في هذا البيت يُضارع أباك جمالًا وقوة؟

وعقب الانصراف عن الموائد عادت الأكثرية إلى مجالسها في البهو، وانطلق كثيرون إلى الحديقة يتمشون، فمرَّ وقت هادئ خامل، ثم أخذ المدعوون في الانصراف، أما الأهل فصعدوا إلى الدور الثاني ليُقدِّموا التهاني إلى العروسين، وما لبث الأوركسترا أن انتقل إليهم ليعزف مختاراته الرائعة في المجلس السعيد. ارتدى كمال معطفه، وحمل علبة الحلوى الفاخِرة، ثم تأبط ذراع إسماعيل وغادر سراي آل شداد، قال إسماعيل وهو يُلقي على صاحبه نظرة مخمورة: الساعة الحادية عشرة، ما رأيك في أن نتمشى في شارع السرايات حتى أفيق قليلًا؟ فوافق كمال عن طيب خاطر؛ لأنه وجد في المشي وقتل الوقت فرصة مواتية بيَّتها، فسارا معًا في نفس الطريق الذي سار فيه من قبل إلى جانب عايدة، يعترف لها بحبه ويبثُّها آلامه. لن يغيب عن رأسه منظر هذا الطريق ذي القصور الجليلة الصامتة، والأشجار الباسقة على جانبيه تطالع المساء بهدوء النفس المطمئنة وروعة الخيال السامي، ولن يفتأ قلبك كلما وطئته قدماك أو استدعاه خيالك يرعش باعثًا بخفقات الحنين والوجد والألم كالشجرة المقلقلة بالرياح ترمي أوراقها وثمارها، ومهما يكن من فشل رحلتك القديمة على أديمه فلن يَزال يدَّخر لك ذكرى حلم غابر، وأمل ضائع، وسعادة موهومة، وحياة دافقة مترعة بالمشاعر هي على أسوأ التقديرات خير من راحة العدم، ووحشة الهجر، وخمود العاطفة، وهل أنت واجد في مستقبلك زادًا للقلب إلا أماكن تتطلع إليها بعين الخيال، وأسماء تمدُّ لها آذان الشوق؟ تساءل كمال: تُرَى ماذا يحدث الآن في الدور الأعلى؟

فأجاب إسماعيل بصوت مُرتفِع أزعج الصمت الجاثم: أوركسترا يعزف مقطوعات غربية، العروسان فوق المنصَّة يبسمان وحولهما آل شداد وآل سليم، رأيتُ مثل هذا الجمع مرات عديدة.

عايدة في ثياب العرس! يا له من منظر! هل رأيت شيئًا كهذا ولو فيما يرى النائم؟

– وإلامَ يمتد الحفل؟

– ساعة على الأكثر كي يتمكَّن العروسان من النوم ما داما سيُسافران في الصباح إلى الإسكندرية.

كلمات كالخناجر، اغرز منها ما تشاء في قلبك.

غير أن إسماعيل عاد يقول مُتسائلًا: ولكن متى عرفَتْ ليالي الزفاف النوم؟

وضحك ضحكة عالية مُعربِدة، ثم تجشَّأ ونفخ أبخرة الخمر وهو يُقطِّب متأففًا، ثم بسط صفحة وجهه، وقال: ربنا لا يحكم عليك بنوم العشاق، لا نوم لهم يا عيني، لا يغرنَّك تحفظ حسن سليم، سيصول ويجول كالفحول حتى مطلع الصبح، هذا قضاء لا نجاة منه.

تذوَّقِ هذا النوع الجديد من الألم المقطر، رُوح الألم أو ألم الألم، ليكن عزاؤك أنك انفردت بألم لم يشعر به إنسان قبلك، وأنه سيهون عليك الجحيم إذا قُدِّر عليك يومًا أن تحملك الزبانية، وترقص بك فوق ألسنة لهيبه، ألم! لا لفقد الحبيب فإنك ما طمحت يومًا في امتلاكه، ولكن لنزوله من علياء سمائه. لتمرُّغه في الوحل بعد حياة عريضة فوق السحاب؛ لأنه رضي لخده أن يُقبَّل، ودمه أن يسفح، ولجسده أن يبتذل. ما أشد حسرتي وألمي!

– أحقٌّ ما يقال عن ليلة الدخلة؟

هتف إسماعيل: أتجهل بالله هذه الأمور؟

كيف يُقدِّسون الدنس!

– لا أجهلها طبعًا، كنت حتى زمن قريب لا أدري عنها شيئًا، وثمة أمور أود أن تعاد على مسمعي.

قال إسماعيل ضاحكًا: إنك تبدو لي أحيانًا أحمق أو أبله.

– دعني أسألك، أيهون عليك أن يُفعَل هذا بشخص تقدسه؟

تجشأ مرة ثانية حتى تطايرت رائحة الخمر اللعينة إلى أنف كمال، وقال: لا يوجد شخص يستحق أن يُقدَّس.

– ابنتك مثلًا، لو كان لك ابنة؟

– لا ابنتي ولا أمي، كيف جئنا نحن؟ هذا هو قانون الطبيعة.

نحن! الحقيقة نور لألاء، فغضَّ الطرف، وراء ستار القداسة الذي سجدتَ أمامه طيلة حياتك يعبثان كالأطفال، ما لكل شيء يبدو خاويًا! الأم … الأب … عايدة، كذلك ضريح الحسين … مهنة التجارة … أرستقراطية شداد بك، يا لشدة الألم!

– ما أقذر قانون الطبيعة.

تجشَّأ إسماعيل للمرة الثالثة، وقال وقد نمَّ صوته عن الضحك وإن لم يُسمع له ضحك: الحقيقة أن قلبك موجع، إنه يغنِّي مع المطربة الجديدة أم كلثوم «أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا».

كمال في انزعاج: ماذا تعني؟

فقال إسماعيل بلهجة تعمَّد أن تشي بسُكره أكثر من الواقع: أعني أنك تحبُّ عايدة.

رباه كيف افتضح سره.

– أنت سكران.

– هي الحقيقة، والجميع يَعرفونها.

هتف وهو يحملق صوبه في الظلام: ماذا تقول؟

– أقول: إنها الحقيقة، والجميع يعرفونها.

– الجميع؟ مَن هم؟ مَن افترى هذا عليَّ؟

– عايدة.

– عايدة؟

– عايدة هي التي أذاعَت سرَّك.

– عايدة؟ لا أصدق هذا، أنت سكران.

– نعم أنا سكران، ولكن هذه هي الحقيقة أيضًا، من فضائل السكران أنه لا يَكذب … (ثم بعد ضحكة رقيقة) … هل أغضبك هذا؟ عايدة كما تَعلم شابة لطيفة، طالما لفتت الأنظار سرًّا إلى عينيك المغرمتين وأنت لا تَدري، لا بدافع السخرية، ولكن لأنها تَتيه دلالًا بالمغرمين، وقد كاشفت حسن أول الأمر فوجَّه حسن نظري إليك مرات، ثم أفضى بالسرِّ إلى حسين، بل علمتُ أن سنية هانم سمعت عن العاشق الولهان كما كانوا يدعونك، وغير مُستبعَد أن يكون الخدم قد استرقوا السمع إلى ما دار عنك بين سادتهم، فالكلُّ يعرف قصة العاشق الولهان.

شعر بخور، وخُيِّل إليه أن الأقدام المتحرِّكة تطأ كرامته بقسوة، فانطبقت شفتاه على حزن مرير، أهكذا يُبعثَر السر المصون. وعاد الآخر يقول: لا تتأثَّر، كان الأمر كله دعابة بريئة صدرت عن قلوبٍ تُكنُّ لك الود، حتى عايدة لم تُذِع سرَّك إلا بدافع المباهاة!

– توهمَتْ فانخدعَت!

فقال إسماعيل ضاحكًا: إنكار حبِّك عبث كإنكار الشمس في رابعة النهار.

صمت كمال صمتًا مليئًا بالشجن والاستسلام، وفجأة تساءل: ماذا قال حسين؟

ارتفع صوت إسماعيل وهو يقول: حسين؟ إنه صديقُك الأمين، طالما أعلن عدم ارتياحه لأسلوب أخته البريء، وكان يُجيبها منوهًا بمزاياك؟

تنهَّد في ارتياح، إذا كان في الحب قد خاب أمله، فقد بقيت له الصداقة، آه كيف يسعه أن يدخل سراي آل شداد بعد الليلة؟

وقال إسماعيل بلهجة جدية كأنما يشجع صاحبه على مواجهة الموقف: كانت عايدة في حكم المخطوبة لحسن من قبل إعلان الخطوبة بأعوام، ثم إنها أكبر منك سنًّا، وهذه العواطف تُنسى عقب النوم، فلا تهتمَّ ولا تحزن.

هذه العواطف تُنسى! تساءل باهتمام غير خافٍ: أكانت تَسخر منِّي وهي تنوِّه بهذا الغرام المزعوم؟

– كلا، قلت لك إنها تَسعد بالحديث عن عشاقها.

كانت معبودتك إلهًا قاسيًا ساخرًا ينشرح صدره للهُزءِ بعابِديه، أتذكر يوم مثَّلَت برأسك وأنفك؟ ما أشبهها بقانون الطبيعة في قوته وقسوته، كيف هُرعت بعد ذلك متهلِّلة إلى ليلة الدخلة كأي فتاة؟ أما أمك فشيمتُها الحياء كأنما تشعر بذبها.

وكانا قد توغلا في الطريق فاستدارا راجعَين في صمت، كأنما قد تعبا من الحديث وشجونه. وما لبث إسماعيل أن اندفع يغني بصوت رديء: «يا ما شاء الله ع التحفجية»، ولكن الآخر لم يخرج عن صمته فضلًا عن أنه لم يبدُ عليه أنه انتبه إلى غنائه. ما أخجله! أُحدوثة كان، وكأنَّه بأهل البيت والأصدقاء والخدم وهم يتغامَزون من وراء ظهره وهو عنهم غافل. معاملة فظَّة لا يستحقها، فهل يكون هذا جزاء الحب والعبادة؟ ما أقسى المعبودة! وما أفظع الألم! لعل نيرون عندما غنى وروما تحترق كان ينتقم لحالٍ كحاله هذه. كن قائدًا غازيًا يختال على متن جواد، أو زعيمًا يُحْمَل على الأعناق، أو تمثالًا من صلب فوق سارية، أو ساحرًا يتصور في أي صورة شاء، أو ملاكًا يطير فوق السحاب، أو راهبًا منزويًا في صحراء، أو مجرمًا خطيرًا يزلزل الآمنين، أو مهرجًا يأسر الضاحكين، أو منتحرًا يهز الرائين، لو علم فؤاد الحمزاوي بقصته لقال له وهو يواري سخريته تحت طلاء أدبه المعهود: الحق عليك، فأنت الذي هجرتنا من أجل هؤلاء الناس، احتقرتَ قمر ونرجس فذُقْ هجر الآلهة. السماء أو لا شيء هذا هو جوابي. فلتتزوج كما تحب، وتذهب إلى بروكسل أو باريس، وليتقدَّم بها العمر حتى يذوي عودها الريان، فلن تظفر بحبٍّ كحبي. لا تنس هذا الطريق ففوق أديمه سكرتُ بخلَّب الآمال، ثم تجرَّعت غصص اليأس، لم أعد من سكان هذا الكوكب، غريب أنا وينبغي أن أحيا حياة الغرباء.

عندما مرا بسراي آل شداد في طريق العودة وجدا العمال عاكفين على نزع الزينات، وأسلاك المصابيح الكهربائية من فوق الجدران والأشجار، فتجرد البيت الكبير من حلية الزفاف واشتمل بالظلام، إلا حجرات ظَلَّ النور ينبعث من شرفاتها ونوافذها. انتهى الحفل وتفرق الجمع، وأذن الحال بأن لكلِّ شيء نهاية، وها هو يعود حاملًا علبة الحلوى كأنه طفل يلهى عن البكاء ببضع قطع من الشيكولاتة، وواصلا السير على مهل حتى بلغا مطلع الحسينية، فتصافَحا، وافترقا.

لم يكد كمال يتقدم في شارع الحسينية أمتارًا حتى توقف، ثم انقلب عائدًا إلى العباسية التي بدت مُقفرة مغرقة في النوم، وحث خطاه صوب سراي آل شداد، وعندما شارف البيت مال يمنة إلى الصحراء التي تَكتنفُه، وأوغل فيها حتى بلغ موضعًا فيما وراء السور الخلفي للحديقة يطلع على السراي على بُعد، وكان الظلام كثيفًا شاملًا يُطمئنُ الرقباء ستائره. ولأول مرة في ليلته شعر بالبرودة في ذلك الخلاء العاري، فحبَكَ المعطف حول جسده النحيل الطويل … تراءى له شبح البيت وراء سوره العالي كالقلعة الضخمة، فجالت عيناه باحثة عن هدف غالٍ حتى استقرتا على نافذة مغلقة يوصوص النور من خلال خصاصها في أقصى الجناح الأيمن من الدور الثاني. تلك غرفة العرس، الغرفة الوحيدة اليقظى في هذا الجانب من القصر، كانت بالأمس حجرة نومِ عايدة وبدور، وازَّينت الليلة لشهودِ أعجب ما جرت به المقادير. تطلَّع إليها طويلًا، أول الأمر بلهفة كأنه طائر مقصوص الجناح يتطلع إلى عُشِّه فوق الشجرة، ثم بحزن عميق كأنما يرى بعينيه مصرعه فيما وراء الغيب، ماذا يدور وراء هذه النافذة؟ … لو يُتاح له أن يتسلق هذه الشجرة في الحديقة ليرى! إن البقية الباقية من عمره ثمن زهيد يؤديه عن طيب خاطر لقاء نظرة خلال هذه النافذة، وهل قليل أن ترى المعبود في خلوة زفافه؟ كيف يقيمان؟ وكيف تلتقي العينان؟ وبأي حديث يتناجيان؟ وفي أي مكان من الدنيا ينزوي الآن كبرياء عايدة؟ إنه يتحرَّق شغفًا إلى الرؤية وإلى تسجيل كل كلمة تند، أو حركة تصدر، أو أمارة تنطق بها أسارير الوجه، بل إلى خطرات النفس، وتصورات الخيال، ونفثات العاطفة، وفورات الغرائز … كل شيء ولو كان بشعًا مرعبًا أو محزنًا مؤلمًا، ولتذهب الحياة بعد ذلك دون أسف. ولبث بمكانه والوقت يمضي، لا هو يبرح ولا النور ينطفئ، ولا خياله يملُّ التساؤل. ماذا كان يفعل لو كان في مكان حسن سليم؟ ودوَّخته الحيرة دون الجواب، إن العبادة لن تغني عن هذه الليلة شيئًا، وخلا العبادة من مطالب النفس لم يتوجَّه إلى عايدة، أما حسن سليم فمن طائفة لا تتقيَّد بالعبادة. هكذا يتعذب في الصحراء، وهنالك تُتبادَل قُبَل ممَّا عهده الناس، وتنهُّدات تتصبب عرقًا، وغيبوبة تنزُّ دمًا، وغلالة تَنحسِر عن جسد فانٍ، كهذا العالم الفاني، وآماله الخاوية، وأحلامه الطائشة … فابكِ ما بدا لك على هوان الآلهة، وليمتلئ قلبك بالمأساة. ولكن أين يمضي الشعور الباهر الرائع الذي نوَّر قلبه أربعة أعوام؟ لم يكن وهمًا ولا صدًى لوهم، إنه حياة الحياة، ولئن تسيطر الظروف على الجسد، فأي قوة تستطيع أن تتطاوَل إلى الروح، وهكذا لتبقينَّ المعبودة معبودته، والحب عذابه وملاذه، والحيرة ملهاته، حتى يقف أمام الخالق يومًا يسائله عما حيَّره من معضلات الأمور، آه لو يطَّلع على ما وراء النافذة، لو يكشف سر أسرار وجوده؟ … وكان البرد يقرصه أحيانًا، فيذكره بموقفه، وبالوقت الذي يمرُّ سادرًا، ولكن فيمَ يتعجل العودة؟ أيطمع حقًّا أن يطرق النوم جفونه هذه الليلة؟

٣٢

وقف الحنطور أمام دكان أحمد عبد الجواد، وقد لطَّخ عجلاته الوحل المتراكم في شارع النحاسين، والمياه المتجمعة في فجواته، فغادره السيد محمد عفت في جبة صوفية، ودخل الدكان وهو يقول باسمًا: جئناك بحنطور، وكان الأسلم أن نجيئك بقارب.

وكانت الأمطار قد انهملت يومًا ونصف يوم حتى سالت الأرض، وغرقت الحواري والأزقة، ومع أن السماء أمسكت — بعد ذلك — إلا أن تجهُّمها لم ينكشف، وظل وجهها متواريًا وراء سحاب جون أظل الأرض بمظلة قاتمة بعثت في الجو عكارة كأنها نذير ليلٍ بهيم. واستقبل أحمد عبد الجواد صاحبه بترحاب ودعاه إلى الجلوس، وما كاد محمد عفت يطمئن إلى مجلسه عند ركن المكتب حتى قال كأنما ليجلو سرَّ مجيئه: لا تعجب لمجيئي في هذا الجو رغم أننا سنلتقي في مجلسنا المعتاد بعد ساعات، ولكني اشتقت إلى الانفراد بك.

وضحك محمد عفت كأنما ليعتذر عن غرابة قوله، فضحك السيد أيضًا، ولكنها كانت ضحكة إلى التساؤل أقرب. وذهب جميل الحمزاوي — وكان ملتفعًا بكوفية ضمت قمة رأسه وما تحت ذقنه — إلى الباب، فنادى صبي قهوة قلاوون ليُحضر قهوة، ثم عاد إلى كرسيه وقد أعفاه المطر والبرد من العمل. أما السيد أحمد فقد حدَّثه قلبه بأن وراء الزيارة أمرًا، فقد وقعت في وقت لا تدفع إليه إلا ضرورة، إلى أن الأزمات النفسية التي عاناها الرجل منذ قريب، وما انتابه من مرض أخيرًا، كل أولئك جعله عرضة للقلق على غير عادته. غير أنه دارى قلقه بضحكة لطيفة، ثم قال: كنت قبيل حضورك أتذكَّر سهرة الأمس، وأستعيد منظر الفار وهو يرقص، الله يقطعه.

فقال محمد عفت باسمًا: كلنا تلاميذك، وبهذه المناسبة دعني أنقل إليك ما يُشيعه علي عبد الرحيم عنك، إنه يقول: إنَّ الصداع الذي انتابك في الأسابيع الماضية ما هو إلا عارض لخلوِّ حياتك من النساء في الأيام الأخيرة.

– لخلوِّ حياتي من النساء! وهل للصداع من سبب غير النساء؟

وجاء صبي القهوة بأقداح القهوة والماء على صينية صفراء، فوضعها على ركن المكتب الذي يجلس حوله الصديقان، ومضى. وشرب محمد عفت شربة ماء، ثم قال: شُرب الماء البارد في الشتاء لذيذ، ما رأيك في هذا؟ لكن فيمَ سؤالي وأنت من عُشَّاق الشتاء الذين يستحمون كل صباح بالماء البارد حتى في هذه الأيام من فبراير … الآن خبِّرني، هل أعجبتك أنباء المؤتمر الوطني الذي احتشد في بيت محمد محمود؟ عِشنا وشفنا مرة أخرى سعد وعدلي وثروت في جبهة واحدة.

فتمتم السيد قائلًا: ربنا من حكمته أنه يقبل التوبة.

– إني لا أثق في هؤلاء الكلاب.

– ولا أنا، ولكن ما العمل؟ الملك فؤاد طينها، ومن المُحزن أن المعركة لم تعد بيننا وبين الإنجليز.

ثم مضيا يحتسيان القهوة في صمتٍ إن دلَّ على شيء فعلى أن الحديث العابر لم يعد له محل، وأن على محمد عفت أن يُدلي بما عنده، واعتدل الرجل في جلسته، وخاطب السيد بلهجة جدية متسائلًا: أعندك أخبار عن ياسين؟

انعكس السؤال في عيني السيد الواسعتَين اهتمامًا مشوبًا بقلق، وفي الوقت ذاته خفق قلبه خفقة مروعة، قال: خير! إنه يزورُني من حين لآخر، وكانت زيارته الأخيرة يوم الاثنين الماضي، فهل من جديد؟ أمر يتعلَّق بمريم؟ لقد رحلت إلى جهة مجهولة، وعلمتُ أخيرًا أن بيومي الشربتلي اشترى نصيبها في بيت أمها.

قال محمد عفت وهو يتكلَّف ابتسامة: الأمر لا يتعلق بمريم، من يدري لعلها غابت عن ذاكرته، المسألة دون لف أو دوران زواج جديد.

فخفق قلبه مرة أخرى فيما يُشبه الفزع وهو يقول: زواج جديد؟ ولكنه لم يشر إلى ذلك بتاتًا في أحاديثه معي.

هز محمد عفت رأسه آسفًا، وقال: لقد تزوَّج بالفعل من شهر أو أكثر، حدَّثني بذلك غنيم حميدو منذ ساعة فقط، وكان يظنُّ أنك تعلم كل شيء.

جعلت يُسراه تعبث بشاربه بسرعة عصبية، ثم قال وكأنه يخاطب نفسه: لهذا الحد؟! كيف أصدق هذا؟! كيف أخفى عني الأمر؟

– الحال تقتضي الكتمان! أصغ إليَّ، لقد آثرتُ أن أكاشفك بالحقيقة قبل أن تفاجأ بها مفاجأة غير كريمة، ولكن لا يصحُّ أن تُعيرَها أكثر مما تستحق، وينبغي قبل كل شيء ألا تستسلم للغضب، لم يَعُدِ الغضب مما تحتمله، اذكر تعبك الأخير وارحم نفسك.

فقال السيد يائسًا: في الأمر فضيحة؟ هذا ما حدَّثَني به قلبي، هات ما عندك يا سيد محمد.

هز محمد عفت رأسه آسفًا، ثم قال بصوت منخفض: كن دائمًا أحمد عبد الجواد الذي عهدناه، لقد تزوَّج من زنوبة العوادة.

– زنوبة!

وتبادلا نظرة ذات دلالة. وسرعان ما بدا الارتباك في وجه أحمد، والإشفاق في وجه صاحبه، ثم لم تَعُد مسألة الزواج ذاتها بالأولى في الأهمية، فتساءل السيد أحمد بلهجة لاهثة: ترى هل تعلم زنوبة بأنه ابني؟

– لا يُداخلني في هذا شك، غير أني أكاد أوقن بأنها لم تُطلعه على سرِّك لتتمكَّن من إيقاعه في الشرَك، وقد نجحت نجاحًا تستحق عليه كل تهنئة.

ولكن أحمد عبد الجواد عاد يتساءل بنفس اللهجة اللاهثة: أم تراه أخفى عني الأمر لعلمه بما كان؟

– كلا، لا أُصدِّق هذا، لو سبق هذا إلى علمه ما أقدم على الزواج منها، إنه شابٌّ طائش ما في ذلك من ريب، ولكنه ليس نذلًا. وإذا كان قد أخفى عنك الأمر، فما ذلك إلا لأنه لم يجد الشجاعة ليصارحك بأنه تزوج من عوادة! يا ويل الآباء من الأبناء الطائشين! الحق أنني تألمتُ كثيرًا، ولكني أكرر الرجاء بألا تستسلم للغضب، ذنبه على جنبه، وأنت بريء من فعلته، ولا لوم عليك.

تنهد أحمد عبد الجواد بصوت مسموع، ثم سأل صاحبه: خبِّرني كيف علَّق غنيم حميدو على الخبر؟

فلوح محمد عفت بيده مُستهينًا، وقال: سألني: كيف يرضى السيد أحمد عن هذا؟ فقلت له: إن الرجل لا يعلم شيئًا. فتأسَّف، وقال لي: انظر إلى المدى البعيد بين الأب وابنه! كان الله في عونه.

قال أحمد بلهجة راثية: أهذه عاقبة تربيتي لهم؟ إني في حيرة شديدة يا سيد محمد، المصيبة أننا نفتقد السيطرة الفعلية عليهم في الوقت الذي تستوجب مصلحتهم الحقيقية سيطرتنا، إنهم بحكم العمر يتحملون مسئولية أنفسهم، ولكنهم يُسيئون استعمالها دون أن نستطيع تقويم ما يعوج منهم، نحن رجال ولكنَّنا لم نَلِد رجالًا، من أين جاء العيب يا ترى؟ هذا الثور! امرأة في متناول كل يد، فماذا دعاه إلى الزواج منها؟ فلنبكِ على أنفسنا، لا حول ولا قوة إلا بالله.

وضع محمد عفت يده على منكب صاحبه بحنو، وقال: لقد أدَّينا ما علينا من واجب، الأمر بعد ذلك لصاحب الأمر، وهيهات أن يراك أحد مُستحقًّا للوم.

عند ذاك جاء صوت الحمزاوي الأسيف وهو يقول: لا يستطيع مُنصِف أن يلومك على أمر كهذا يا سي السيد، على أنه يُخيَّل إليَّ أن الأمل في الإصلاح لم ينعدم، انصحه يا سي السيد.

– إنه يبدو بين يديك طفلًا مطيعًا، وهو سيطلقها حتمًا غدًا أو بعد غد، فخير البر عاجله.

فتساءل السيد مُتشكيًا: وإن كانت قد حبلت؟

فجاء صوت الحمزاوي وهو يقول جزعًا: لا قدَّر الله ولا سمح.

وبدا أن عند محمد عفت مزيدًا من القول، فنظر إلى صاحبه بإشفاق، ثم قال: ومن المؤسف حقًّا أنه باع دكَّانه بالحمزاوي ليؤثِّث بيته من جديد!

حملق أحمد في وجهه، ثم قطَّب منفعلًا، وهتف حانقًا: كأني غير موجود في الدنيا! حتى في هذا لا يشاورني!

ثم وهو يضرب كفًّا بكف: ضحكوا عليه بلا ريب، وجدوا في طريقهم لقية، بغلًا بلا سائس في ثياب أفندي.

فقال محمد عفت متأثرًا: تصرُّفات أطفال! نسيَ أباه، ونسي ابنه! ولكن ما الفائدة من الغضب؟

صاح أحمد عبد الجواد: يُخيل إليَّ أنه ينبغي أن آخذه بالحزم مهما تكن العواقب.

مدَّ محمد عفت ذراعيه كأنما يدفع رزية، وقال بتوسُّل: إن كبر ابنك آخه، لا تخطئ وأنت سيد العارفين، ليس عليك إلا النصيحة، وليقضِ الله بما هو قاضٍ.

وخفض محمد عفت عينيه متفكرًا، وبدا لحظات كالمتردِّد، ثم قال: ثمَّة أمر يهمني كما يهمك ألا وهو رضوان.

وتبادل الرجلان نظرة طويلة، ثم استطرد محمد عفت قائلًا: سيَبلغ الغلام السابعة من عمره بعد أشهر، وأخاف أن يُطالِب به فينشأ بين أحضان زنوبة، هذا شرٌّ يجب دفعه، ولا إخالك توافق عليه، فأقنعه بأن يترك الغلام عندنا حتى يقضي الله أمرًا.

لم يكن من طبع أحمد عبد الجواد أن يُرحِّب بأن يبقى ابن ابنه عند آل أمِّه بعد انقضاء فترة الحضانة الشرعية، ولكنه من ناحية أخرى لم يشأ أن يَقترح ضمه إلى بيته هو حتى لا يضيف إلى أعباء أمينة عبئًا جديدًا لم تعد بحكم سنها أهلًا لحمله، فقال في استسلام أسيف: لا يصح أن يتربى رضوان في بيت زنوبة هذا ما أقرك عليه.

فقال محمد عفت وهو يتنهَّد بارتياح: إن جدته تُحبه من كل قلبها، وحتى لو دعت ظروف قهرية في المستقبل إلى أن يَنتقل إلى بيت أمه، فسوف يجد هناك جدًّا صالحًا؛ إذ إن زوج أمه رجل في الأربعين أو جاوزها، وقد حرمه الله من نعمة الذرية.

فقال أحمد عبد الجواد برجاء: لكني أفضل أن يبقى عندك.

– طبعًا … طبعًا، إني تكلمت عن احتمالات بعيدة أسأل الله ألا نضطر إليها، الآن لم يبقَ لي إلا أن أرجوك أن تترفَّق في مخاطبته ومحاسبته حتى يتيسر إقناعه بترك رضوان لي.

وهنا جاء صوت الحمزاوي المسالم وهو يقول: السيد أحمد سيد الحكماء، وهل يغيب عنه أن ياسين رجل؟ وأنه مثل كافة الرجال حر التصرف في شئونه وأملاكه؟ هذا ما لا يُمكن أن يغيب عن السيد، وما عليه إلا النصيحة، والباقي على الله.

استسلم أحمد عبد الجواد بقية النهار إلى التفكير والحزن. قال لنفسه: إن ياسين في كلمة ابن مخيِّب للآمال، وليس أفجع من ابن مخيب للآمال. إن مآله بيِّن ويا للأسف! ولن يحتاج إلى قوة بصيرة كي يتصوَّره، أجل سوف ينحدر من سيئ إلى أسوأ وعند الله اللطف. وقد رجاه جميل الحمزاوي أن يؤجِّل مخاطبة ياسين إلى الغد، فانصاع لرجائه يائسًا أكثر منه قادرًا لوجاهة النصح.

وعند عصر اليوم التالي استدعاه إلى مقابلته، فلبى ياسين مبادرًا كما ينبغي للابن المطيع. والحق أن ياسين لم يقطع ما بينه وبين أهله من أسباب. كان البيت القديم المكان الوحيد الذي لم يجد الشجاعة للعودة إليه على شدَّة حنينه إليه، وما من مرة كان يلتقي فيها بأبيه أو خديجة أو عائشة إلا ويُحمِّلهم السلام إلى امرأة أبيه. أجل لم ينسَ قلبُه غضبها عليه، ولم يمح من صفحته آثار ما سماه تعنُّتها معه، بيد أنه أبى أن ينسى كذلك العهد القديم، عهدَ لم يكن يعرف أمًّا إلاها. ولم ينقطع عن زيارة أختَيه، كما كان يُقابل كمال أحيانًا في قهوة أحمد عبده، أو يدعوه إلى بيته حيث عرف الشاب مريم أولًا، ثم زنوبة أخيرًا. أما أبوه فكان يزورُه في دكانه مرة على الأقل كل أسبوع، وهنا أتيح لياسين أن يعرف شخصية أبيه الثانية التي يأسر الناس بها، فنشأت بين الرجلين صداقة وطيدة ومودَّة وثيقة، غذتها صلة الرحم من ناحية، وفرحة اكتشاف الأب على حقيقته من ناحية أخرى. غير أن ياسين وهو يتفرَّس في وجه أبيه ذلك اليوم لمح فيه ما ذكَّره بالوجه القديم الذي طالما بعث في أطرافه الرعب، ولم يتساءل عما طرأ عليه؛ لأنه كان واثقًا من أنه سيقف على سرِّه عاجلًا أو آجلًا، فلم يشكَّ في أنه ملاقٍ العاصفة التي توقَّع هبوبها منذ أقدم على فعلته. بادره الرجل قائلًا: يُحزنني أن أجد نفسي بهذا الهوان، وماذا وراء أن أعرف أنباء ابني من الآخرين؟!

فطامن ياسين رأسه ولم يَنبس، فثار الرجل على طلاء المسكنة الكاذب الذي يُطالعه به، وصاح: اخلع هذا القناع، دعك من النفاق وأسمعني صوتك، طبعًا أنت تعلَم ما أعنيه!

فقال ياسين بصوت لم يكد يُسمع: لم أجد الشجاعة لإخبارك.

– هذا شأن من يتستَّر على ذنب أو فضيحة.

حذرته غريزته من أن يلجأ إلى أي نوع من أنواع المعارضة، فقال باستسلام: نعم.

فسأله السيد ذاهلًا: إذا كان هذا هو رأيك حقًّا، فلم فعلتها؟

لاذ ياسين بالصمت مرة أخرى، فخيِّل إلى الأب أنه يقول له بصمته: «عرفت أنها فضيحة ولكني أذعنت للحب!» وذكره هذا بموقفه المخزي أمام المرأة ذاتها، يا لَلعار! غسلت خزيك بغضبة كبرى، ولكنك عدت تسعى إليها. أما هذا الثور فما أضيعه!

– فضيحة ارتضيتها أنت دون تقدير للعواقب لنتعذَّب بها نحن جميعًا!

هتف بسذاجة قائلًا: أنتم جميعًا؟ معاذ الله!

عاود السيد الغضب، فصاح به: لا تتصنَّع الجهل، لا تدَّعِ البراءة، أنت تعلم أنك في سبيل شهواتك لا تبالي ما يصيب سمعة أبيك وإخوتك، أقحمت على الأسرة عوَّادة لتكون هي ومن بعدها ذريتها منا، لا إخالك كنت تجهل هذا قبل أن أذكره، ولكنك تستهين بكل شيء في سبيل شهوتك، هانت كرامة الأسرة على يديك، وأنت نفسك تنهار حجرًا بعد حجر، وسوف تجد نفسك في النهاية خرابًا.

غض البصر لائذًا بالصمت حتى نطقت حاله بالذنب والتسليم، لن تكلفك هذه الفضيحة إلا قدرًا من التمثيل كما أرى. حسبك هذا، أما أنا فسأرزق غدًا بحفيد أمه زنوبة وخالته زبيدة، مُصاهَرة طريفة بين السيد أحمد التاجر المعروف وزبيدة العالمة الذائعة الصيت، لعلَّنا نكفر عن ذنوب لا ندريها!

– إن بدني يقشعر كلما فكرتُ في مستقبلك، قلت لك: إنك تنهار وسوف تنهار أكثر وأكثر، خبرني ماذا فعلتَ بدكان الحمزاوي؟

رفع إليه عينَين كئيبتين، وتردَّد مرات، ثم قال: كنت في حاجة ماسة إلى المال.

ثم وهو يخفض عينيه: لو كانت الظروف غير الظروف لاقترضتُ ما أحتاجه من حضرتك، ولكن الأمر كان محرجًا.

السيد حانقًا: يا لكَ من مُراء! ألا تخجل من نفسك؟ أُراهن على أنك لم تجد في كل ما فعلته أي غرابة أو إنكار، أنا عارفك وفاهمك فلا تُحاول أن تخدعني، ليس عندي إلا كلمة واحدة وإن كنت أعلم مقدمًا ألا طائل تحتها: أنت تخرب نفسك بنفسك ونهايتك سوداء.

عاد ياسين إلى صمته متظاهرًا بالأسى. الثور! هي جذَّابة، شيطانة، ولكن ماذا اضطرَّك بالزواج منها؟ كنت أظن أنها طالبتْني بالزواج طمعًا في تقدم عمري، لكنها أوقعت هذا الثور على شبابه. ووجد عند ذاك شيئًا من الارتياح والعزاء. كانت خطتها المدبرة أن تتزوَّج بأي ثمن إلا أنها آثرت غيري عليَّ، فوقع هذا الأحمق: طلِّقها، طلِّقها قبل أن تصير أمًّا وتفضحنا إلى أبد الآبدين!

تردَّد ياسين مليًّا، ثم تمتم: حرام عليَّ أن أطلقها بلا ذنب!

يا ابن الكلب! … أتحفتَني بنكتة بارعة لسهرة الليلة.

– سوف تُطلقها عاجلًا أو آجلًا، ولكن قبل أن تنجب لك طفلًا يكون مُشكلتَك ومشكلتنا.

تنهد بصوت مسموع مستغنيًا بذلك عن الكلام، على حين راح الأب يتفحَّصه فيما يشبه الحيرة، فهمي مات، كمال أبله أو مجنون، وهذا ياسين لا أمل فيه، المُحزن أنه أعزُّ الجميع لديَّ، دع الأمر لله، رباه! ماذا كان يكون الحال لو زلَّت قدمي إلى الزواج.

– بكم بعت الدكان؟

– مائتي جنيه.

– تستحق ثلاثمائة، موقعها ممتاز جدًّا يا جاهل، لمن بعتَها؟

– علي طولون، بائع الخردوات.

– مبارك، مبارك، هل ضاع المبلغ في الجهاز الجديد؟

– لديَّ منه مائة.

بلهجة ساخرة: أحسنت؛ فالعريس لا يستغني عن النقود.

ثم بلهجة جادة حزينة: يا ياسين اسمع كلامي، أنا أبوك، احترس وغيِّر سيرتك، أنت نفسك أب، ألا تُفكِّر في ابنك ومستقبله؟

فقال مدافعًا متحمسًا: إن نفقتَه الشهرية تصله على آخر مليم.

– أهي مسألة تجارية؟ إني أتكلم عن مستقبله، بل عن مستقبل الآخرين الذين ينتظرون في عالم الغيب.

فقال ياسين باطمئنان: ربنا يَخلُق ويرزق.

هتف الرجل باستياء: ربنا يخلق ويرزق وحضرتك تُبدِّد! قل لي …

واعتدل في جلسته، ثم تساءل وهو يركز فيه عينيه القويتين: رضوان على عتبة السابعة، فماذا أنت صانع فيه؟ أتأخذه لينشأ في أحضان حرمكم؟

لاح في الوجه الممتلئ الارتباك، ثم تساءل بدوره: ماذا أصنع إذن؟ لم أعمل في الأمر فكري.

هزَّ الرجل رأسه في أسًى ساخر، وقال: دفع الله عنك شر الفكر! وهل لديك وقت لتبذره فيه؟ دعني أفكر عنك، دعني أقول: إنَّ رضوان يجب أن يبقى في حضانة جدِّه.

فكر قليلًا، ثم خفض رأسه بالإيجاب قائلًا بانصياع: الرأي رأيك يا أبي، هذا في صالحه ولا شك.

قال الأب مُتهكمًا: يبدو لي أنه في صالحك أيضًا كي لا تشغل نفسك بأمور تافهة.

ابتسم دون تعليق، كأنما يقول له: «إني واثق من أنك تَمزح ولا بأس من ذلك».

– ظننت أنه سيشقُّ عليَّ إقناعك بالتخلي عنه.

– إن ثقتي في رأيك هي التي جعلتْني أبادر إلى الموافقة.

فتساءل السيد بدهشة ساخرة: أتثق حقًّا في رأيي؟ لِمَ لَمْ تعمل به في الأمور الأخرى؟

ثم وهو يتنهد آسفًا: القصد! ربنا يهديك، وذنبك على جنبك، سأحدث محمد عفت الليلة في شأن الاحتفاظ برضوان، على أن تقوم بكل نفقاته، فعسى أن يُوافق.

عند ذاك نهض ياسين وسلم على أبيه، واتجه نحو باب الدكان، وما إن خطا خطوتين حتى أدركه صوت أبيه وهو يسأله: ألا تحبُّ ابنك ككل الآباء؟

فتوقف ياسين متلفتًا نحوه، وهو يقول بإنكار: وهل يحتاج هذا إلى قرار يا أبي! إنه أعز شيء في الحياة.

فرفع السيد حاجبَيه، وقال وهو يهز رأسه هزة غامضة: مع السلامة.

٣٣

قبل الخروج إلى صلاة الجمعة بساعة، دعا أحمد عبد الجواد كمال إلى حجرته، لم يكن يدعو أحدًا من أهل بيته إلى مقابلته إلا لأمر هام، والحق أنه كان مُبلبلَ الفكر، متحفزًا لاستجواب ابنه عما يشغله. وكان بعض أصحابه قد وجهوا نظره مساء أمس إلى مقال ظهر في البلاغ الأسبوعي بقلم الأديب الناشئ «كمال أحمد عبد الجواد» ومع أنَّ أحدًا منهم لم يقرأ من المقال إلا العنوان وهو «أصل الإنسان» والإمضاء وهو الأديب الناشئ «كمال أحمد عبد الجواد» فإنهم اتخذوا منه مادة للتعليق والتهنئة وممازَحة السيد، حتى فكر الرجل جادًّا في أن يُكلف الشيخ متولي عبد الصمد بعمل حجاب للشاب. قال له محمد عفت: «سُجِّل اسم ابنك مع أسماء كبار الكتاب في مجلة واحدة، طِبْ نفسًا وادع الله أن يكتب له مستقبلًا باهرًا كما كتب لهم.» وقال له علي عبد الرحيم: «سمعت من شخص مُحترم أن المرحوم المنفلوطي ابتاع عزبةً بقلمه فأبشر خيرًا!» وحدثه آخرون عن القلم، وكيف شق السبيل لكثيرين إلى حظوة الحكام والزعماء، ضاربين الأمثال بشوقي وحافظ والمنفلوطي، وعندما جاء دور إبراهيم الفار داعبه قائلًا: «سبحان الذي خلق من ظهر الجاهل عالمًا!» أما السيد فقد ألقى نظرة على العنوان ونظرة على «الأديب الناشئ»، ثم وضع المجلة فوق جبَّته التي كان قد نزعها بسبب حرارة يونيو وحميا الويسكي، مؤجلًا قراءتها حتى ينفرد بنفسه في البيت أو في الدكان، ثم واصَل سهرته بصدر منشرح وضمير تياه فخور، بل جعل يراجع نفسه لأول مرة في سخطه المكظوم على إيثار الشاب لمدرسة المعلِّمين قائلًا: إن «الولد» فيما يبدو سيكون «شيئًا» رغم اختياره غير الموفَّق، وبنى أحلامًا على ما قيل عن «القلم»، وحظوة الكبراء، وعزبة المنفلوطي، أجل، من يدري؟ لعله لا يكون معلمًا فحسب، ولكن يشق السبيل حقًّا إلى حياة لم تَخطر له هو على بال. وعند ضحى اليوم، وعند فراغه من الصلاة والإفطار، تربع على الكنبة وفتح المجلة باهتمام وراح يقرأ بصوت مُرتفع ليمتلئ بمعانيها. لكن ماذا وجد فيها؟ إنه يقرأ المقالات السياسية فيفهمها دون عناء، أما هذه المقالة فإنها دارت برأسه وأفزعت قلبه، وأعاد تلاوتها بعناية فطالع كلامًا عن عالم يُدعى «دارون» ومجهوده في جزر نائية، ومقارنات ثقيلة بين شتى الحيوانات حتى وقف مبهوتًا عند تقرير غريب يزعم أن الإنسان سلالة حيوانية! بل أنه مُتطوِّر عن نوع من القِرَدة! وكرر تلاوة الفقرة الخطيرة منزعجًا، ثم لبث ذاهلًا أمام هذه الحقيقة الأسيفة، وهي أن ابنًا من صلبه يقرر — دون اعتراض أو مناقشة — أن الإنسان سلالة حيوانية! انزعج الرجل انزعاجًا شديدًا، وتساءل في حيرة: هل حقًّا يُعلمون الأولاد هذه المعلومات الخطيرة في مدارس الحكومة؟ ثم أرسل في طلب كمال:

وجاء كمال وهو أبعد ما يكون عما يعتلج في رأس أبيه. وكان قد استدعاه قبل ذلك بأيام ليهنئه على النقل إلى السنة الثالثة فظنَّ بالدعوة الجديدة خيرًا. وبدا شاحب الوجه، ضامر الجسم كعهده في الفترة الأخيرة في حالٍ علَّلتها الأسرة بالجهد الشديد الذي بذله قبيل الامتحان، ولكن غاب عنها سرها الحقيقي، وهو ما عاناه طيلة الأشهر الخمسة الماضية من ألم وعذاب، أسيرًا لعاطفة مستبدة جهنمية كادت تودي به. وأشار السيد إليه بالجلوس، فجلس على طرف الكنبة متجهًا نحو أبيه بأدب، وعند ذاك لمح أمه جالسة أمام الصوان مشغولة بترتيب الثياب وخيطها، أما الرجل فقد رمى بالبلاغ الأسبوعي إلى الفراغ الذي يفصل بينهما على الكنبة، وقال بهدوء مصطنع: لك مقال في هذه المجلة. أليس كذلك؟

خطف غلاف المجلة عيني كمال فرنا إليه بعين ذاهلة دلت على أنه لم يكن يتوقع هذه المفاجأة قط. من أين لأبيه هذا الاطلاع المُستجد على المجلات الأدبية؟ لقد سبق أن نشر في الصباح «تأملات» بين النثر والشعر المنثور ضمَّنها نظرات فلسفية بريئة، وأنات عاطفية. وهو آمنٌ كل الأمن من ناحية اطلاع أبيه عليها، فلم يدر بها أحد من أسرته إلا ياسين الذي كان هو نفسه يقرؤها عليه فينصت الآخر، ثم يقول له معلقًا: «هذه ثمرة توجيهي الأول لك، أنا الذي علمتك الشعر والقصص، جميل يا أستاذ، ولكن هذه فلسفة عميقة جدًّا، فمن أين جئت بها!» أو يقول مداعبًا: «مَن الحسناء التي ألهمتك هذه الشكوى الرقيقة؟ ستعلم يا أستاذ يومًا أنهنَّ لا يجدي معهن إلا ضرب المراكيب.» ولكن ها هو يطَّلع على أخطر ما كتب، تلك المقالة التي شب التفكير فيها معركة جهنمية في صدره، وعقله كاد يحترق في أتونها، فكيف حدث هذا؟ وهل يجد له من تفسير إلا عند أصدقاء أبيه الوفديِّين الذين يحرصون على اقتناء كافة الجرائد والمجلات الوفدية؟ وهل يطمع في أن يخرج سالمًا من هذا المأزق؟ رفع عينَيه عن المجلة، ثم قال بلهجة لم يمكنها من الإفصاح عن اضطرابه: بلى، خطر لي أن أكتب موضوعًا تثبيتًا لمعلوماتي، وتشجيعًا لنفسي على مواصلة الدرس.

قال السيد أحمد بهدوئه المُصطنع: لا عيب في ذلك، الكتابة في الصحف كانت ولم تزل الوسيلة إلى الجاه والحظوة عند الكبراء، ولكن المُهم الموضوع الذي يَكتب فيه الكاتب، ماذا أردت بهذه المقالة؟ اقرأها واشرحها لي، فقد غمض عليَّ مرماك.

يا للتعاسة! ليس هذا المقال للجهر، وخاصة على مسمع من أبيه.

– إنه مقال طويل يا بابا، ألم تقرأه حضرتك؟ إني أشرح فيه نظرية علمية.

حدجه الرجل بنظرة براقة متحفزة. أهذا ما يدعونه بالعلم الآن؟ ألا لعنة الله على العلم والعلماء!

– ماذا تقول في هذه النظرية؟ لقد لفتَت نظري عبارات غريبة تقول: إن الإنسان سلالة حيوانية، أو شيئًا من هذا القبيل، أحق هذا؟

بالأمس ناضل نفسه وعقيدته وربه نضالًا عنيفًا أعيا روحه وجسده، واليوم عليه أن يناضل أباه، غير أنه كان في الجولة الأولى معذَّبًا محمومًا … أما في هذه الجولة فهو خائف مرتعب، إن الله قد يؤجل عقابه، أما أبوه فشيمته التعجيل بالعقاب.

– هذا ما تقرره هذه النظرية.

علا صوت السيد وهو يتساءل في انزعاج: وآدم أبو البشر الذي خلقه الله من طين ونفخ فيه من روحه، ماذا تقول عنه هذه النظرية العلمية؟

طالما طرح هذا السؤال على نفسه، لم يكن دون أبيه انزعاجًا، ولم يَغمض له عين ليلتها حتى الصباح، وتقلب في الفراش متسائلًا عن آدم والخالق والقرآن، وقال لنفسه مرة وعشرًا: القرآن إما أن يكون حقًّا كله أو لا يكون قرآنًا، إنك تَحمل عليَّ لأنك لم تَدرِ بعذابي، لو لم أكن قد اعتدتُ العذاب وألفته لأدركني الموت تلك الليلة. قال بصوت خافت: دارون صاحب هذه النظرية لم يتكلَّم عن «سيدنا» آدم.

هتف الرجل غاضبًا: لقد كفر دارون ووقع في حبائل الشيطان، إذا كان أصل الإنسان قردًا أو أي حيوان آخر. فلم يكن آدم أبًا للبشر. هذا هو الكفر عينه، هذا هو الاجتراء الوقح على مقام الله وجلاله! إني أعرف أقباطًا ويهودًا في الصاغة وكلهم يؤمنون بآدم، كل الأديان تؤمن بآدم، فمن أي ملَّة دارون هذا؟ إنه كافر وكلامه كفر، ونقل كلامه استهتار، خبِّرني أهو من أساتذتك في المدرسة؟

ما أدعى هذا إلى الضحك لو كان في القلب فراغ للضحك، لكنه قلب أفعمتْه الآلام، ألم الحب الخائب، وألم الشك، وألم العقيدة المحتضرة، إن الموقف الرهيب بين الدين والعلم أحرقك، ولكن كيف يسع عاقل أن يتنكَّر للعلم؟ قال بصوت متواضع: دارون عالم إنجليزي مات منذ زمن بعيد.

وهنا ندَّ عن الأم صوت يقول بتهدج: لعنة الله على الإنجليز أجمعين.

فالتفتا نحوها التفاتة قصيرة، فوجداها قد تركت الثياب والإبرة وتابعت الحديث، ولكن سرعان ما انصرفا عنها، وعاد الأب يقول: خبِّرني، هل تدرسون هذه النظرية في المدرسة؟

التقف حبل النجاة الذي تدلى إليه فجأة، فقال لائذًا بالكذب: نعم.

أمر غريب! وهل تُدرِّس هذه النظرية فيما بعد لتلاميذك؟

– كلا، سأكون مدرِّس آداب لا علاقة لها بالنظريات العلمية.

ضرب السيد كفًّا بكف. ود في تلك اللحظة لو كان له على العلم بعض ما له على الأسرة من سلطان. وهتف محنقًا: إذن لماذا يُدرسونها لكم؟ هل الغاية إدخال الكفر في قلوبكم؟

فقال كمال بلهجة المحتج: معاذ الله أن يؤثر في عقيدتنا مؤثِّر!

فتفحصه بارتياب وهو يقول: ولكنك نشرتَ الكفر بمقالك!

فقال بارتياب: أستغفر الله، إني أشرح النظرية ليلمَّ بها القارئ لا ليؤمن بها، هيهات أن يؤثر في قلب المؤمن رأي كافر.

– ألم تجد موضوعًا غير هذه النظرية المُجرمة لتكتب فيه؟

لماذا كتب مقالته؟ لقد تردَّد طويلًا قبل أن يرسلها إلى المجلة، ولكنه كان كأنما يود أن ينعى إلى الناس عقيدته. لقد ثبتَت عقيدته طوال العامين الماضيَين أمام عواصف الشك التي أرسلها المعري والخيام، حتى هوت عليها قبضة العلم الحديدية فكانت القاضية. على أنني لست كافرًا، لا زلت أومن بالله، أما الدين؟ أين الدين؟ ذهب! كما ذهب رأس الحسين، وكما ذهبت عايدة، وكما ذهبت ثقتي بنفسي! ثم قال بصوت حزين: لعلي أخطأت، عذري أنني كنت أدرس هذه النظرية.

– ليس هذا بعذر، وعليك أن تصلح خطأك.

يا له من رجل طيب. إنه يطمع في أن يحمله على مهاجمة العلم في سبيل الدفاع عن أسطورة، حقًّا لقد تعذَّب كثيرًا، ولكنه لن يقبل أن يفتح قلبه من جديد للأساطير والخرافات التي طهره منها، كفى عذابًا وخداعًا، لن تَعبث بي الأوهام بعد اليوم، النور النور، أبونا آدم! لا أب لي، ليكن أبي قردًا إن شاءت الحقيقة، إنه خير من آدميِّين لا عدد لهم، لو كنت من سلالة نبيٍّ حقًّا ما سخرت منِّي سخريتها القاتلة.

– وكيف أصلح الخطأ؟

فقال السيد ببساطة وحدة معًا: عندك حقيقة لا شك فيها؛ وهي أن الله خلق آدم من تراب، وأن آدم هو أبو البشر، هذا مذكور في القرآن، فما عليك إلا أن تُبين أوجه الخطأ وهو عليك هين، وإلا فما فائدة ثقافتك؟

وهنا جاء صوت الأم قائلًا: ما أيسر أن تبين خطأ من يُعارض قول الرحمن، قل لهذا الإنجليزي الكافر: إن الله يقول في كتابه العزيز: إنَّ آدم هو أبو البشر، كان جدُّك من حملة كتاب الله فعليك أن تنتهج سبيله، لقد سرَّني أنك تبغي أن تكون مثله من العلماء.

لاح الضيق في وجه السيد، فانتهرها قائلًا: ماذا تفهمين أنت من كتاب الله أو من العلم؟ دعينا من جده وانتبهي إلى ما بين يديك.

فقالت في حياء: أريد يا سيدي أن يكون كجده من العلماء الذين يُضيئون الدنيا بنور الله.

فصاح الرجل ساخطًا: ها هو قد بدأ ينشر الظلام.

فقالت المرأة بإشفاق: معاذ الله يا سيدي، لعلك لم تفهم!

حدجها السيد بنظرة قاسية. لقد خفَّف من شدَّته في معاملتهم، فماذا كانت النتيجة؟ ها هو كمال يُذيع أن أصل الإنسان قرد، وها هي أمه تناقشه وتقول له: لم تفهم؟ صاح بها: دعيني أتكلم، لا تقاطعيني، ولا تتدخلي فيما لا تفهمين، انتبهي إلى عملك، الله يقطعك.

ثم ملتفتًا إلى كمال بوجه متجهِّم: خبرني، هل أنت فاعل ما قلت لك؟

عليك رقيب في البيت لم يُبتلَ الأحرار بمثله في الدول، لكنك كما تخافه تحبُّه، فلن يطاوعك قلبك على الإساءة إليه. تجرَّع الألم فقد اخترت حياة النضال.

– كيف يُمكن أن أرد على هذه النظرية؟ لو انحصرت مناقشتي في الاستشهاد بالقرآن لما جاءت بجديد، فالكل يعلم بما عندي ويؤمن به، أما مناقشتها علميًّا فشأن المختصين من العلماء.

– ولماذا تكتب فيما لا شأن لك به؟

اعتراض وجيه في ذاته، غير أنه من المؤسِف أنه لا يجد الشجاعة للاعتراف لأبيه بأنه آمن بالنظرية بصفتها حقيقة عِلمية، وأنها بهذه الصفة يُمكن الاعتماد عليها في إنشاء فلسفة عامة للوجود خارج نطاق العلم. أما السيد فقد ظنَّ صمته إقرارًا بالخطأ فتضاعف أسفه وحنقه. إن الضلال في هذا الميدان شديد الخطورة سيِّئ العاقبة، وهو ميدان لا سلطان له عليه، وربما وجد فيه نفسه مكتوف اليدين أمام الشاب الضالِّ كما وجد نفسه من قبل أمام ياسين بعد انفلاته من وصايته، فهل يجري عليه ما جرى على الآباء الآخرين في هذه الأيام الغريبة؟ إن أنباء كالأساطير تترامى إليه عن شباب «اليوم» منهم تلاميذ قد اعتادوا التدخين، وآخرون يعبثون بكرامات المدرِّسين، وغير هؤلاء وأولئك قد تمردوا على آبائهم. أجل لم تَهُن هيبته، ولكن عمَّ أسفر ذلك التاريخ الطويل من الحزم والصرامة؟ ها هو ياسين يتدهور ويضمحل، وها هو كمال يناقش ويجادل، ويُحاول التملص من قبضته: أَصِغ إليَّ بكل وعيك، لا أريد أن أقسو عليك، فإنك مؤدَّب ومطيع، أما عن موضوعنا فلا أملك لك إلا النصيحة، ويَنبغي أن تذكر أنه ما من أحد قد خالف نصيحتي وسلم.

ثم بعد صمت قصير: إليك ياسين شاهدًا عما أقول، وقد نصحتُ قديمًا «المرحوم» بألا يُلقيَ بنفسه إلى التهلكة، ولو امتدَّ به العمر لكان اليوم رجلًا نابهًا.

وهنا قالت الأم بصوتٍ كالأنين: قتلوه الإنجليز، إنهم إما يَقتُلون وإما يكفرون.

وواصل السيد حديثه قائلًا: إذا وجدت في دروسك ما يخالف الدين، واضطُررتَ إلى حفظه كي تنجح في الامتحان، فلا تؤمن به، ومن باب أولى لا تنشره في الصحف وإلا حملت وزره، ليكن موقفُك من عِلم الإنجليز كموقفنا من احتلالهم، وهو عدم الإقرار بشرعيته ولو فُرض علينا بالقوة الجبرية.

تدخل الصوت الرقيق الحييُّ مرةً أخرى قائلًا: ولتُكرِّس حياتك بعد ذلك لفضح أكاذيب هذا العلم ونشر نور الله.

فصاح بها السيد: قلتُ ما فيه الكفاية دون حاجة إلى آرائك.

فعادت إلى ما بين يديها، وجعل السيد يُحدِّق فيها متوعدًا حتى اطمأنَّ إلى صمتها، فالتفت إلى كمال متسائلًا: مفهوم؟

قال كمال بلهجة مُوحية بالثقة: بكل تأكيد.

إذا أراد أن يكتب بعد اليوم فعليه بالسياسة الأسبوعية حيث لا تمتدُّ يد أبيه الوفدي، أما عن أمه وعَدَها في سرِّه بأن يكرس حياته لنشر نور الله، أليس هو نور الحقيقة؟ بلى، وسيكون في تحرره من الدين أقرب إلى الله مما كان في إيمانه به، فما الدين الحقيقي إلا العلم، هو مفتاح أسرار الكون وجلاله، ولو بُعث الأنبياء اليوم ما اختاروا سوى العلم رسالة لهم، هكذا يستيقظ من حلم الأساطير ليواجه الحقيقة المجرَّدة، مخلفًا وراءه تلك العاصفة — التي صارع فيها الجهل حتى صرعه — حدًّا فاصلًا بين ماضٍ خرافي وغدٍ نوراني، بذلك تتفتح له السبل المؤدية إلى الله، سبل العلم والخير والجمال، وبذلك يُودِّع الماضي بأحلامه الخادعة، وآماله الكاذبة، وآلامه البالغة.

٣٤

بعناية واهتمام جعل يتفحص ما تقع عليه عيناه وهو مُقبل على سراي آل شداد، فلما عبر مدخلها تضاعفت عنايته واهتمامه بتفحص ما حوله، فقد آمن أخيرًا بأن هذه الزيارة ستكون آخر عهده بالبيت وآله وذكرياته، كيف لا وقد انتزع حسين في النهاية مُوافَقة أبيه على سفره إلى فرنسا؟ تأمل بملء عينيه ووجدانه الممر الجانبي المفضي إلى الحديقة، والنافذة المطلة عليه، وكان طيفها الرقيق الأنيق يُطالعه منها بنظرة حلوة لا تعني شيئًا كنظرات النجوم، أو تحية رقيقة لا يقصد بها شخصه كتغريد البلبل المشغول بفرحته عن السامعين، ثم المنظر الكلي للحديقة المبسوط بين مؤخر القصر، والسور العريض المشرف على الصحراء، وما بين هذا وذاك من أعراش الياسمين، وجماعات النخيل، وشجيرات الورد، وأخيرًا الكشك العتيد الذي تملَّى تحت سقفه بنشوات الحب والصداقة. وذكر المثل الإنجليزي الذي يقول: «لا تضع كل بيضك في سلة واحدة»، وابتسم ابتسامة حزينة، فإنه وإن حفظه منذ عهد بعيد إلا أنه لم ينتفع به، فوضع عن سهو أو حماقة أو قضاء وقدر كل قلبه في هذا البيت، بعضه للحب، وبعضه للصداقة، وقد ضاع الحب، وها هو الصديق يحزم أمتعته استعدادًا للرحيل، ومن الغد سيلقى نفسه بلا حبيب ولا صديق. كيف يُمكن أن يتعزى عن هذا المنظر؟ قد انطبع في صدره، وعلق بقلبه، وبات ذا أُلفة وحنين، القصر والحديقة والصحراء، جملة وتفصيلًا، كانطباع أسماء عايدة وحسين شداد في حافظته، فكيف ينقطع عنه أو يقنع برؤيته من بعيد كسائر المارة؟ هو الذي لشدة ولعه بالبيت دعا نفسه يومًا مداعبًا بالوثني!

وكان حسين شداد وإسماعيل لطيف جالسَين على كرسيَين متقابلين أمام المنضدة التي وضع عليها الدورق التقليدي والأكواب الثلاثة، وكانا كعادتهما في الصيف يَرتديان قميصًا مفتوح الطوق، وبنطلونًا من الفانلة البيضاء، فطالعاه بوجهيهما المتناقضين: حسين بوجهه الجميل الوضيء، وإسماعيل بوجهه الحاد القسمات ونظراته التهجمية، فأقبل عليهما ببدلته البيضاء ممسكًا بطربوشه الذي تدلدل زرُّه وتصافَحُوا، ثم جلس جاعلًا ظهره إلى البيت، البيت الذي ولاه — من قبل — ظهره! وسرعان ما قال إسماعيل مخاطبًا كمال وهو يضحك ضحكة ذات معنًى: يتعيَّن علينا الآن أن نبحث عن مكان جديد نتقابل فيه.

ابتسم كمال ابتسامة باهتة. ما أسعد إسماعيل بسُخريته التي لم تعرف الألم، وهو وفؤاد الحمزاوي اللذان بقيا له، صديقان يؤنسان القلب ولا يُمازجانه، يُهرع إليهما هربًا من الوحشة، ولا حيلة إلا أن يرضى بما قسم له.

– سنلتقي في المقاهي أو الطرقات ما دام حسين قد قرَّر هجرنا.

هز حسين رأسه في أسف، أسف الفائز بأمنية عزيزة وهو يجامل بإعلان حزنه على فراقٍ يهون، ثم قال: سأغادر مصر وفي قلبي حسرة على فراقكما، الصداقة عاطفة مقدَّسة، إني أقدرها من أعماق قلبي، والصديق هو القرين الذي يعكس نفسك فيكون صدًى لعواطفك وأفكارك، لا يهم أن نختلف في كثير ما دام الجوهر متشابهًا، لن أنسى هذه الصداقة أبدًا، وستصل الرسائل ما بيننا حتى نعود إلى اللقاء مرةً أخرى.

كلام جميل هو العزاء للقلب المكلوم المهجور، ألم يكن ما أصابه على يدِ أخته كافيًا، هكذا تتركني وحيدًا بلا صديق حقيقي، وغدًا يَقتل المهجور ظمأٌ إلى الألفة الروحية الساخرة. تساءل في كآبة: متى نعود إلى اللقاء مرةً أخرى؟ لم أنسَ بعد تطلعك الحار إلى السياحة الدائمة، فمن يضمن لي ألا يكون ذهابك إلى الأبد؟

فآمن إسماعيل على قوله قائلًا: قلبي يُحدثني بأن العصفور لن يعود إلى القفص.

ضحك حسين ضحكة قصيرة، غير أنها وشت بسروره، ثم قال: لم أظفر بموافقة أبي على سفري حتى وعدته بمواصلة دراستي القانونية، ولكني لا أدري إلى أي مدى سيُمكنني المحافظة على وعدي! لا استلطاف بيني وبين القانون، أكثر من هذا يُخيل إليَّ أني لن أصبر على الدراسة النظامية، لا أريد إلا ما أحبه، وقلبي موزَّع بين معارف شتَّى لا تجمعها كلية واحدة كما قلتُ مرارًا وتكرارًا، أريد أن أتلقَّى محاضرات في فلسفة الفن، وأخرى في الشعر والقصص، وأن أرتاد المتاحف ومعازف الموسيقى، وأن أعشق وألهو، فأي كلية تحوي هذه الألوان جميعًا؟! وثمَّة حقيقة أخرى تعرفانها وهي أني أُفضل أن أسمع على أن أقرأ، أريد أن يَشرح غيري لأستمع أنا، ثم أنطلق بحواس مجلوة وعقل مُضيء إلى سفوح الجبال، وشواطئ البحور، والمشارب والمقاهي والمراقص، وسوف تصلكُما تباعًا تقاريري عن هذه التجارب الفذة.

كأنه يصف الجنة التي نبذ هو الإيمان بها! بيد أنها جنة سلبية تأخذ ولا تُعطي، وهو يطمح إلى مثال آخر، أما حسين فهيهات أن يحنَّ إلى مغناه القديم، إذا ضمته تلك الحياة الوردية إلى صدرها الرغيد. وكأن إسماعيل كان يردِّد خواطره حين قال مخاطبًا حسين: لن تعود إلينا، الوداع يا حسين! حلمنا واحد على وجه التقريب، دع جانبًا فلسفة الفن والمتاحف والموسيقى والشعر وسفوح الجبال … إلخ، فنكون شخصًا واحدًا! أُذكِّرك للمرة الأخيرة بأنك لن تعود إلينا.

وحدجه كمال بنظرة متسائلة، كأنما تطالبه برأيه فيما قال إسماعيل، فقال: بل سأعود كثيرًا، ستكون مصر ضمن سياحتي الطويلة لأرى الأهل والأصدقاء، (ثم موجهًا الخطاب إلى كمال) سوف أنتظر سفرك إلى الخارج بجزعٍ أكاد أشعر به من الآن.

من يدري لعل كذبته تَصْدُق فيجوب تلك الآفاق، مهما يكن من أمر فقلبه يُحدثه بأن حسين سيعود يومًا، وأن هذه الصداقة العميقة لن تَضيع هباء، إنَّ قلبه الصدوق يؤمن بهذا كما يؤمن بأن الحب لا تقتلع جذوره من القلب وا أسفاه! قال برجاء: سافر وافعل ما تحب، ثم عُد إلى مصر لتجعلها مقامك، على أن تخرج منها سائحًا كلما طابت لك السياحة.

فأمَّن إسماعيل على رأيه: لو أنك ابن حلال حقًّا لقبلتَ هذا الحل الوجيه الذي يوفق بين رغبتك ورغبتنا.

قال حسين وهو يُطامن رأسه كأنما قد اقتنع: سيَنتهي بي المطاف إلى هذا الحل فيما أعتقد.

كان يُصغي إليه وهو يملأُ من منظرِه ناظرَيه، خاصة العَينين السوداوَين اللتين تشبهان عينَى عايدة، ولفتاته الجامعة بين السمو واللطف، وروحه الشفاف الذي يكاد يتمثَّل أمامه خلقًا يرى ويحسُّ، إذا غاب هذا العزيز فماذا يبقى من نعمة الصداقة وذكرى الحب؟ الصداقة التي تلقنتها على يدَيه ألفة روحية وسعادة مطمئنة، والحب الذي ألهمه على يدِ أخته فرحة سماء وعذاب جحيم؟ وعاد حسين يقول وهو يُشير إليهما واحدًا بعد الآخر: عندما أعود إلى مصر ستكون أنت مُحاسبًا في وزارة المالية، وأنت مدرسًا، ولا يبعد أن أجدكما والدَين! ما أعجب هذا!

فتساءل إسماعيل ضاحكًا: هل تستطيع أن تتخيلنا موظفين؟ تصور كمال مدرسًا! (ثم موجهًا الخطاب إلى كمال) يجب أن تَسمن كثيرًا قبل أن تواجه التلاميذ، سوف تَلقى جيلًا من العفاريت نحن نُعدُّ بالقياس إليهم من الملائكة، وسوف تجد نفسك وأنت الوفدي العنيد مضطرًّا بحكم الوظيفة إلى معاقبة المضربين بأمر الوفد.

أخرجته ملاحظة إسماعيل عن مجرى التفكير الذي كان مسترسلًا فيه، فوجد نفسه يتساءل: كيف يستطيع مواجهة التلاميذ برأسه وأنفه المشهورَين؟ وجد امتعاضًا ومرارة، وخُيِّل إليه — قياسًا على شواذِّ المدرسين الذين عرفهم في حياته — أنه سيَلتزم القسوة في معاملة التلاميذ ليحمي شخصيته المهدَّدة. غير أنه تساءل: تُرى هل يسعه أن يكون قاسيًا على غيره كما يقسو على نفسه؟ قال ارتجالًا: لا أظنُّ أنني سأمتهن مهنة التدريس إلى النهاية.

لاحت في عينَي حسين نظرة حالمة وهو يقول: من التعليم إلى الصحافة على ما أظن، أليس كذلك؟

وجد نفسه يُفكر في المستقبل، فعاودته فكرة الكتاب الجامع الذي حلم كثيرًا بتأليفه، ولكن ماذا بقي من موضوعه الأول؟ لم يعد الأنبياء أنبياء، ولا الجنة والجحيم، وليس علم الإنسان إلا فصلًا من علم الحيوان، فعليه أن يبحث عن موضوع جديد. قال مُرتجلًا أيضًا: لو أتمكن يومًا من إنشاء مجلة للدعاية للفكر الجديد!

فقال إسماعيل لطيف بلهجة الوعظ والإرشاد: بل السياسة هي السلعة الرائجة، خصص للفكر إذا شئت عامودًا في الصفحة الأخيرة، وفي البلد متَّسع لكاتب وفدي هجَّاء جديد.

فضحك حسين ضحكة عالية، وقال: لا يبدو أن صاحبنا سياسي إيجابي، حسب أسرته ما قدمت من فدية، أما الفكر فالمجال أمامه واسع فيه. (ثم مخاطبًا كمال): لديك ما تقوله، لقد كانت ثورتك الإلحادية طفرة مفاجئة لم أتوقَّعها من قبل.

ما أسعده بهذه الصفة الجديدة التي وجد فيها تحية لثورته وتملقًا لغروره، قال وقد تورد وجهه: ما أجمل أن يكرس الإنسان حياته للحق والخير والجمال!

صَفَّر إسماعيل ثلاثًا، لكل قيمة صفيرًا، ثم قال متهكمًا: اسمعوا وعوا.

أما حسين فقال جادًّا: إني مثلك، ولكني قانع بالمعرفة والمتعة.

فقال كمال بحماس وإخلاص: الأمر أجلُّ من هذا، إنه كفاح في سبيل الحق يستهدف خير الإنسانية جميعًا، وبغيره لا يكون للحياة معنى في نظري.

ضرب إسماعيل كفًّا بكف — وقد ذكَّرته هذه الحركة بأبيه — وقال: إذن فالواجب ألا يكون للحياة معنى! كم تعبت وشقيت حتى تحرَّرت من الدين! لم أتعب أنا تعبك، ولكن الدين لم يكن شغلي أبدًا، فهل تعدُني يا ترى فيلسوفًا بالفطرة؟ حسبي أن أعيش الحياة التي لا تحتاج إلى تعريف، غير أن هذا الذي أتبعه بالفطرة لا تبلغه أنت إلا بالكفاح المرير، أستغفر الله، بل أنت لم تبلغه بعد فلا زلت — حتى بعد إلحادك — تؤمن بالحقيقة والخير والجمال، وتريد أن تكرس لها حياتك، أليس هذا ما يدعو إليه الدين؟ فكيف تكفر بالأصل وتؤمن بالفرع؟

لا تبالِ رفيق المزاح، لكن لِمَ يبدو ما يؤمن به من القيم مثارًا للسخرية؟ هبكَ خيرت بين عايدة وبين الحياة السامية فأيهما تختار؟ … لكن عايدة تتخايَل لعينيَّ دائمًا وراء المُثُل.

قال حسين يجيب عن كمال؛ إذ طال به الصمت: المؤمن يستمدُّ حبه لهذه القيم من الدين، أما الحر فيُحبها لذاتها.

رباه متى أراك مرة أخرى؟ أما إسماعيل فضحك ضحكة وشَت بانحراف تفكيره إلى ناحية جديدة، وسأل كمال: خبِّرني ألا زلت تُصلي؟ وهل تنوي أن تصوم رمضان القادم؟

كان دعائي لها أمتع ما في الصلاة، وليالي هذا القصر أسعد ما في رمضان.

– لم أعد من المصلين، ولن أكون من الصائمين.

– وهل تُعلِن إفطارك؟

ضاحكًا: كلا.

– آثرتَ النفاق؟!

فقال ممتعضًا: ليس من ضرورة تدعوني إلى إيلام الذين أحبهم.

فتساءل إسماعيل ساخرًا: أتظن أنك بهذا القلب تستطيع أن تواجه المجتمع يومًا بما يكره؟

كليلة ودمنة؟ بهجة الخاطرة غطَّت على الامتعاض، رباه هل عبرت على أساس الكتاب الذي لم يتبلور في ذهني بعد؟

– مخاطبة القراء شيء، ومخاطبة والدَينِ على الفطرة شيء آخر!

فخاطب إسماعيل حسين وهو يشير إلى كمال قائلًا: إليك فيلسوفًا من أسرة عريقة في الجهل.

لن يعوزك أن تجد أصدقاء للهو واللغو، ولكنك لن تحظى لروحك بصديق يحاورها، فارضَ بالصمت أو حاور نفسك كالمجانين. وساد الصمت قليلًا. وكانت الحديقة صامتة أيضًا فلا نسمة تهفو. أما الورد والقرنفل والبنفسج فبدَت وحدها سعيدة بالحر، وحسرت الشمس ثوبها المضيء عن الحديقة فلم يبقَ منه إلا حاشية في أعلى السور الشرقي. أنهى إسماعيل الصمت بأن التفتَ إلى حسين شداد، وسأله: ترى هل يتاح لك أن تزور حسن سليم وعايدة هانم؟

يا الله! خفقة قلب أم القيامة قامت في صدري؟

– عندما يستقرُّ بي المقام في باريس، سأفكر حتمًا في القيام برحلة إلى بروكسل.

ثم وهو يبتسم: تلقينا خطابًا من عايدة في الأسبوع الماضي، يبدو أنها تُعاني متاعب الوحم.

هكذا الألم والحياة توءمان، لست الآن إلا ألمًا خالصًا في ثياب رجل، عايدة منداحة البطن سائلة الإفرازات؟ مأساة أم مهزلة الحياة؟ نعمة الحياة الفناء، ليتني أستطيع أن أعرف كنه هذا الألم. قال إسماعيل لطيف: سيكون أبناؤها أجانب!

– من المتفق عليه أن يُرسَلوا إلى مصر إذا جاوَزوا طور الطفولة.

هل تراهم يومًا بين تلاميذك؟ تُسائل نفسك أين رأيت هذه الأعين، فيجيب القلب الخافق أنها مقيمة هنا منذ قديم، وإذا سخر الصغير من رأسك وأنفك فبأي قلب تُعاقبه! أيها النسيان … هل أنت خرافة أيضًا؟ عاد حسين يقول: شدَّ ما أسهبَت في الحديث عن حياتها الجديدة، لم تُخفِ سرورَها بها حتى بدا حنينها إلى الأهل مجرد مجاملة.

لمثل هذه الحياة في الأوطان المثالية خُلقت، أما مشاركتها في الطبائع الآدمية فعبث من الأقدار التي عبثَت بشتَّى مقدساتك، ترى ألم يخطر ببالها أن تشير في خطابها المسهب بكلمة إلى الأصدقاء القدامى؟ ولكن مَن أدراك بأنها لا زالت تذكرهم؟ وعاودهم الصمت مرة أخرى. بدا المغيب يقطر سمرة هادئة، ولاحت في الأفق حدأة مُولِّية، وترامى إليهم نباح كلب، وأقبل إسماعيل على الدورق يشرب، وراح حسين يصفر بفيه، أما كمال فكان يسترقُ إليه النظر بوجه هادئ وقلب يتحسر.

– الحَر هذه السنة ملعون.

قال إسماعيل ذلك، ثم جفَّف شفتيه بمنديله الحريري المزركش ثم تجشأ، وأعاد المنديل إلى جيب بنطلونه.

فراق الأحباب ألعن.

– متى تُسافر إلى المصيف؟

– في آخر يونيو.

أجاب إسماعيل بارتياح، فعاد حسين يقول: سنسافر غدًا إلى رأس البر حيث أمكث أسبوعًا معهم، ثم أسافر بصحبة أبي إلى الإسكندرية فأستقلُّ الباخرة في ٣٠ يونيو.

ويَنتهي تاريخ فترة من الزمن، وربما انتهى قلب، حدق حسين إلى كمال مليًّا، ثم ضحك قائلًا: نترككم وأنتم على خير حال من الوحدة والائتلاف، فعسى أن تَسبقنا أنباء الاستقلال إلى باريس.

فهتف إسماعيل مخاطبًا حسين وهو يشير إلى كمال: صاحبك غير راضٍ عن الائتلاف. عز عليه أن يضع سعد يده في يد الخونة، وعز عليه أكثر أن يَتحاشى الاصطدام بالإنجليز فينزل عن الوزارة إلى خصمه القديم عدلي، هكذا تجده أشد تطرفًا من زعيمه المقدس نفسه!

مهادنة الأعداء والخونة خيبة أخرى تتجرعها، أي شيء في هذه الدنيا لم يَخِب فيه أملك؟ غير أنه ضحك عاليًا، ثم قال: بل يشاء هذا الائتلاف أن يفرض على دائرتنا نائبًا من الأحرار!

وضج ثلاثتهم بالضحك، وعند ذاك دبَّت في مرمى البصر منهم ضفدعة ما لبثت أن توارَت في العشب، وهفت نسمة مُؤذنة بتداني المساء، وتخفَّف العالم المحدق بهم من زياطة وضوضائه، فأذن المجلس بالختام، وملأه ذلك بالجزع، فجعلت عيناه تتقلَّبان في المكان لتمتلئا من منظره. هنا بدَت أول مرة باعثة شعاع الحب، وهنا صدح الصوت الملائكي ﺑ «يا كمال»، وهنا دار حوار العذاب حول الرأس والأنف، وهنا عالَن المعبود بخصام التجني، وفي تضاعيف هذا الجو ترقد ذكريات عواطف ومشاعر وانفعالات لو مسَّتها يد العبث يومًا لأحيت الصحراء ونضرت وجهها، املأ من هذا كله عينيك وأرِّخه، فإن حوادث كثيرة تبدو وكأنها لم تقع لو لم يُقيدها يوم وشهر وعام، إننا نستعدي الشمس والقمر على خط الزمان المستقيم لنُدوره لتعود إلينا الذكريات الضائعة، ولكن لا شيء يعود أبدًا، فذُبْ في الدموع أو تسلَّ بالابتسام.

وقف إسماعيل لطيف وهو يقول: آنَ لنا أن نذهب.

ترك إسماعيل يسبقه إلى عناق صاحبه، ثم جاء دوره فتعانَقا طويلًا طبع على خده قبلة وتلقى مثلها، فغمت خياشيمه رائحة آل شداد مُمثَّلة في صاحبه، زكية، لطيفة، كأنها عبير غير آدمي، أو نفثات حلم دوَّم في سماء مليئة بالمسرات والآلام، فأفعم بها حناياه حتى ثَمل. ولبث صامتًا مليًّا حتى يملك عواطفه، غير أنه عندما تكلم تهدج صوته وهو يقول: إلى اللقاء ولو بعد حين.

٣٥

– لا يوجد أحد إلا الخدم!

– ذلك لأن ضوء النهار لم يكد يَختفي بعد، والزبائن يَفِدون عادة مع الليل، هل ضايقك خلو المكان؟

– أبدًا، خلو المكان عامل مشجِّع على البقاء، خاصة وأنها أول مرة.

– للحانات هنا ميزات لا تُقدر بثمن، فهي تقوم في طريق لا يَقتحمه إلا ساعٍ وراء لذَّة محرمة، فلن يُكدر صفوك هنا لائم أو زاجر. وإذا عثر بك شخص تحترمه كأبيك أو ولي أمرك، كان هو الأحق باللوم والأخلق بأن يَتجاهلك أو يفر من سبيلك إن استطاع.

– اسم الشارع وحده فضيحة!

– لكنه أدعى إلى الطمأنينة من غيره، لو أننا ذهبنا إلى إحدى حانات شارع الألفي، أو عماد الدين، أو حتى محمد علي، لما أمنَّا أن يرانا أب أو أخ أو عم أو ذو مال. ولكنهم لا يجيئون إلى وجه البركة فيما أرجو.

– منطقك سليم، غير أني لا زلت مُضطربًا.

– صبرك، الخطوة الأولى دائمًا عسيرة، ولكن الخمر مفتاح الفرج؛ لذلك أعدك بأنك ستجد الدنيا عند ذهابنا ألطف وأعذب مما عهدتها قبل ذلك.

– حدثني عن أنواع الخمور، أيها الأوفق أن أبدأ به؟

– الكونياك عنيف، وإذا مزج بالبيرة فقل على شاربه السلام، الويسكي مقبول الطعم جيد الأثر، أما الزبيب …

– لعلَّ الزبيب ألذها! ألم تسمع صالح وهو يغني: «وسقاني شراب الزبيب»؟!

– طالما قلت لك: إنه لا عيب فيك إلا الإغراق في الخيال، الزبيب أقبحها رغم أنف صالح، فيه طعم الأنيسون الذي تجزع منه معدتي، فلا تقاطعني.

– معذرة.

– وهنالك البيرة، ولكنها شراب الحَر، ونحن والحمد لله في سبتمبر، وهناك النبيذ، غير أن عاقبته لطسة بنت كلب.

– إذن … إذن … فهو الويسكي.

– برافو، توسَّمتُ فيك النجابة من قديم، ولعلك توافقني بعد قليل على أن استعدادك للهزل يفوق استعدادك للحقيقة، والخير، والجمال، والوطنية، والإنسانية، إلى آخر هذه القائمة من الخزعبلات التي تُتعب بها قلبك دون جدوى.

ونادى النادل، فطلب كأسين من الويسكي.

– من الحكمة أن أقنع بكأس واحدة.

– قد تكون هذه هي الحكمة، غير أننا لم نجئ هنا لطلب الحكمة، وسوف تعلم بنفسك أن الجنون ألذُّ من الحكمة، وأن الحياة أخطر من الكتب والفكر، اذكر هذا اليوم ولا تنسَ صاحب الفضل عليك.

– لا أحب أن أفقد الوعي، أخاف أن …

– كن حكيمَ نفسك.

– المهم عندي أن أجد الشجاعة للسير في الدرب إياه بلا تردُّد، وأن أدخل عند الحاجة.

– اشرب حتى تشعر بأنك لا تُبالي أن تدخل.

– حسن، أرجو ألا أندم على فعلتي فيما بعد.

– تندم؟! طالما دعوتك من قبل فكنت تعتذر بالتقوى والتدين، ثم جاهرت بأنك لم تعد تؤمن بالدين، فكررت عليك الدعوة، فما أعجب إلا لرفضك باسم الخُلُق! لكن يجب أن أعترف بأنك اتبعت المنطق أخيرًا.

أجل أخيرًا. بعد فترة من القلق والحيرة بين أبي العلاء والخيام، أو بين التقشف واللذة. وقد نزَع به طبعه إلى مذهب الأول، فإنه وإن بشَّر بحياة قاسية إلا أنها وافقَت ما نشأ عليه من تقاليد، ولكنه لم يَدرِ إلا ونفسه تهفو إلى الفناء، وكأن صوتًا خفيًّا راح يهمس في أذنه: لا دين ولا عايدة ولا أمل، فليكن الموت. عند ذاك ناداه الخيام بلسان هذا الصديق فلبَّى محتفظًا بمبادئه السامية رغم هذا، وإن يكن قد وسع من معنى الخير حتى وسع مسرات الحياة جميعًا، قائلًا لنفسه: إنَّ الإيمان بالحقيقة والجمال والإنسانية أسمى أنواع الخير، وإنه لذلك كان ابن سينا يختم يوم الفكر بالشراب والحسان، ومهما يكن من أمر فإنه لم يجد سوى هذه الحياة الواعدة مُنقذًا من الموت.

– إني معك في هذا، ولكنَّني لم أتخلَّ عن مبادئي.

– أعلم أنك لن تتخلَّى عن أوهامك، طول المعاشرة جعلها حقيقة أكثر من الحقيقة نفسها، لا بأس أن تقرأ، بل وأن تَكتب ما وجدت قُرَّاء، اجعل من الكتابة وسيلة للشهرة والثروة، ولكن لا تأخذها مأخذ الجد، كنتَ مُتدينًا عنيفًا، وأنت الآن مُلحد عنيف، دائمًا عنيف قلق كأنك مسئول عن البشرية، الحياة أبسط من هذا كله، مركز في الحكومة يُرضي النفس، ويُهيِّئ مُستوًى لا بأس به من المعيشة، استمتاع بلذات الحياة بقلب مُتفتح خالٍ من الهموم، استمساك بقدر من القوة والاعتداء عند اللزوم يَضمن لك الكرامة والفوز، فإذا وافقَتْ هذه الحياة الدين فبها ونعمت، وإلا فذنبه على جنبه.

الحياة أعمق وأعرض من أن تَنحصِر في شيء واحد ولو يكون السعادة نفسها، اللذة ملاذي، ولكن ارتقاء الجبال الصعبة سيظل مطلبي، عايدة ذهبت فيجب أن أخلق عايدة أخرى بكل ما ترمز إليه من معانٍ، أو فلتذهب الحياة غير مأسوف عليها.

– ألم تشغل فكرك أبدًا بما فوق هذه الحياة من معانٍ؟

– هق! شُغلت عن ذلك بالحياة نفسها، أو بالجري بحياتي أنا، ليس في بيتنا كافر وليس فيه متديِّن، وهكذا أنا.

صديق ضروري مثل وقت الفراغ، شاذُّ المنظر مثل منظرك، موصول الذكريات بعايدة فهو في القلب. رائد هذه الدروب الغنَّاء، جبار إن تحدَّيته، يفتقد في المسرات دون الجد والملمات، ليس فيه للروح موضع، غاب وراء البحار صديق الروح والعقل … فؤاد الحمزاوي ذكي ولكن لا فلسفة له. نفعي حتى في تذوُّق الجمال … يبغي وراء الأدب بلاغة ينتفع بها في تحبير المرافعات، مَنْ لي بوجه حسين وروحه؟ وجاء النادل فوضع على المنضدة كأسَين طويلين مُضلعي الكعب، وفض سداد قارورة الصودا وصب في الكأسين، فتحول الذهب إلى بلاتين مموه باللآلئ، ورص أطبق السلطة والجبن والزيتون والمرتدلا، ثم ذهب، ردَّد كمال بصره بين كأسه وبين إسماعيل، فقال الأخير باسمًا: افعل كما أفعل، ابدأ بجرعة كبيرة، صحتك.

غير أنه اكتفى بحسوة وراح يتذوَّقها، ثم لبث يترقب. ولكن عقله لم يطر كما كان يتوقع فتجرع جرعة كبيرة، ثم تناول قطعة من الجبن ليغير الطعم الغريب الذي انتشر في فيه.

– لا تتعجَّلني.

– العجلة من الشيطان، المهم أن تترك مكانك وأنت على حالٍ تُمكنك من اقتحام ما تريد.

ما الذي يُريد؟ امرأة ممن استثرن تقزُّزه ونفوره وهو مُفيق، فهل يُحلي الشراب مرارة الابتذال. كان يُناضل الغريزة بالدين وبعايدة، أما الآن فقد خلا للغريزة الجو. غير أن ثمة حافزًا آخر للمغامرة هو أن يَكتشف المرأة! ذلك المخلوق الغامض الذي تنطوي عايدة نفسها تحت جنسه ولو كره. لعل في ذلك عزاءً عن السهاد والدموع المطوي سرُّها في جوف الليل المكتوم، وتكفيرًا عن العذاب الدامي الذي لا أمل في التداوي منه إلا باليأس والذهول، الآن يستطيع أن يقول: إنه خرج من زنزانة الاستسلام ليخطو الخطوة الأولى في طريق الخلاص وإن يكن طريقًا مخمورًا محفوفًا بالشهوات والمكاره. وتجرَّع جرعة أخرى وانتظر، ثم ابتسم، أما باطنه فكان يحتفل بمولد إحساس جديد يَنفث حرارة وصبوة، فتابعه مستسلمًا كما يُتابع نغمة حلوة. وكان إسماعيل يُراقبه بإمعان، فقال باسمًا: أين حسين ليشهد بنفسه هذا المنظر؟

أين حسين أين؟

– سوف أكتب له عنه بنفسي، هل رددتَ على رسالته الأخيرة؟

– نعم، رددتُ برسالة موجزة كرسالته.

له وحده أسهبَ وأفاضَ حتى سجل كل خاطرة، يا للسعادة التي خصَّ بها وحده! لكن لا ينبغي أن يبوح بسر رسالته أن يُثير غيرة مدربه.

– كانت رسالته إليَّ موجزةً أيضًا فيما عدا الحديث الذي تَعرفه ولا تُحبه.

– الفكر! (ثم وهو يَضحك) … ما حاجته إلى هذا هو الذي سيرث ثروة تملأ المحيط، ما سرُّ ولعه بهذه الخزعبلات؟ التكلُّف أم الغرور أم الاثنان معًا؟

جاء دور حسين ليمدَّ تحت المطرقة، ترى ماذا تقول عني في غيابي؟

– لا تناقض بين الفكر والغِنى كما تظن، لقد ازدهر الفكر في اليونان القديمة بفضل بعض السادة الذين لم يَشغلهم طلب الرزق عن التفرغ للعلم.

– صحتك يا أرسطو.

أفرغ بقية كأسه وترقب. ثم تساءل: هل مرَّت به حال كهذه من قبل؟ نافث الحرارة الوجدانية ينطلق في الدورة الدموية، يجرف في طريقه الفجوة التي تتجمَّع بها نفايات الأكدار، قمقم النفس يتفكَّك لحام أحزانه فتطير منه عصافير المسرات مُترنمة، وهذا صدى نغمة مطربة، وهذه ذكرى أمل واعد، وذاك طيف بهجة عابرة، الخمر لعاب كله السعادة.

– ما رأيك في كأسين أخريين؟

– عمرك أطول من عمري.

ضحك إسماعيل ضحكة عالية وهو يُومئ إلى النادل بأصبعه. ثم قال بارتياح: أنت سريع الاعتراف بالجميل.

– هذا من فضل ربي.

وجاء النادل بالكأسَين والمزة. وأخذ الزبائن يفدون مطربشين ومقبَّعين ومعمَّمين، فيستقبلهم النادل بمسح وجوه المناضد بالمناشف إذ كان الليل قد أقبل، وأضيئت المصابيح؛ فتألَّقت المرايا الملتصقة بالجدران مصوَّرًا على أسطحها قوارير الديوارس والجون ووكر، وترامت من الخارج ضحكات مُلعلعة كالأذان غير أنها تدعو للفجور، وصوبت نحو منضدة الصديقين المراهقين نظرات إنكار متسامح باسم، ثم ورد من الطريق بائع جمبري صعيدي، فبائعة فول ذات ثنيتَين ذهبيتَين، وماسح أحذية، وصبي كبابجي هو في الوقت ذاته قواد كما دل ترحيب الجلوس به، وقارئ كف هندي، ثم لا تسمع هنا وهناك إلا «صحتك» وها ها، وفي مرآة تلي رأس كمال مباشرة نظر فرأى وجهه موردًا، وبصره لامعًا باسمًا، وفيما وراء صورته عكست المرآة منظر رجل عجوز وهو يرفع كأسه إلى فيه، ثم يتمضمض بحركة أرنبية، ويزدرد الشراب، ثم يقول لجليسه بصوت مسموع: «المضمضة بالويسكي سنة عن جدٍّ لي مات وهو يسكر!» فحول كمال وجهه عن المرآة، وقال لإسماعيل: نحن أسرة محافظة جدًّا، أنا أول ذائق للخمر فيها.

فهز إسماعيل منكبيه هازئًا، ثم قال: كيف تحكم على ما ليس لك به علم؟ هل شاهدت شباب والدك؟ أما أبي فيتناول كأسًا مع الغداء وأخرى مع العشاء، وقد أمسك عن الشراب في الخارج، أو هذا ما يدَّعيه أمام والدتي.

لُعاب إله السعادة يتسرَّب إلى مملكة الروح، وهذا الانقلاب الغريب الذي حدث في لحظات لا تقدر البشرية على إدراكه في أجيال وأجيال، وهو في جملته يجود بمعنى باهر جديد لكلمة «السحر»، وأعجب شيء أنه لم يكن جديدًا كل الجدة، فلعلَّه طاف بالرُّوح مرة، ولكن متى؟ وكيف؟ وأين؟ إنه موسيقى باطنية تعزفها الروح، وما الموسيقى المعهودة بالقياس إليها إلا كقشور التفاح بالقياس إلى لبابِه، ترى ما سرُّ السائل الذهبي الذي صنع هذه المعجزة في لحظات معدودات؟ لعله طهر مجرى الحياة من الزبد والرواسب، فانطلقت وثبة الحياة المكبوتة كما انطلقت أول مرة حرية مُطلَقة ونشوة خالصة، فهذا هو الشعور الطبيعي بوثبة الحياة إذا تحرَّرت من ربقة الجسد، وأغلال المجتمع، وذكريات التاريخ، ومخاوف المستقبل، موسيقى رائقة نقية تقطر طربًا، وتصدر عن طرب، مثلها طاف برُوحي من قبل، ولكن متى؟ وكيف؟ وأين؟ آه، يا للذكرى، إنها الحب! يوم نادت: «يا كمال» أسكرتك وأنت لا تدري ما السُّكْر، فقِرَّ بأنك سكِّير قديم، وأنك عربدت دهرًا في طريق الهوى المخمور المعبد بالأزهار والرياحين، كان ذلك قبل أن يتحوَّل قطر الندى الشفاف إلى وحل، فالخمر رُوح الحب إذا انجابت عنه بطانة الآلام، فحبَّ تَسكر أو اسكَر تحب.

– الحياة جميلة مهما قلتَ وأعدت.

– ها ها، أنت الذي تقول وتعيد.

طبع المُقاتل على خدِّ غريمه قبلة صافية فحلَّ السلام على الأرض، وغرَّد البلبل فوق غصن ريان، فطرب العاشقون في أربعة أركان المعمورة، وطار طائر الأشواق من القاهرة إلى بروكسل مارًّا بباريس فاستقبل بالحنان والأناشيد، وغمس الحكيم شباة قلمه في مداد قلبه فسجل وحيًا منزلًا، ثم آوى المجرب إلى شيخوخته فألمت به ذكرى دامعة بعثت في صدره ربيعًا مكتمًا، أما أسلاك الشعر الأسود المُسدل على الجبين فكعبة يتَّجه إليها الثملون في حانات الوجد.

– كتاب وكأس وحسناء وارمِني في البحر.

– ها ها، سيُفسد الكتاب الكأس والحسناء والبحر.

– لسنا متَّفقين في فهم معنى اللذة، تراها أنت لهوًا وعبثًا، وهي عندي الجد كل الجد، هذه النشوة الآسرة هي سر الحياة وغايتها العليا، وما الخمر إلا بشيرها والمثال المحسوس المتاح لها، وكما كانت الحدأة مقدمة لاختراع الطائرات، والسمكة تمهيدًا لاختراع الغواصة، فالخمر ينبغي أن تكون رائد السعادة البشرية، والمسألة تتلخَّص في هذه الكلمة: كيف نجعل من الحياة نشوة دائمة كنشوة الخمر دون الالتجاء إلى الخمر؟ لن نجد الجواب في النضال والتعمير والقتال والسعي، فكل أولئك وسائل وليست بغايات، السعادة لن تتحقق حتى نفرغ من استغلال الوسائل كلها لنتمكَّن من أن نحيا حياة عقلية روحية خالصة لا يكدرها مكدر، هذه هي السعادة التي أعطتنا الخمر مثالها، كل عمل وسيلة إليها، أما هي فليست وسيلة لشيء.

– الله يخرب بيتك.

– لمه؟!

– كان أملي أن أجدَك في نشوتك محدثًا طريفًا لطيفًا، ولكنَّك كالمريض يزيد مرضه بالخمر استفحالًا، فيمَ تتحدَّث يا ترى إذا شربت الكأس الثالثة؟

– لن أشرب أكثر مما شربت، إني الآن سعيد، وفي وسعي أن أدعو أية امرأة تعجبني.

– هلا انتظرت قليلًا.

– ولا دقيقة واحدة.

سار مُتأبطًا ذراع صاحبه غير هياب ولا متردِّد، ينتظمه تيار من البشر يتلاطم مع تيار آخر قادم من الوجهة المضادة، في طريق مُلتوٍ ضاقَ بروَّاده. كانت الرءوس تدور إلى اليمين تارة، وإلى اليسار أخرى، وعلى الجانبين بدت مُضيفات الطريق قائمات وقاعدات يُقلِّبن في وجوههنَّ المقنَّعات بالزُّواق الفاقع أعين الترحيب والإغراء، ولا تمضي آونة حتى يَمرق أحدهم من التيار إلى إحداهن فتَتبعه إلى الداخل، وقد مسحت عن عينها نظرة الإغراء لتحلَّ محلها نظرة الجد والعمل، وكانت المصابيح المركبة فوق أبواب البيوت والمقاهي تضيء الطريق بأنوار ساطعة انعقدت في أعاليها سحب الدخان المتطاير من بخور المجامر وتبغ الجوز والنارجيلات، أما الأصوات فقد تلاقت واختلطت في دوَّامة صاخبة دارت بها الضحكات، والهتافات، وصرير الأبواب، والنوافذ، وعزف البيانو، ومزيكة اليد، وتصفيق الأيدي الراقصة، وزعيق الشرطي، والشخير والنخير، وسعال الحشاشين، وصراخ السكارى، واستغاثات مجهولة، وقرع عصى، وغناء فردي وجماعي، وفوق الجميع لاحت السماء قريبة من أسطح البيوت البالية ترنو إلى الأرض بأعيُن لا تطرف. كل حسناء هنا في متناول اليد، تجود بحسنِها وأسرارها نظير عشرة قروش لا غير، فمن كان يصدق هذا قبل أن يراه؟ وخاطب إسماعيل قائلًا: هارون الرشيد يخطر في بهو الحريم.

فتساءل إسماعيل ضاحكًا: ألم تُعجبك جارية يا أمير المؤمنين؟

فأشار كمال إلى بيت، وقال: كانت تقف عند هذا الباب الخالي، ترى أين ذهبت؟

– مع زبون في الداخل يا أمير المؤمنين، فليَنتظر مولانا حتى يقضي أحد رعاياه وطره.

– وأنت ألم تجد ضالتك؟

– إني قديم عهد بالطريق وأهله، ولكني لن أمضي إلى وجهتي حتى أسلمك إلى صاحبتك، ماذا أعجبك فيها؟ يوجد أجمل منها كثيرات.

سمراء لم يطمس الزواق سمرتها، وفي حنجرتها وترٌ يذكر من بعيد بتلك الموسيقى الخالدة، وقد تجد العين نوعًا من الشبه بين بشرة المُختنق وأديم السماء الصافية: أتعرفها؟

– تُدعى هنا وردة، واسمها الحقيقي عيوشة.

عيوشة-وردة! لو يستطيع الإنسان أن يغير ماهيته كما يغير اسمه! في عايدة نفسها شيء يشبه مركب عيوشة-وردة، وفي الدين، وفي عبد الحميد بك شداد، وفي الآمال العريضة، أواه! لكن الخمر ترفعُك إلى عرش الآلهة فترى هذه المُتناقضات غارقةً في أمواج الفكاهة المُقهقهة، مُستحقة للعطف. وشعر بكوع إسماعيل يَنهزه في جنبه وهو يقول (دورك)، فنظر صوب الباب فرأى رجلًا يغادر البيت مُتعجِّلًا، وإذا بالمرأة تعود إلى موقفها كما رآها أول مرة، فاتجه نحوها بقدمَين ثابتتَين فتلقته بابتسامة، ثمَّ مضى إلى الداخل وهي في أثره تغني: «ارخ الستارة اللي في ريحنا»، ووجد سلمًا ضيقًا فرقيَ فيه وقلبه يخفق حتى انتهى إلى دهليز يُفضي إلى صالة، وصوتها يلاحقه قائلًا من حين لآخر: «يمينك»، «شمالك»، «هذا الباب الموارب». حجرة صغيرة مورقة الجدران، مكونة من فراش، وتسريحة، ومشجب، وكرسي خشب، وطست، وإبريق. ووقف في وسط الحجرة كالمُرتبك وعيناه تراقبانها. ومضت هي تُغلق الباب والنافذة التي كان يترامى منها صوت دفٍّ وصفارة وتصفيق، ولاح وجهها في أثناء ذلك جادًّا بل أقرب إلى العبوس والصرامة حتى تساءل ساخرًا عما تُبيِّته له، ثم واجهته، وراحت تقيسه بعينيها طولًا وعرضًا، ولما مرَّتا برأسه وأنفه داخَلَه قلق، غير أنه أراد أن يتغلب على قلقه فاقترب منها فاتحًا ذراعيه، ولكنها استنظرته بحركة جافة من يدها وهي تقول: «انتظر.» فتسمَّر في مكانه، بيد أنه كان مصممًا على تذليل العراقيل، فقال باسمًا فيما يشبه السذاجة: أنا اسمي كمال.

فحدجته بنظرة داهشة وهي تقول: تشرفنا!

– ناديني، قولي لي: «يا كمال»!

فقالت وما تزداد إلا دهشة: لماذا أُناديك وأنت أمامي كالرزية؟

أعوذ بالله! ترى أتمازحه؟ وازداد تصميمًا على إنقاذ الموقف، فقال: قلتِ لي انتظر، ماذا أنتظر؟

– في هذا لك حق.

قالت ذاك، ثم نزعت ثوبها بحركة بهلوانية، ووثبَت إلى الفراش ففرقع تحت ثقلها، واستلقت على ظهرها وراحت تربت بطنها بأناملها المخضَّبة بالحناء، اتسعت عيناه إنكارًا. لم يكن يتوقَّع هذه المُفاجأة البهلوانية. وشعر بأن كلًّا منهما في وادٍ، وما أبعد المدى بين وادي اللذَّة ووادي العمل … انهدم في لحظة ما أقامه الخيال في أيام، وجرت مرارة الامتعاض في ريقه. غير أن الرغبة في الاكتشاف لم تفتر فغالب انزعاجه، ثم حرك ناظريه صوب الجسد العاري حتى استقر على هدف، وبدا حينًا كأنه لا يصدق عينيه. وأحدَّ بصره في انزعاج وتقزَّز حتى شعر في النهاية بما يُشبه الرعب. أهذه هي الحقيقة أم أنه أساء اختيار المثال؟ ولكن مهما يكن من سوء اختياره فهل يُغيِّر هذا من الجوهر؟ ونزعم أننا نحب الحقيقة! شدَّ ما ظلموا رأسك وأنفك! وحدثته نفسه بالهرب، وأوشك أن يُصغي إليها، ولكنه تساءل فجأة: لماذا لم يَهرب الرجل الذي سبقه؟ وماذا يقول لإسماعيل إذا عاد إليه؟ كلا لن يهرب، لن يَتراجع أمام المحنة.

– ما لك واقفًا كالتمثال؟

هذه النبرة التي هزت الفؤاد، لم تكذب الأذنان ولكن الجهل كذاب، سوف تضحك كثيرًا من نفسك، ولكن وأنت ظافر لا هارب، هب الحياة مأساة فعليك أن تلعب دورك.

– أتقف هكذا حتى الفجر؟

قال بهدوء غريب: نُطفئ النور.

فهبت جالسة في الفراش وهي تقول بجفاء وحذر: بشرط أن أراك في النور.

تساءل في إنكار: لمه؟

– حتى أطمئنَّ إلى صحتك.

وتجرد للاختبار الصحي في منظر بدا له آيةً في الهزْل، ثم ساد ظلام دامس.

وعندما عاد إلى الطريق كان يحمل بين جنبَيه قلبًا فاترًا مليئًا بالحزن، وخُيِّل إليه أنه وسائر البشر يعانون تدهورًا مؤلمًا، وأن الخلاص منه بعيد. ورأى إسماعيل مقبلًا نحوه راضيًا ساخرًا متعبًا وهو يتساءل: كيف حال الفلسفة؟

فتأبط ذراعه وسار به يسأله بدوره جادًّا: هل النساء جميعًا متشابهات؟

فألقى عليه الشاب نظرة مُتسائلة، فأفصح له كمال عن شكوكه ومخاوفه في عبارة موجزة، فقال إسماعيل باسمًا: على العموم الأصل واحد وإن اختلفَت الأعراض، إنك مُضحك لدرجة تستحق الرثاء، هل أستنتج من حالك أنك لن تعود إلى هنا مرة أخرى؟

– بل سأعود أكثر مما تظن، دعنا نشرب كأسًا أخرى.

ثم وكأنه يُحدِّث نفسه: الجمال … الجمال! … ما هو الجمال؟

تاقت نفسه في هذه اللحظة إلى التطهر والانعزال والتأمل، وحنَّ إلى ذكرى الحياة التي عاشها مُعذبًا في ظل المعبودة، ثم بدا وكأنه آمن بقسوة الحقيقة إلى الأبد. أيجعل من الإعراض عن الحقيقة مذهبه؟ سار مُتفكِّرًا في طريق الحانة يكاد لا يلقي بالًا إلى ثرثرة إسماعيل. إذا كانت الحقيقة قاسية فالكذب دميم، ليست الحقيقة قاسية، ولكن الانفلات من الجهل مؤلم كالولادة، اجرِ وراء الحقيقة حتى تنقطع منك الأنفاس، ارضَ بالألم حتى تخلق نفسك من جديد، هذه المعاني تحتاج إلى عمر لاستيعابها، عمر من التعب تتخلَّله سويعات من الخمر.

٣٦

أما هذا المساء، فقد جاء كمال الدربَ وحده، جاء ثملًا يترنَّم بصوت هامس، غير هياب وهو يشق بين تيار البشر الصاخب سبيلًا. ووجد باب وردة خاليًا، ولكنه لم يتردَّد كما فعل أول عهده بالدرب، وإنما قصد البيت ودخل دون استئذان، فارتقى السلَّم حتى انتهى إلى الدهليز، وهناك مد بصره إلى الباب المغلق الذي بدا ضوء في ثُقب مفتاحه، ثم مال إلى حجرة انتظار ألفاها لحُسن الحظ خالية، وجلَس على مقعد خشبي مادًّا ساقَيه في ارتياح. وبعد مرور دقائق سمع صرير الباب وهو يفتح فتوثَّب للقيام، وغادر الرجل الآخر الحجرة كما نمت عليه أقدامه متجهًا نحو السلم، فتريث لحظات، ثم نهض وذهب إلى الدهليز، فرأى وردة خلال باب حجرتها المفتوح وهي تعيد ترتيب الفراش، فلما لمحته ابتسمَت، وهتفت به أن يعود إلى مجلسه دقيقة واحدة، فعاد من حيث أتى وهو يبتسم في ثقة، ثقة الزبون الذي جاز فترة الحضانة. ولم تكد تمر دقيقة على جلوسه حتى ترامى إليه وقع أقدام صاعدة فاستقبلها بضيق؛ لأنه يَكره البقاء مع غيره من المنتظرين، غير أن القادم اتجه نحو حجرة وردة، وما لبث كمال أن سمع المرأة وهي تُخاطب القادم قائلة برقَّة: عندي زبون فاذهب إلى الحجرة وانتظر.

ثم رفعت صوتها مُنادية إياه وهي تقول: «تفضل!» فقام كمال وغادر الحجرة دون تردد، فالتقى بالقادم في الدهليز، وجد نفسه وجهًا لوجه مع ياسين! التقَت عيناهما في نظرة ذاهلة، وسرعان ما غضَّ كمال جفنيه وهو يذوب خجلًا وارتباكًا واضطرابًا. وأوشك أن يندفع هاربًا لولا أن عاجله ياسين بضحكة عالية رنت في سقف الدهليز رنينًا عجيبًا، فرفع الشاب إليه عينَيه فرآه فاتحًا ذراعيه وهو يهتف في سرور: يا ألف ليلة بيضا! … يا ألف نهار سلطاني!

وقهقه عاليًا فتعلق به نظر كمال في ذهول، ولما طالع فيه المرح الصافي جعل يُفيق إلى نفسه حتى ارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة مُتسائلة. ثم رجعت إليه الطمأنينة وإن لم يُفارقه الحياء. وراح ياسين يقول بصوت خطابي: هذه ليلة سعيدة، الخميس ٣٠ أكتوبر سنة ١٩٢٦، ليلة سعيدة حقًّا، ويجب أن نحتفل بها كل عام، ففيها تكاشف أخوان، وفيها ثبت أن صغير الأسرة يتقدَّم حاملًا لواء تقاليدها المجيدة في عالم اللذات!

وعند ذاك جاءت وردة وهي تسأل ياسين: صديقك؟

فقال ياسين ضاحكًا: بل أخي ابن أبي وأ … كلا ابن أبي فقط، أرأيتِ أنك معشوقة الأسرة يا بنت الذين؟

فتمتمَت قائلة: «عفارم!» ثم خاطبت كمال قائلة: واجب الأدب يقضي بأن تنزل لأخيك الأكبر عن دورك يا نونو.

فضحك ياسين ضحكتَه الكبيرة، وقال: واجب الأدب! من ذا الذي علَّمكِ آداب الوصل؟ تصوَّري أخًا ينتظر أخاه على الباب! … ها … ها …

فرمقته بنظرة تحذير وهي تقول: اضحك بصوتك المُخيف حتى تُسمِع البوليس يا سكير، ولكنَّك تُعذَر ما دام أخوك النونو لا يجيئني إلا مترنحًا.

حدج ياسين كمال بنظرة دهش وإكبار، ثم قال: أعرفتَ هذا أيضًا؟! رباه حقًّا إننا أولاد حلال، أولاد حلال بالمعنى، قرِّب فاك لأشمه! ولكن لا فائدة من ذلك؛ فالسكران لا يشمُّ رائحة السكران، خبرني الآن: ما رأيك في هذه الحكمة التي تعلَّمتها من الحياة لا من الكتب؟ … (ثم وهو يشير إلى وردة) … إن زيارة واحدة لبنت الملسوعة هذه تُعادل مطالعة عشرة كتب محرَّمة، إذن فأنت تسكر يا كمال؟! يا ألف نهار أبيض! نحن أصدقاء من قديم الزمان، أنا أول مَن عد …

– الله، الله! … هل أنتظر حتى مَطلع الفجر!

دفع ياسين كمال وهو يقول: ادخل معها وسوف أنتظر أنا.

ولكن كمال تقهقر وهو يهزُّ رأسه بالرفض القاطع. ثم تكلم لأول مرة قائلًا: كلا، ليس … ليس الليلة.

ودسَّ يده في جيبه فأخرج نصف ريال ثم أعطاه المرأة، فهتَف ياسين بإعجاب: تحيا الشهامة! لكنني لن أتركك وحدك.

وربَّت كتف وردة مودعًا، ثم تأبط ذراع كمال وذهبا معًا حتى غادرا البيت، قال ياسين: يجب أن نحتفل بهذه الليلة، فلنُمضِ بعض الوقت في بار، إني عادةً أشرب في شارع محمد علي مع نفر من الموظفين وغيرهم، ولكن المكان غير مناسب لك فضلًا عن بُعده، فلنختَر مكانًا قريبًا حتى نتمكن من العودة مبكِّرين، بتُّ حريصًا مثلك على العودة المبكرة منذ زواجي الأخير، أين سكرت يا بطل؟

غمغم كمال في حياء: فنش.

– عال! هلم بنا إليه، تمتَّع بوقتك دون تهاون، فغدًا حين تُصبح معلمًا سيتعذَّر عليك زيارة هذا الحي ببيوته وحاناته، (ثم وهو يضحك): تصور أن يَلقاك هنا أحد تلاميذك! على أنَّ ميدان اللهو واسع وسوف تتدرج فيه من حسن إلى أحسن.

ومضيا إلى فنش صامتين. كان من حُسنِ الحظ أن العلاقة بين ياسين وكمال لم تَفتُر بعد هجرة ياسين للبيت القديم. ولم يكن بينهما كُلفة؛ إذ كان من طبع ياسين ألا يُعنى بحقوقه التي تَكفلها له مكانته في الأسرة، إلى أن مخالطة كمال له واطلاعه على سيرته عن كثب واستماعه إلى ما يُقال عنه جعلته يؤمن بولع أخيه بالنساء وميله مع الأهواء، ولكنه رغم هذا كله قد بوغت بلقائه في بيت وردة مُباغَتةً عنيفة؛ إذ لم يذهب به الخيال إلى حد تصوُّر ياسين سكيرًا أو متسكعًا في هذا الدرب! وبمرور الوقت أخذ يتخفَّف رويدًا رويدًا من وقع المفاجأة، كما مضى الشعور بالانزعاج يزايله، ثم حل محله إحساس بالطمأنينة بل بالارتياح. ولما بلغا فنش وجداه مكتظًّا بالجلوس، فاقترح ياسين أن يجلسا في الخارج، واختار مائدة عند طرف الطوار على ناصية الطريق ليبتعدا ما أمكن عن الناس، ثم جلسا متقابلين وهما يبتسمان: أشربتَ كثيرًا؟

أجاب كمال بعد تردد: كأسين.

– لا شك أن لقاءنا غير المتوقَّع طير أثرهما، فلنُعدِ الكرة، أما أنا فلا أشرب إلا قليلًا، سبعة أو ثمانية.

– يا خبر! أيعد هذا قليلًا؟

– لا تدهش كالسذج، فإنك لم تَعُد ساذجًا.

– على فكرة، قبل شهرَين لم أكن أدري شيئًا عن طعمها.

فقال ياسين كالمستنكر: شهرين! يبدو أني احترمتك أكثر مما تَستحق.

وضحكا معًا. ثم طلب ياسين كأسين. وعاد يتساءل: ومتى عرفت وردة؟

– عرفت وردة والويسكي في ليلة واحدة.

– وما خبرتك بالنساء عدا ذلك؟

– لا شيء.

فحنى ياسين رأسه وهو ينظر إليه من تحت حاجبَيه مقطبًا في ابتسام، كأنما يقول له: «اطلع من دول»، ثم قال: إياك وادعاء البلاهة، لم يَفُتْني أن أطلع في زمن مضى على مناورات كانت تدور بينك وبين بنت أبو سريع صاحب المقلى، تارةً بالعين، وتارة بالإشارة، هه؟ هذه الأمور لا تخفى على الخبير يا عكروت، ولكن لا شك أنك قنعت بالعبث السطحي حتى لا تجد نفسك مضطرًّا إلى مصاهرة عم أبو سريع، كما صاهرَت حماتي السابقة بيومي الشربتلي، هه؟ وها هو قد أصبح من ذوي الأملاك وجاركم الملاصق. ترى أين اختفت مريم؟ لا أحد يعلم عنها شيئًا، كان أبوها رجلًا طيبًا. ألا تَذكر السيد محمد رضوان؟ فانظر ما آل إليه بيته؟ لكنها الأخلاق لا تستهين بها امرأة إلا هانت!

فما تمالك كمال أن ضحك متسائلًا: والرجل ألا يَلحقه من استهانته شيء؟

فضحك ياسين ضحكته الكبيرة، وقال: الرجل غير المرأة يا طويل اللسان، خبِّرني كيف حال والدتك؟ الستُّ الطيبة، ألا زالت حانقة عليَّ حتى بعد طلاق مريم؟

– لا أظنها تذكر شيئًا من الأمر كله، قلب أبيض كما تعلم.

فأمن على قوله، ثم هز رأسه كالآسف. وجاء النادل بالشراب والمزة، وسرعان ما رفع ياسين كأسه وهو يقول: «صحة آل محمد»، فرفع كمال كأسه، ثم شرب نصفها على أمل أن يسترد ما ذهب من مرحه، وقال ياسين بفمٍ مملوء بالخبز الأسود والجبن: كان يُخيَّل إليَّ أنك ستكون أقرب إلى خُلقِ والدتك، كما كان المرحوم، فتنبَّأت لك بالاستقامة، ولكنَّك، ولكننا …

وحدجه كمال بنظرة متسائلة، فعاد يقول باسمًا: لكننا خُلقنا على مثال أبينا.

– أبينا! إنه الجدُّ الذي لا تطاق معه الحياة!

فقهقه ياسين عاليًا، وتريَّث قليلًا، ثم قال: إنك لا تعرف أباك، وقد كنتُ أجهله مثلك، ثم تكشَّف لي عن رجل آخر قَلَّ أن يجود الزمان بمثله.

وتوقف عن الكلام، فقال كمال بحبِّ استطلاع واهتمام: ماذا عرفت مما لم أعرف؟

– عرفت أنه قطب اللطافة والطرب، لا تُحملق فيَّ كالمعتوه، ولا تظنني سكران، والدك عمدة الفكاهة والطرب والعشق!

– أبي؟

– أول ما عرفته في بيت زبيدة العالمة.

– زبيدة ماذا؟ … ها … ها.

ولكن وجه ياسين بدا أبعد ما يكون عن الهزل. فكفَّ كمال عن الضحك قبل أن تُزايل أساريره هيئة الضحك، ثم أخذ فمه يَضيق رويدًا رويدًا حتى انطبقت شفتاه فحملق في وجه أخيه صامتًا، وهذا يحدثه عما رأى أو سمع عن أبيهما في تبسُّط وإسهاب. هل يفتري ياسين على أبيه كذبًا؟ كيف يمكن أن يقع هذا، وأي بواعث تُبرِّره؟ كلا، إنه لا ينطق إلا بما علم، وهذا إذن هو أبوه، رباه! والجد والجلال والوقار ما أمرها؟ إذا سمعت غدًا أن الأرض مسطحة أو أن أصل الإنسان هو آدم فلا تدهش ولا تنزعج، وأخيرًا تساءل: أتدري والدتي بذلك؟

ياسين وهو يضحك: لا شكَّ أنها تدري بسُكره على الأقل.

ترى كيف كان أثر ذلك في نفسها هي التي تَفزع من لا شيء؟ أتكون أمي — مثلي — ظاهرًا من السعادة، وباطنًا من الشقاء؟ قال: وكأنه ينتحل أسبابًا للدفاع لا يؤمن بها: الناس هواة مبالغة فلا تُصدِّق جميع ما يزعمون، ثم إن صحته تدلُّ على أنه رجل معتدل في حياته.

فقال ياسين بإعجاب، وهو يشير إلى النادل أن يعيد الكرَّة: إنه أعجوبة! جسمه معجزة، وروحه معجزة، كل شيء فيه معجزة، حتى طول لسانه (ضحك منهما معًا) … تصور أنه بعد هذا كله يَحكم آله كما تعلم، ويحافظ على جلاله واحترامه كما ترى! ما أضيعني!

تأمَّل هذه العجائب: أنت وياسين تتشاربان! أبوك شيخ ماجن! هل ثمة حقيقي وغير حقيقي؟ ما علاقة الواقع بما في رءوسنا؟ ما قيمة التاريخ؟ ما العلاقة بين عايدة المعبودة وعايدة الحُبلى؟ أنا نفسي ما أنا؟ لماذا تألَّمت ذلك الألم الوحشي الذي لم أبرأ منه بعد؟ اضحك حتى تنفق.

– ما عسى أن يقع لو رآنا بمجلسنا هذا؟

فرقع ياسين بإصبعه، ثم قال: أعوذ بالله!

– وهل زبيدة جميلة حقًّا؟

فصفَّر ياسين وهو يرعش حاجبيه: أليس من الظلم أن يتمتَّع أبونا بالدسم، على حين لا نجد نحن إلا الفتات؟

– انتظر حظك، ما زلت في أول الطريق.

– ألم يتغير سلوكك معه بعد وقوفك على سره؟

– إلا هذا!

لاحت نظرة حالمة في عيني كمال وهو يقول: ليته أعطانا من لُطفِه نصيبًا!

– ليته …

– ما كان أمرنا ليَفسد أكثر مما فسد!

– حب النساء والخمر ليس من الفساد في شيء.

– وكيف تفسر سلوكه على ضوء إيمانه العميق؟

– وهل أنا كافر؟ وهل أنت كافر؟ وهل كان الخلفاء كفرة؟ الله غفور رحيم!

ما عسى أن يكون جواب أبي؟ شدَّ ما أتوق إلى مناقشته، كل شيء مُحتمَل إلا أن يكون منافقًا، كلا ليس هو بالمنافق، وما أزداد له إلا حبًّا! وغمرته الجرعة الأخيرة رغبة في الدعابة، فقال: من المؤسف أنه لم يتعلَّم فن التمثيل.

فضحك ياسين ضحكة عالية، وقال: لو علمَ بما يتهيَّأ للمُمثل من حياة حافلة بالنساء والخمر لكرس حياته للفن.

أهذا الكلام الهازئ عن السيد أحمد عبد الجواد حقًّا! ولكن هل يكون هو أجل من آدم؟ ومع ذلك فالمصادفة وحدها هي التي عرفتك بحقيقة الرجل، والمصادفة هي التي لعبت في حياتك أخطر الأدوار، لو لم أصادف ياسين في الدرب لما انقشعَت عن عيني غشاوة الجهل، لو لم يجذبني ياسين على جهله إلى القراءة لكنت اليوم في مدرسة الطب كما تمنَّى أبي، ولو التحقت بالسعيدية ما عرفت عايدة، ولو لم أعرف عايدة لكنت إنسانًا غير الإنسان، ولكان الكون غير الكون، ثم يحلو للبعض أن يعيب على دارون اعتماده على المصادَفة في تفسير آلية مذهبه. قال ياسين مُستعيرًا لهجة الحكيم: سوف تُعلمك الأيام ما لم تعلم.

ثم وهو يسخر من نفسه: ها هي تُعلِّمني أن أقضي لذاتي مُبكرًا حتى لا أثير شكوك زوجتي.

وهز رأسه وهو ينظر إلى عينَي كمال المتسائلتين الباسمتين، ثم استطرد: إنها أقوى زوجاتي الثلاث، ويخيَّل إليَّ أنني لن أتخلص منها!

فسأله كمال باهتمام وهو يشير ناحية الدرب: ما الذي جاء بك إلى هذا وأنت متزوج للمرة الثالثة؟

فردَّد ياسين الجملة المشهورة من الأغنية التي سمعها كمال أول ما سمعها في دخلة عائشة: علشان كدة … علشان كدة … علشان كدة.

ثم قال مبتسمًا في شيء من الارتباك: قالت لي زنوبة مرة: «أنت لم تتزوَّج قط، كنت تعتبر الزواج نوعًا من العشق، وقد آنَ لك أن تنظر إليه بعين الجد.» أليس غريبًا أن يصدر هذا القول عن عوَّادة؟ ولكنها فيما يبدو أحرص على الحياة الزوجية من سابقتَيها، وهي مُصممة على أن تبقى زوجة لي حتى تُغمض عيني، لكنني لا أستطيع أن أقاوم النسوان، سرعان ما أحبهن، وسرعان ما أملهن؛ لذلك عمدت إلى هذه الدروب لأقضيَ اللبانة مبكرًا دون التورط في عشق طويل. ولولا الملل ما سعيت إلى امرأة في درب طياب!

فسأله كمال باهتمام متزايد: أليست هي امرأة ككل النساء؟

– كلا، إنها امرأة بلا قلب، الهوى عندها سِلعة.

فعاد كمال يسأل وعيناه تلمعان بالأمل: ماذا ترى من اختلاف بين امرأة وأخرى؟

هز ياسين رأسه في زهو إدلالًا بالمكانة التي وضعته فيها أسئلة كمال، ثم أجاب بلهجة خبير: درجة المرأة تتقرر في كادر النساء تبعًا لمزاياها الأخلاقية والعاطفية بصرف النظر عن أسرتها ومركزها، فزنوبة مثلًا أفضل عندي من زينب؛ لأنَّها أعمق عاطفة وأشد إخلاصًا وحرصًا على الحياة الزوجية، ولكنك في النهاية تجدهنَّ شيئًا واحدًا، عاشر الملكة بلقيس نفسها فلا محيص من أن تجدها آخر الأمر منظرًا مُعادًا، ونغمة مكررة.

خبا اللمعان في عينَي كمال، ترى هل أمسَت عايدة منظرًا معادًا ونغمة مكررة؟ ما أبعد هذا التصور عن التصديق! ولكن ما أنت إلا صريع الواقع، وحتى الشماتة بها تكبر عليك وتعز، وإنه لمما يبعث على الجنون أن يعلم المعبود الذي تذهب النفس حسرة عليه أنه كان في وسع الأيام أن تجعل منه منظرًا معادًا ونغمة مكررة، بل أي الحالين أحبُّ إليك إن استطعت جوابًا؟ غير أني أتحسَّر أحيانًا على الملل من شدة الشوق كما يتحسَّر ياسين على الشوق من شدَّة الملل، وارفع رأسك أخيرًا إلى رب السماوات وسلْه عن حلٍّ سعيد: ألم تحب أبدًا؟

– إذن ما هذا الذي أنا غارق فيه؟

– أعني حبًّا حقيقيًّا لا هذه الشَّهوة العابرة؟

أفرغ كأسه الثالثة، ومسح على فمه بظاهر كفه، ثم فتل شاربه وقال: لا تؤاخذني، الحب يتركز عندي في بعض مواضع كالفم واليد … إلخ، إلخ.

ياسين جميل، ما كانت لتسخر من رأسِه أو أنفه، ولكنه بما قال يبدو حقيقًا بالرثاء، كأن الإنسان لا يكون إنسانًا إلا أن يحب، ولكن ما جدوى ذلك، وما جنيت من الحب إلا الألم؟ واستطرد ياسين قائلًا، وهو يحثُّه بالإشارة على الفراغ من كأسه: لا تُصدِّق ما يُقال عن الحب في الروايات، الحب عاطفة أيام أو أسابيع مع حسن الظن.

كفرتُ بالخلود ولكن هل نسيان الحب ممكن؟ لم أعد كما كنت، إني أتسلَّل من جحيم العذاب فتشغلني الحياة حينًا حتى أرجع إليه، وكان الموت قبلتي، واليوم ثمة حياة ولو بلا أمل، العجب أنك تثور على فكرة النسيان كلما خطرت، كأنما تُعاني تبكيت الضمير، أو لعلك تخاف أن يتكشَّف أجلُّ ما قدست عن وهم، أو أنك تأبى على يدِ العدم أن تعبث بالحياة الرائعة التي بدونها تغدو ومن لم يولد سواء، لكن ألا تذكر لم بسطت الراحتين داعيًا الله أن يَنتشلك من العذاب، وأن يلهمك النسيان؟!

– ولكن الحب الحقيقي موجود، نقرأ حوادثَه في الصحف لا في الروايات.

ابتسم ياسين ابتسامة ساخرة، ثم قال: بالرغم من أنني مُبتلًى بحبِّ النسوان، فإنني لا أعترف بهذا الحب، إنَّ المآسي التي تقرأ أخبارها تتحدَّث في الواقع عن شبان غير مجرِّبين، أسمعت عن مجنون ليلى؟ لعل له نظائر في هذه الحكايات، ولكن المجنون لم يتزوج من ليلى؟ دلني على شخص واحد جُنَّ بحبِّ زوجته! وا أسفاه! إن الأزواج عقلاء جدًّا، عقلاء ولو كرهوا، أما الزوجة فيبدأ بالزواج جنونها؛ لأنها لا تَقتنع بأقل من أن تزدرد زوجها، ويخيَّل إليَّ أن المجانين يصيرون عشاقًا لأنهم مجانين، لا أنَّ العشاق يَصيرون مجانين لأنهم عشاق، تراهم يتحدَّثون عن المرأة كأنما يتحدثون عن ملاك، والمرأة ليست إلا امرأة، طعام لذيذ سرعان ما َتشبع منه، دعهم يشاركونها الفراش ليطلعوا على منظرها عند الاستيقاظ، وليشمُّوا رائحة عرقها، وسائر الروائح التي قد تصدر عنها، وليُحدِّثوني بعد ذلك عن الملاك. فتنة المرأة ما هي إلا طلاء أو أداة إغراء حتى تقع في الشرَك، وعند ذاك يبدو لك المخلوق الآدمي على حقيقته؛ لذلك فالأبناء ومؤخر الصداق والنفقة الشرعية هي سرُّ قوة الزواج لا الجمال أو الفتنة.

ما كان أجدره أن يغير رأيه لو رأى عايدة، غير أنه ينبغي أن تفكر من جديد في أمر الحب. كنت تراه وحيًا ملائكيًّا، ولكن لم يَعُد للملائكة وجود فابحث في ذات الإنسان، واسلكه ضمنَ الحقائق الفلسفية والعِلمية التي تتشوَّف إلى اقتحامها، بذلك تقف على سرِّ مأساتك وتكشف النقاب عن سر عايدة المكنون، لن تجدها ملاكًا، ولكن باب السحر سيَفتح لك مصراعَيه، أما الوحم والحبل والمنظر المعاد وسائر الروائح فما أتعسني!

قال كمال بأسًى لم يفطن إليه أخوه: الإنسان مخلوق قذر، ألم يكن من المُمكن أن يخلق خيرًا وأنظف مما كان؟

رفع ياسين رأسه دون أن ينظر إلى شيء بالذات، وقال بسرور عجيب: الله …، الله، النفس شعشعت واستحالت أغنية، وانقلبت الأعضاء آلات طرب، والدنيا حلوة، والكائنات حبيبة للقلب، والجو عذب، والحقيقة خيال، والخيال حقيقة، أما المنغِّصات فأسطورة، الله … الله، ما أجمل الخمر يا كمال! الله يطول عمرها ويديمها علينا، ويعطينا الصحة والعافية لنشربها حتى آخر العمر، ويخرب بيت الذي يمسها بسوء أو يتقوَّل عليها بغير الحق، تأمل هذه النشوة الحلوة، تأمل، أغمض عينيك، هل وجدت لذة كهذه؟ الله … الله … الله، (ثم وهو يخفض رأسه ناظرًا إلى كمال) … ماذا قلت يا ولدي؟ الإنسان مخلوق قَذِر؟ أساءك ما قلتُ عن المرأة؟ لم أتكلَّم لأُثير اشمئزازك منها، الواقع أني أحبها، أحبها بكل ما فيها، ولكني أردت أن أبرهن لك على أنَّ المرأة الملاك لا وجود لها، بل لا أدري إن كنتُ أحبها إن وجدت! فإني مثلًا — كأبيك — أحب الأرداف الثقيلة، ولو كان الملاك ذا أرداف ثقيلة لتعذَّر عليه الطيران. افهمني جيدًا ولا تُسئ فهمًا وحياة أبينا السيد أحمد.

وما لبث كمال أن شاركه نشوته، فقال: لشدَّ ما تبدو الدنيا محبوبة إذا سرت الخمر في الروح.

– يسلم فمك، حتى النغمة المألوفة يترنم بها شحاذ الطريق تقع من الأذن موقع السحر.

– حتى أحزاننا تبدو كأنها أحزان شخص آخر.

– بخلاف نساء الشخص الآخر، فإنها تبدو وكأنها نساؤنا.

– هما شيء واحد يا ابن أبي.

– الله … الله، لا أريد أن أفيق.

– من رذالة الحياة أنها لا تمكننا من الاستمرار في السكر كما نهوى.

– ليكن في معلومِك أنني لا أرى في السُّكر لهوًا، ولكن غاية سامية كالمعرفة والمثل الأعلى.

– إذن فأنا فيلسوف كبير!

– عندما تؤمن بما قلت وليس قبل ذلك.

– الله يطول عمرك يا أبي، فقد أنجبت فلاسفة مثلك.

– لمَ يبدو الإنسان تعيسًا مع أنه لا يطلب أحسن من كأس وما أكثر القوارير، وامرأة وما أكثر النساء؟

– لمه؟ … لمه؟

– سأجيبك عندما أشرب كأسًا أخرى.

– كلا!

قال ياسين ذلك بصوت وشى بصحوة طارئة، ثم استطرد محذرًا: لا تُفرِط، إني شريكك الليلة فأنا مسئول عنك، كم الساعة الآن؟

وأخرج ساعته فنظر فيها، ثم هتف: مُنتصَف الواحدة! وقع المحذور يا بطل، كلانا قد تأخر، وراءك أبونا، وورائي زنوبة، قم بنا.

ولم تمضِ دقائق حتى غادرا البار، فاستقلا عربة انطلقت بهما صوب العتبة. دارت العربة حول سور الأزبكية في طريقٍ يسوده الظلام. وبين آونة وأخرى يرى عابرًا مهرولًا أو مترنحًا، وكلما مرت العربة بشارع مُقاطع ترامى إليهما صوت غناء تحمله نسمة رطيبة، أما فوق المباني وأشجار الحديقة الباسقة، فقد تألقت النجوم اليواقظ. قال ياسين ضاحكًا: أستطيع الليلة أن أحلف غير متحرِّج بأنني لم آتِ منكرًا.

فقال كمال في شيء من القلق: أرجو أن أصل إلى البيت قبل أبي.

– الخوف شر أنواع التعاسة، لتحيا الثورة!

– أجل لتحيا الثورة!

– لتسقط الزوجة المستبدة.

– ليسقط الأب المستبد.

٣٧

طرق كمال الباب في خفة حتى فُتح عن شبح أم حنفي، ولما عرفتْه قالت بصوت هامس: سيدي الكبير على السلم.

فانتظر وراء الباب حتى يطمئنَّ إلى وصول أبيه إلى الدور الأعلى، غير أن صوته جاء من داخل السلم وهو يسأل بشدة: مَن الطارق؟

فخفق قلبه ولم يرَ بُدًّا من التقدم وهو يجيبه: أنا يا بابا.

تراءى له شبح أبيه على بسطة الدور الأول، على حين لاح ضوء المصباح الذي تمسك به الأم في أعلى السلم، ونظر السيد إليه من فوق الدرابزين، وهو يتساءل في دهش: كمال؟ … ما الذي أخَّرك خارج البيت حتى هذه الساعة؟

أخَّرني الذي أخَّرك.

قال بإشفاق: ذهبتُ إلى المسرح لأشهد التمثيلية المقرَّرة علينا هذا العام.

فصاح ساخطًا: هل أصبحت المذاكرة في المسارح؟ ألا يكفي أن تقرأ وتحفظ؟ كلام فارغ سمج، ولِمَ لَمْ تستأذنِّي؟

توقف كمال على بُعد درجات من موقف أبيه، وقال معتذرًا: لم أتوقَّع أن تمتد السهرة إلى هذه الساعة المتأخرة.

فقال الرجل بغضب: شُف لك طريقة أخرى للمذاكرة ودعك من الأعذار السخيفة.

ومضى يَرقى في السلم وهو يدمدم، فترامت إليه كلمات من دمدمته مثل «مذاكرة المسارح على آخر الزمن»، «الساعة واحدة بعد منتصف الليل»، «حتى الأطفال»، «ملعون أبوك وأبو التمثيلية المقرَّرة». ارتقى السلم حتى الدور الأخير ومضى إلى الصالة، فتناول مصباحًا مُضاءً من فوق منضدة ودخل حجرته مكفهر الوجه. وضع المصباح على المكتب ووقف مستندًا بكلتا يديه يتساءل عن تاريخ آخر شتيمة قذفه بها أبوه فلم يتذكره على وجه التحديد، ولكنه كان واثقًا من أن سنوات دراسته العالية مرت في سلام وكرامة؛ ولذلك وقعت اللعنة من نفسه — رغم أنه لم يواجه بها — موقعًا أليمًا. وتحول عن مكتبه فخلع طربوشه وشرع في نزع ملابسه، وعلى حين فجأة شعر بدوار في رأسه وجزع في معدته، فغادر الحجرة مسرعًا إلى الحمام حيث قذف جوفه بما فيه في عنف ومرارة. وعاد إلى الحجرة مرةً أخرى منهوك القوى، متقزِّز النفس، يجد في صدره ألمًا أشد وأعمق، وخلع ملابسه وأطفأ المصباح، ثم استلقى على الفراش وهو ينفخ في ضيق وضجر، ولكن لم تمضِ دقائق حتى سمع الباب وهو يُفتح برفق، ثم جاءه صوت أمه متسائلًا في إشفاق: نمت؟

فقال بلهجة طبيعية راضية ليَصرفها عنه ويخلو إلى ما هو فيه: نعم.

فتدانى شبحها من الفراش حتى وقفت فوق رأسه، ثم قالت كالمعتذرة: لا تتكدَّر، أنت أعلم الناس بأبيك.

– مفهوم مفهوم.

فقالت وكأنما أرادت أن تُفصح عما ساورها هي: إنه مطَّلع على جدك واستقامتك، ومن هنا جاء إنكاره لتأخُّرك غير المألوف حتى هذه الساعة.

فركبه الغيظ حتى لم يتمالك من أن يقول: إذا كان السهر يستوجب كل هذا الإنكار، فلماذا يواظب هو عليه؟

حال الظلام دون رؤية ما ارتسم على وجهها من دهش وإنكار، لكنه سمعها تضحك من أنفها لتُوهمه بأنها لم تحمل قوله على محمل الجد، وقالت: كل الرجال يسهرون، وسوف تصير رجلًا عما قريب، أما الآن وأنت طالب …

فقاطعها قائلًا بلهجة من يودُّ الفراغ من الحديث: مفهوم … مفهوم، لم أقصد بقولي شيئًا، لماذا تعَّبت نفسك بالمجيء إليَّ؟ عودي مصحوبة بالسلامة.

قالت برقة: خفتُ أن تكون متكدرًا، سأتركك الآن ولكن عِدني بأن تنام صافي النفس، اقرأ الصمدية حتى يأتيك النوم.

وشعر بابتعادها، ثم سمع الباب وهو يغلق وصوتها يقول: «مساء الخير!» نفخ مرة أخرى، وراح يمسح صدره وبطنه وهو يحملق في الظلام، أما مذاق الحياة كلها فكان مرًّا. أين ذهبت نشوة الخمر الساحرة؟ وما هذا الكرب الحانق الذي حل محلها؟ ما أشبهه بخيبة الحب التي ورثت أحلامه السماوية، ومع ذلك فلولا الأب ما انقلب حاله. هذه القوة الجبارة التي يخافها كل الخوف، يخافها ويحبُّها معًا، ما كنهها؟ ليس إلا رجلًا لولا مرحه الذي خص به الغرباء لم يكن شيئًا، فكيف يخافه؟ وحتى متى يذعن لقوة هذا الخوف؟ إنه وهم كسائر الأوهام التي امتحن بها، ولكن ما جدوى المنطق في مقاومة العواطف الثابتة؟ وقد قرعت يداه يومًا أبواب عابدين في المظاهرة الكبرى التي تحدَّت الملك هاتفة «سعد أو الثورة»، فتراجع الملك واستقال سعد من الوزارة … أما حيال أبيه فإنه يصير لا شيء، كل شيء تغيَّر مدلوله ومعناه؛ الله … آدم … الحسين … الحب … عايدة نفسها … الخلود، قلت الخلود؟ نعم، فيما يجري على الحب وفيما جرى على فهمي. ذلك الأخ الشهيد الذي استضافه الفناء إلى الأبد. أتذكر التجربة التي قمتَ بها وأنت في الثانية عشرة من عمرك لتعرف مصيره المجهول؟ … يا لَلذكرى المحزنة! … اقتنصت عصفورة من عشها ثم خنقتها، وكفنتها، وحفرت لها قبرًا صغيرًا في فناء البيت على كثب من البئر القديم ثم دفنتَها فيه. وبعد أيام أو أسابيع نبشتَ القبر وأخرجت الجثة، فماذا رأيت؟ وماذا شممت؟ وذهبت إلى أمك باكيًا تسألها عن مصير الميت، كل ميت، ومصير فهمي خاصة فلم يصدَّك عنها إلا إفحامها في البكاء، فماذا بقي من فهمي بعد سبع سنوات؟ وماذا سيبقى من الحب؟ وعمَّ تمخَّض الأب الجليل؟

ألفتْ عيناه ظلام الحجرة فتراءى المكتب، والمشجب، والكرسي، والصوان أشباحًا قائمة، وندت عن الصمت نفسه أصوات مبهمة، وامتلأ رأسه بالأرق المحموم، أما مذاق الحياة فازداد مرارة، وتساءل: هل غطَّ ياسين في نومه؟ وعلى أيِّ حال كان لقاء زنوبة له؟ وهل آوى حسين إلى فراشه الباريسي؟ وعلى أيِّ جانب تنام عايدة الآن؟ وهل تكوَّر بطنها وانداح؟ وماذا يفعلون في نصف الكرة الآخر الذي تتربَّع الشمس في كبد سمائه؟ والكواكب المنيرة، أليس ثمة حياة تعمرها خالية من التعاسة؟ وهل يمكن أن يسمع أنينه الخافت في ذلك الأوركسترا الكوني اللانهائي؟

أبي! دعني أكاشفك بما في نفسي. لست ساخطًا على ما تكشف لي من شخصك، فإن ما كنت أجهله منك أحب إليَّ مما كنت أعرف. إني معجب بلطفك وظرفك، ومجونك وعربدتك، ومغامراتك، ذلك الجانب الدميث منك الذي يعشقه جميع عارفيه، وهو إن دلَّ على شيء فعلى حيويتك وهيامك بالحياة والناس، ولكني أسائلك لِمَ ارتضيت أن تُطالعنا بهذا القناع الفظ المخيف؟ لا تعتلَّ بأصول التربية؛ فأنت أجهل الناس بها، وآي ذلك ما ترى وما لا ترى من سلوك ياسين وسلوكي، فما فعلت إلا أن آذيتنا كثيرًا، وعذبتنا كثيرًا بجهل لا يشفع لك فيه حسنُ نيتك. لا تجزع فإني ما زلت أحبك وأعجب بك، وسأبقى على الدوام مخلصًا لحبك والإعجاب بك، غير أن نفسي تُضمر لك لومًا شديدًا يعادل ما جرَّعتني من ألم. لم نعرفك صديقًا كما عرفك الغرباء، ولكن عرفناك حاكمًا مستبدًّا شرسًا طاغية، كأنما كنتَ أول مقصود بالمثل القائل: «عدو عاقل خير من صديق جاهل»؛ لذا سأكره الجهل أكثر من أي شيء في الحياة؛ فهو المفسد لكل شيء حتى الأبوة المقدسة. خير منك أب له نصف جهلك ونصف حبك لأبنائك، وأني أعاهد نفسي — إذا صرت يومًا أبًا — أن أكون لأبنائي الصديق قبل أن أكون المربي، غير أني ما زلت أحبك وأعجب بك حتى بعد أن زايلتك صفات الألوهية التي توهمتْها فيما مضى عيناي المسحورتان. أجل لم تَعُد قوتك إلا أسطورة، فلستَ مستشارًا كسليم بك ولا غنيًّا كشداد بك، ولا زعيمًا كسعد زغلول، ولا داهية كثروت، ولا نبيلًا كعدلي، ولكنك صديق محبوب وحسبك هذا، وما هو بالقليل. فليتَك لم تضنَّ علينا بصداقتك، ولكن لست وحدك الذي تغيَّرَت فكرته، الله نفسه لم يعد الله الذي عبدتُه قديمًا، إني أغربل صفات ذاته لأنقيها من الجبروت، والاستبداد، والقهر، والدكتاتورية، وسائر الغرائز البشرية، ولست أدري أين ينبغي أن أشكم الفكر، ولا إن كان من الفضيلة أن أشكمه! بل إن نفسي تحدثني بأني لن أقف عند حد، وبأن النضال على عذابه خير من الاستكانة والنوم — قد لا يهمك هذا بقدر ما يهمك أن تعلم أني قررت أن أضع حدًّا لاستبدادك، استبدادك الذي يغشاني كما يغشاني هذا الظلام المحيط، والذي يؤلمني كما يؤلمني هذا الأرق اللعين، أما الخمر فلن أذوقها جزاء خيانتها لي، وا أسفاه! إذا كانت الخمر أيضًا وهمًا خادعًا فما بقي للإنسان؟ أقول لك: إني قررت أن أضع حدًّا لاستبدادك، لا بالتحدي والعصيان، فإنك أكرم على نفسي من أن أفعل بك هذا، ولكن بالهجرة! أجل لأهاجرنَّ من بيتك حال أقف على قدمي، وفي أحياء القاهرة متَّسع لكل مضطهد، أتدري ماذا كانت عواقب حبي لك رغم استبدادك بي؟ إني عبدت مُستبدًّا آخر طالَما ظلمني بظاهره وباطنه معًا، استبد بي دون أن يحبني، ورغم ذلك كله عبدته من أعماقي ولا زلت أعبده، فأنت أول مسئول عن حبي وعذابي. ترى ما نصيب هذه الفكرة من الحقيقة؟ لستُ مرتاحًا إليها ولا متحمسًا لها، ومهما يكن من واقعية الحب فلا شك أنه يرجع إلى أسباب أعمق أصالة في النفس، فلنتركها الآن معلقة حتى نعود إليها بالدرس فيما بعد، وعلى أيِّ حال فأنت يا أبي الذي هوَّنت عليَّ الإحساس بالظلم بمداومتك على الاستبداد بي. وأنت يا أمي لا تحملقي في وجهي بإنكار، أو تتساءلي: ما ذنبي وما جنيت على أحد؟ إنه الجهل، هو جنايتك، الجهل … الجهل … الجهل … أبي هو الفظاظة الجاهلة، وأنت الرقة الجاهلة، وسوف أظل ما حييت ضحية هذين الضدَّين. وجهلك أيضًا هو الذي ملأ روحي بالأساطير، فأنتَ همزة الوصل بيني وبين عالم الكهوف، وكم أشقى اليوم في سبيل التحرُّر من آثارك، كما سأشقى غدًا في سبيل التحرُّر من أبي، وما كان أحراكما أن توفرا عليَّ هذا الجهد المضني؛ لذلك أقترح — وظلام هذه الحجرة شهيد — أن تُلغى الأسرة — هذه الحفرة التي يتجمَّع فيها الماء الآسن — وأن تزول الأبوة والأمومة. بل هبني وطنًا بلا تاريخ، وحياة بلا ماضٍ. ولننظر الآن في المرآة فماذا نرى؟ هذا الأنف الضخم، وهذا الرأس الكبير. أعطيتني أنفك يا أبي دون مشورة أو رحمة؛ فأنت تستبدُّ بي حتى قبل أن أولد، ومع أنه يبدو في وجهك مهيبًا جليلًا، فإنه — بذاته وشَكله — يلوح مضحكًا في صفحة وجهي الضيقة كأنه جندي إنجليزي في حلقة ذكر. وأعجب منه رأسي لأنه لا إلى فصيلة رأسك ينتمي، ولا إلى فصيلة رأس أمي، فعن أي جد بعيد انحدر إليَّ؟ فليظل ذنبه معلقًا فوق رأسيكما حتى يتضح لي الحق. قبيل النوم يجب أن نقول: «الوداع»، فقد لا يطلع الصبح علينا، إني أحب الحياة رغم ما فعلته بي على طريقة حبي إياك يا أبي، وفي الحياة أشياء جديرة بالحب وصفحة وجهها مليئة بعلامات الاستفهام مُثيرة للشغف. غير أن النافع فيها لا نفع فيه، وما لا نفع فيه عظيم الشأن، والراجح أني لن أعود إلى تقبيل الكأس، فقل وداعًا أيتها الخمر، ولكن مهلًا، أذكر ليلة غادرت بيت عيوشة عاقدًا العزم على ألا أقرب النساء ما حييت، وكيف انقلبت بعد ذلك زبونها الأثير، ويُخيَّل إليَّ أن الإنسانية تئنُّ مثلي من الخمار والغثيان، فادعُ لها بالشفاء العاجل.

٣٨

فتر حماس ياسين حال انفراده بنفسه في العربة بعد ذهاب كمال، وبدا كالمتفكر رغم سكره؛ إذ جاوزت الساعة الواحدة، ودخل الوقت منذ كثير في الهزيع المريب من الليل، وسوف يجد زنوبة إما يقظى تَنتظِر وتغلي، وإما أنها ستستيقظ حين دخوله، وعلى أي حالين فلن تمرَّ الليلة بسلام، بسلام كامل على الأقل.

غادر العربة عند منعطف قصر الشوق، ومضى يخوض الظلام الدامس وهو يهز كتفيه العريضين في استهانة، ويقول لنفسه بصوت هامس: «ليس ياسين الذي يعمل حسابًا لامرأة.» وكرر هذا القول وهو يرقى في الدرج مسترشدًا في الظلام بالدرابزين، غير أن تكراره إياه لم ينمَّ عن طمأنينة قاطعة، وفتح الباب ودخل، ثم مضى إلى حجرة النوم على ضوء مصباح الصالة، وألقى على الفراش نظرة فرآها نائمةً، فرد الباب ليحول دون تسرب الضوء الخافت الآتي من الصالة، وراح يخلع ملابسه في هدوء وحذر وهو يزداد اطمئنانًا إلى استغراقها في النوم، ويَرسم في ذهنه خطة للتسلُّل إلى موضعه في الفراش دون أن يُحدِث صوتًا.

– أشعل المصباح لأكحِّل عيني برؤيتك!

التفت رأسه نحو الفراش ثم ابتسم في تسليم، وأخيرًا تساءل كالداهش: أأنت يقظى؟ ظننتك نائمة فلم أشأ أن أزعجك.

– قلبك طيب، كم الساعة الآن؟

– الثانية عشرة على الأكثر، فإني غادرت المجلس حوالي الحادية عشرة، وجئت ماشيًا واحدة واحدة.

– لازم كان مجلسك في بنها!

– لماذا؟ هل تأخَّرت؟

– انتظر حتى يُجيبَك ديك الفجر بنفسه.

– لعله لم ينَم بعد.

وجلس على الكنبة ليخلع حذاءه وجوربه، ولم يكن عليه إلا القميص والسروال، وعند ذاك ندت عن السرير طقطقة ورأى شبحها يَستوي جالسًا، ثم سمعها تقول في حدة: أشعل المصباح.

– لا داعي لذلك، فقد فرغت من خلع ملابسي.

– أريد أن نُصفِّي حسابنا في النور.

– تصفية الحساب في الظلام ألطف!

وصدرت عنها نفخة غيظ ثم غادرت الفراش، ولكنه مدَّ ذراعيه من مجلسه القريب فأصاب منكبها، فجذبها إلى الكنبة وأجلسها إلى جانبه وهو يقول: لا تشعلي الفتنة.

تخلصت من يده، وقالت: أين ما تعاهَدنا عليه؟ لقد قبلتُ أن تسكر في الحانات كما تحب على شرط أن تعود إلى بيتك في وقت مبكر، قبلت هذا على رغمي لأنك لو سكرت في بيتك لوفرت على نفسك مالًا كثيرًا يضيع هباءً، ومع ذلك فها أنت تعود قبيل الفجر غير مبالٍ بما تعاهدنا عليه!

من يستطيع أن يُخادع ربيبة التخت والعود؟ وإذا ثبتت لها خيانتك يومًا فهل تقف عند حد الشجار أم …؟ فكر مرتين، ولا تنسَ كذلك أن فقدها لا يهون، إنها أحب زوجاتي إليَّ خبيرة بما يسعدني، متمسكة بحياتنا، لولا الملل!

– كنت في مجلس كل ليلة لم أغادره إلا إلى بيتي، وعندي شاهد تعرفينه، أتدرين من هو؟ (وضحك بصوت عالٍ).

ولكنها قالت ببرود: تكلم في الموضوع.

فقال وهو لا يزال يضحك: كان جليسي الليلة أخي كمال.

فلم تدهش كما توقع، وقالت في نفاد صبر: من يشهد للعروس؟

– لا تكابري … براءتي كالشمس … (ثم متأففًا) … يحزنني والله أن ترتابي في سلوكي، شبعت من الدوران حتى المرض، ولا رغبة لي الآن إلا الحياة الهادئة، أما الحانة فتسلية بريئة لا غبار عليها، ولا بدَّ للإنسان من مخالطة الناس.

فقالت بصوت دلَّت نبراته على الانفعال: آه منك، أنت تعلم أني لست طفلة، وأن الضحك عليَّ مطلب عسير، وأنه من الخير لكلينا ألا تدخل بيننا الريبة.

موعظة أم وعيد؟ أين مني حياة أبي المثالية، الرجل الذي يفعل ما يشاء، فإذا رجع إلى بيته وجد الاستقرار والحب والطاعة، لم يتحقَّق لي هذا الحلم على يد زينب ولا مريم، وأخلق به ألا يتحقَّق على يد زنوبة، لا يَنبغي لهذه العوادة الجميلة أن تيئس طالَما هي على ذمتي. قال بحزم: لو كان بي رغبة إلى مزيد من الحرام ما تزوجتك.

فهتفت بحدة: ولكنَّك تزوجت من قبل مرتين، فلم يَمنعك الزواج من الحرام!

نفخ ناشرًا أنفاسًا مخمورة، ثم قال: حالتك غير الحالتين السابقتين يا غبية، الزوجة الأولى اختارها أبي وفرضها عليَّ، والزوجة الثانية لم تجعل لي من سبيل إليها إلا بالزواج فتزوجتها، أما أنت فلم يَفرضك أحد عليَّ، ولم يغلق بابك دوني قبل الزواج، ولم يكن الزواج منك ليعدني بشيء جديد لم أعرفه، فلم تزوجتك يا غبية إن لم يكن الزواج نفسه — أي الحياة المستقيمة المستقرة — مطلبي؟! والله لو كان بك ذرة من عقل ما سمحت لنفسك بالشك في أبدًا.

– حتى إن جئتني عند الفجر؟

– حتى إن جئتك عند الصبح!

فهتفت بحدة: نه، قل كلامًا آخر أو فعلى الأمن السلام!

فقال بحدة وهو يقطب في نرفزة: ألف سلام.

– أرحل، أرض الله واسعة والرزق على الله.

فقال في استهانة متعمدًا: أنت وشأنك.

فقالت بصوت واشٍ بالوعيد: أرحل غير أني كالشَّوكة لا تُنتزع بيُسر.

فتمادى في الاستهانة بها قائلًا: خزعبلات! تذهبين بأيسر مما يُخلع الحذاء.

ولكنها غيرت النغمة من التحدي والتهديد إلى التشكِّي، فهتفت: أأرمي بنفسي من النافذة فأريح وأستريح؟

فهز كتفيه استهانة، ثم نهض وهو يقول بلهجة أخف: ثمة طريق أفضل هو أن تقومي إلى الفراش، هلمي لننام واخزي الشيطان.

اتجه نحو الفراش فاستلقى عليه وهو يتأوَّه كأنما طال به التشوق للرقاد، أما هي فعادت تقول وكأنها تُحدِّث نفسها: مكتوب على من يُعاشرك التعب.

التعب مكتوب عليَّ أنا أيضًا، جنسك هو المسئول، لا واحدة تُغني عن الأخريات، وقهر الملل فوق طاقتهن، ولكن لن أعود إلى العزوبة مختارًا، لا أستطيع أن أبيع كل عام دكانًا في سبيل زواج جديد، فلتبقَ زنوبة على شرط ألا تركبني، الرجل المجنون يحتاج إلى امرأة عاقلة، زنوبة وعاقلة؟

– أتبقينَ على الكنبة حتى الصبح؟

– لن يغمض لي جفن، دعني لما بي وتمتع أنت بالنوم.

لا بد مما ليس منه بد، مدَّ ذراعيه حتى قبض على منكبها، ثم جذبها إليه وهو يغمغم: فراشك.

فقاومت مقاومة غير عسيرة، ثم استسلمت ليدِه فمضت إلى الفراش وهي تقول متأوهة: متى تتاح لي راحة البال كسائر النساء!

– اطمئنِّي، ينبغي أن تضعي فيَّ كل ثقتك، إني أهل للثقة، مثلي لا يكون سعيدًا إلا إذا سهر، ولن تسعدي أنت إذا أتعبتني بوجع الدماغ، حسبك أن تُؤمني ببراءة سهري، صدقيني ولن تندمي، لست جبانًا ولا كذابًا، ألم أجئ بك ليلة إلى هذا البيت وفيه زوجتي؟ فهل يَفعل هذا جبان أو كذاب؟ شبعت من الدوران ولم يبقَ لي في حياتي إلا أنت.

تنهَّدَت بصوت مسموع، وكأنما أرادت أن تقول له: «أود أن تكون صادقًا فيما تقول»، فمد يده لاعبًا وهو يقول: يا سلام، هذه التنهيدة حرقت قلبي، الله يقطعني.

قالت برجاء وهي تستجيب ليده رويدًا رويدًا: لو ربنا يهديك!

مَن يُصدِّق أن هذه الأمنية صادرة عن عوادة!

– لا تُقابليني بالشجار أبدًا، إنَّ الشجار يثبط النشاط.

علاج ناجع، ولكنه لا ينفع في جميع الأحوال، لو نلت عيوشة الليلة ما تيسر.

– أرأيت أنَّ ارتيابك لم يكن في محله؟

٣٩

كان السيد أحمد عبد الجواد منهمكًا في عمله، وإذا بياسين يدخل الدكان مقبلًا على مكتبه، فما إن تصفَّح وجهه حتى أدرك أنه جاءه مُستنجدًا، كانت في عينيه نظرة حائرة شاردة، ومع أنه تبسَّم له في أدب ومال على يدِه ليقبلها، إلا أنه شعر بأنه يقوم بهذه الحركات التقليدية بلا وعي، وأن وجدانه كله غائب في مكان لا يعلمه إلا الله. أشار إليه بالجلوس فقرب الكرسي من مجلس أبيه ثم جلس، وجعل ينظر إليه حينًا، ثم يخفض بصره، أو يبتسم ابتسامة باهتة. تساءل السيد عما دعا إلى هذه الزيارة، وكأنما أشفق من أن يترك ابنه الصامت إلى صمته، فقال كالمتسائل: خير؟ … ماذا بك؟ لست كعادتك.

فنظر ياسين إليه طويلًا كأنما يستثير عطفه، ثم قال وهو يخفض عينيه: سينقلونني إلى أقاصي الصعيد!

– الوزارة؟

– نعم.

– لمه؟

هز رأسه كالمعترض، وقال: سألت الناظر فحدَّثني عن أمور لا علاقة لها بالعمل، ظلم.

سأله الرجل بارتياب: أي أمور؟ أوضح.

– وشايات وضيعة … (ثم بعد تردُّد) عن زوجتي.

تضاعف اهتمام السيد، فسأله فيما يُشبه الإشفاق: ماذا قالوا؟

لاح الضيق في وجه ياسين حينًا، ثم قال: قال السفهاء: إنني متزوِّج من … عوادة!

ألقى السيد نظرة جزعة على الدكان، فرأى جميل الحمزاوي يعمل بين رجل قائم وامرأة جالسة لا يفصلهم عنه إلا أذرع، فكظَم غيظه، وقال بصوت مُنخفِض وإن لم يخلُ انخفاضُه من تهدُّج الغضب: لعلهم سفهاء حقًّا، ولكن هذا ما حذرتك من عواقبه، إنك ترتكب كل كبيرة دون مبالاة، ولكن العواقب لن تغفل عنك إلى الأبد، ماذا أقول؟ إنك ضابط مدرسة، ويجب أن تكون سمعتُك بمنأى عن الشبهات، طالما قلت لك هذا مرارًا وتكرارًا، فلا حول ولا قوة إلا بالله، كأني يجب أن أخلص من هموم الدنيا جميعًا لأتفرغ لهمومك أنت وحدها!

فقال ياسين في ارتباك وحيرة: ولكنها زوجتي الشرعية، ولا لوم على الإنسان في حدود الشرع، فما شأن الوزارة في ذلك؟

قال السيد بغيظ مكتوم: يجب أن تَحرص الوزارة على سمعة موظفيها.

هلا تركت الكلام عن السُّمعة لغيرك!

– ولكن هذا تجنٍّ وظلم بالنسبة لرجل متزوِّج!

وهو يُلوِّح بيده ساخطًا: أتريدني أن أرسم لوزارة المعارف سياستها؟

فقال بانكسار ورجاء: كلا، ولكني أرجو أن تُوقف النقل بنفوذك.

وجعلت يسراه تعبث بشاربه وهو يحدج ياسين بنظرة لم تره؛ لأنها بدت مشغولة بالتفكير، وراح ياسين يستعطفه ويعتذر له عن ازعاجه، ويؤكِّد له أن كل اعتماده بعد الله عليه، ولم يغادر الدكان حتى وعده الرجل بالسعي في وقف نقله.

وعند مساء اليوم نفسه ذهب السيد أحمد إلى قهوة الجندي بميدان الأوبرا لمقابلة ناظر المدرسة، فما إن رآه الرجل حتى دعاه إلى الجلوس وهو يقول له: كنت مُنتظرًا مجيئك، ياسين جاوز كل حد، إني آسف لما يُسببه لك من متاعب.

فقال السيد وهو يجلس قبالته في الشرفة المطلة على الميدان: على أي حال، فياسين ابنك أيضًا.

– طبعًا، ولكن لا شأن لي بالمسألة كلها، إنها محصورة بينه وبين الوزارة.

فقال السيد كالمحتج وإن بدا وجهه مبتسمًا: أليس عجيبًا أن يعاقبوا موظفًا لأنه تزوج من عوادة! أليس هذا شأنًا يعنيه وحده؟ ثم إن الزواج علاقة شرعية لا يصحُّ أن يتعرض لها أحد بسوء!

فقطب الناظر مفكرًا متسائلًا، كأنه لم يفهم ما قال صاحبه، ثم قال: لم يجئ ذكر الزواج إلا عَرَضًا وأخيرًا. أما علمت بالخبر كله؟ يُخيَّل إليَّ أنك لم تعلم بكل شيء!

انقبض صدر الرجل، فتساءل في إشفاق وقلق: أيوجد مطعن آخر؟

فمال الناظر نحوه قليلًا، وقال بأسف: المسألة يا سيد أحمد أن ياسين تعارَك في درب طياب مع ساقِطة، فحُرِّر له محضر بلغت صورته إلى الوزارة.

بُهِتَ الرجل فاتَّسعت حدقتاه واصفر وجهه، حتى لم يتمالَك الناظر من أن يهزَّ رأسه آسفًا وهو يقول: هذه هي الحقيقة، وقد بذلت قصارى جهدي لأخفف العقوبة، حتى وقفت إلى إلغاء فكرة إحالته إلى مجلس تأديب، فاكتفى بنقله إلى الصعيد.

تنهد السيد مغمغمًا: الكلب!

فقال الناظر وهو يَرمقه بعطف: إني آسف جدًّا يا سيد أحمد، غير أن هذا السلوك لا يليق بموظف، لا أنكر أنه شابٌّ طيب ومثابر على عمله، بل أصارحك بأني أحبه، لا لأنه ابنك فحسب، ولكن لشخصه أيضًا، ولكن ما أعجب ما يُقال عنه! ينبغي أن يصلح من شأنه ويقوِّم سلوكه وإلا خسر مستقبله.

صمت السيد طويلًا والغضب مرتسم على وجهه، ثم قال وكأنه يخاطب نفسه: معركة مع ساقطة! فليذهب إذن في داهية.

ولكنه لم يتركه للداهية، وإنما بادَر إلى مقابلة معارفه من النواب وعلية القوم مستشفعًا بهم في وقف النقل، وكان محمد عفت على رأس الساعين معه، فتوالت الشفاعات على كبار رجال المعارف حتى أثمرت فأُلغيَ النقل، ولكن الوزارة أصرت على ندبه للعمل بديوانها، ثم أعلن رئيس المحفوظات — صهر محمد عفت أو زوج زوجة ياسين الأولى — عن استعداده لقبوله في إدارته — بإيعاز من محمد عفت — فتمَّت الموافَقة على ذلك، ونُقِلَ ياسين في أول شتاء سنة ١٩٢٦ إلى إدارة المحفوظات، ولم تمرَّ المسألة في سلام تام، فقد سُجِّلَ عليه عدم صلاحيته للعمل في المدارس، كما صرف النظر عن بحث ترقيتِه إلى الدرجة السابعة رغم أقدميته في الثامنة التي جاوزت عشرة أعوام، ومع أن محمد عفت قصد من إلحاقه بإدارة صهره ألا تُساء معاملته، فإن ياسين لم يرتح إلى وضعه الجديد تحت رياسة زوج زينب، وقد عبَّر عن مشاعره حين قال يومًا لكمال: لعلها سُرَّت بما وقع لي، ووجدت فيه تأييدًا لموقف أبيها حين رفض إرجاعها إليَّ، إني خبير بعقول النساء، ولا شك في أنها شمتَت بي، وإنه لمن سوء الحظ ألا أجد مكانًا كريمًا إلا تحت رياسة هذا التيس! ما هو إلا كهل لا خير فيه للنساء، وما أعجزه عن أن يسدَّ الفراغ الذي تركه ياسين، فلتشمت الحمقاء فإني شامت.

ولم تقف زنوبة على سرِّ النقل، وقصارى ما علمت أن زوجها ندب للعمل بمركز أفضل في الوزارة. كذلك تحاشى السيد أن يطرق في حديثه مع ياسين موضوع الفضيحة الحقيقي، واكتفى بأن قال له حين وفِّق إلى إلغاء النقل: ما كل مرة تسلم الجرة! لقد أتعبتني وأخجلتني، ولن أتدخل في أمورك بعد اليوم، فافعل ما بدا لك، وربنا بيني وبينك!

ولكنه لم يستطع أن يسقط أمره من حسابه، فدعاه يومًا إلى الدكان، وقال له: آن لك أن تفكر في حياتك تفكيرًا جديدًا يعود بك إلى طريق الكرامة ويَنتشلك من الحياة المنبوذة التي تحياها، لا يزال في الوقت متَّسع كي نبدأ عهدًا جديدًا، وإني أستطيع أن أهيئ لك الحياة التي تليق بك فأصغ إليَّ وأطعني.

ثم عرَض عليه مقترحاته قائلًا: طلق زوجك وعد إلى بيتك، وإني أتعهَّد بأن أزوجك زواجًا لائقًا فتبدأ حياة كريمة.

فتورد وجه ياسين، وقال بصوت خافت: إني أُقدِّر رغبتك الصادقة في إصلاح شأني، وسوف أعمل من ناحيتي على تحقيق هذه الرغبة دون إيذاء أحد.

فهتف الرجل ساخطًا: وعد جديد كوعود الإنجليز! الظاهر أن نفسك تُراودك على زيارة السجن، أجل سيجيئني صراخك المرة القادمة من وراء القضبان، لا زلت أُكرِّر عليك أن تطلق هذه المرأة وتعود إلى بيتك.

فقال ياسين وهو يتنهد متعمِّدًا أن يسمع أباه تنهُّده: إنها حبلى يا أبي، ولا أريد أن أضيف ذنبًا جديدًا إلى ذنوبي.

اللهم احفظنا! في بطن زنوبة حفيدٌ لك يتكوَّن! أكان في وسعك أن تتصور ما يدخر لك هذا الشاب من متاعب ساعة تلقيته وليدًا في يوم عُدَّ من أسعد أيام حياتك؟

– حبلى؟

– نعم.

– وتخاف أن تُضيف ذنبًا جديدًا إلى ذنوبك؟

ثم منفجرًا قبل أن يفتح الآخر فاه: لِمَ لَمْ يؤنبك ضميرك وأنت تعتدي على الطيبات من بنات الطيبين! أنت لعنة وحق كتاب الله.

وعند انصرافه من الدكان أتبعه عينين مليئتين بالرثاء والازدراء، لم يكن بوسعه إلا أن يعجب بمظهره الذي ورثه عنه، أما مخبره الذي ورثه عن أمه! وذكر بغتة كيف أوشك هو يومًا أن يتردى في الهاوية على يد زنوبة نفسها! ولكنه ذكر في الوقت نفسه كيف شكم نفسه في اللحظة المناسبة. شكم نفسه؟ وشعر بامتعاض وقلق. فلعن ياسين، ثم لعن ياسين!

٤٠

جاء يوم ٢٠ ديسمبر فشعر بأنه يوم لا كبقية الأيام، على الأقل بالقياس إليه هو؛ ففي ساعة منه وجد نفسه في هذه الدنيا، وسجَّل ذلك في شهادة حتى لا يمكث أكثر أو أقل مما تم الاتفاق عليه … وكان يرتدي معطفه ويقطع حجرته ذهابًا وجيئة، ثم يلقي نظرة على مكتبه فيرى كشكول الذكريات مفتوحًا على صفحة بيضاء رقم أعلاها بتاريخ الميلاد، فيُفكر فيما يُريد أن يكتبه لمناسبة الذكرى، ويواصل حركته مستمدًّا منها شيئًا من الدفء يستعين به على مقاومة البرودة القارسة. وكانت السماء — كما تبدو من زجاج النافذة — مُتوارية وراء سحاب متجهم، والمطر ينزل قليلًا، ويسكت قليلًا محركًا في نفسه بواعث التأمل والحلم. لا بد من الاحتفال بالميلاد ولو اقتصر الحفل على صاحب الميلاد وحده، ذلك أنَّ البيت القديم لم يعرف تقاليد الاحتفال بأعياد الميلاد، وأمه نفسها لم تدر أن اليوم من الأيام التي لا ينبغي أن تنساها، فلم يبقَ من تواريخ الميلاد نفسها إلا ذكريات غامضة عن الفصول التي وقعت فيها، والآلام التي صاحبتْها، فهي لا تعرف عن ميلاده إلا أنه: «كان في الشتاء، وكانت الولادة عسيرة فجعلت أتوجع وأصرخ يومين متتابعين.» قديمًا كان يذكر أنباء ميلاده فيملأ الرثاءُ لأمه قلبَه، ثم تضاعف شعوره بالرثاء عندما شاهد ميلاد نعيمة فخفَق قلبُه ألمًا لعائشة، أما اليوم فإنه يفكر في ميلاده بعقل جديد، عقل قد علَّ من منهل الفلسفة المادية حتى ألمَّ في شهرين بما تمخض عنه تفكير الإنسانية في قرن من الزمان. تساءل عن عُسرِ ولادته، وهل يرجع بعضه أو كله إلى الإهمال أو الجهل، وكان يتساءل وكأنما يستجوب متهمًا قائمًا بين يديه. فكر في عسر الولادة وما عسى أن ينجم عنه من آثار تلحق بالمخ أو الجهاز العصبي فتلعب دورًا خطيرًا في حياة الوليد ومصيره، وما قد يساق إليه من خير أو شر. ألا يمكن أن يكون تهالُكُه في الحب نتيجة لصدمات أصابت يافوخه أو جدار رأسه الكبير في غيابات الرحم منذ تسعة عشر عامًا؟ أو أن تكون تلك المثالية التي أضلَّته طويلًا في مجاهل الخيال، وأسالت منه الدمع مدرارًا فوق مذبح العذاب ما هي إلا عاقبة محزنة لعبث داية جاهلة؟ وفكر فيما قبل الولادة، بل فيما قبل الحبل، في المجهول الذي تنبثق منه الحياة، في تلك المعادلة الكيميائية الآلية التي تستوي كائنًا حيًّا فيثور أول ما يثور على أصله مُزدريًا، ويتطلع إلى النجوم مدعيًا له نسبًا في مداراتها. بيد أنه قد عرف له بداية قريبة دعاها بالنطفة، فهو على ذلك لم يكن قبل تسعة عشر عامًا وتسعة أشهر إلا نطفة، نطفة قذفت بها رغبة بريئة في اللذة، أو حاجة ملحة إلى العزاء، أو صولة هياج بعثتها سكرة غاب فيها الرشاد، أو حتى مجرد إحساس بالواجب نحو الزوجة القابعة في البيت. فابن أي حال من تلك الأحوال كان؟ لعله جاء إلى هذه الدنيا نتيجة الواجب. فإن الشعور بالواجب لا يزايله، وحتى اللذات لم يُقبِل على ممارستها إلا بعد أن تمثلت له فلسفة تُتبَع ورأيًا يُعتنَق. إلى أنه لم يخلُ من الصراع والألم، ولم يأخذ الحياة أخذًا سهلًا، ومن النطفة مرق حيوان فالتقى ببويضة في البوق وثقبها، ثم انزلقا إلى الرحم معًا، فتحوَّلا إلى علَقة، فكُسيَت العلَقة لحمًا وعظمًا، ثم خرجت إلى النور والألم بين يديها يسير، ثم بكت قبل أن تستبين معالمها، ومضت الغرائز المودَعة بها تنمو وتتبلور مستجدَّة على مر الأيام عقائد وآراء حتى أتخمت، وعشقت عشقًا زعمت لنفسها به نوعًا من الألوهية، ثم زلزلت فتهاوت عقائدها، وانقلبت أفكارها، وخاب قلبها، فرُدَّت إلى مكانة أذل من التي جاءت منها أول مرة! إذن قد مضى من العمر تسعة عشر عامًا، يا له من عهد طويل! ويا للشباب الذي ينطوي بسرعة البرق! هل من عزاء إلا أن تتملَّى الحياة ساعة فساعة، بل دقيقة فدقيقة قبل أن ينعق غراب الغروب؟ مضى عهد البراءة، ولحق به العهد الذي كانت تؤرَّخ فيه الحياة بالحب — ق.ح، ب.ح — اليوم الأشواق كثيرة إلا أن المحبوب مجهول الكُنهِ، فلم يَجُد على مُحبِّه إلا ببعض أسمائه الحسنى؛ فهو الحقيقة، ومسرة الحياة، ونور العلم، والسفر فيما يبدو طويل. وكأن المحب قد استقل قطار أوجست كونت فمر بمحطة اللاهوتية التي كان شعارها «نعم يا أماه»، وها هو يطوي الأرض في إقليم الميتافيزيقية التي شعارها «كلا يا أماه»، وعن بعد تتراءى خلال المنظار المكبر «الواقعية»، وعلى قمتها سجل شعارها «فتح عينيك وكن شجاعًا».

وتوقف عن السير أمام المكتب فثبتت عيناه على كشكول الذكريات، وتساءل: أيجلس ليُسوِّد صفحة الميلاد كيفما يوحي القلم، أم يؤجل ذلك حتى تتبلوَر الأفكار في رأسه؟ وعند ذاك طرق أذنيه وقع المطر على الجدران كالدندنة، فاتجه بصره إلى زجاج النافذة المطلَّة على بين القصرين فرأى لآلئ عالقة برقعته المُموهة برطوبة الجو، وما لبثت لؤلؤة أنِ انسابَت إلى حافة الإطار السفلي راسمة على الرقعة المموهة خطًّا ناصعًا منعطفًا كالشهاب فمضى إلى النافذة، ورفع عينيه يتابع الأمطار المنهلة من السحب المترعة، وقد وصلت السماء بالأرض بأسلاك لؤلؤية، على حين لاحت المآذن والقباب غير عابئة بالمطر، وقد بدا الأفق وراءها إطارًا من فضة، واكتنف المنظر كله لون أبيض مشرب بسمرة ساجية يقطر جلالًا وأحلامًا. وترامت من الطريق صيحات أطفال، فألقى نظرة إلى تحت ليرى الأرض تسيل بالمياه والأركان تعجُّ بالوحل، وقد تعثرت العربات، وتطاير الرشاش من عجلاتها وخلت معارض الدكاكين من السلع، ولاذ المارة بالحوانيت والمقاهي وما تحت الشرفات.

هذا منظر السماء يخاطب الوجدان بلسان الوجْد، فما أجدره أن يستلهمه طويلًا ليتأمل موقفه من الحياة في مطلع عامه الجديد. لم يعد يجد رفيقًا يُحاوره بمكنون روحه مذ غادر حسين شداد أرض الوطن، فلم تبقَ له إلا نفسُه ليُحاورها إذا استشعر حاجة إلى الحوار، فاتخذ من روحه صديقًا بعد أن فارقه صديق الروح. وسأل روحه: هل تؤمن بوجود الله؟ فسألته بدورها: لماذا لا تحاول أن تثبَ من نجم إلى نجم، ومن كوكب إلى كوكب كما تثب من درجة إلى درجة فوق السلم؟ وعن الصفوة المختارة من أبناء السماء؛ فقد رفعوا الأرض إلى مركز الكون، وجعلوا الملائكة تسجد للطين حتى جاء أخوهم كوبر نيكوس فأنزل الأرض بحيث أنزلها الكون جارية صغيرة للشمس، ثم تلاه أخوه داروين فهتك سرَّ الأمير الزائف، وأعلن على الملأ أن أباه الحقيقي هو حبيس قفصه الذي يدعو الأصدقاء للتفرُّج عليه في الأعياد والمواسم، وفي الأصل كان السديم فتناثرت منه النجوم كالرشاش المتطاير من عجلة الدراجة، وتجاذبت النجوم في لهوها الأزلي فأنجبت الكواكب، وانطلقت الأرض كرة سائلة، والقمر في أثرها يُعابثها وهي تُقطِّب له بجانب من وجهها، وتبسم له بجانب آخر، حتى فتر حماسها فاستقرت سماتها جبالًا، ونجودًا، وقيعانًا، وصخورًا، ثم حياة تدب، وجاء ابن الأرض يزحف على أربع، ويُسائل من يصادفه عن المثل الأعلى. لا أخفي عنك أني ضقت بالأساطير ذرعًا، غير أني في خضم الموج العاتي عثرت على صخرة مثلثة الأضلاع سأدعوها من الآن فصاعدا صخرة العلم والفلسفة والمثل الأعلى. ولا تقل: إن الفلسفة كالدين أسطورية المزاج، فالحق أنها تقوم على دعائم ثابتة من العلوم، وتتجه بها إلى غايتها. أما الفن فمتعة سامية، وامتداد للحياة، غير أن مطمعي أبعد من الفن مثالًا؛ لأنه لا يرتوي إلا بالحقيقة، والفن بالقياس إلى الحقيقة يبدو فنًّا أنثويًّا. وفي سبيل هذه الغاية تراني مستعدًّا للتضحية بكل شيء إلا ما يمسك عليَّ الحياة. أما عن مؤهلاتي للدور الخطير فرأس كبير، وأنف ضخم، وحب خائب، وأمل في المرض. واحذر أن تسخر من أحلام الشباب، فما السخرية منها إلا عارض من أعراض مرض الشيخوخة يدعوه المرضى بالحكمة. وليس من تناقض في أن تعجب بسعد زغلول كما تعجب بكوبر نيكوس واستولد وماخ؛ فالجهاد في سبيل ربط مصر المتأخرة بركب الإنسانية عمل نبيل وإنساني كذلك، والوطنية فضيلة ما لم تتلوث بالكراهية العدوانية، غير أن كره إنجلترا نوع من الدفاع عن النفس، وليست الوطنية على ذاك إلا إنسانية محلية، وتسألني: هل أومن بالحب؟ فأجيب: بأن الحب لم يبرح فؤادي بعدُ، فلا يسعني إلا أن أقرَّ بحقيقة الإنسانية، ومع أن جذوره كانت مشتبكة بجذور الدين والأساطير، فإن تقوض المعابد المقدسة لم يزعزع أركانه، أو يقلل من خطورة شأنه اقتحام محرابه بالدراسة والتحليل، وفرز عناصره البيولوجية والسيكولوجية والاجتماعية، فكل أولئك لم يوهن من خفقة القلب إذا هفت ذكرى أو تخايلت صورة، ألا زلت تؤمن بخلود الحب؟ ليس الخلود أسطورة، فلعل الحب يُنْسَى ككل شيء في هذه الدنيا، وقد انقضى على زواج … عايدة — لم تتردد قبل التفوه باسمها؟ — عام، فقطعت شوطًا في طريق النسيان، مررت بطور الجنون، فطور الذهول، فطور الألم الحاد، ثم طور الألم المتقطع، الآن قد يمضي يوم بأكمله فلا تخطر لي على بال إلا حين الاستيقاظ، وحين النوم، ومرة أو مرتين في أثناء النهار، ويتفاوَت تأثُّري بالتذكر ما بين حنين ينبعث معتدلًا، أو حزن يمرُّ مرور السحاب، أو حسرة تلسع ولا تحرق، إلا تثور النفس بغتة كالبركان فتدور بي الأرض، وعلى أيِّ حال غدوت أومن بأنني سأُواصل الحياة بلا عايدة. علامَ تُعوِّل في طلب النسيان؟ … على دراسة الحب وتحليله كما سلف، والتهوين من الآلام الفردية بالتأملات الكونية التي يبدو عالم الإنسان في مداراتها هباءة تافهة، والترويح عن النفس بالشراب والجنس. والتماس العزاء عند فلاسفة العزاء كإسبينوزا الذي يرى الزمن شيئًا غير حقيقي، وبالتالي فالانفعالات المرتبطة بحادث في الماضي أو المستقبل مضادة للعقل، ونحن خليقون بالتغلب عليها إذا كوَّنا عنها فكرة واضحة متميزة. أسرَّك أن وجدت الحب ينسى؟ سرني لأنه يعدني بالنجاة من الأسر، وأحزنني بما كان تجربة خبرت بها الموت قبل حضوره، ومهما يكن من أمر فسأمقت ما حييت الأسر، وأعشق الحرية المطلقة.

سعيد من لا يفكر في الانتحار أو يتمنَّى الموت، سعيد من تتوهَّج في قلبه شعلة الحماس، وخالد من يعمل أو يتهيَّأ صادقًا للعمل، حي من يتأثر الخيام بكتاب وكأس ومعشوق، والقلب اللهج بالآمال ينسى أو يتناسى الزواج كالكأس المترعة بالويسكي لا تتَّسع للصودا، وحسبك أن غرامك بالشراب يسير سيرًا حسنًا، وأن إقبالك على المرأة لا تعترضه عقبات من تقزز أو نفور، أما حنينك من حين لآخر إلى الطهر والتقشُّف فلعله بقية من تدينك القديم.

ولم ينقطع المطر عن الانهلال لحظة، وقعقع الرعد، ولمع البرق، وأقفر الطريق، وسكت الصياح، وخطر له أن يلقي نظرة على فناء الدار فغادر الحجرة إلى الصالة، ثم إلى النافذة، ونظر من خلال خصاصها فرأى المياه تجرف سطح الأرض الليِّن فتُخدِّده، ثم تتدفق صوب البئر القديمة، وفاض عنها جانب فتجمع في نقرة بين حجرة الفرن والمخزن، هذه النقرة التي ينجم فيها غبُّ الجفاف — مما يتساقط عفوًا من حنطة أو شعير أو حلبة من يدي أم حنفي — نبت يكسوها حلة سندسية فيترعرع أيامًا حتى تدوسه الأقدام. وقد كانت على عهد دولة الطفولة حقل تجاربه ومراح أحلامه، ومن ينبوع ذكرياتها يمتلئ قلبه الآن شوقًا وحنينًا، ومسرة يغشاها حزن وإن كسحابة شفافة تغشى وجه القمر. وتحوَّل عن النافذة ليعود إلى حجرته فانتبه إلى وجود من كان بالصالة، إلى الذكرى الباقية من مجلس القهوة القديم، إلى أمه متربِّعة على الكنبة باسطة ذراعيها فوق المجمرة، ولا جليس لها إلا أم حنفي، وقد تربعت على فروة قبالتها، فذكر المجلس القديم في أيامه الزاهرة، وما أودعه من جميل الذكريات، وكانت المجمرة هي الأثر الوحيد فيه الذي لم يكد يطرأ عليه تغير ينكره الرائي.

٤١

كان أحمد عبد الجواد يسير الهوينى على شاطئ النيل في طريقه إلى عوامة محمد عفت. وكان الليل ساجيًا، والسماء صافية متألقة النجوم، والهواء مائلًا للبرودة، فلما انتهى إلى هدفه وهمَّ بالميل إليه لم ينسَ — بحكم العادة وحدها — أن يرمي ببصره بعيدًا إلى حيث تقوم العوامة التي دعاها يومًا: «عوامة زنوبة». كان قد انتهى على الذكريات الأليمة عام، فلم يعد يبقى في قلبه إلا الامتعاض والخجل. وكان من آثارها المتخلفة أن هجر مجالس النساء كما فعل عقب مصرع فهمي، فثابر على ذلك عامًا حتى ضجر، فرجع عن عزمه وعاد ساعيًا على قدميه إلى المجلس المحرَّم. وما هي إلا دقيقة حتى أقبل على المجلس فطالع المجموعة المحبوبة المؤلفة من أصدقائه الثلاثة والمرأتين، أما الأصدقاء فكان آخر لقاء بينه وبينهم ليلة أمس، وأما المرأتان فلم تقع عليهما عيناه منذ نحو عام ونصف أو — على وجه التحديد — منذ تلك الليلة التي أقحم فيها زنوبة في حياته. ولم يكن شيء قد بدأ بعد، فالقوارير لم تُفَض، والنظام لم يمس، وكانت جليلة محتلة كنبة الصدارة، تعبَث بأساورها الذهبية وكأنما تنصت إلى وسوستها، على حين قامت زبيدة تحت المصباح المتدلي من السقف تنظر في مرآة صغيرة بيدها، متفحِّصة زينتها، جاعلة ظهرها إلى المائدة الحافلة بقوارير الويسكي وصحاف المزة. وتفرق الأصدقاء حاسري الرءوس، وقد خلعوا جبابهم، فصافحهم أحمد عبد الجواد، ثم صافح المرأتين بحرارة، فرحَّبت به جليلة قائلة: «أهلًا بأخي الحبيب.» أما زبيدة فقالت له باسمة في عتاب: «أهلًا بالذي لولا الأدب ما استحق منَّا السلام.» ونزع الرجل جبته وطربوشه، ثم ألقى نظرة على الأماكن الخالية — وكانت زبيدة قد جلست إلى جانب جليلة — وتردَّد قليلًا قبل أن يمضي إلى كنبة المرأتين ويتخذ مجلسه عليها. ولم يغب تردُّده عن عين علي عبد الرحيم، فقال: هكذا تبدو كأنك تلميذ مبتدئ!

فقالت جليلة كأنما تشجعه: لا شأن لك به، فلا حجاب بيننا وبينه.

وسرعان ما ضحكت زبيدة قائلة بتهكم: أنا أحق الناس بأن أقول ذلك، أليس هو بنسيبي؟

ففطنَ السيد إلى ما تُعرِّض به، وتساءل في قلق عن مدى ما اتَّصل بعلمها في هذا الشأن كله، ولكنه قال برقة: لي الشرف يا سلطانة.

فتساءلت زبيدة وهي ترمقه بنظرة ارتياب: أأنتَ مسرور حقًّا بما كان؟

فقال بلباقة: ما دمتِ خالتها.

فقالت وهي تلوح بيدها في استياء: أما أنا فلن يَرضى عنها قلبي أبدًا!

وقبل أن يسألها السيد عن السبب، هتف علي عبد الرحيم وهو يفرك يديه: أجِّلُوا الحديث حتى نعمِّر رءوسنا.

ونهض إلى المائدة ففض زجاجة وملأ الكئوس، ثم قدمها إليهم واحدًا واحدًا بعناية نمَّت عن ارتياحه المعهود إلى القيام بمهمة الساقي، ثم انتظر حتى تهيأ كلٌّ للشرب، وقال: «صحة الأحباب والإخوان والطرب دامت جميعًا لنا.» فرفعوا الكئوس إلى شفاههم باسمين، ونظر أحمد عبد الجواد من فوق حافة كأسه إلى وجوه أصحابه. هؤلاء الأصحاب الذين شاطروه حمل المودة والوفاء قرابة الأربعين عامًا، فكان كأنه يرى فلذات من صميم نفسه، ما ملك أن جاش صدره بعواطف الأخوة الصادقة. ومالت عيناه إلى زبيدة، فعاد إلى حديثها متسائلًا: ولماذا لا يَرضى عنها قلبك؟

فاتجهت إليه بنظرة أشعرته بترحيبها بالحديث معه، وأجابته: لأنها خائنة لا ترعى العهود، خانتني منذ أكثر من عام فغادرَت بيتي دون استئذان، وذهبت إلى حيث لم أعلم.

تُرى ألم تعلم حقًّا أين ذهبت في ذلك الوقت؟ ولم يشأ أن يعلق على قولها بحرف، فعادت تسأله: ألم يبلغك ذلك؟

فقال بهدوء: بلغني في حينه.

– أنا التي كفلتها منذ الصغر ورعيتها بقلب الأم، فانظر كيف كان الجزاء! سفخص على الدم النجس!

قال علي عبد الرحيم مازحًا، وهو يتظاهر بالاحتجاج: لا تسبِّي دمها فإن دمها هو دمك.

ولكن زبيدة قالت جادة: دمي بريء منها.

وهنا سألها السيد أحمد: مَن كان أباها يا ترى؟

– أباها!

ندَّت هذه الكلمة عن إبراهيم الفار بصوتٍ أنذر بسيل من السخريات، ولكن محمد عفت بادره قائلًا: تذكَّر أنَّ الحديث عن حرم ياسين!

فزايلت وجه الفار هيئة المزاح ولاذ بالصمت في شيء من الارتباك، على حين عادت زبيدة تقول: أما أنا فلا أهزل فيما أقول عنها، وطالَما رمقتْني بعين الحسد، وطمعت في منافستي وهي في رعايتي، فكنتُ أداريها وأغض عن مساوئها، (ثم وهي تضحك) كانت تحلم بأن تكون عالمة!

ورددت عينيها في الحاضرين، ثم قالت بلهجة ساخرة: لكنَّها أفلست فتزوجت!

تساءل علي عبد الرحيم في إنكار: هل الزواج في عرفك إفلاس؟

فضيَّقت له عينًا، ورفعت حاجب الأخرى، وهي تقول: نعم يا عمر! … العالمة لا تهجر التخت حتى تفلس.

وهنا غنَّت جليلة هذا المقطع: «أنت المدام يا روحي أنت آنستنا!» فابتسم السيد ابتسامة عريضة، وحياها بآهة لطيفة وشَت بانبساطه، غير أن علي عبد الرحيم نهض مرة أخرى وهو يقول: لحظة سكوت حتى نَستوعب هذه الكأس.

وملأ الكئوس ووزعها بينهم، ثم عاد بكأسه إلى مجلسه. وقبض أحمد عبد الجواد على كأسه ولحظ زبيدة، فالتفتت نحوه باسمة، ورفعت يدها بكأسها كأنما تقول له: «صحتك» ففعل مثلها وتشاربا، وجعلت في أثناء ذلك ترنو إليه بنظرة باسمة، مضى عام دون أن تثبَ به رغبة إلى طلاب امرأة. كأن التجربة القاسية التي امتحن بها قد أخمدت حماسه، أو لعله الكبرياء، أو لعله المرض، غير أن نشوة الخمر، ونظرة التودُّد، حركتا فؤاده فاستشعر عذوبة الإقبال بعد مرارة الصد، واعتدها تحية طيبة من الجنس الذي هام به حياته، لعلها تُضمد جرح كرامته التي قسَت عليها الخيانة وتقدم العمر، وكأن ابتسامة زبيدة الناطقة كانت تقول له: «لم يولِّ عهدك بعد!» فلم يُحوِّل عن نظرتها عينيه ولم يَلغِ ابتسامته.

وجاء محمد عفت بعود ووضعه بين المرأتين، فتناولته جليلة، وراحت تلعب بأوتاره، ولما آنست من السامعين انتباها غنت: «وعدى عليك يا اللي بحبك»، وتظاهَر أحمد عبد الجواد بالانسجام كعادته كلما سمع جليلة أو زبيدة، وذهب مع النغمة برأسه وجاء، كأنما يريد أن يخلق الطرب بتمثيل حركاته. والحق أنه لم يَعُد يبقى له من عالم الغناء إلا ذكريات، فقد ذهب الحامولي وعثمان والمنيلاوي وعبد الحي، كما ذهب شبابه، وكما ولَّت أيام النصر، ولكن ينبغي أن يوطن النفس على الرضا بالموجود، وأن يبتعث عاطفة الطرب ولو بتمثيل حركاته، وقد دعاه حبه للغناء، وغرامه بالطرب إلى ارتياد مسرح منيرة المهدية غير أنه لم يهو الغناء التمثيلي، فضلًا عن أنه ضاق بجلسة المسرح الذي شبهه بالمدرسة، كما استمع في بيت محمد عفت إلى أسطوانات المطربة الجديدة أم كلثوم، ولكنه أعارها أذنًا حذرة مضمرة لسوء الظن، فلم يتذوَّقها رغم ما قيل من أن سعد زغلول أثنى على جمال صوتها. بيد أن مظهره لم يشِ بحقيقة موقفه من الغناء، فما زال يتطلع إلى جليلة راضيًا سعيدًا ويردِّد مع الجميع لازمة «وعدى عليك» بصوته الرخيم، حتى هتف الفار بحسرة: أين؟ أين الدف؟ أين الدف لنَسمع ابن عبد الجواد؟

سل أين أحمد عبد الجواد الذي كان ينقر على الدف؟ آه، لِمَ يغيرنا الزمان؟ وختمت جليلة غناءها في هالة من الاستحسان، ولكنها قالت في لهجة اعتذار وهي تبتسم شاكرة: إني متعبة.

ولكن زبيدة كيَّلت لها الثناء كما يدور بينهما كثيرًا على سبيل المجاملة أو حرصًا على السلام العام. ولم يكن يخفى على أحد أن نجم جليلة كعالمة آخذ في الأفول السريع الذي كان آخر آياته هجر الدفافة فينو لتختها والتحاقها بتخت آخر، وهو أفول طبيعي إذ كان الذبول قد أدرك كافة المزايا التي قام عليها مجدها القديم من الفتنة وجمال الصوت؛ ولذلك لم تعد زبيدة تجد نحوها غيرة تذكر فوسعها أن تجاملها دون مضض، خاصة وأنها كانت بلغت ذروة حياتها، تلك الذروة التي لا خطوة بعدها إلا نحو الانحدار. وكان الأصدقاء كثيرًا ما يتساءلون عما إذا كانت جليلة قد أعَّدت العدة لهذه المرحلة الخطيرة من الحياة، وكان رأي أحمد عبد الجواد أنها لم تفعل، واتهم بعض من عشقتْهم بتبديد الكثرة من ثروتها، ولكنه جاهرَ في الوقت ذاته بأنها امرأة تعرف كيف تحصل على المال بأي سبيل، وأيَّده على ذلك علي عبد الرحيم قائلًا: إنها تُتاجر بجمال نساء تختها، وإن بيتها يتحول رويدًا رويدًا إلى شيء آخر. أما زبيدة فقد انعقد إجماعهم على أنها رغم مهاتراتها في ابتزاز الأموال — جوادة مفتونة بالمظاهر التي تَحرق المال حرقًا — إلى ولعها بالشراب والمخدرات وخاصة الكوكاكين. قال محمد عفت مخاطبًا زبيدة: اسمحي لي بأن أبدي إعجابي بنظراتك الحلوة التي تخصِّين بها بعضنا.

فضحكت جليلة، وقالت بصوت خافت: الصبُّ تفضحه عيونه.

وتساءل إبراهيم الفار منكرًا: أم تحسبين نفسك في زاوية العميان؟

فقال أحمد عبد الجواد متظاهرًا بالأسف: بهذه الصراحة لن تكونوا قوادين كما تحبون!

أما زبيدة فقد أجابت محمد عفت: أنا لا أنظر إليه لغرض لا سمح الله، ولكني أحسده على شبابه! انظروا إلى رأسه الأسود بين رءوسكم البيض وأجيبوني هل تعطونه يومًا واحدًا فوق الأربعين؟

– أنا أعطيه قرنًا.

فقال أحمد عبد الجواد: مِن بعض ما عندكم.

وعند ذاك ترنمت جليلة بمطلع الأغنية «عين الحسود فيها عود يا جليلة»، فقالت زبيدة: لا خوف عليه من الحسد، فإن عيني لا تؤذيه.

فقال محمد عفت وهو يهز رأسه هزة ذات معنى: أصل الأذى كله من عيونك.

وهنا قال أحمد عبد الجواد موجهًا الخطاب إلى زبيدة: أتتحدَّثين عن شبابي؟ أما سمعت بما قال الطبيب؟

فقالت كالمستنكرة: أخبرني محمد عفت، ولكن ما هذا الضغط الذي يتَّهمك به؟

– لف حول ذراعي قربة غريبة، وراح ينفخ بمنفاخ جلدي، ثم قال لي «عندك ضغط!»

– ومن أين جاء الضغط؟

فأجاب السيد ضاحكًا: لا أظنه جاء إلا من ذات النفخ.

قال إبراهيم الفار وهو يضرب كفًّا بكف: لعله مرض مُعدٍ، فإنه لم يكد يمضي شهر على إصابة المحروس به حتى ذهبنا جميعًا تباعًا إلى الطبيب، وكانت نتيجة الكشف في جميع الحالات واحدة: الضغط!

فقال علي عبد الرحيم: أنا أقول لكم سرُّه، إنه عَرَض من أعراض الثورة، وآي ذلك أنه لم يسمع به أحد قبل اشتعالها!

وسألت جليلة السيد أحمد: وما أعراض الضغط؟

– صداع ابن كلب، وتعب في التنفُّس عند المشي.

فتمتمت زبيدة وهي تبتسم ابتسامة دارت بها شيئًا من القلق: ومن يخلو ولو مرة من هذه الأعراض؟ ما رأيكم أنا عندي ضغط أيضًا.

فسألها أحمد عبد الجواد: مِن فوق أم من تحت؟

وضحكوا بلا استثناء زبيدة نفسها، حتى قالت جليلة: ما دمت قد خبرتَ الضغط، فاكشف عليها لعلك تعرف علتها.

فقال أحمد عبد الجواد: عليها أن تُحضر القربة، وعليَّ أن أحضر المنفاخ.

فضحكوا مرة أخرى، ثم قال محمد عفت كالمحتج: ضغط … ضغط … ضغط، لا نسمع الآن إلا الطبيب وهو يقول كأنما يأمر عبيده: لا تَشرب الخمر، لا تأكل اللحوم الحمراء، احذر البيض.

فتساءل أحمد عبد الجواد ساخرًا: وماذا يصنع إنسانٌ مثلي لا يأكل إلا اللحوم الحمراء والبيض، ولا يشرب إلا الخمر؟

فقالت زبيدة من فورها: كل واشرب بالهنا والشفا، الإنسان طبيب نفسه، وربنا هو الطبيب.

ومع ذلك فقد اتبع تعاليم الطبيب في الفترة التي اضطر فيها إلى الرقاد، فلما نهض تناسى نصح الطبيب جملة وتفصيلًا. عادت جليلة تقول: أنا لا أومن بالأطباء، ولكني أقيم لهم العذر فيما يقولون ويفعلون، فإنهم يتعيَّشون من الأمراض كما نتعيش نحن العوالم من الأفراح، ولا غناء لهم عن القربة والمنفاخ، والأوامر والنواهي، كما لا غناء لنا عن الدف والعود والأغاني.

فقال السيد بارتياح وحماس: صدقت؛ فالمرض والصحة والحياة والموت بأمر الله وحده، ومن توكل على الله فلا يحزن.

إبراهيم الفار ضاحكًا: اشهدُوا يا ناس على هذا الرجل، إنه يشرب بفيه، ويفسق بعينه، ويعظ بلسانه!

أحمد عبد الجواد مُقهقهًا: لا عليَّ من ذلك ما دمت أعظ في ماخور.

محمد عفت وهو يتفحَّص أحمد عبد الجواد، ويهز رأسه متعجبًا: وددتُ لو كان كمال بيننا لينتفع معنا بوعظك.

فتساءل علي عبد الرحيم: على فكرة، ألا يزال على رأيه من أن أصل الإنسان هو القرد؟

فضربت جليلة صدرها بيدها هاتفة: يا ندامتي!

زبيدة في دهش: قرد! (ثم كالمُستنكرة) لعله يقصد أصله هو.

قال لها السيد محذرًا: وأثبَت أيضًا أن المرأة أصلها لبؤة!

فقالت وهي تُهأهئ: ليتني أرى سليل القرد واللبؤة!

فقال إبراهيم الفار: سيكبر يومًا فيخرج عن محيط أسرته، ويقتنع بأن البشر من آدم وحواء.

فبادر أحمد عبد الجواد: أو أُحضره معي يومًا إلى هنا ليقتنع بأن الإنسان أصله كلب.

وقام علي عبد الرحيم إلى المائدة ليملأ الكئوس، وهو يسأل زبيدة: أنتِ أعرف منَّا بالسيد فإلى أي حيوان تُرجعينه؟

فتفكرت قليلًا وهي تتابع يدَي علي عبد الرحيم وهما تصبان الويسكي في الكئوس، ثم قالت باسمة: الحمار.

فتساءلت جليلة: ذمٌّ هذا أم مدح؟

فقال أحمد عبد الجواد: المعنى في بطن القائل.

وعاودوا الشراب على أصفى حال، وتناولت زبيدة العود وغنت: «ارخي الستارة اللي في ريحنا».

وفي نشوة غامرة راح جسد أحمد عبد الجواد يرقص مع النغمة، رافعًا الكأس التي لم يبقَ فيها إلا الثمالة أمام عينيه، ناظرًا خلالها إلى المرأة كأنما يروم أن يراها بمنظار خمري. وبرح الخفاء إن كان ثمة خفاء، ووضح أن كل شيء — بين أحمد وزبيدة — قد عاد إلى قديمه، ورددوا الغناء وراء زبيدة، فعلا صوت أحمد في طرب وسرور حتى ختمت الأغنية بالتهليل والتصفيق. وما لبث محمد عفت أن قال لجليلة: لمناسبة «الصب تفضحه عيونه» ما رأيك في أم كلثوم؟

فقالت جليلة: صوتها — والشهادة لله — جميل، غير أنها كثيرًا ما تُصرصع كالأطفال.

– البعض يقولون: إنها ستكون خليفة منيرة المهدية، ومنهم من يقول بأن صوتها أعجب من صوت منيرة نفسها.

فهتفت جليلة: كلام فارغ! أين هذه الصرصعة من بحة منيرة؟

وقالت زبيدة بازدراء: في صوتها شيء يذكر بالمقرئين، كأنها مطربة بعمامة!

فقال أحمد عبد الجواد: لم أستطعمها، ولكن ما أكثر الذين يهيمون بها، والحق أن دولة الصوت زالت بموت سي عبده.

فقال محمد عفت مداعبًا: أنت رجل رجعي، تتعلق دائمًا بالماضي. (ثم وهو يغمز بعينيه) ألست تصرُّ على حكم بيتك بالحديد والنار حتى في عهد الديموقراطية والبرلمان؟

السيد ساخرًا: الديموقراطية للشعب لا للأسرة.

علي عبد الرحيم جادًّا: أتظن أنه يمكن التحكم بالطريقة القديمة في شبان اليوم؟ هؤلاء الشبان الذين اعتادوا القيام بالمظاهرات والوقوف في وجه الجنود؟

فقال إبراهيم الفار: لا أدري عما تتكلَّم، ولكنني متفق في الرأي مع أحمد، كلانا أب لذكور، والله المستعان.

محمد عفت مداعبًا: كلاكما متحمِّس للحكم الديمقراطي باللسان، ولكنكما مستبدان في بيتكما!

فقال أحمد عبد الجواد كالمحتج: أتريدني على ألا أبت في مسألة حتى أجمع كمال وياسين وأم كمال، ثم نأخذ الأصوات؟

فهأهأت زبيدة قائلة: لا تنسَ زنوبة من فضلك.

وقال إبراهيم الفار: إذا كانت الثورة هي سبب ما نُعاني من أولادنا، فالله يسامح سعد باشا. وتواصُل الشرب والسمر والغناء والمزاح، وتعالَت الضجة، واختلطت الأصوات، وتقدم الليل غير عابئ بشيء، وكان ينظر إليها فيجدها تنظر إليه، أو تنظر إليه فتجده ينظر إليها، وقال لنفسه: إنه ليس في هذا الوجود إلا لذَّة واحدة، وأراد أن يفصح عن فكرته، ولكنه لم يفصح، إما لأن حماسه للإفصاح فتر، أو لأنه لم يستطع، ولكن كيف جاء هذا الفتور؟ وتساءل مرة أخرى: أتكون لذة ساعة أم معاشرة طويلة؟ ونزعت نفسه إلى التماس التسلية والعزاء، ولكن ثمة وش كأن أمواج النيل تهمس في أذنيه، ومع ذلك فمُنتصَف الحلقة السادسة في متناول اليد، سل الحكماء: كيف يَنطوي العمر ونحن ندري دون أن ندري.

– ماذا أسكتك كفى الله الشر؟

– أنا؟ شوية راحة.

أجل ما ألذَّ الراحة، ضجعة طويلة تقوم بعدها صحيحًا، ما ألذ الصحة، ولكنهم يُطاردونك ولا يدعون لك لحظة واحدة تنعم فيها بالسلام، وهذه النظرة أليست فاتنة، ولكن همسات الأمواج تعلو فكيف تسمع الغناء؟

– كلا، لن نتركه حتى يزف، ما رأيكم؟ الزفة … الزفة!

– قُم يا جملي.

– أنا؟ … شوية راحة.

– الزفة … الزفة، كما حدث أول مرة في بيت الغورية.

– ذلك عهد قديم.

– نُجدِّده، الزفة … الزفة.

لا يرحمون، وذلك زمن خلا تحجبه عن عينيك ظلمات، ألا ما أكثف الظلام، وما أشد الوش! وما أغلظ النسيان!

– انظروا!

– ما له؟

– قليلًا من الماء … افتحوا النافذة.

– يا لطيف يا رب.

– خير … خير، بل هذا المنديل بالماء البارد.

٤٢

مضى أسبوع على «حادث» الأب، وكان الطبيب يزوره يوميًّا، وكانت الحال من الشدة بحيث لم يسمح لأحد بمقابلته، حتى الأبناء كانوا يتسلَّلون إلى الحجرة على أطراف أصابعهم فيُلقون بنظرة على الراقد مُتفحِّصين ما يكسو وجهه من ذبول واستسلام، ثم يَنسحبون وفي الوجوه اكفهرار، وفي الصدور انقباض، يَتبادلون النظرات ويتهرَّبون منها في ذات الوقت. قال الطبيب: إنها أزمة ضغط، وحجم المريض فملأ طستًا من دمِه، دم أسود كما قالت خديجة في وصفه وجوارحها تَرتعِش، وكانت أمينة تعود من الحجرة بين الحين والحين كشبحٍ يَهيم على وجهه، على حين بدا كمال ذاهلًا كأنما يتساءل: كيف تقع هذه الأمور الخطيرة في أقل من غمضة عين؟ وكيف استسلمَ الرجل الجبار واستكان؟ ثم يَسترق نظرة إلى شبح أمه أو عيني خديجة الدامعتَين، أو وجه عائشة الشاحب، ويتساءل مرة أخرى: ماذا يعني هذا كله؟ ووجد نفسه تنساق وهو لا يدري إلى تصور النهاية التي يخافها قلبه، تصور عالم لا يوجد فيه الأب، فضاق صدره وجزع قلبه. وتساءل في إشفاق: كيف يُمكن أن تتحمَّل هذه النهاية أمه؟ إنها تبدو الآن كالمُنتهية ولما يقع شيء، ثم وردت ذهنه ذكرى فهمي، فتساءل: أيمكن أن يُنسَى هذا كما نُسي ذاك؟ وتراءت له الدنيا ظلمات فوق ظلمات.

وعلم ياسين بالحادث في اليوم التالي لوقوعه، فجاء إلى البيت لأول مرة مذ غادَره عند زواجه من مريم، وقصد حجرة أبيه رأسًا، فألقى عليه نظرة طويلة صامتة، ثم انسحب إلى الصالة مذهولًا، فالتقى بأمينة فتصافحا بعد طول فراق، واشتد تأثره وهو يُصافحها فامتلأت عيناه بالدموع. ولبث السيد راقدًا، ولم يكن أول الأمر يتكلَّم أو يتحرَّك، فلما حُجم دبَّ فيه شيء من الحياة، فاستطاع أن ينطق بكلمة أو عبارة مقتضبة يفصح بها عما يريد، ولكنه في الوقت ذاته شعر بالألم فصدر عنه الأنين والتأوهات. ولما خفَّت حدة الآلام المرضية أخذ يضيق برقاده الإجباري الذي حرمه نعمة الحركة والنظافة، وقضى عليه بأن يأكل ويشرب ويفعل ما تعافه نفسه في مكان واحد هو فراشه. وكان نومه متقطعًا، وكان ضجره متصلًا، غير أن أول ما سأل عنه كان خاصًّا بكيفية إحضاره إلى البيت مغشيًّا عليه، وأجابته أمينة بأنه جيء به في حانطور مع صحبه محمد عفت وعلي عبد الرحيم وإبراهيم الفار، وأنهم حملوه برِفق إلى فراشه، ثم أحضروا له الطبيب رغم تأخُّر الوقت. وسأل بعد ذلك باهتمام عن عُوَّاده فقالت له المرأة إنهم لا ينقطعون، ولكن الطبيب منع المقابلة إلى حين. وكان يردِّد بصوت خافت: «الأمر لله من قبل ومن بعد.» و«نسأل الله حسن الختام.» ولكن الحق أنه لم يستشعر اليأس. ولم يحسَّ بدنوِّ النهاية، ولم تضعف ثقته بالحياة التي يحبها رغم آلامه وخوفه، عاوده الأمل بمجرد عودة الوعي إليه، فلم يُحدِّث أحدًا بحديث الراحلين كأن يوصي، أو يودع، أو يعهد لمن يهمه الأمر بأسرار عمله وثروته. وعلى العكس من ذلك استدعى جميل الحمزاوي، وكلفه ببعض أعمال المبادلة التي لم يكن يعلم عنها شيئًا، كما أرسل كمال إلى خياطه البلدي بخان جعفر ليُحضر ملابس جديدة كان عهد بها إليه، وليدفع ثمن خيطها، لم يكن يذكر الموت إلا بتلك العبارات يرددها كأنما يداري بها قسوة الأقدار، وعند ختام الأسبوع الأول صرح الطبيب بأن مريضه اجتاز المرحلة الدقيقة بسلام، وأنه لم يَعُد يلزمه إلا بعض الصبر كي يستردَّ صحته كاملة ويستأنف نشاطه، وأعاد الطبيب على مسمعه ما سبق أن حذره منه عند ارتفاع ضغطه أول مرة، فوعده بالطاعة وعاهد نفسه صادقًا على الإقلاع عن الاستهتار بعدما تبيَّن له من عواقبه الوخيمة التي أقنعته بأن الأمر جد لا هزل، وجعل يتعزى قائلًا: إن الحياة السليمة مع شيء من الحرمان خير على أي حال من المرض.

هكذا مرت الأزمة بسلام، فاستردَّت الأسرة أنفاسها، ولهجت قلوبها بالشكر، وعند نهاية الأسبوع الثاني سُمح للسيد بمقابلة عوَّاده فكان يومًا سعيدًا، وكانت أسرته أول من احتفل بهذا اليوم، فزاره أبناؤه وأصهاره، وتحدثوا إليه لأول مرة منذ الرقاد، وقلَّب الرجل عينيه في وجوههم — ياسين، وخديجة، وعائشة، وإبراهيم شوكت، وخليل شوكت — وراح بلباقته — التي لم تخُنْه حتى في موقفه هذا — يسأل عن الأطفال: رضوان، وعبد المنعم، وأحمد، ونعيمة، وعثمان، ومحمد، فقالوا له: إنهم لم يجيئوا بهم حرصًا على راحته، ودعوا له بطول العمر وتمام الصحة والعافية، ثم حدَّثوه عن حزنهم لما ألمَّ به، وسرورهم بسلامته، تكلَّمت خديجة بصوت متهدج، وتركت عائشة على يده وهي تُقبِّلها دمعة تُغني عن كل بيان، أما ياسين فقال بزلاقة لسان: إنه مرضٌ معه حين مرض، وبرئ معه حين مَنَّ الله عليه بالشفاء، فتطلق وجه الرجل الشاحب بالبشر، وحدَّثهم طويلًا عن قضاء الله ورحمته ولطفه، وأن على المؤمن أن يواجه مصيره بصبر وإيمان، متوكلًا على الله وحده، وغادروا الحجرة إلى حجرة كمال — مخلِّين الصالة لمرور العُوَّاد المنتظَر توافدهم — وهناك أقبل ياسين على أمينة، فشدَّ على يدها وهو يقول: لم أحدثك بما في نفسي طيلة الأسبوعين الماضيين؛ لأنَّ مرض بابا لم يترك لي عقلًا أفكر به، أما الآن وقد أمر الله بالسلامة فأودُّ أن أعتذر عن رجوعي إلى البيت دون استئذانك، الحق أنك استقبلتني بالعطف الذي عهدته منك في الأيام السعيدة الخالية، ولكن عليَّ الآن أن أُقدِّم فروض الاعتذار.

فتورد وجه أمينة وهي تقول بتأثُّر: ما فات فات يا ياسين، هذا بيتك تحلُّ فيه أهلًا وسهلًا حين تشاء.

فقال ياسين مُمتنًّا: لا أحبُّ أن أعود إلى الماضي، ولكن أحلف برأس أبي وحياة رضوان ابني أن قلبي لم يحمل قط سوءًا لأحد من أهل هذا البيت، وأني أحببتهم جميعًا كما أحب نفسي، ربما يكون الشيطان قد دفعني إلى خطأ، وكل إنسان عُرضة لهذا، ولكن قلبي لم تَشُبه شائبة أبدًا.

فوضعت أمينة يدها على منكبه العريض، وقالت بإخلاص: كنت دائمًا واحدًا من أبنائي، ولا أنكر أني غضبتُ مرة، ولكن زال الغضب والحمد لله، فلم يبقَ إلا الحب القديم، هذا بيتك يا ياسين، أهلًا بك، أهلًا.

وجلس ياسين ممتنًّا، فلما غادرت أمينة الحجرة، قال للحاضرين بلهجة خطابية: ما أطيب هذه المرأة! إن الله لا يغفر لمن يسيء إليها، لعن الله الشيطان الذي أورطني يومًا فيما جرح مشاعرها.

فقالت له خديجة وهي تحدجه بنظرة ذات معنى: لا يكاد يمضي عام حتى يُورِّطك الشيطان في مصيبة، كأنك لعبة في يديه.

فنظر إليها بعين كأنما يتوسَّل إليها أن تُعفيه من لسانها، وإذا بعائشة تقول مدافعة عنه: ذاك تاريخ مضى وانتهى.

فتساءلت خديجة في تهكم: لِمَ لَمْ تأتِ معك بالمدام «لتُحيي» لنا هذا اليوم المبارك؟

فقال ياسين في كبرياء مُصطَنع: لم تعد زوجتي تحيي أفراحًا بعد، إنها الآن سيدة بكل ما في هذه الكلمة من معنى.

فقالت خديجة بلهجة جدية لا أثر للتهكُّم فيها: يا خسارتك يا ياسين، ربنا يتوب عليك ويهديك.

قال إبراهيم شوكت، كأنما يَعتذر عن صراحة زوجته: لا تؤاخذني يا سي ياسين، ولكن ما حيلتي؟ إنها أختك!

فقال ياسين باسمًا: كان الله في عونك يا سي إبراهيم.

وهنا قالت عائشة وهي تتنهَّد: الآن وقد أخذ الله بيد بابا، فإني أصارحكم بأنني لن أنسى ما حييت منظرَه أول يوم رأيته، ربنا لا يحكم على أحد بالمرض.

خديجة بصدق وحماس: هذه الحياة لا تُساوي بدونه قلامة ظفر.

فقال ياسين بتأثر: إنه ملاذنا عند كل شدة، رجل ولا كل الرجال.

وأنا! أتذكر موقفك بركن الحجرة وقد أطبق عليك اليأس، وكيف تقطَّع قلبي وأنا أرى تهافت أمي، نعرف الموت معنى من المعاني، أما إذا هلَّ ظلُّه من بعيد فتدور بنا الأرض، ومع ذلك فستتوالى طعنات الألم بعدد مَن نَفقد من الأحبَّاء، وستموت أنت أيضًا مخلفًا وراءك الآمال، والحياة رغيبة ولو ابتليت بالحب، وتعالى من الطريق رنين جرس حنطور، فوثبت عائشة إلى النافذة، ثم نظرت من خصاصها، التفتت قائلة في مباهاة: زوَّار من الأكابر!

وتتابع وصول العُوَّاد من الأصدقاء الكثيرين الذين امتلأت بهم حياة الأب، موظفين، ومحامين، وأعيان، وتجار. وكانت منهم قلة لم تجئ البيت من قبل، وآخرون لم يأتوا إلا مدعوين لبعض الولائم التي يولمها السيد في المناسبات، وغير هؤلاء وأولئك رجال ترى وجوههم كثيرًا في الصاغة والسكة الجديدة، والجميع أصدقاء ولكنهم ليسوا من طبقة محمد عفت وصاحبيه. وقد مكثوا قليلًا مراعاة لظروف الزيارة، ولكن الأبناء وجدوا في مظاهرهم الفاخرة، وعرباتهم ذوات الجياد المطهمة ما أشبع خيلاءهم وزهوهم. وقالت عائشة وهي لا تزال بموقف المراقبة: ها هم الأحباب قد وصلوا.

وترامت أصوات محمد عفت وعلي عبد الرحيم وإبراهيم الفار وهم يتضاحَكُون ويرفعون أصواتهم بالشكر والحمد، فقال ياسين: لم يَعُد في الدنيا أصدقاء مثل هؤلاء.

فآمن على قوله إبراهيم شوكت وخليل، على حين قال كمال بحزنٍ لم يَفطن إليه أحد: قلَّ أن تُتيح الحياة لأصدقاء أن يجتمع شملهم طويلًا كما أتاحت لهؤلاء.

وعاد ياسين يقول كالمتعجب: لم يمرَّ يوم دون أن يزوروا البيت، وما غادروه في أيام الشدة إلا والدموع في أعينهم.

فقال إبراهيم شوكت: لا تَعجب، فقد عاشروه أكثر منكم أنتم.

وهنا ذهبت خديجة إلى المطبخ لتقدم مساعداتها. أما تيار العُوَّاد فلم ينقطع، وقد جاء جميل الحمزاوي بعد أن أغلق الدكان، وتبعه غنيم حميدو صاحب معصرة الجمالية، ثم محمد العجمي بائع الكسكسي بالصالحية، وإذا بعائشة تهتف وهي تُشير إلى الطريق من وراء النافذة: الشيخ متولي عبد الصمد! ترى أيستطيع أن يصعد إلى الدور الفوقاني؟

وراح الشيخ يقطع الفناء متوكئًا على عصاه، متنحنحًا — من آنٍ لآخر — ليُنبه مَن في طريقه إلى حضوره. وأجاب ياسين: إنه يستطيع أن يصعد إلى قمة مئذنة، (ثم مجيبًا خليل شوكت الذي تساءل عن عمر الرجل بعينيه وأصابعه) بين الثمانين والتسعين. ولكن لا تسَلْ عن صحته.

وتساءل كمال: ألم يتزوج في حياته الطويلة؟

فقال ياسين: يقال: إنه كان زوجًا وأبًا، ولكن زوجه وأبناءه انتقلوا إلى رحمة الله.

وهتفت عائشة مرةً أخرى، ولم تكن برحت موقفها من النافذة: انظروا! هذا خواجا! مَن يكون يا ترى؟

كان يقطع الفناء مُلقيًا على ما حوله نظرة متردِّدة متسائلة، واضعًا على رأسه قبعة مستديرة من الخوص لاح تحت حافتها أنف مجدور مقوس وشارب منفوش، فقال إبراهيم: لعله صائغ من تجار الصاغة.

فتمتم ياسين في حيرة: ولكنه يوناني السحنة، أين يا ترى رأيت هذا الوجه؟

وجاء شابٌّ ضرير ذو نظارة سوداء، يجره من يده رجل من أهل البلد مُلثمًا بكوفية، رافلًا في معطف أسود طويل يبرز من تحت طرفه جلباب مقلم، فعرفهما ياسين — من أول نظرة — وهو من الدهش في نهاية. أما الشاب الضرير فكان عبده عازف القانون بتخت زبيدة، وأما الآخر فصاحب قهوة مشهورة بوجه البركة يُدعى الهمايوني، فتوة وبلطجي وبرمجي … إلخ، وسمع خليل وهو يقول: الضرير قانونجي العالمة زبيدة.

فتساءل ياسين متصنِّعًا الدهش: وكيف عرف بابا؟

فابتسم إبراهيم شوكت وهو يقول: والدك من السميعة القدامى، ولا غرابة في أن يعرفه جميع أهل الفن.

وابتسمت عائشة دون أن تُدير رأسها المتجه إلى الطريق لتداري ابتسامتها، ياسين وكمال رأيا ابتسامة إبراهيم وفطنا إلى ما وراءها. وأخيرًا جاءت سويدان جارية آل شوكت تتعثَّر في خطوات الكبر، فتمتم خليل وهو يشير إليها «رسول أمِّنا للسؤال عن السيد!» وكانت حرم المرحوم شوكت قد زارت السيد مرة، ولكنها لم تستطع أن تُعيد الكرة لما اعتراها في الأيام الأخيرة من آلام روماتزمية تحالفت مع الكبر عليها. وما لبثت خديجة أن عادَت من المطبخ وهي تقول مبدية التشكي مضمرة المباهاة: يَلزمنا قهوجي ليقدم القهوة بنفسه!

كان السيد جالسًا في فراشه، مسند الظهر إلى وسادة منكسرة، ساحبًا الغطاء حتى عنقه، على حين جلس العواد على الكنبة والكراسي التي أحدقت بالفراش. وبدا سعيدًا رغم ضعفه، فلم يكن يُسعده شيء كالتفاف الأصدقاء حوله، وتسابقهم إلى مجاملته ورعاية عهده، وإذا كان قد بلاه المرض بالشر، فإنه لم ينكر حسنته فيما وجد من جزع إخوانه لما أصابه، وتحسُّرهم على غيابه، ومدى إحساسهم بالوحشة في مجالسِهم أثناء اعتكافه، وكأنما أراد أن يستزيد من العطف، فجعل يقص عليهم ما لاقى من آلام وسأم، واستباح في سبيل ذلك أن يهول ويبالغ، فقال مُتنهِّدًا: في الأيام الأولى من المرض اقتنعت فيما بيني وبين نفسي بأني انتهيت، فجعلت أتشهد وأقرأ الصمدية، وفيما بين هذا وذاك أذكركم كثيرًا؛ فتقسو عليَّ فكرة فراقكم.

فعلًا أكثر من صوت قائلًا: لا كانت الدنيا بدونك يا سيد أحمد.

وقال علي عبد الرحيم بتأثر: سيترك مرضك هذا في نفسي أثرًا لن يزول مع الأيام.

وقال محمد عفت بصوت خافت: أتذكر تلك الليلة؟ رباه لقد شيبتنا!

فمال غنيم حميدو نحو الفراش قليلًا، وقال: نجَّاك الذي نجانا من الإنجليز ليلة بوابة الفتوح.

تلك الأيام السعيدة، أيام الصحة والعشق، وفهمي كان النجابة والأمل الموعود.

– الحمد لله يا سيد حميدو.

وقال الشيخ متولي عبد الصمد: إني أسألك كم أعطيتَ الطبيب بدون وجه حق؟ ولا داعي للجواب، ولكني أدعوك إلى إطعام أولياء الحسين.

فقاطعه محمد عفت متسائلًا: وأنت يا شيخ متولي، ألستَ من أولياء الحسين؟ وضِّح هذه النقطة.

فاستطرد الشيخ — دون مبالاة — وهو يضرب الأرض بعصاه عقب كل عبارة: أطعم أولياء الحسين وأنا على رأسهم، أراد محمد عفت أم لم يُرِد، وعليه هو أيضًا أن يطعمهم إكرامًا لك، وأنا على رأسهم، وعليك أن تُؤدي فريضة الحج هذا العام، ويا حبَّذا لو أخذتني معك ليضاعف الله لك الجزاء.

ما أطيبك وأقربك إلى قلبي يا شيخ متولي، أنتَ من معالم الزمن.

– أعدك يا شيخ متولي بأن آخذك معي إلى الحجاز، إذا أذن الرحمن.

عند ذاك قال الخواجا، وكان قد خلَع قبعته عن شعر خفيف ناصع البياض: شوية زعل، الزعل سبب كل شيء، اترك الزعل تَرجع مثل البمب.

مانولي الذي باعك الخمر طيلة خمسة وثلاثين عامًا، بائع السعادة وسمسار القرافة.

– هذه عاقبة بضاعتك يا مانولي.

فنظر الخواجا في بقية وجوه الزبائن، وقال: لم يَقُل أحد: إن الخمر تأتي بالمرض، كلام فارغ، الانبساط والضحك والفرفشة تسبب المرض؟

هتف الشيخ متولي عبد الصمد، وهو يَلتفت نحو الخواجا مسددًا نحوه بصرًا لا يكاد يرى: الآن عرفتُكَ يا وجه المصائب، عندما سمعت صوتك في المرة الأولى تساءلت: أين سمعت هذا الشيطان؟

وسأل محمد العجمي بائع الكسكسي الخواجا مانولي، وهو يَغمز بعينيه ناحية الشيخ متولي: ألم يكن الشيخ متولي من زبائنك يا مانولي؟

فقال الخواجا باسمًا: فمُه ملآن بالطعام، فأين يَضع الخمر يا حبيبي؟

وصاح عبد الصمد وهو يشدُّ على مقبض عصاه: تأدب يا مانولي!

فصاح به العجمي: أتنكر يا شيخ متولي أنك كنتَ أكبر حشاش قبل أن يقطع الكبر أنفاسك؟

فلوح الشيخ بيده مُحتجًّا، وهو يقول: ليس الحشيش حرامًا، أجرَّبت صلاة الفجر وأنت مسطول؟ الله أكبر، الله أكبر.

ووجد أحمد عبد الجواد الهمايوني صامتًا، فالتفت إليه باسمًا وهو يقول على سبيل المجاملة: كيف حالك يا معلم؟ والله زمان!

فقال الهمايوني بصوت كالنعير: والله زمان، زمان والله! أنت السبب يا سيد أحمد وأنت الهاجر، ولكن لما قال لي السيد علي عبد الرحيم إن عدوَّك راقد ذكرت أيام الصبوات كأنها لم تنقطع. وقلت لنفسي: لا كان الوفاء إن لم أزر بنفسي الرجل الحبيب، رجل المروءة والفرفشة والأنس، ولولا الملامة لجئتُ معي بفطومة وتملي ودولت ونهاوند، كلهن مشتاقات إلى رؤيتك، يا سلام يا سي أحمد، أنت أنت سواء شرَّفتنا كل ليلة أم هجرتنا سنين.

ثم وهو يجيل عينيه الحديديتين: هجرتمونا كلكم، البركة في السيد علي، ربنا يخلي لنا سنية القللي التي تجذبه إلينا، من فات قديمه تاه، عندنا أصل الأنس، ماذا غيبكم عنا؟ لو كانت التوبة لعذرناكم، ولكن التوبة لم يَئِن أوانها، ربنا يبعدها بطول العمر والأفراح!

أحمد عبد الجواد وهو يشير إلى نفسه: ها أنت ترى أننا قد انتهينا.

فقال المعلم بحماس: لا تقل هذا يا سيد الرجال، وعكة وتمضي إلى غير رجعة، لن أتركك حتى تَنذِر أن تعود إلى وجه البركة — ولو مرة — إذا أخذ الله بيدك وقمت بالسلامة.

فقال محمد عفت: الزمن تغيَّر يا معلم همايوني، أين وجه البركة الذي عرفناه قديمًا؟ ابحث عنه في التاريخ، أما ما بقي منه فمراح الشبان من أهل اليوم، كيف نسير بينهم وفيهم أبناؤنا؟

وقال إبراهيم الفار: ولا تنسَ أننا لا نستطيع أن نغالط ربنا في العمر والصحة، انتهينا كما قال سي أحمد، ما منا إلا من اضطر إلى زيارة الطبيب ليقول له عندك وعندك، لا تشرب، لا تأكل، لا تتنفس، وغير ذلك من الوصايا المقرفة، ألم تسمع عن مرض الضغط يا معلم همايوني؟

فقال المعلم وهو يحدجه بنظرة: داوِ أي مرض بسكرة وضحكة ولعبة، وإن وجدت له أثرًا بعد ذلك الزقه في كبدي.

فصاح مانولي: قلت له هذا وحياتك أنت.

وقال محمد العجمي، كأنما يتم ما بدأ صاحبه: ولا تنسَ المنزول الأصيل يا معلم.

فهز الشيخ متولي عبد الصمد رأسه متعجبًا، وتساءل في حيرة: دلوني يا أهل الخير أين أنا، أفي بيت ابن عبد الجواد، أم في غُرزة، أم في حانة؟ دلوني يا هوه!

تساءل الهمايوني وهو يرمق الشيخ متولي شزرًا: مَن صاحبكم؟

– وليُّ كله خير.

فقال له مُتهكمًا: اقرأ لي الطالع إن كنت وليًّا.

فهتف متولي عبد الصمد: إما السجن وإما المشنقة.

فلم يتمالك الهمايوني من أن يضحك عاليًا، ثم قال: حقًّا إنه وليٌّ؛ فهذه هي النهاية المتوقعة، (ثم مخاطبًا الشيخ) لكن اضبط لسانك، وإلا حققتُ بك نبوءتك.

علي عبد الرحيم وهو يقرب رأسه من وجه السيد: قم يا حبيبي، الدنيا لا تساوي قشرة بصلة من غيرك، ماذا جرى لنا يا أحمد؟ أترى أنه يَحسُن بنا ألا نستهين بالمرض بعد ذلك؟ كان آباؤنا يتزوجون وهم فوق السبعين، فماذا جرى؟

متولي عبد الصمد بعنف تطاير معه الرذاذ من فيه: كان آباؤكم مؤمنين طاهرين، لم يَسكروا ولم يفسقوا، في هذا الجواب الذي تريد.

وأجاب أحمد عبد الجواد صديقه قائلًا: قال لي الطبيب: إن التمادي في الاستهانة مع الضغط عاقبته الشلل والعياذ بالله، هذا ما وقع لصاحبنا الوديني أكرمه الله بحسن الختام، إني أسأل الله إذا حُمَّ القضاء أن يكرمني بالموت، أما الرقاد أعوامًا بلا حراك! اللهم رحمتك!

وهنا استأذن العجمي وحميدو ومانولي في الانصراف، وذهبوا وهم يدعون للسيد بالصحة والعمر المديد، ومال محمد عفت على السيد، ثم همس بصوت هامس: جليلة تقرئك السلام، وكم ودَّت لو تراك بنفسها.

فالتقطت أذن عبده القانونجي مقالته، ففرقع بأصابعه، وقال: وأنا مبعوث السلطانة إليك، وقد كادت أن تتزيا بزيِّ الرجال لتحضر إليك بنفسها لولا أن أشفقَت عليك من العواقب غير المتوقعة، فأرسلتني وقالت لي قل له:

وتنحنح مرة ثم مرة، وغنى بصوت خافت:

أمانة يا رايح يمه
تبوس لي الحلو من فمه
وقل له عبدك المغرم ذليل

فابتسم الهمايوني كاشفًا عن طاقم ذهبي، وقال: نعم الدواء. جرب هذا ولا تُلقِ بالًا إلى وليِّ الله المتنبئ بالمشانق.

زبيدة؟ لا شوق بي إلى شيء، دنيا المرض شيء كريه، ولو وقع المحذور لمت سكران، ألا يعني هذا أنه لا بدَّ من صفحة جديدة؟

وقال له إبراهيم الفار بصوت خافت: تعاهَدْنا على ألا نذوق الخمر وأنت راقد.

– إني أعفيتُكم من تعهُّدِكم، وسامحوني عما فات.

علي عبد الرحيم مبتسمًا في إغراء: لو كان في الإمكان أن نحتفل هنا الليلة بشفائك؟

متولي عبد الصمد موجهًا خطابه للجميع: أدعوكم إلى التوبة والحج.

الهمايوني محنقًا: كأنك عسكري في غرزة!

وبإشارة متفق عليها من الفار، تقاربت رءوس محمد عفت وعلي عبد الرحيم وإبراهيم الفار فوق رأس السيد، وراحوا يغنون بصوت خافت:

أما انت مش قد الخمرة
بس تسكر ليه

على نغمة:

أما انت مش قد الهوى
بس تعشق ليه

على حين جعل الشيخ عبد الصمد يتلو آيات من سورة التوبة، أما أحمد عبد الجواد فقد أغرق في الضحك حتى دمعت عيناه، ومرَّ الوقت بلا حساب حتى بدا في وجه الشيخ متولي عبد الصمد الجزع، فقال: ليكن في معلومكم أني آخر من سيُغادر هذه الحجرة؛ لأني أريد أن أخلو إلى ابن عبد الجواد.

٤٣

غادر أحمد عبد الجواد البيت بعد أسبوعين آخرين، فكان أول ما فعله أن صحب ياسين وكمال إلى زيارة الحسين والصلاة في مسجده شكرًا لله. وكان نبأ وفاة علي فهمي كامل قد نشر في الصحف، فتأمله السيد أحمد طويلًا وخاطب ابنيه — وهم يُغادرون البيت — قائلًا: سقط ميتًا وهو يخطب في جمع حافل، وها أنا أسعى على قدمي بعد رقاد كدت أرى فيه الموت رؤية العين، فمن ذا يستطيع أن يعلم الغيب؟ حقًّا إن الأعمار بيد الله، وأنه لكل أجل كتاب.

كان عليه أن يصبر أيامًا وأسابيع حتى يسترد وزنه، غير أنه بدا رغم ذلك مستوفيًا آي وقاره وجماله. وقد سار في المقدمة وتبعه ياسين وكمال، وهو منظر لم ير بهيئته الكاملة منذ وفاة فهمي. وفي الطريق ما بين القصرين والجامع لمس الشابان المكانة التي يحظى بها أبوهما في الحي كله، فما من تاجر من أصحاب الدكاكين القائمة على جانبَي الطريق إلا وقد صافحه، وتلقاه بين ذراعيه وهو يهنئه بالسلامة، واستجابت نفسًا ياسين وكمال لهذه المودة الحارة المتبادلة، فملكهما السرور والزهو، وارتسمت على ثغريهما ابتسامة لم تفارقهما طوال الطريق. غير أن ياسين تساءل في براءة: لِمَ لَمْ يحظ بمثل مكانة أبيه وكلاهما في الجلال والجمال والعيوب سواء؟ أما كمال فبالرغم من تأثُّره الوقتي استدعى أفكاره الغابرة عن هذه المكانة المرموقة ليسبرها بعين جديدة. كانت في الماضي تتمثَّل لعينيه الصغيرتين آية للجلال والعظمة، أما الآن فإنه يراها لا شيء، أو لا شيء بالقياس إلى مثُلِه العليا. ما هي إلا المكانة التي يحظى بها رجل طيب القلب، لطيف المعشر، جم المروءة. والعظمة شيء قد يناقض ذلك كل المناقضة، فهي دويٌّ يزلزل قلوب الخاملين، ويُطيِّر النوم عن أعين الراقدين، وهي عسية بأن تستثير الكراهية لا الحب، والسخط لا الرضا، والعداوة لا المودة، إنها الكشف والهدم والبناء. ولكن أليس من السعادة أن ينعم الإنسان بمثل هذا الحب والإجلال؟ بلى وآي ذلك أن عظمة العظماء تقاس أحيانًا بمقدار تضحيتهم بالحب والطمأنينة في سبيل أهداف أسمى. على أي حال هو رجل سعيد فليهنأ بسعادته. انظر إليه ما أجمله! كذلك ياسين ما ألطفه! وما أعجب منظري بينهما كأني صورة تنكرية في كرنفال. ازعم ما شاء لك الزعم أن الجمال حيلة النساء لا الرجال، فلن يمحو هذا من ذاكرتك موقف الكشك الرهيب. وقد برئ أبي من الضغط فمتى أبرأ من الحب؟ والحب مرض غير أنه كالسرطان لم تُكتشَف جرثومته بعد. إن حسين شداد يقول في رسالته الأخيرة: «إن باريس عاصمة الجمال والحب.» فهل هي أيضًا عاصمة العذاب؟ وقد بدأ العزيز يبخل برسائله كأنما يقطرها من دمه الغالي. أريد عالمًا لا تخدع فيه القلوب ولا تخدع.

عند منعطف خان جعفر لاح لهم الجامع الكبير، فسمع أباه وهو يقول من الأعماق بصوت جمع بين رقة التحية وحرارة الاستغاثة «يا حسين!» ثم حث خطاه فتبعه وياسين وهو ينظر إلى الجامع وعلى شفتَيه ابتسامة غامضة. أيدور بخلد أبيه أنه لم يتبعه هذه الزيارة المباركة إلا استجابة لرغبته هو دون أدنى مشاركة في عقيدته؟ أما هذا الجامع فلم يعد في نظره إلا رمزًا من رموز الخيبة التي ابتُلي بها قلبه. كان في الماضي يقف تحت مئذنته وقلبه خفاق، ودمعه متحفز، وصدره مرتعش لجيشات الوجد والإيمان والأمل، واليوم يقترب منه وهو لا يراه إلا مجموعة ضخمة من الأحجار، والحديد، والخشب، والطلاء تحتل مساحة واسعة من الأرض بغير وجه حق! بيد أنه لا مناص من تمثيل دور المؤمن حتى تَنتهي الزيارة رعاية لحقوق الأبوة، واحترامًا للناس، أو اتقاء لشرهم، وهو سلوك ينافي الكرامة والصدق. أريد عالمًا يعيش فيه الإنسان حرًّا بلا خوف ولا إكراه!

وخلعوا أحذيتهم ودخلوا تباعًا، فاتجه الأب إلى المحراب ودعا ابنيه إلى الصلاة تحية للمسجد، ثم رفع يديه إلى رأسه مقيمًا الصلاة فائتمَّا به. استغرق الأب في الصلاة كعادته فأرخى جفونه وامتثل، ونسي ياسين كل شيء إلا أنه بين يدي الله الغفور الرحيم. وجعل هو يُحرك شفتيه دون أن يقول شيئًا، وانحنى واستوى، ثم ركع وسجد وكأنه يؤدي بعض الحركات الرياضية الفاترة. وقال لنفسه: إنَّ أقدم الآثار المتخلفة على وجه الأرض أو في باطنها معابد، وحتى اليوم لا يخلو منها مكان، فمتى يشب الإنسان عن طوقه ويعتمد على نفسه؟ وهذا الصوت الجهير الذي يترامى من أقصى الجامع يذكر الناس بالآخرة، فمتى كان للزمن آخر؟ وما أجمل أن ترى إنسانًا يغالب الأوهام ليغلبها، ولكن متى ينتهي القتال ويعلن المقاتل أنه سعيد؟ وأن الدنيا لتبدو لعيني غريبة فهل تراها خلقت أمس؟ وهذان الرجلان هما أبي وأخي، فلمَ لا يكون جميع الناس آبائي وإخوتي؟ وهذا القلب الذي أحمله بين جنبي كيف ارتضى أن يسومني العذاب ألوانًا؟ وما أكثر أن أرتطم كل ساعة بشخص لا أوده، فلماذا نزح الذي أهواه من دونهم إلى أقصى الأرض؟

ولما فرغوا من صلاتهم، قال الأب: لنمكث قليلًا قبل أن نقوم للطواف.

وظلوا متربعين صامتين، حتى عاد الأب يقول بصوت رقيق: لم نجتمع هنا منذ ذلك اليوم.

فقال ياسين بتأثر: الفاتحة على روح فهمي.

وتُلِيت الفاتحة، ثم سأل الأب ياسين فيما يُشبه الارتياب: ترى هل شغلتك أمور الدنيا عن زيارة الحسين؟

فقال ياسين الذي لم يزر الجامع طوال هذه الأعوام إلا مرات معدودات: لا يمكن أن يمر أسبوع دون أن أزور سيدي.

فالتفت الأب نحو كمال، ورمقه بنظرة كأنما تسائله «وأنت؟» فقال كمال وهو يجد استحياءً: وأنا كذلك.

فقال الأب بخشوع: إنه حبيبنا وشفيعنا إلى جدِّه يوم لا ترجى فيه أم ولا أب.

قام من المرض هذه المرة — بعد أن ألقى عليه درسًا لا يُنسى — وهو يؤمن ببطشه، ويخاف عواقبه؛ فصدقت نيته على التوبة. وقد كان يؤمن دائمًا بأن التوبة آتية مهما طال بها الانتظار، فاقتنع بأن تأجيلها بعد ذلك ضرب من السفه والكفر بنعمة الله الرحيم. وكان كلما طافت به ذكريات اللهو تعزى بما ينتظره في حياته من مسرات بريئة، كالصداقة والطرب والفكاهة. لذلك دعا الله أن يحفظه من وساوس الشيطان، وأن يُثبِّت قدميه فيما اعتزم من توبة، وراح يتلو ما تيسر من السور القصار التي يحفظها.

ونهض فنهضا وراءه. ثم مضوا إلى الضريح. وهناك استقبلهم عرف طيب يذكو في المكان، وغمغمة تلاوات تهمس في الأركان، فطافوا بالضريح بين جموع الطائفين. وارتفعت عينا كمال إلى العمامة الكبيرة الخضراء، ثم استقرَّتا مليًّا فوق الباب الخشبي الذي طالما لثمته شفتاه، فقارن بين عهد وعهد، وحال وحال. وذكر كيف انجلى سرُّ هذا القبر عن أول مأساة في حياته، ثم كيف تتابعت المآسي بعد ذلك غير مُبقية على حب أو عقيدة أو صداقة، وكيف أنه رغم ذلك كله لا يزال واقفًا على قدميه، يرنو إلى الحقيقة رنوَّ العابد، غير آبه لطعنات الألم، حتى المرارة انداحت على شفتيه فارتسمت ابتسامة، أما السعادة العمياء التي تضيء وجوه الطائفين من حوله فقد نبذها غير آسف، وكيف يشتري السعادة بالنور وقد عاهدَ نفسه على أن يعيش مفتح العينين، مؤثرًا القلق الحي على الطمأنينة الخاملة، ويقظة السهاد على راحة النوم.

ولما فرغوا من طوافهم دعاهما الأب إلى الجلوس مليًّا في مثوى الضريح، فاتجهوا إلى ركن وجلسوا متقاربين. ولمح السيد بعض معارفه، فأقبلوا عليه مصافحين مهنئين، وجالسه نفر منهم، وكان أكثرهم يعرفون ياسين — إما عن طريق دكان والده، وإما عن طريق مدرسة النحاسين — أما كمال فلم يكد يعرفه أحد منهم، وقد لفتت نحافته أنظار بعضهم فداعب السيد قائلًا: ما لابنك هذا كالبرص؟

فبادره السيد قائلًا، وكأنه يردُّ تحية بأحسن منها: أنت الأبرص.

وابتسم ياسين وابتسم كمال، وكان أول مرة يطلع فيها على شخصية أبيه «السرية» التي سمع عنها الكثير. هكذا بدا الأب رجلًا لا تفوتُه النكتة حتى وهو في مقام الحمد والتوبة أمام ضريح الحسين. وقد بعث ذلك ياسين على التفكير في مُستقبل أبيه، فتساءل: ترى هل يعود إلى مسراته المعروفة بعد ما كان من أمر المرض معه. وقال لنفسه: «إن معرفة ذلك عندي من الدرجة الأولى من الأهمية.»

٤٤

كانت أم حنفي مُتربِّعة على الحصيرة بالصالة، بينما جلست نعيمة ابنة عائشة، وعبد المنعم وأحمد ابنا خديجة على الكنبة قبالتها، وكانت النافذتان المطلتان على فناء البيت مفتوحتين ليُلطِّفا من جو أغسطس المفعم بالحرارة والرطوبة، غير أنه لم تكد تهفو نسمة واحدة فظل المصباح الكبير المتدلي من السقف يُرسل نوره على الصالة وهو ثابت، أما الحجرات فبدت مظلمة صامتة. وكانت أم حنفي خافضة الرأس، شابكة ذراعيها فوق صدرها، ترفع عينيها إلى الصغار الجالسين على الكنبة لحظة ثم تغمضهما، ولم تكن تتكلم ولكن شفتيها لم تتوقفا عن الحركة. وتساءل عبد المنعم: إلى متى يبقى خالي كمال فوق السطح؟

فتمتمت أم حنفي: الجو حارٌّ هنا، لِمَ لَمْ تبقوا معه؟

– الدنيا ظلام، ونعيمة تخاف الحشرات.

وهنا قال أحمد في ضجر: إلى متى نبقى هنا؟ هذا هو الأسبوع الثاني، إني أعد الأيام يومًا يومًا، وأريد أن أعود إلى بابا وماما.

أم حنفي برجاء: إن شاء الله تعودون جميعًا وأنتم على أسعد حال، ادعوا الله فإنه يستجيب للصغار الأطهار.

فقال عبد المنعم: إننا ندعوه قبل النوم وعقب الاستيقاظ كما توصيننا.

فقالت المرأة: ادعوه في كل وقت، ادعوه الآن، هو وحده القادر على كشف غمتنا.

وبسط عبد المنعم راحتَيه، ثم نظر إلى أحمد داعيًا إياه إلى مُشاركته، ففعل الآخر مثله دون أن يُزايل الضجر وجهه، ثم قالا معًا كما تعوَّدا أن يقولا في الأيام الأخيرة: يا رب، اشفِ عمنا خليل، وعثمان ومحمد ابني عمنا، حتى نعود إلى بيتنا مجبوري الخاطر.

وبدا التأثر في وجه نعيمة فأرخت أساريرها في حزن، واغرورقت عيناها الزرقاوان بالدموع، وهتفت: بابا وعثمان ومحمد كيف حالهم؟ وماما أريد أن أراها، أريد أن أراهم جميعًا.

فتحوَّل عبد المنعم إليها قائلًا بصوت المواسي: لا تبكي يا نعيمة، قلت لك كثيرًا لا تبكي، عمي بخير، عثمان بخير، محمد بخير، وسنعود قريبًا إلى بيتنا، جدتي تؤكد هذا، وخالي كمال أكده أيضًا منذ قليل.

فقالت نعيمة وهي تجهش في البكاء: كل يوم أسمع هذا، ولكنهم لا يسمحون لنا بالعودة إليهم، أريد أن أرى بابا وعثمان ومحمد، أريد ماما.

قال أحمد بتذمر: أنا أريد بابا وماما أيضًا.

عبد المنعم: سنعود عندما يشفون.

هتفت نعيمة بجزع: لنعد الآن، أريد أن أرجع، لم يبعدوننا عنهم؟

فأجابها عبد المنعم: إنهم يخافون أن نشم المرض.

قالت نعيمة بعناد: ماما هناك، وخالتي خديجة هناك، وعمي إبراهيم هناك، وجدتي هناك، فلماذا لا يشمُّون المرض؟

– لأنهم كبار.

– إذا كان الكبار لا يشمُّون المرض، فلماذا مرض بابا؟

تنهدت أم حنفي، وقالت برقة: هل ضايقك شيء؟ هنا بيتك أيضًا، وها هو سي عبد المنعم وسي أحمد ليلعبا معك، وخالك كمال يحبك قد عينيه، وستعودين قريبًا إلى ماما وبابا وعثمان ومحمد، لا تبكي يا ستي الصغيرة وادعي لبابا وأخويك بالشفاء.

أحمد متأففًا: أسبوعان، عددتهما على أصابعي، ثم إن شقتنا في الدور الثالث، والمرض في الدور الثاني، لمَ لا نعود إلى شقتنا ونأخذ معنا نعيمة؟

أم حنفي كالمحذرة وهي تضع أصبعها على شفتَيها: سيَغضب خالك كمال إذا سمع بما قلت، إنه يشتري لكم الشكولاتة واللب، فكيف تقول: إنك لا ترغب في البقاء معه؟ لم تعودوا صغارًا، أنت يا سي عبد المنعم ستدخل المدرسة الابتدائية بعد شهر، وكذلك أنت يا نعومة.

فقال أحمد متراجعًا بعض الشيء: دعونا على الأقل نخرج لنلعب في الطريق.

فأمَّن عبد المنعم على الاقتراح قائلًا: كلام معقول يا أم حنفي، لمَ لا نخرج إلى الطريق لنلعب؟

فقالت أم حنفي بحزم: عندكم الفناء وهو يسع الدنيا والآخرة، وعندكم السطح أيضًا، ماذا تريدون أكثر من ذلك؟ كان سي كمال وهو صغير لا يلعب إلا في البيت، وعندما أفرغ من شغلي أقص عليكم الحكايات، ألا تحبون ذلك.

أحمد محتجًّا: أمس قلتِ لنا: إن حكاياتك انتهت!

نعيمة وهي تجفف عينيها: خالتي خديجة عندها حكايات أكثر، وأين ماما لنُغنِّي معًا؟

أم حنفي باستعطاف: طالَما رجوتك أن تغني لنا وأنت ترفضين.

– لا أُغنِّي هنا! لا أغني وعثمان ومحمد مرضى.

المرأة وهي تنهض: سأجهز لكم العشاء ثم ننام، جبن وبطيخ وشمام، هه؟

كان كمال جالسًا على كرسي في جانب السطح المكشوف فيما يلي سقيفة الياسمين واللبلاب، لا يكاد يُرَى في الظلام لولا جلبابه الأبيض الفضفاض، وكان مادًّا ساقَيه في استرخاء، مصعدًا رأسه إلى الأفق المرصع بالنجوم، مُستغرقًا في التفكير، يكتنفه صمت لا يكدره شيء إلا أن يرتفع صوت من الطريق أو تنبعث قوقأة عن حجرة الدجاج. وكان في وجهه أثر مما طرأ على الأسرة في الأسبوعين الأخيرين، فقد اختل نظام البيت المعهود، واختفَت منه أمه إلا في أوقات نادرة، وتشبع جوه بتذمُّر المساجين الصغار الثلاثة الذين يَهيمون في رحباته مُتسائلين عن «بابا» و«ماما»، حتى أعيته الحيل في ملاطفتهم وملاعبتهم.

أما في السكرية، فإن عائشة لم تَعُد تُغنِّي وتضحك كما قيل كثيرًا عنها، ولكنها تقضي الليل ساهرة بين أسرة المرضى الأعزاء، زوجها وطفليها. وكم تمنَّى صغيرًا لو تعود عائشة إلى بيتها القديم، وكم يشفق اليوم من أن تضطر إلى العودة مهيضة الجناح، كسيرة القلب. وأما أمه فتَهمس في أذنه: «لا تزر السُّكرية، وإذا زرتها فلا تمكث طويلًا.» وإنه ليزورها من حين لآخر، ثم يغادرها تفوح من راحتيه رائحة المطهرات الغريبة، ويستحوذ القلق على فؤاده. وأعجب شيء أن جراثيم التيفود — كسائر الجراثيم — آية في الضآلة، لا تراها العين، ولكنها تستطيع أن توقف تيار الحياة، وأن تتحكم في مصير العباد، وأن تُشتِّت — إذا أرادت — الأسرة. محمد المسكين كان أول المرضى، ثم تبعه عثمان، وأخيرًا — وعلى غير توقع — وقع الأب، والليلة جاءت الجارية سويدان لتُخبرَه بأن أمه ستبيت في السكرية، ثم قالت — عن أمه وعن نفسها — إنه ليس ثمة ما يدعو إلى القلق. إذن لمَ تبيت الأم في السكرية؟ ولمَ يَنقبِض صدره؟ على أنه — رغم هذا كله — من الممكن أن يصفو الجو في غمضة عين، فيشفى خليل شوكت وطفلاه العزيزان، ويتألَّق وجه عائشة ويضيء، وهل نسي كيف ابتلي بيته بمثل هذه المحنة منذ ثمانية أشهر؟ وها هو أبوه يسعى في كامل صحته وعافيته، وقد استردَّت عضلاته قوتها، وعيناه بريقهما الجذاب، ثم رجع إلى أصحابه وأحبابه كما يرجع الطير إلى الشجرة الغنَّاء، فمن ذا يَعترض على أنه يمكن أن يتغير كل شيء في غمضة عين؟

– أنت هنا وحدك!

عرف كمال الصوت، فقام متلفتًا صوب باب السطح، ومدَّ يده للقادم وهو يقول: كيف حالك يا أخي؟ تفضل.

وقدم له مقعدًا، فتنفس ياسين تنفسًا عميقًا ليُعيد إلى رئتيه توازنهما الذي اضطرب بصعوده السلم، فامتلأ صدره بشذا الياسمين، ثم جلس وهو يقول: الأولاد ناموا، وأم حنفي نامت كذلك.

فسأله كمال وهو يتخذ مجلسه مرة أخرى: مساكين، لا يَستريحون ولا يريحون، كم الساعة الآن؟

– في الحادية عشرة، الجو هنا ألطف من الطريق بكثير.

– وأين كنت؟

– مُتردِّدًا ما بين قصر الشوق والسكرية، وعلى فكرة والدتك لن تعود الليلة.

– سويدان أبلغتْني ذلك، ماذا جد؟ كنت من القلق في نهاية.

ياسين وهو يتنهد: كلنا في القلق سواء، وربنا عنده اللطف، والدك هناك أيضًا.

– في هذه الساعة؟

– تركته في البيت، (ثم مُستطردًا بعد قليل) كنت في السكرية حتى الثامنة مساء، وإذا برسول يحضر من قصر الشوق ليُخبرَني بأن زوجي قد جاءها الطلق، فذهبت من فوري إلى أم علي الداية، ومضيت بها إلى البيت حيث وجدت زوجي في رعاية بعض الجارات، ومكثت هناك ساعة غير أني لم أطق سماع الأنين والصراخ طويلًا، فعدت إلى السكرية مرة أخرى، فوجدت والدك جالسًا مع إبراهيم شوكت.

– ماذا يعني بهذا، خبِّرني بما عندك.

ياسين بصوت منخفض: الحال خطيرة جدًّا.

– خطيرة؟

– نعم جئت إلى هنا لأريح أعصابي قليلًا، ألم تجد زنوبة ليلة تلدُ فيها إلا هذه الليلة؟ لشدَّ ما تعبت بين قصر الشوق والسكرية، وبين الداية والدكتور، والحال خطيرة، وقد نظرت حرم المرحوم شوكت في وجه ابنها وهتفت: «أمان يا رب، كان يجب أن تأخذني قبله!» فانزعجت أمك انزعاجًا شديدًا، ولكنها لم تحفل بها، وقالت بصوت مبحوح: «هذه صورة آل شوكت إذا حضرهم الموت، رأيت أباه وعمه وجده من قبل.» لم يبقَ من خليل إلا خيال، وكذا الطفلان، لا حول ولا قوة إلا بالله.

ازدرد كمال ريقه، ثم قال: عسى أن تخيب الظنون.

– عسى! كمال … لست صغيرًا، ينبغي أن تعلم بما أعلم أنا على الأقل، الطبيب يقول: إن الأمر جد خطير.

– عن الكل؟

– الكل! خليل وعثمان ومحمد، رباه، ما أتعس حظك يا عائشة!

تمثلت لعينيه في الظلام أسرة عائشة الضاحكة كما كانت تبدو له في الماضي، السعداء الضاحكون الذين مارسوا الحياة كأنها لهو خالص، متى تضحك عائشة من قلبها مرة أخرى؟ كما اختطف فهمي، الإنجليز أو التيفود سيان، أو غير ذلك من الأسباب، الإيمان بالله هو الذي جعل من الموت قضاءً وحكمة يبعثان على الحيرة، وهو ليس في الحقيقة إلا نوعًا من العبث.

– أفظع ما سمعت في حياتي!

– هو ذلك ولكن ما الحيلة؟ وماذا جنت عائشة حتى تستحق هذا كله؟ اللهم عفوك ورحمتك.

هل ثمة حكمة رفيعة يمكن أن تبرر القتل بالجملة؟ إنَّ الموت يتبع قوانين «النكتة» بدقة، ولكن كيف لنا أن نضحك ونحن هدف النكتة؟ ولعلك تستطيع أن تلاقيه بالابتسام إذا تصديت له دوامًا بالتأمل الصادق، والفهم الصحيح، والتجرد الأصيل، ذلك هو الانتصار على الحياة والموت معًا، ولكن أين من عائشة ذلك كله؟

– رأسي يدور يا أخي.

فقال ياسين بلهجة الحكيم، ولأول مرة فيما سمع كمال: هذه هي الدنيا، ويجب أن تعرفها على حقيقتها.

ثم قام فجأة وهو يقول: يجب أن أذهب الآن.

فقال كمال كالمُستغيث: ابقَ معي بعض الوقت.

ولكنه قال كالمعتذر: الساعة الحادية عشرة، ويجب أن أذهب إلى قصر الشوق لأطمئنَّ على زنوبة، ثم أعود إلى السكرية لأكون إلى جانبهم، لن أنام من الليل فيما يبدو ساعة واحدة، والله أعلم بما ينتظرنا غدًا.

فقام كمال وهو يقول في جزع: إنك تتكلَّم كما لو كان كل شيء قد انتهى، سأذهب من فوري إلى السكرية.

– بل يجب أن تبقى مع الأطفال حتى مطلع النهار، وحاول أن تنام وإلا ندمت على مصارحتي إياك بالحقيقة.

وغادر ياسين السطح فتبعه كمال ليوصله إلى باب البيت، وعندما مرَّا بالدور الأعلى حيث ينام الأطفال، قال كمال بأسف: يا لهم من مساكين هؤلاء الأطفال، وشدَّ ما بكت نعيمة في الأيام الأخيرة كأن قلبها حدس ما هنالك!

فقال ياسين باستهانة: الأطفال سرعان ما ينسون، ادع بالرحمة للكبار.

ولما خرجا إلى الفناء، ترامى إليهما من الطريق صوت يصيح بقوة «مُلحق المقطم»، فتمتم كمال متسائلًا: ملحق المقطم؟

فقال ياسين بلهجة أسيفة: أوه إني أعرف عما يُنادي، فقد سمعت الناس يتناقلونه وأنا قادم إليك، سعد زغلول مات.

هتف كمال من الأعماق: سعد؟

فتوقف ياسين عن السير، والتفت نحوه قائلًا: هوِّن عليك وحسبنا ما نحن فيه.

فحملق كمال في الظلام دون أن ينطق أو يأتي حراكًا، كأنما قد ذهل عن خليل وعثمان ومحمد وعائشة، عن كل شيء إلا أن سعد زغلول قد مات، وواصل ياسين السير وهو يقول: مات مستوفيًا حظه من العمر والعظمة، فماذا تُريد له أكثر من ذلك! ليرحمه الله.

فتبعه صامتًا ولما يفق من ذهوله، لو في غير هذا الظرف الحزين ما درى كيف يتحمل النبأ! لكن المصائب إذا تلاقت تحدَّى بعضها بعضًا. هكذا ماتت جدته في أعقاب مصرع فهمي فلم تجد لها باكيًا — إذن مات سعد. النفي، والثورة، والحرية، والدستور مات صاحبها. كيف لا يحزن وخير ما في روحه من وحيه وتربيته!

ووقف ياسين مرة أخرى ليفتح الباب، ثم مدَّ يده له فتصافحا، وعند ذاك تذكر كمال أمرًا طال نسيانه له، فقال لأخيه وهو يجد من نسيانه حياء: أدعو الله أن تجد زوجك قد ولدت بالسلامة.

فقال ياسين وهو يهم بالذهاب: إن شاء الله، وأرجو أن تنام نومًا هادئًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤