الفصل الثاني

مزرعة التجارب

١

اقترَح السيد بانزنجتن في البداية تجربة هذه المادة على الشراغيف بمجرَّد أنْ صار بالفعل قادرًا على إعدادها. دائمًا ما تُجرى عليها التجارب من هذا القبيل، فهذا هو ما خُلِقت لأجله. اتَّفق الشريكان على أن يتولى بانزنجتن إجراء التجارب وليس ريدوود؛ لأن مَعمل الأخير تَشغلُه حيواناتٌ وأدوات لقياس سرعة المقذوفات لازِمة لدراسة التبايُن النهاري في وتيرة النَّطح لدى صغير العِجل، وهو بحثٌ أسفر عن مُنحنياتٍ عجيبة ومُحيِّرة؛ ومِن ثَمَّ فإن تواجُد أحواض الشراغيف الزُّجاجية كان أمرًا غير مرغوب فيه تمامًا في أثناء إجراء هذا البحث تحديدًا.

عندما أعطى السيد بانزنجتن لابنة عمِّه جين فكرةً عمَّا ينتويه، أبدَتْ على الفور اعتراضها على جلب عددٍ كبير من الشراغيف أو أيٍّ من حيوانات التجارب تلك إلى شقَّتِهما، غير أنها وافقَتْ على أن يَستخدِم إحدى غُرف الشقة لإجراء التجارب الكيميائية التي لا تنجم عنها انفجاراتٌ؛ فهذه التجارب — بالنسبة إليها — لا تجدي نفعًا؛ وسمحت له باستخدام فُرن غاز وحوضٍ وخِزانة مانعة لدخول الغبار بمنأًى عن عاصفة التنظيف الأسبوعية التي تأبى أن تتنازَل عنها. ونظرًا لمعرفتها بأشخاصٍ من مدمني الكحوليات، فقد ارتأت جين أنَّ حِرصه على التميز وسط المجتمع المثقف بديل مثالي عن الانحلال، لكنها لم تكن لتحتمِل عددًا كبيرًا من أي نوع من الأحياء التي «تتلوَّى» حيةً أو تفوح منها الروائح الكريهة ميتةً. وقالت إن هذه المخلوقات بلا شك ضارة بالصحة، وبانزنجتن معروفٌ بضَعف صحته، فمِن السُّخف الزعم بغَير ذلك. فلمَّا حاول أن يشرح لها الأهمية العظيمة لهذا الكشف المُرتقَب، قالت إنَّ كل ما يزعمه جميل، لكنها إنْ قبِلت بأن يجعل كل ما بالمنزل قذرًا وضارًّا (وهو ما حدث) فهي مُوقِنة بأنه سيكون أول من يشكو جرَّاء ذلك.

فراح السيد بانزنجتن يذرَع الغُرفة جيئة وذهابًا برغم ثَفِنات قدميه ويتحدَّث إليها بحزمٍ وغضب بالِغَين لكن دون أدنى جدوى. أخبرها أنَّ تَقدُّم العلم يجب ألَّا يعترِضه شيء؛ فقالت شتَّان بين تَقدُّم العلم وملء الشقة بالشراغيف. قال إنَّ مَن يمتلك فكرة كفكرته في ألمانيا يوضع تحت تصرُّفه على الفور مَعمل كامل التجهيز مساحته عشرون ألف قدم مربع؛ فقالت إنها سعيدة، ولطالما شعَرَت بالسعادة، لأنها غير ألمانية. قال لها إنَّ هذا البحث سيكون سببًا في ذيوع شُهرته إلى الأبد، فقالت الأرجح أنَّ كثرة الشراغيف في شقَّةٍ كشقتهما ستُمرِضه. قال إنه سيد المنزل، فقالت إنها تُفضِّل أن تكون قيِّمة على مدرسة عوضًا عن خدمة جيش من الشراغيف؛ فطلب منها أن تتحلَّى بالعقلانية، فطلبت منه أن يتحلَّى هو بالعقلانية وأن يتخلَّى تمامًا عن فكرة الشراغيف؛ فطلب منها أن تحترم أفكاره، فقالت إنها لن تفعل إن كانت أفكاره كريهة الرائحة؛ فاستسلم تمامًا وتفوَّه بلفظةٍ سيئة — مناقضًا رؤية هاكسلي الكلاسيكية عن العلماء. لم تكن لفظةً شنيعة، لكنها كانت سيئةً بما يكفي.

تأذَّت جين كثيرًا، فتعيَّن على بانزنجتن الاعتذار لها، وتلاشى الأمل في تجربة طعام الآلهة على الشراغيف في الشقَّة بهذا الاعتذار.

فاضطرَّ بانزنجتن إلى التفكير في طريقةٍ أخرى لإجراء هذه التجارب الغذائية التي يتوجَّب عليه إجراؤها لإثبات نتائج اكتشافه بمجرد أن يعزل المادة ويُعدَّها. داعبَتْ رأسه لأيامٍ فكرة إيداع الشراغيف عند شخص جدير بالثقة مؤقتًا، إلى أن قرأ مُصادفةً عبارة في إحدى الصحف دفعته إلى التفكير في تأجير مزرعة للتجارب.

الدواجن! لمعَت في رأسه تلك الفكرة على الفور، وارتأى أن تكون مزرعة التجارب مزرعة دواجن. استهوتْه فجأةً رؤية الأفراخ تنمو نموًّا جامحًا، وتخيَّل أقنان دواجن وحظائر عملاقة، تتسع باطراد. فالدواجن يسهل إلى حدٍّ بعيد الحصول عليها وتغذيتها وملاحظتها، وأجسامها ليست زلقة مثل الشراغيف إلى حد يسمح بالتحكم فيها وقياس حجمها، حتى بدت الضفادع له، بالمقارنة، كائناتٍ شديدة الجموح خارجة عن السيطرة، وتعجَّب بشدَّة من أنه لم يفكر منذ البداية في إجراء التجارب على الدواجن بدلًا من الشراغيف؛ فمن جُملة مميزاته أنه كان سيكفيه عناء كل هذا الجدل مع ابنة عمه جين. لمَّا عرض بانزنجتن على ريدوود هذا الاقتراح أيَّدَه الأخير.

قال ريدوود إنه يؤمن بأن إفراط علماء الفسيولوجيا التجريبية في إجراء التجارب على حيوانات صغيرة الحجم بلا داعٍ خطأ كبير؛ فهو يُشبه إجراء التجارب الكيميائية باستخدام ما لا يكفي من المواد، ومن هنا يصبح احتمال الوقوع في أخطاء الملاحظة والتلاعب بالنتائج كبيرًا على نحوٍ غير متناسب؛ لذا فمن المهم في الوقت الحالي أن يدافع رجال العلم بقوة عن حقهم في أن تكون لوازم الأبحاث كبيرة. إن هذا السبب هو ما دفعه إلى إجراء سلسلة تجاربه الحالية في بوند ستريت كوليدج على صغار الثيران رغم أن هذا أزعج إلى حدٍّ ما الطلاب وأساتذة المواد الأخرى بسبب استهتارهم وعبَثِهم أحيانًا في الأروقة. لكن المنحنيات التي حصل عليها ريدوود كانت مثيرة للاهتمام على نحو استثنائي، وإذا نُشرَت، فسوف تُبرر تبريرًا وافيًا اختياره لصغار الثيران؛ لذا فلولا عدم كفاية المنح المخصصة للبحث العلمي في بلده، لما كان ليُجري التجارب أبدًا على أي كائن يقلُّ حجمه عن حجم الحيتان، لكنه يخشى أن إتاحة مُربًّى على نطاق كافٍ يسمح بهذا في بلده يعد في الوقت الحالي مطلبًا خياليًّا، أما في ألمانيا …

لمَّا كانت صغار الثيران تتطلب من ريدوود رعاية يومية، فقد وقع عبء اختيار مزرعة التجارب وتوفير معداتها بدرجة كبيرة على بانزنجتن، كما كان مفهومًا أيضًا أن تكاليف المشروع ستقع بالكامل على كاهل بانزنجتن، إلى أن يحصلا على منحة على الأقل؛ من ثمَّ أخذ يباشر العمل في معمل شقته حينًا ويبحث عن مزرعة على طول خطوط السكك الحديدية التي تمتد إلى جنوب لندن أحيانًا أخرى، وملأت نظارته التي تطل منها نظرةً ثاقبة، ورأسه الأصلع المُوحي بالبساطة، وحذاؤه الممزق العديد من أصحاب المزارع غير المرغوبة بآمال واهمة، ووضع إعلاناتٍ في العديد من الصحف اليومية وفي دورية نيتشر طالبًا زوجَين مسئولَين، يتسمان بالنشاط والانضباط، لهما خبرة في التعامل مع الدواجن لإدارة مزرعة تجارب مساحتها ثلاثة أفدنة إدارةً شاملة.

عثر على المزرعة التي تفي بحاجته في بلدة هيكليبراو بالقُرب من آرشوت في كِنت. كانت مزرعة صغيرة مُريبة في منطقة منعزلة تقع وسط وادٍ صغير مشجر تحيطه غابات صنوبرية قديمة تبدو مخيفة وحالكة الظلام ليلًا، وثمة منحدر محدَّب يحجب عنها ضوء الشمس عند الغروب، ويبدو بيت المزرعة ضئيلًا بالمقارنة ببئر كئيبة تعلوها سقيفة محطمة. خلا سقف المنزل الصغير من النباتات المتسلقة والكثير من نوافذه كانت مُحطمة، أما السقيفة التي تُختزن بها عربات الخَيل، فقد أظلها ظلٌّ قاتم في الظهيرة. كانت المزرعة تبعد ميلًا ونصف ميلٍ عن آخر بيت يقع على أطراف القرية، ولم يقطع هذه العزلة إلا طائفةٌ غامضة من الأصداء المترددة في المكان، لا تكاد تُضفي أنسًا على هذه الوحشة بالتأكيد.

أبهرت المزرعة بانزنجتن لملاءمتها البالغة لمتطلبات البحث العلمي؛ سار في أرجائها يرسم مخططًا سريعًا لأقنان وحظائر الدواجن ووجد المطبخ قادرًا على استيعاب عدد من المفارخ والدجاجات الحاضنة بدون الحاجة إلى إجراء الكثير من التعديلات، فذرَع المكان جيئة وذهابًا وفي طريق عودته إلى لندن توقَّف في دانتون جرين وأبرم اتفاقًا مع زوجَين مؤهلين للعمل بالمزرعة استجابا لإعلانه ونجح في الليلة نفسها في عزل كمية كافية من مادة هرقليوفوربيا ١، الأمر الذي أثبت صحة هذه الترتيبات وجدواها.

أما الزوجان المُؤهلان للعمل بالمزرعة، اللذان قادهما القدر عبر السيد بانزنجتن إلى أن يُصبحا أول قيِّمَين على مزرعة طعام الآلهة، فلم يكونا مُتقدِّمَين في السن إلى حدٍّ واضح وحسب، بل واتَّسما أيضًا بالقذارة الشديدة. لم يلحظ السيد بانزنجتن هذا العيب الأخير؛ فليس ثمة ما يُدمِّر قدرة المرء العامة على الملاحظة بقدر إمضاء حياة مكرَّسة للعلم التجريبي. كان الزوجان يُدعَيان السيد والسيدة سكينر، وقد أجرى السيد بانزنجتن معهما مقابلة العمل في غرفةٍ صغيرة، ذات نوافذ مُحكمة الإغلاق، بها مرآة مُرقطة مُزخرفة فوق رفِّ المدفأة وبعض أزهار المَرموزة الذابلة.

كانت السيدة سكينر امرأة عجوزًا شديدة الضآلة، لا ترتدي شيئًا على رأسها، ذات شَعرٍ أبيض قذرٍ مشدود بإحكام إلى الخلف ووجه كان أبرز ما فيه هو أنفه، ثم صار الآن بعد أن فقد أسنانه، وانكمش ذقنه، وتجعَّد سائر ما فيه، مكوَّنًا من أنفٍ فقط تقريبًا. كانت ترتدي رداءً ذا لونٍ رمادي داكن (هذا إن كان للرداء أي لون) به قَطع في أحد المواضع يكشف عن رُقعة من قماش الفلانيل الأحمر. سمحت السيدة سكينر للسيد بانزنجتن بالدخول وتحدثت إليه بتحفُّظ ناظرةً إليه بإمعانٍ من أعلى أنفها، فيما كان السيد سكينر يجري، حسب زعمها، بعض التعديلات في دورة مياه منزله. كان لدى السيدة سكينر سنٌّ واحدة في فمها منعتها من النطق نُطقًا سليمًا، وراحت تتحدث وهي ضامَّةٌ يدَيها الطويلتَين المُجعدتَين إلى بعضهما في توتر. أخبرت السيد بانزنجتن بأنها عُنيَت بالدواجن لسنواتٍ، وعلى دراية بكل شيء عن المفارخ وبأنها وزوجها قد أدارا فيما مضى مزرعة دواجن لكن المزرعة فشلت في نهاية الأمر بسبب حاجتهما إلى عمالة يتولون العمل تحت إشرافهما. ثم قالت السيدة سكينر: «كان السبب هو توفير هذه العمالة ورواتبهم.»

ظهر بعدئذٍ السيد سكينر. كان رجلًا ذا وجه كبير، في لسانه لثغة، وفي عينيه حَوَل يجعله يبدو كما لو كان ينظر بإحدى عينيه إلى أعلى رأسك، وفي قدميه خُفَّان مُمزقَّان أكسباه تعاطف السيد بانزنجتن، ومن الواضح أن ملابسه كانت تعوزها بعض الأزرار. أمسك معطفه وقميصه بيد، وتتبع بسبابة اليد الأخرى الأشكال المرسومة على مفرش المنضدة الملوَّن باللونَين الأسود والذهبي، بينما ينظر بالعين الأخرى إلى أعلى رأس السيد بانزنجتن كما لو كان ينظُر إلى سيف ديموقليس، بنظرةٍ امتزج فيها الحزن باللامبالاة، وقال: «لا تهدف إلى الربح من وراء هذه المذرعة يا ثيدي. لا، يا ثيدي. الأمر ثيان، يا ثيدي. التجارب! بالضبط.»

قال إن باستطاعته الانتقال إلى المزرعة على الفور؛ إذ لا يرتبط بعمل في دانتون جرين سوى أداء القليل من أعمال الحياكة، ثم قال للسيد بانزنجتن: «هذا المكان ليث رائعًا كما حثبت، وما أكثبه هنا لا يثتحق العناء؛ لذا إن كان يناثبك قدومنا …»

ومن ثمَّ انتقل السيد والسيدة سكينر إلى المزرعة في غضون أسبوع وشرع النجَّار الذي تعاقد معه بانزنجتن من هيكليبراو يبني أقنان وحظائر الدجاج المختلفة إلى جانب نقاشاته المنتظمة مع السيد بانزنجتن.

قال السيد سكينر مُخاطبًا النجَّار عن السيد بانزنجتن: «لم أره كثيرًا بعد، لكنه على حدِّ ظني يبدو إما غبيًّا وإما أحمق.»

فقال نجَّار هيكليبراو: «بدا لي أن به شيئًا من الجنون.»

فقال السيد سكينر: «إنه يحثب نفسه خبيرًا بالدواجن. ربَّاه! مع أنك قد تحثب أنه دون الجميع يجهل كل شيء عن الدواجن.»

فقال النجَّار: «يبدو هو نفسه كالدجاجة وهو يرتدي تلك النظارة.»

فاقترب السيد سكينر منه وأسرَّ إليه بشيء وإحدى عينَيه تنظر بحزن إلى الوادي البعيد والأخرى تلتمع بخبث: «يجب أن يُقاث حجم الدجاج كل يومٍ لَعين — كل دجاجة لَعينة يجب أن يُقاث حجمها ليتأكد من أنها تنمو جيدًا. ماذا، حقًّا؟! يجب أن يُقاث حجم كل دجاجة لَعينة كل يوم لعين!»

ووضع يده على فمه ليضحك من خلفها ضحكةً مهذبة تغري غيره بالضحك، وأحنى كتفَيه كثيرًا وضحك بكل كيانه، ولم تعجز إلا عينُه الأخرى عن الضحك معه، وقال هامسًا بصوتٍ حادٍّ وقد تشكك في أن النجَّار فهم مقصده: «يجب أن يُقاث حجمها!»

فقال النجَّار: «إنه أسوأ من عُمدة قريتنا العجوز. أؤكد لك هذا.»

٢

إجراء التجارب هو أكثر ما يصيب بالملل (ما لم يكن هذا مجرد زعم من مجلة فيلوسوفيكال ترانزآكشنز)، وبدا للسيد بانزنجتن أن حلمه الأول ذا الاحتمالات الهائلة قد استغرق وقتًا طويلًا ليتحقَّق جزء صغير منه. كان قد اشترى المزرعة في شهر أكتوبر، غير أن تباشير النجاح الأولى لم تظهر إلا في شهر مايو. اضطر إلى تجربة مواد هرقليوفوربيا ١ و٢ و٣ لكنها فشلت جميعًا في تحقيق النتائج المرجوة؛ فقد واجه بعض المشكلات مع دواجن المزرعة التي كانت بمثابة فئران التجارب تارةً ومع آل سكينر تارة. كانت الوسيلة الوحيدة لحمل السيد سكينر على أداء المطلوب منه هي فصله عن العمل؛ عندها كان يحكُّ ذقنه غير الحليق — من عجائب السيد سكينر أنه لم يحلق ذقنه قط ورغم ذلك لم تنبت له لحية مطلقًا — وينظر إلى السيد بانزنجتن بإحدى عينيه وأعلى رأسه بالعين الأخرى ويقول: «آه، بالطبع يا ثيدي — إن كنت جادًّا فيما تقول!»

لكن النجاح لاح أخيرًا، وكان ما بشَّر به خطاب طويل بخط السيد سكينر الصغير.

كتب السيد سكينر قائلًا:

فقس بيض الأفراخ الجديدة. لا تروق لي هيئتها كثيرًا. إنها تنمو بقوة بالغة، بعكس نُظرائها التي سبقتها قبل تعليماتك الأخيرة؛ فالأفراخ التي سبقتها كانت رائعة وممتلئة الجسم — قبل أن تلتهمها القطة — أما هذه الأفراخ فتنمو كالنباتات الشوكية. لم أرَ شيئًا كهذا قط. إنها تنقُر بعنفٍ أعلى حذائي العالي الرقبة إلى حدِّ أني غير قادر على قياس حجمها بدقَّة حسب المطلوب. إنها تبدو حقًّا كما العمالقة وتأكل كما العمالقة. سنحتاج قريبًا إلى المزيد من الذرة، فلم أرَ من قبلُ أفراخًا تأكل بهذا القدر. هذه الأفراخ أكبر حجمًا من دجاج البانتام، إن واصلت النمو بهذا المُعدَّل المُتسارع فستصلح للعرض وستخلو عروض الدواجن من دجاج البليموث روك. شعرتُ بالخوف الليلة الماضية عندما حسبتُ أن القطة تهاجمها، وأكاد أقسم أنني عندما نظرتُ من النافذة رأيتُ القطة تتسلل من تحت سُور الأسلاك الشائكة. عندما خرجت إلى الحظيرة، كانت الأفراخ كلها يقِظة تنقُر في أرجاء المكان لجُوعها، لكنني لم أجد أثرًا للقطة، فأعطيتها الكثير من الذرة وأغلقتُ باب الحظيرة بإحكام. يسرُّني أن أعرف ما إذا كانت تغذية الدواجن ستستمرُّ حسب التعليمات. الطعام الذي مزجتُه بالعلف نفد كله تقريبًا ولا أودُّ أن أمزج المزيد منه بالعلف بنفسي بسبب حادثة البودنج. أرجو قبول أطيب التمنيَّات من كِلينا ودوام عطفكم الكريم علينا.

مع خالص الاحترام
«ألفريد نيوتن سكينر»

الحادثة المُشار إليها في نهاية الخطاب وقعتْ حين امتزج بودنج الحليب ببعضٍ من مادة هرقليوفوربيا ٢، الأمر الذي كانت عاقبته مؤلمةً وشِبه كارثية على آل سكينر.

حين قرأ السيد بانزنجتن ما بين سطور الخطاب رأى في نموِّ الأفراخ السريع تحقُّقَ الهدف الذي سعى إليه طويلًا؛ ومن ثم ترجَّل صباح اليوم التالي في محطة آرشوت حاملًا في يده حقيبة تحوي كمية من مادة طعام الآلهة، مُحكَمة الغلْق داخل ثلاث علب، تكفي كل أفراخ مزرعته بِكنت.

ذات صباح جميل مشرق في أواخر شهر مايو، أحسَّ السيد بانزنجتن أن ثَفِنات قدميه قد تحسَّنت كثيرًا حتى إنه قرر أن يقطع بلدة هيكليبراو سيرًا على قدميه وصولًا إلى مزرعته. بلغ طول المسافة إجمالًا ثلاثة أميال ونصف الميل، تمتدُّ عبر المتنزَّه والقرى وحتى سهول مَحميات هيكليبراو المُفعمة بالخضرة حيث رصَّع الربيع أوْجه الأشجار بلآلئه الخضراء، وامتلأت سياجات الزرع بالأزهار النجمية وأزهار الكامبيون وأُترِعَت الغابات بأزهار الخزامى الزرقاء وأزهار السحلبية الأرجوانية، وضجَّ المكان كله بشقشقة الطيور — طيور السُّمْنَة والشحارير وطيور أبي الحنَّاء والحسون وغيرها الكثير — وفي ركن دافئ من المتنزَّه رأى بعض أزهار السرخس تتفتح وبعض الأيائل السمراء تقفز وتركض.

كل هذا أعاد إلى ذهن السيد بانزنجتن مباهج حياته القديمة التي نسيها، ولاحتْ أمام ناظريه الآمال الواعدة بتحقُّق اكتشافه وقد بدتْ أشدَّ تألقًا وبهجة، وشعر بأنه قد بلغ أسعد أيام حياته بلا شك. ولمَّا رأى في حظيرته المُشرقة بضوء الشمس، بجانب الركام الرملي تحت ظل أشجار الصنوبر، الأفراخَ التي أكلت العلف الذي مزَجَه لها عملاقةً وسمينة، وأكبر حجمًا بالفعل من الكثير من الدجاجات التي تزاوجَتْ واستقرَّت ولا تزال تنمو، وهي لم تتخلَّص بعدُ من ريشها الأصفر الناعم الذي وُلدَت به (لم يُعكِّره إلا مسحة خفيفة من اللون البُنِّي على طول الظهر)، تأكَّد له أنه قد بلغ بالفعل أسعدَ أيام حياته.

دخل تحت إلحاحٍ من السيد سكينر إلى أقنان الدجاج، لكن لما نقره الدجاج من خلال ثقوب حذائه مرةً أو مرتين، خرج مُجددًا واكتفى بمشاهدة هذه الأفراخ العملاقة عبر سُور الحظيرة الشَّبكي. نظر بإمعانٍ بالقُرب من السور وتتبع حركتها كما لو أنه لم يرَ من قبل فرخًا في حياته.

قال له السيد سكينر: «من المثتحيل تخيُّل الهيئة التي ثَيَثِيرون عليها عندما يكبرون.»

فأجابه السيد بانزنجتن: «سيكونون في حجم الحصان.»

فرد السيد سكينر: «تقريبًا.»

أضاف السيد بانزنجتن قائلًا: «قد يكفي الجناح الواحد عدة أشخاص. سيُقسِّمونه إلى هَبراتٍ كبيرة كالقطعيات التي يُعدُّها الجزارون للبيع.»

فاستدرك السيد سكينر: «لكنهم لن يواثلوا النموَّ بهذه الوتيرة.»

فتساءَل السيد بانزنجتن: «لا؟»

أجاب السيد سكينر: «لا، لديَّ خبرة بهذا النوع من الدواجن. إنها تنمو بسرعة في البداية، لكنها لا تثتمر بالمعدل نفسه، بارك الله فيك! لا.»

تخلل كلامهما برهة من الصمت.

ثم بادر السيد سكينر قائلًا بتواضع: «الأمر يتوقف على أُثْلوب الإشراف.»

فالتفتَ السيد بانزنجتن فجأة إليه بنظارته.

واصل السيد سكينر كلامه رافعًا عينه السليمة بنظرة واثقة وقد أطلق العنان لنفسه قائلًا: «لقد جعلناها تبلغ هذا الحجم تقريبًا في المذرعة الأخرى؛ أنا وذوجتي.»

أجرى السيد بانزنجتن جولته التفقدية المعتادة في أرجاء المزرعة، لكنه لم يلبث أن عاد إلى حظيرة الدواجن الجديدة. لقد فاقت في الواقع أقصى خيالاته جموحًا. إن مسيرة العلم بطيئة وحافلة بالتعقيدات؛ فبين الآمال المعقودة والأهداف المُدرَكة دائمًا ما تتوالى أعوام من الحلول والبدائل المعقدة، وها هو؛ ها هو طعام الآلهة يتحوَّل إلى حقيقة واقعة بعد أقلَّ من عامٍ من الاختبارات! بدا هذا رائعًا فوق المتصوَّر. لم يَعُد عليه بعد اليوم أن يتعلَّل بالآمال المؤجلة التي يَئُول إليها كلُّ ما يجول في مُخيلته العلمية! هذا على الأقل هو ما بدا له آنذاك. عاد وحدَّق في تلك الأفراخ الضخمة مرة بعد الأخرى.

قال: «دعني أرى. عمرهم عشرة أيام، وأعتقد أنهم إلى جانب الأفراخ العادية يبدون أكبر حجمًا ستَّ أو سبع مرات.»

قال السيد سكينر لزوجته: «حان الوقت لذيادة أجرِنا. إنه شديد الثعادة بعنايتنا بهذه الأفراخ. شديد الثعادة!»

مال نحوَها كمن يهمُّ بأن يبُوح بسِر، ثم قال وهو يضع يده على فمه: «إنه يحثب أن الثبب هو ذاك الطعام القديم الذي ثنعه.» ثم أصدر ضحكة كتمَها في حلقه.

كان السيد بانزنجتن سعيدًا بالفعل هذا اليوم، ولم يكن في حالةٍ مزاجية تؤهله لتفقد أي أخطاءٍ في إدارة المزرعة. لا شك أن ضوء الشمس أظهر قذارة السيد والسيدة سكينر بوضوح أشدَّ من أي وقتٍ مضى. رغم ذلك كانت تعليقات السيد بانزنجتن لهما في منتهى الرقة. كانت أسوار الكثير من الحظائر مُحطمة، لكن بدا أن السيد بانزنجتن اعتبر الأمر مقبولًا عندما أوضح له السيد سكينر أن «ثعلبًا أو كلبًا أو شيئًا ما» كان السبب في ذلك. فأشار بانزنجتن إلى أن إحدى المفارخ لم تُنظَّف.

فقالت السيدة سكينر عاقدةً ذراعَيها وهي تبتسم متظاهرةً بالخجل: «ليس الأمر كذلك يا سيدي. يبدو أنه لم يُتَح لنا الوقت لتنظيفها منذ أن قدمنا إلى هنا …»

فصعد السيد بانزنجتن إلى الطابق العلوي ليلقي نظرةً على بعض جحور الفئران التي قال سكينر إنها تستدعي وضع مصيدة — بما أن الجحور كانت بلا شك كبيرة — واكتشف أن الحجرة التي يُمزَج فيها طعام الآلهة بالعلف ونخالة القمح في حالةٍ عارمة من الفوضى غير المقبولة؛ إذ كان آل سكينر ممن ينتفعون بصحون الفناجين المكسورة والعلب وبرطمانات المخلل وصناديق الخردل القديمة، وكان المكان يعجُّ بمثل هذه المُهملات. لاحظ في أحد أركان الغرفة كومة كبيرة من التفاح الذي اختزنه آل سكينر وقد تعفَّنت ورأى فِراء العديد من الأرانب متدليةً من مسمارٍ مُثبَّت في الجزء المنحدر من السقف؛ إذ عرض السيد سكينر على السيد بانزنجتن أن يستخدمها في اختبار مهاراته كتاجر فِراء قائلًا: «قلَّما جهلتُ الكثير عن الفراء والأشياء الأخرى.»

لا شك أن السيد بانزنجتن قد تقزَّز من هذه الفوضى، لكنه لم يُثر جلبة لا داعي لها. وحتى عندما عثر على دبور يستمتع بوليمةٍ شهية داخل وعاءٍ ممتلئ نصفه بمادة هرقليوفوربيا ٤، اكتفى بإشارة لطيفة إلى أنه من الأفضل أن يُحكم حفظ المادة من الرطوبة بدلًا من أن تترك معرضة للهواء هكذا.

ثم صرف اهتمامه عن هذه الأشياء فجأة لينوِّه إلى أمر شغله لبعض الوقت، فقال: «أعتقد يا سكينر أنني سأذبح أحدَ هذه الأفراخ اليوم ليكون عينة أُجري عليها الاختبارات. أعتقد أنني سأذبحه بعد ظُهر اليوم، وسأعود به إلى لندن.»

ثم تظاهر بأنه يُحدِّق في وعاءٍ آخر، ثم نزع عنه نظارته لينظفها.

وقال: «سأودُّ بشدَّة أن أحتفظ بأثرٍ أو بتذكار لهذه الدفعة من الأفراخ هذا اليوم.»

ثم أضاف: «بالمناسبة، أنت لا تُطعم هذه الأفراخ لحمًا. أليس كذلك؟»

فأجاب سكينر: «أوه! لا يا ثيدي. أؤكد لك يا ثيدي أننا على دراية تامَّة بإدارة الدواجن بجميع أنواعها بحيث لن نقع في خطأ من هذا القبيل.»

فردَّ السيد بانزنجتن: «هل أنت واثق من أنكم لا تُلقون فضلات عشائكم للأفراخ؟ أعتقد أنني رأيتُ عظام أرنب مُبعثرة بالقرب من ركنٍ بعيد من أركان الحظيرة.»

لكنهم عندما اقتربوا لإلقاء نظرةٍ على العظام وجدوا أنها عظام أكبر حجمًا لقطة، وقد جُرِّدت تمامًا مما كساها من لحم.

٣

قالت جين ابنة عمِّ السيد بانزنجتن: «هذا ليس فرخًا.»

وأضافت بانفعال: «أعتقد أنني أستطيع أن أُميِّز الفرخ عندما أراه.»

ثم استطردت قائلةً: «إنه أضخم من أن يكون فرخًا. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يمكنك أن ترى بوضوح تام أنه ليس فرخًا. إنه أقرب إلى الحُبارى منه إلى الأفراخ.»

فقال ريدوود سامحًا على مضضٍ أن يَجُرَّه السيد بانزنجتن إلى هذا الجدال: «بالنسبة إليَّ، فعليَّ أن أُقِرَّ أنه، بالنظر إلى كل الأدلة …»

فقالت جين: «أوه، إن كنتَ تُقرُّ بهذا بدلًا من أن تستخدم عينيك كأي شخص عاقل …»

فقال ريدوود: «حسنًا، لكن بالفعل يا سيدة بانزنجتن …»

فقالت: «أوه! واصل كلامك! كلُّ الرجال سواء.»

«بالنظر إلى كل الأدلة، فلا شكَّ أنَّ هذا الطائر ينطبق عليه تعريف الفرخ. لا شك أنه غير طبيعي أو بالغ الضخامة، لكن بما أنه خرج من بيضة دجاجة طبيعية، إذن نعم يا آنسة بانزنجتن عليَّ أن أقرَّ بذلك. هذا — إذا كان بوسعنا أن نُطلق عليه أي اسم — فرخ نوعًا ما.»

فقالت جين: «أتعني أن هذا فرخ؟»

فأجابها: «أعتقد أنه فرخ.»

فقالت جين: «يا له من هُراء!» ثم أشارت إلى رأس ريدوود وقالت: «لا صبر لي على ما تقول.» واستدارت فجأة وغادرت الغرفة وصفَقَت الباب خلفها.

قال السيد ريدوود عندما تلاشى صدى صوت صفيق الباب: «أنا بدوري أشعر بالارتياح الشديد لرؤية هذا يا بانزنجتن، رغم أنه فرخ هائل الحجم.»

وتطوع بالجلوس على مقعد قصير ذي ذراعين بجوار المدفأة دون أدنى إلحاح من السيد بانزنجتن، واعترَف باتخاذه إجراءً كان سيبدو حتى بالنسبة إلى شخص لا يتمتع بدرايةٍ علمية ضربًا من الرعونة، فقال: «ستحسَبُني مُتسرعًا يا بانزنجتن. أعلم هذا، لكنني في الواقع وضعتُ قليلًا من المادة — ليس بالكثير، بعضًا منها فقط — في زجاجة إرضاع طفلي قبل قرابة أسبوع.»

فصاح السيد بانزنجتن: «لكن افترض …»

قاطعه ريدوود قائلًا: «أعلم.» ورمق الفرخ العملاق المُمدَّد فوق طبق على المنضدة.

ثم استطرد قائلًا: «سارت الأمور على ما يرام. حمدًا لله.» وتحسَّسَ جَيبه بحثًا عن سجائره.

ثم شرح التفاصيل شرحًا مُتقطعًا: «الطفل المسكين لم يكن وزنه يتزايد … كنت أشعُر بقلقٍ بالغ عليه. وينكلز وهو تلميذ سابق لديَّ … وهو فتى أخرق إلى حدٍّ مريع … وعديم النفع … السيدة ريدوود توليه ثقة مطلقة … إنني رجلٌ حاد الطبع … وهي لا تثق بي بالطبع … ولذا عَلمتْه العناية بالطفل … وأنا لا يُسمح لي إلا نادرًا بدخول حضانة الطفل … فكان لا بد من عمل شيء ما … فتسللت في أثناء تناول المُربية طعامَ الإفطار، ووصلتُ إلى زجاجة إرضاعه.»

فقال السيد بانزنجتن: «لكنه سينمو.»

فردَّ عليه ريدوود قائلًا: «إنه ينمو بالفعل. لقد زاد وزنه سبعة وعشرين أوقية الأسبوع الماضي. ليتك تسمع ما يقوله وينكلز في هذا الصدد، إنه يقول إن السبب هو أسلوب الإشراف.»

«رباه! هذا هو ما يقوله سكينر أيضًا!»

فنظر ريدوود إلى الفرخ من جديد وقال: «المشكلة في مواصلة ما بدأتُ. لن يتركوني وحدي في الحضانة لأنني حاولتُ قِياس منحنى نمو جورجينا فيليس، كما تعلم. كيف سأعطيه الجرعة الثانية؟»

فسأله السيد بانزنجتن: «هل عليك ذلك؟»

فأجاب ريدوود: «إنه يبكي منذ يومين … لا يستطيع بأي حال العودة إلى تناول طعامه المُعتاد. يحتاج إلى المزيد من المادة الآن.»

فقال بانزنجتن مقترحًا: «أخبر وينكلز.»

ردَّ ريدوود: «تبًّا لوينكلز.»

فأشار بانزنجتن عليه قائلًا: «بإمكانك أن ترشو وينكلز ثم تعطيه مسحوقًا من المادة ليعطيه للطفل.»

فقال ريدوود وهو يضع ذقنه على قبضته ويُحدِّق في نيران المدفأة: «هذا هو تقريبًا ما سأضطر إلى فعله.»

وقف بانزنجتن لبرهة يسوِّي الريش على صدر الفرخ العملاق ثم بادر قائلًا: «ستكون هذه الدواجن عملاقة.»

فوافقه ريدوود وعيناه لم تُفارقا نار المدفأة: «ستكون كذلك.»

أضاف بانزنجتن: «ستكون بحجم حصان.»

فاستدرك ريدوود: «بل أكبر. هكذا ستصير!»

عندئذٍ أدار بانزنجتن ظهره للفرخ وقال: «ريدوود، هذه الدواجن ستُحدِث ضجَّة.»

فأومأ ريدوود برأسه وهو ينظُر إلى نيران المدفأة.

أردف بانزنجتن وهو يستدير فجأةً وعيناه تلتمعان ببريق: «يا إلهي! وكذا طفلك!»

فقال ريدوود: «هذا بالضبط هو ما أُفكِّر فيه.»

ثم أراح ظهره على مقعده مُتنهدًا وألقى لفافة التبغ التي لم يفرغ من تدخينها في النيران، ودسَّ يده عميقًا في جيب سرواله، وأردف: «هذا بالضبط هو ما أفكر فيه. سيكون التعامل مع مادة الهرقليوفوربيا تلك صعبًا. لا شكَّ أن المعدل الذي نما به هذا الفرخ …»

فقال السيد بانزنجتن ببطء وهو يحدق في الفرخ: «طفلٌ صغير ينمو بهذا المعدل … يا إلهي! سيكون ضخمًا.»

فقال ريدوود: «سأعطيه جرعاتٍ مُتناقصة، أو سيفعل وينكلز هذا على أي حال.»

قال بانزنجتن: «المسألة أخطر من مجرَّد تجربة.»

فقال ريدوود مؤيدًا: «أخطر بكثير.»

أضاف بانزنجتن: «لكن عليَّ أن أقرَّ بأنه كان ينبغي على طفلٍ ما أن يُجرِّب المادة سواءٌ عاجلًا أم آجلًا.»

فوافقه ريدوود: «أوه، كنا سنجرِّبها على طفلٍ ما، بالتأكيد.»

فقال بانزنجتن: «بالضبط.» ثم تقدَّم وخَطَا فوق البساط المفترش أمام المدفأة ونزع عنه نظارته ليمسحها.

ثم أردفَ قائلًا: «قبل أن أرى هذه الأفراخ يا ريدوود، لم أكن أُدرك أيًّا من الاحتمالات الناتجة عن اكتشافنا. لكن بدأتْ لتوِّها تتضح لي … التبعات المحتملة.»

وحتى آنذاك لم يكن لدى السيد بانزنجتن أدنى فكرة عن الحريق المُروِّع الذي سيُحدثه مُستصغَر الشرر.

٤

حدثَ ذلك في أوائل شهر يونيو؛ لم يستطع بانزنجتن لعدَّة أسابيع أن يُكرِّر زيارته لمزرعة التجارب لتوهُّمه الإصابة بنزلةٍ حادة، فزار ريدوود المزرعة زيارةً سريعة اقتضتها الضرورة، ولما عاد بدا أكثر قلقًا على طفله ممَّا بدا قبل الزيارة. مضت إجمالًا سبعة أسابيع من النموِّ المنتظم المتواصل.

وهنا بدأتِ الدبابير نشاطها.

في أواخر شهر يوليو، وقبل فرار دواجن مزرعة هيكليبراو بنحو أسبوع، قُتل أول دبور عملاق. ظهر هذا الخبر في العديد من الصحف، لكنني لا أعلم إن كان قد نما الخبر إلى علم السيد بانزنجتن؛ ومن ثم لا أعلم بالطبع إن كان قد أدرك أنَّ للأمر علاقةً بالإهمال العام الذي ساد في مزرعة التجارب.

لم يعد هناك الآن مجالٌ كبير للشك في أنه في الوقت الذي انهمك فيه السيد سكينر بإغداق مادة هرقليوفوربيا ٤ على أفراخ السيد بانزنجتن، عكف عددٌ من الدبابير بانهماك مُماثل — بل ولعلَّه أشد — على حمْل كمياتٍ من المادة نفسها إلى دفعة صغارها التي فقس بيضها أوائل الصيف عند الرُّكام الرملي خلف الغابات الصنوبرية المُجاورة للمزرعة. ولا شكَّ أن هذا الجيل من الدبابير نما وانتفع بطعام الآلهة بقدْر ما نمت وانتفعت به دواجن السيد بانزنجتن. ولما كانت الدبابير تصل بطبيعتها إلى البلوغ الفِعلي قبل الطيور الداجنة؛ لذا فإنها، من بين كل الكائنات التي كانت تشارك الدواجن في الانتفاع بما أغدقه عليها السيد بانزنجتن، بسبب إهمال آل سكينر المفرط، كانت أُولى الكائنات العملاقة التي ظهرت للعالم.

كان مَن حالَفه الحظ وقتَل أولَ دبور من تلك الدبابير العملاقة — التي لم يُسجل التاريخ مثلها من قبل — حارسًا يُدعى جودفري يرعى ضيعة المُقدِّم روبرت هيك الواقعة بالقُرب من بلدة ميدستون. كان جودفري يسير وسط نباتات السرخس التي بلغت ركبتَيه وسط فضاء في منطقة أشجار الزان التي تلون ضيعة المُقدم هيك حاملًا على كتفه بُندقيته، التي كانت من حُسن الحظ ذات ماسورتين، حين لمح الدبور الطائر. يقول جودفري إنَّ الدبور كان هابطًا في اتجاهٍ معاكس للضوء ومن ثم لم يستطع أن يراه بوضوحٍ تام، وفي أثناء هبوطه أصدر طنينًا (كصوت مُحرك السيارة) يقرُّ جودفري أنه شعر بالخوف. كان من الواضح أن الدبور بحجم بومة الهامة أو أكبر، وبدَتْ حركته في أثناء الطيران — لا سيما حركة جناحَيه المُغبشة — لِعَين جودفري الخبيرة غير شبيهة بحركة الطيور. أعتقد أن غريزة الدفاع عن النفس لدى جودفري قد امتزجَتْ بعادته التي مارسَها طويلًا عندما «أطلق الرصاص على الفور.» على حدِّ وصفه.

لكن غرابة التجربة أثَّرت غالبًا على دقته في التصويب، فأخطأت رصاصته أغلب الهدف، فلم يسقط الدبور إلا لوهلةٍ مصدرًا طنينًا غاضبًا كشف عن كونه دبُّورًا، ثم نهض مُجددًا والخطوط المرسومة عليه تلتمع في الضوء، ثم التفتَ إلى جودفري — على حدِّ قوله — فأطلق الأخير عليه رصاص ماسورة بندقيته الثانية من مسافةٍ أقلَّ من عشرين ياردة، وألقى ببندقيته وركض مُبتعدًا بضع خطوات ثم انخفض ليتفادى الحشرة.

كان جودفري مُوقنًا من أن الدبور طار على مرمى ياردة منه واصطدم بالأرض ثم نهض مُجددًا وسقط مرة أخرى ربما على مسافة ثلاثين ياردة، وراح يتدحرج ويتلوَّى وإبرته اللادغة تندفع إلى الأمام ثم تنقبض إلى الخلف والحشرة تُصارع سكرات الموت. هنا أفرغ جودفري رصاص ماسورتي بندقيته فيها قبل أن يجازف بالاقتراب منها.

لما اقترب جودفري منها لقياس حجمها وجد عرضَها وجناحاها مبسوطان يبلغ سبعًا وعشرين بوصة ونصف البوصة، وطول إبرتها ثلاث بوصات. وجد الحارس الجزء الأخير من جسدها مُنفصلًا عن سائر الجسد، لكنه قدَّر أن طول الحشرة من رأسها إلى إبرتها اللادغة يبلغ ثماني عشرة بوصة — وهو تقدير صحيح تقريبًا — أما عيناها المُركَّبتان فكانتا بحجم عُملة.

هذا هو أول ظهور مُوثَّق لتلك الدبابير العملاقة. في اليوم التالي كاد راكب دراجة، يهبط التلَّ الواقع بين بلدة سيفينوكس وبلدة تونبريدج، يدهَس دبُّورًا آخر من تلك الدبابير العملاقة. كان الدبور يزحَف على الطريق المُخصَّص للمركبات وقد بدا أن مرور الدراجة نبَّهه، فارتفع عن الأرض مُصدرًا ضوضاء شديدة تُشبه صوت المنشرة، وفي غمرة تلك اللحظة قفزت الدراجة بالراكب مُتجاوزة طريق المركبات إلى ممر المُشاة، ولمَّا تسنَّى للراكب النظر خلفه، كانت الحشرة تُحلق مُبتعدة فوق الغابات مُتجهة صوب ويسترهام.

بعد أن قاد درَّاجته مُترنحًا لبعض الوقت، أوقفها وترجَّل منها وهو يرتجف بعُنف حتى إنه سقط عن الدراجة وهو يفعل ذلك، ثم جلس على جانب الطريق ليهدأ. كان ينوي أن يقود دراجته إلى آشفورد، لكنه لم يجاوز تونبريدج ذلك اليوم.

العجيب أنه لم تُوثَّق معلوماتٌ عن ظهور أي دبور عملاق آخر بعد ذلك لثلاثة أيام. أجد عند الرجوع إلى تقارير الأرصاد الجوية لتلك الأيام أن الطقس خلالها كان باردًا ومُلبَّدًا بالغيوم مصحوبًا بالأمطار في بعض المناطق، الأمر الذي قد يُبرر اختفاءها المؤقت، لكن في اليوم الرابع صفَتِ السماء وسطعت الشمس مشرقة وانبثق فجأة سيل من الدبابير، لا شك أن العالم لم يشهد مثله من قبل.

يستحيل تخمين عدد الدبابير العملاقة التي ظهرت هذا اليوم. ثمة خمسون بلاغًا على الأقل بظهور هذه الدبابير وضحية واحدة. اكتشف بقَّال أحد هذه الدبابير المُتوحشة في برميل سُكَّرٍ فسارع إلى مهاجمته بجاروفٍ وهو يحلق. ضربه البقَّال طارحًا إيَّاه أرضًا للحظة، فلدغه الدبور عبر حذائه وهو يضربه مُجددًا ليشقَّ جسده إلى نصفَين، لكن البقَّال مات أولًا.

أكثر الوقائع الخمسين إثارةً كان بلا شك لدبُّور زار المتحف البريطاني ظُهرًا. هبط بهدوء ودون إنذار على واحدٍ من الحَمام الذي لا حصر له الذي يقتات على الطعام في فناء المتحف وطار بفريسته إلى إفريز البناء ليلتهِمها على مهَل، ثم زحف لبعض الوقت فوق سطح المتحف، ودخل قُبة قاعة القراءة وطار في أرجاء القاعة لوقتٍ قصير مصدرًا طنينه، وهو ما أحدث حالة من الذُّعر والتدافُع بين القرَّاء، وفي آخر الأمر وجدَ نافذةً أخرى ثم اختفى مجددًا ليُخيم الصمت فجأة على الناظرين بالقاعة.

أغلب البلاغات الأخرى كانت بمرور دبابير أو هبوطها. في قرية أولدينجتون نول، فرَّقت الدبابير جماعة خرجت في نزهة، والتهمت كل الحلوى والمُربَّى التي كانت في حوزتهم، بينما قتَلَ سرب آخر جَروًا ومزَّقَه إربًا بالقُرب من بلدة ويتستبل أمام ناظرَي مالكته.

دوَّت الطرقات ذلك المساء بالصرخات وخلت صدارة الصحف إلا من عنوانٍ مكتوب بالخط العريض: «الدبابير العملاقة في كِنت.» ركض المحررون ومساعدوهم المنفعلون صاعدين وهابطين سلالم دُور النشر الملتوية هاتفين بعباراتٍ عن الدبابير. أما البروفيسور ريدوود، فبعدما خرج من جامعته في بوند ستريت في الساعة الخامسة، مُحتقنَ الوجه إثر نقاشٍ حادٍّ مع لجنته حول سعر صغار الثيران، اشترى صحيفة مسائية، ثم امتقع لونه ونسي على الفور أمر صغار الثيران واللجنة واستقلَّ عربة بسرعة قاصدًا شقة بانزنجتن.

٥

بدا لريدوود أنه لم يكن هناك مَن بالشقة سوى السيد سكينر وصوته — إن كنت بالطبع تُشير إلى السيد سكينر بأداة العاقل!

كان صوته مرتفعًا يفيض بنبرات الألم التي تتخلَّله. قال سكينر: «يثتحيل أن نمكُث هناك يا ثيدي. لقد مكثنا آملين أن تتحثن الأمور، لكنها لم تذْدَدْ إلا ثُوءًا يا ثيدي. المثألة لا تقتثر على الدبابير فقط يا ثيدي. ثمة حشرات أبو مقث كبيرة، يا ثيدي، بهذا الحجم.» (ثم أشار إلى كف يده وثلاث بوصات من معصمه السمين القذِر) وتابع قائلًا: «لقد كادت أن تُثيب الثيدة ثكينر بالجنون يا ثيدي. ونباتات القراث المجاورة للحظيرة تنمو بدورها يا ثيدي، ونبات الكناري الذاحف الذي ذرعناه بالقرب من الحوض يا ثيدي مدَّ مِحلاقه عبر النافذة في أثناء الليل يا ثيدي، وكاد أن يُمثك بثاقَي الثيدة ثكينر، يا ثيدي. الطعام الذي ابتكرتَه هو الثبب، يا ثيدي. أينما نثرْنا منه كمية بثيطة يدفع كل شيء إلى النمو بقوة أكبر من أقثى درجة تخيلتها لنموِّ أي شيء. من المثتحيل أن نمكث هناك ولو شهرًا، يا ثيدي. هذه مجاذفة تهدد حياتنا يا ثيدي. حتى إن لم تلدغنا الدبابير، ثيخنقنا نبات الكناري الذاحف يا ثيدي. لن يمكنك أن تتخيَّل الوضع إلا إن أتيتَ لترى بنفثك يا ثيدي.»

ثم التفت بعينه المحوَلَّة الناظرة إلى أعلى نحو الإفريز الذي يعلو رأس ريدوود واستطرد قائلًا: «كيف نتأكد من أن الفئران لم تتناوله يا ثيدي! هذا هو أكثر ما يشغلني يا ثيدي. لم أرَ أي فئران ضخمة يا ثيدي لكن أنى لي أن أعرف يا ثيدي. لقد ظللنا نشعُر بالخوف لأيام بثبب حشرات أبي مقث التي رأيناها — كانت بحجم الكركند — وكان هناك اثنان منها يا ثيدي، والطريقة المُخيفة التي تنمو بها نباتات الكناري. لقد ثمعت طنين الدبابير بنفثي؛ بنفثي يا ثيدي، فأدركت ما عليَّ فعله. لم أنتظر شيئًا ثوى حياكة ذِرٍّ كنتُ قد فقدته ثم أتيت، وحتى الآن يا ثيدي أشعر بالقلق الشديد يا ثيدي. كيف عثاي أن أعلم ما الذي يجري للثيدة ثكينر الآن يا ثيدي؟! الكناري الذاحف ينمو في كل أرجاء المكان كالثعبان، يا ثيدي. لا بدَّ أن تراه بنفثك يا ثيدي، لكن إن رأيتَه فعليك أن تفِرَّ من طريقه! وحشرات أبي مقث تكبر أكثر فأكثر والدبابير؛ الثيدة ثكينر لا تملك حتى عدة إثعاف، يا ثيدي. ماذا لو أثابها مكروه يا ثيدي!»

فقال السيد بانزنجتن: «وماذا عن الدجاجات؟ كيف هي؟»

فأجاب سكينر: «لقد ظللنا نُطعمها حتى الأمث، لكننا لم نجرؤ على ذلك هذا الثباح، يا ثيدي. كانت الضوضاء التي تثدرها الدبابير مُريعة يا ثيدي؛ كانت تتدفَّق بالعشرات بحجم الدجاج. قلتُ للثيدة ثكينر أرى أن تَحيكي لي ذرًّا أو اثنين لأنني لا أثتطيع الذهاب إلى لندن هكذا، وأنا ثأتوجَّه إلى الثيد بانذنجتن وأشرح له الأمر، وأنتِ امكثي في هذه الغرفة إلى أن أعود إليك، وأَبقِي هذه النافذة مُغلقة بأقثى ما تثتطيعين من إحكام.»

ابتدره ريدوود قائلًا: «لو لم تكن مُهملًا إلى هذا الحد الشنيع!»

فقال سكينر: «أوه! لا تقُل هذا يا ثيدي. ليث الآن يا ثيدي، ليث وأنا أشعر بالقلق إلى هذا الحد على الثيدة ثكينر يا ثيدي! أوه لا تفعل هذا يا ثيدي! لا طاقة لي بمُجادلتك. أقثم لك يا ثيدي أنه لا طاقة لي بهذا! الفئران تشغل تفكيري. كيف أتأكَّد من أنها لم تَثِل إلى الثيدة ثكينر في أثناء وجودي هنا؟»

فقال ريدوود: «وأنت لم تقِسْ ولو لمرة واحدة منحنيات النمو الهائلة تلك!»

فأجاب سكينر: «كنتُ في غاية الاضطراب، يا ثيدي. لو أنك تعلم ما عانيناه أنا وذوجتي طوال هذا الشهر! كنا في حيرة من أمرنا يا ثيدي. ماذا عثانا أن نفعل حيال نموِّ الأفراخ بهذه القوة وحشرات أبي مقث، ونبات الكناري الذاحف. لا أعلم إن كنت قد أخبرتُك بهذا من قبل يا ثيدي لكن نبات الكناري الذاحف …»

فقال ريدوود: «لقد أخبرتَنا بكل ذلك. السؤال الآن يا بانزنجتن: ما العمل؟»

فقال السيد سكينر: «ما العمل؟»

فقال ريدوود: «سيتعيَّن عليك العودة إلى السيدة سكينر. لا يسعُك أن تتركها وحدَها هناك طوال الليل.»

فأجاب السيد سكينر: «لن أعود وحدي يا ثيدي، حتى وإن كان هناك العشرات من الثيدة ثكينر. الثيد بانذنجتن هو من يجب أن يعود.»

فقال ريدوود: «هُراء. ستكون بمأمنٍ من الدبابير ليلًا، ولن تعترضك حشرات أبي مقص.»

فقاطعة السيد سكينر: «لكن ماذا عن الفئران؟»

أجابه ريدوود: «ليس هناك أي فئران.»

٦

قد يكون السيد سكينر قد تخلَّى عن أسوأ مخاوفه، أما السيدة سكينر فقد مكثت بالمنزل طوال اليوم.

في الساعة الحادية عشرة، بدأ نبات الكناري المُتسلق، الذي ظلَّ ينمو طوال اليوم نموًّا نشطًا هادئًا، يتسلق النافذة ويُعتمها بشدة، ومع ازدياد عتمة الغرفة اتضح أكثر فأكثر للسيدة سكينر أن بقاءها في هذا المكان سرعان ما سيكون مُتعذِّرًا، وأنها مكثت وقتًا طويلًا منذ رحيل السيد سكينر، فأطلَّت من النافذة التي أخذ الظلام يُخيم عليها، ناظرةً عبر المحاليق الهائجة لبعض الوقت، ثم قصدت باب حجرة النوم بحذر وفتحتْه ثم أرهفت السَّمع.

بدا أن السكون يخيم على كل شيء، فشمرت السيدة سكينر تنورتها، ثم اندفعت إلى داخل الغرفة. بادرت السيدة سكينر أولًا بالنظر أسفل الفراش ثم أغلقت باب الغرفة خلفها، وأخذت تحزم متاعها بسرعةِ ومنهجيةِ امرأةٍ مُتمرسة استعدادًا للرحيل. لم يكن الفراش مُرتبًا، وقد تبعثرت في أرجاء الغرفة أجزاء نبات الكناري الزاحف التي بترَها السيد سكينر ليغلق النافذة ليلًا، لكن السيدة سكينر لم تعبأ بهذه الفوضى. وضعتْ متاعها في ملاءة مناسبة، أودعَتْ فيها كل ملابسها، ومعطفًا مخمليًّا يرتديه السيد سكينر عند التأنق، ووضعت برطمانًا من المخلل لم يفتح بعد. إلى هذا الحدِّ كان هناك ما يُبرر ما تحزمه من متاع. غير أنها أودعَت أيضًا بين متاعها علبتين مُغلقتين بإحكام تحويان مادة هرقليوفوربيا ٤، أحضرَهما السيد بانزنجتن في آخر زيارة له للمزرعة (كانت امرأة طيبة وأمينة، لكنها أيضًا كانت جَدَّة، وقد تفطَّر قلبها لرؤية مثل هذا النمو الرائع يتمتع به جيش من الدجاج اللعين).

حزمت السيدة سكينر جميع أغراضها ثم ارتدتْ قُبعتها، وخلعت المئزر الذي كانت ترتديه، وعقدت رباط حذاء جديدًا حول شمسيتها. وبعدما أرهفت السمع لوقت طويل عند الباب والنافذة، فتحت الباب، واندفعت خارجة إلى عالمٍ محفوف بالمخاطر. حملت الشمسية تحت إبطها مُمسكة بمتاعها بيدين خشنتَين حازمتين. ارتدت قُبعة يوم الأحد المُفضلة لديها وقد بدت زهرتا الخَشخاش، اللتان برزتا بين أشرطة القبعة الرائعة وخرزاتها الرائعة، مُتسلِّحَتَين بتلك الشجاعة المشُوبة بالتوتر التي تملَّكتها.

تجعَّدَت ملامحها حول أنفها لترسم إصرارًا. كانت قد نالت كفايتها! لقد مكثت هناك وحيدةً تمامًا! ليَعُد السيد سكينر إلى هناك إن أراد.

خرجت من الباب الأمامي، لا لأنها أرادت أن تتوجَّه إلى هيكليبراو (كانت وجهتها هي بلدة تشيزينج آيبرايت حيث تسكن ابنتها المُتزوجة) بل لأنه استحال العبور من الباب الخلفي بسبب نبات الكناري الزاحف الذي توحَّش في نموِّه منذ أن أوقعت علبة من طعام الآلهة بالقُرب من جذوره. أرهفت السمع لبرهة، ثم أغلقت الباب الأمامي بحذَرٍ شديد خلفها.

توقَّفت السيدة سكينر على ناصية المنزل لتستطلع المكان حولها.

ثمَّة مُرتفَع رملي على منحدر التل خلف الغابة الصنوبرية المجاورة يقع عنده عشٌّ للدبابير العملاقة، وقد درسته السيدة سكينر بعناية بالغة. كانت الدبابير قد كفَّت عن الذهاب والإياب المُعتادَين في الصباح ولم يُصادف أن رأت أيًّا منها. كان الهدوء يسود المكان، اللهم إلا صوت مِنشار أخشاب بخاري يُسمع بالكاد بين غابات الصنوبر. أما حشرات أبو مقص، فلم تبصر أيًّا منها. أحسَّت بشيءٍ يتحرك بالفعل بين نباتات الكُرنب، لكنه قد يكون قطة تطارد بعض الطيور. وقفت السيدة سكينر تُراقب المكان لبعض الوقت.

ثم خطتْ بضعَ خطوات، إلى أن أبصرت الحظيرة ذات الدجاج العملاق فتوقَّفت من جديد، ثم قالت: «آه!» وهزَّت رأسها ببطءٍ وهي تنظر إلى الدجاجات. كان طولها آنذاك يُضاهي تقريبًا طول طيور الإيمو الأسترالية، لكنها كانت بلا شكٍّ أسمن وأكبر في العموم. لم يتبقَّ إلَّا خمس دجاجات بعد أن تناحر ديكان فقتل أحدهما الآخر. تردَّدت السيدة سكينر وهي تلحظ الوهَن البادي على الدجاجات، وقالت مُحدِّثةً نفسها وهي تضع إصبعها النحيل على شفتَيها: «مسكينات!» ثم تركت الصرَّة التي كانت في يدها وأردفت: «ليس لديهنَّ ماء، ولم يتناولن طعامًا طوال الأربعة والعشرين ساعة الماضية! رغم ما يتمتعْنَ به من شهية كبيرة!»

بعدها صدر عن هذه المرأة العجوز الرثَّة المنظر عمل بطولي ينطق بالرحمة فيما يبدو لي؛ تركت صُرَّتها وشمسيتها وسط الطريق الممهد بالقرميد، وسارت إلى البئر واستخرجت ما لا يقلُّ عن ملء ثلاثة دلاء من الماء لتسكُبه في حَوض الدجاج الفارغ، بعدئذٍ فتحت باب الحظيرة بهدوءٍ شديد فيما تجمَّع الدجاج حول الحوض. بعد أن أتمَّت عملها، دبَّ فيها النشاط بقوة، وعاودت حمل صُرَّتها، وتجاوزت السور الواقع في نهاية الحديقة، والمروج الكثيفة النباتات (لتتلافى عش الدبابير) وجاهدت لتصعد الطريق المُتعرج نحو تشيزينج آيبرايت.

صعدت التل لاهثة، وفي طريقها توقفت بين الفينة والفينة لتضع صرتها وتلتقط أنفاسها وتُحدق في الكوخ الصغير بجانب الغابات الصنوبرية الواقعة أسفل التل. فلمَّا قاربت أخيرًا بلوغ قمة التل، أبصرت من بعيدٍ ثلاثة دبابير مُتفرقة تهبط على مهلٍ نحو الغرب، وقد ساعدها هذا كثيرًا في طريقها.

لم يمض وقتٌ طويل قبل أن تغادر الخلاء وتصِل إلى الطريق الواقع وراء التل والذي يعلو جانباه (بدا لها أكثر أمانًا)، ومن هناك شقَّت طريقها إلى هيكليبراو كومب صاعدة التلال المُمتدة، وعند سفحها كانت هناك شجرة كبيرة توحي بالأمان، فاستراحت عندها لبعض الوقت فوق مَرقى.

ثم مضت بعزمٍ من جديد …

تراها بِصُرَّتها البيضاء كنملةٍ سوداء مُنتصبة تُهرع على طول الطريق الأبيض الضيق الذي يقطع منحدرات التلال تحت شمس الظهيرة الصيفية الحارقة. واصلتِ المضيَّ جاهدة خلف أنفها الذي يُنبئ عن عزمٍ لا يفتر، وزهرتا الخَشخاش البارزتان من قُبعتها ترتعشان بلا توقُّف، وقد ابيضَّ لون حذائها أكثر فأكثر بفعل أتربة التلال، وقطع وقع قدميها سكون ذاك النهار القائظ: تيك تاك، تيك تاك، وأبتْ شمسيتها إلا أن تنزلق من تحت مرفقها المُتشبِّث بها. تغضَّنت التجاعيد تحت أنفها وهي تزمُّ شفتَيها بكل إصرار، ولم تزل تأمُر شمسيتها مرارًا وتكرارًا بأن تكفَّ عن الانزلاق أو تصبَّ نِقَمَها على صُرَّتها التي أحكمتْ عليها قبضتها فتهزها بعنف. كانت شفتاها تتمتم بين الحين والآخر بمقتطفاتٍ من شجار تتوقَّعه بينها وبين سكينر.

وعلى بُعد أميال وأميال، لاح تدريجيًّا من العدم برج كنيسة وغابة فوق سفح تل ليدُلَّا على البقعة الهادئة التي تقع فيها تشيزينج آيبرايت بمنأًى عن اضطرابات العالم، تكاد لا تبالي — أو لا تبالي مطلقًا — بالهرقليوفوربيا التي تخفيها الصرَّة البيضاء التي ثابرَتْ صاحبتها لتصل بها إلى حيث قُدِّر أن ينتهي بها المطاف.

٧

حسب ما أذكر، قَدِمت الأفراخ إلى بلدة هيكليبراو قرابة الثالثة عصرًا. لا شك أن مرورها كان مصحوبًا بجلبةٍ وحركة بالغتَين، رغم أنه لم يكن بالطريق أحدٌ من المارَّة ليراها، لكن صرخة الصغير سكيلمرزديل العنيفة هي أول ما أنذر بشيءٍ غريب. كانت الآنسة دورجان التي تعمل بمكتب البريد تقف عند النافذة كعادتها، ورأتِ الدجاجة التي أمسكتْ بالطفل البائس وهي تنطلق عبر الشارع بضحيَّتِها وفي إثرها دجاجتان أُخرَيان. تعرفون خُطا الدجاج عندما يتحرَّر ويكون قويَّ البِنية! تعرفون إصراره ولهفته عندما يكون جائعًا! قيل لي إن دماء سلالة البليموث روك تجري في تلك الدجاجات؛ إنها طيور تتَّسِم بالقوة والسرعة، حتى وإن لم تتناول مادة الهرقليوفوربيا.

لعلَّ الآنسة دورجان لم تذهل تمامًا من المشهد، فرغم إصرار السيد بانزنجتن على التكتُّم على الأمر، فقد ذاع في القرية منذ أسابيع أن السيد سكينر يُربِّي دجاجًا ضخمًا؛ من ثمَّ صاحت الآنسة دورجان: «يا إلهي! هذا ما توقعته.»

يبدو لي أنها تصرَّفَت بسرعة بديهة رائعة؛ إذ انتزعت حقيبة الرسائل المغلقة التي كانت تنتظر التوجُّه إلى آرشوت وهُرعت مغادرةً مكتب البريد على الفور. وفي اللحظة نفسها تقريبًا ظهر السيد سكيلمرزديل نفسه يُهرع في القرية مُمسكًا بمِرشَّة من فُوَّهتها وهو شديد الشحوب، وبالطبع هُرع جميع من بالقرية في غضون دقيقةٍ أو نحو ذلك نحو باب منزله أو نافذته.

استوقف مشهد الآنسة دورجان وهي على الناحية الأخرى من الشارع حاملة في يدِها كل بريد هيكليبراو لذلك اليوم، الدجاجة الممسكة بالصغير سكيلمرزديل، فتوقَّفت للحظة مُترددةً ثم التفتتْ إلى بوابات فناء فولتشر المفتوحة، وهنا كانت اللحظة الفاصلة؛ إذ ركضت الدجاجة الأخرى إلى الفناء برشاقة واختطفت الصغير بضربةٍ سدَّدتها بدقة بمنقارها واختفت خلف جِدار بستان راعي كنيسة القرية.

«كاك كاك كاك!» صاحت الدجاجة الأخيرة لمَّا أصابتها المرشَّة التي صوَّبها السيد سكيلمرزديل ببراعةٍ نحوها، ورفرفت بجناحَيها على نحوٍ هيستيري فوق كوخ السيدة جلو ثم دخلت حقل طبيب القرية، فيما طاردت بقية الدجاجات العملاقة الدجاجة الممسكة بالطفل في أرجاء بستان راعي كنيسة القرية.

ركض راعي الكنيسة وهو يُطوِّح بعصا الكروكيت محاولًا اعتراض طريق الدجاجة الممسكة بالطفل وهو يصيح: «يا إلهي!» أو قائلًا كلمات تنمُّ عن شجاعةٍ أكثر.

ثم صرخ: «قفي أيُّتها البائسة!» كما لو أنَّ الدجاج العملاق من ثوابت الحياة الشائعة.

فلما وجد أنه لا سبيل لاعتراض الدجاجة، قذف عصا الكروكيت بكل قوته فانطلقت بزاوية هائلة على بُعد قدم تقريبًا من رأس الصغير سكيلمرزديل لتخترق المصباح الزجاجي الخاص بالدفيئة. طاخ! الدفيئة الجديدة! الدفيئة الجديدة الجميلة التي تمتلِكها زوجة الكاهن!

ذُعرت الدجاجة، كما كان لأي أحدٍ أن يُذعر، وأوقعت ضحيتها وسط ثمار الخوخ البرتغالي — التي استُنقذ من بينها الصغير على الفور وهو مضطرب الحال، لكنه، فيما عدا ثيابه المُقطعة، لم يُصَب بأذًى — ثم قفزت مُرفرفة بجناحيها صوب سقف إسطبلات فولتشر، ثم خطتْ بإحدى قدمَيها فوق موضعٍ هشٍّ من قرميد السقف لتهوي، كما لو كانت قد برزتْ من العدم، قاطعةً تأمُّلات السيد بامبز الشليل، والذي ثبت بما لا يدع مجالًا لشكٍّ أنه، في سابقة هي الأولى في حياته، اجتاز حديقته كلها وسار بداخل المنزل وأغلق الباب خلفه بلا أدنى مساعدة، ثم عاد من فوره إلى الاستسلام والاعتماد العاجز على زوجته!

اعترضت مجموعة أخرى من حاملي عِصي الكروكيت طريق بقية الدجاجات، فاجتازت مطبخ الكاهن إلى حقل طبيب القرية حيث انضمت الدجاجة الخامسة أخيرًا إلى المجموعة وهي تَقرُق بحُزنٍ بعد أن فشلت محاولتها في السير فوق نباتات الخيار بمزرعة السيد ويذرسبون.

وقفت الدجاجات لبعض الوقت ينظُرنَ حولهن كَدَيدَن الدجاج وينبشْنَ الأرض ويقْرُقن، ثم راحت إحداهن تنقر خلية نحلٍ بمزرعة الطبيب، ثم انطلقت الدجاجات بمشيَةٍ خرقاء مُتشنِّجة متقطعة منفوشة الريش عبر الحقول نحو بلدة آرشوت ولم تشهدهُنَّ شوارع بلدة هيكليبراو من جديد، وبالقُرب من آرشوت أتينَ على قدرٍ مُماثلٍ من الطعام في حقل مزروع باللِّفت السويدي، وظللنَ ينقُرنَ ما حولهنَّ في لهفة إلى أن سبقتهُن شُهرتُهنَّ.

ردَّة الفعل البشرية الأولى والفورية لاجتياح تلك الدواجن العملاقة كانت حماسةً غير عادية للصراخ والركض وإلقاء الأشياء. لم يمضِ وقتٌ طويل قبل أن يخرج جميع رجال هيكليبراو تقريبًا وعديد من السيدات وفي أيديهم طائفة مدهشة من أدوات الضرب والسياط لطرد الدواجن العملاقة. نجح أهالي البلدة في دفع الدجاجات نحو آرشوت، التي كانت تشهد احتفالًا ريفيًّا، فاتخذت آرشوت من الدجاجات وسيلةً لتتويج فعاليات يومها السعيد. بدأ سكان آرشوت يطلقون الرصاص على الدجاج بالقُرب من بلدة فيندون بيتشز ببنادق الصيد أولًا. مما لا شك فيه أن طيورًا بهذا الحجم تستطيع تلقِّي عددٍ لا حصر له من الطلقات الصغيرة بدون أن تتضرَّر. تفرَّقت الدجاجات بالقرب من بلدة سيفينوكس، وعلى مقربة من تونبريدج فرَّتْ إحداهن وهي تقرُق لبعض الوقت في هياجٍ مُفرط متقدمة قاربًا للنقل المسائي السريع تارةً وسائرةً بموازاته تارة، الأمر الذي أذهل جميع راكبي القارب.

في الخامسة والنصف، اصطاد مالك سيرك في تونبريدج ويلز ببراعة شديدة اثنتَين من الدجاجات العملاقة؛ إذ اجتذبهما بنثْر بعض الخبز والكعك إلى قفصٍ فرَغَ بعد أن نفقَتْ أنثى جملٍ عربي لاحقةً بذكَرِها.

٨

عندما ترجل سكينر المسكين من أحد قطارات ساوث إيسترن الذي أوصله إلى آرشوت مساء ذلك اليوم، كانت الظُّلْمة قد حلت تقريبًا. تأخر القطار عن موعده، لكن ليس كثيرًا، وقد نوَّه السيد سكينر لناظر المحطة عن ذلك. لعلَّ السيد سكينر استشفَّ في عيني رئيس المحطة نظرةً تحمل دلالة ما، فسأله سرًّا بعد لحظة من التردُّد وهو يضع يده على جانب فمه إن كان «خطْبٌ» ما قد وقع ذاك اليوم.

قال ناظر المحطة، وهو رجلٌ ذو صوت أجشَّ صارم: «ماذا تقصد؟»

فأجاب سكينر: «الدبابير وما إلى ذلك.»

أجابه ناظر المحطة بلُطف: «لم يسنح لنا الكثير من الوقت للتفكير في الدبابير، فقد انهمكْنا في مواجهة دجاجك اللَّعِين.» ثم أخبره بأمر الدجاجات وكأنه ألقمه حجَرًا.

فسأل سكينر وسط هذا الوابل من التعليقات والمعلومات المُوجزة والمُفعمة بالدلالات: «ألم تثمع شيئًا عن الثيدة ثكينر؟»

فأجاب ناظر المحطة: «مُطلقًا!» كما لو كان يرسم حدود معرفته.

فقال السيد سكينر، مُتحاشيًا ما قد يختم به ناظر المحطة مُحادثتهما من تعميمات حول ما يتحمَّله سكينر من مسئولية لإفراطه في إطعام الدجاجات: «عليَّ أن أتحرى الأمر.»

أثناء مرور السيد سكينر بطُرقات آرشوت حيَّاه عامل يحرق كُتَل الحجر الجيري من أحد المناجم القريبة من هانكي وسأله إن كان يبحث عن دجاجاته.

فسأله السيد سكينر: «ألم تثمع شيئًا عن الثيدة ثكينر؟»

فقال العامل إنَّ ما يعنيه هو أمر الدجاجات، وما قاله بالضبط لا يستدعي اهتمامنا.

كان الظلام قد خيَّم على البلدة، ظلامٌ لا يختلف في صفائه عن ظلام أي ليلة من ليالي إنجلترا في شهر يونيو، عندما دخل السيد سكينر — أو رأسه هي التي دخلت بالأحرى — إلى حانة جولي دروفرز وقال: «مرحبًا! لم تثمعوا بقثة دجاجاتي، أليث كذلك؟»

أجابه السيد فولتشر: «أوه، لم نسمع بها؟! جزء من القصة حدث على سقف إسطبلي، وجزء آخر منها اخترَقَ دفيئة زوجة كاهن الكنيسة — المعذرة — صَوبتها الزجاجية.»

فدخل سكينر الحانة وقال: «أريد شيئًا مُريحًا للأعثاب. أريد ماءً وبعضًا من شراب الجن.» وأخذ الجميع يُخبرونه بأمر الدجاجات.

فقال سكينر: «رباه!»

ثم سأل حين صمت الجميع: «لم تثلكم أنباء عن الثيدة ثكينر، أليث كذلك؟»

فقال السيد ويذرسبون: «لا لم تصلنا! لم تخطر ببالنا. لم يخطر أيٌّ منكما ببالنا.»

فسأله السيد فولتشر مُمسكًا بإبريق معدني يحتسي فيه الجعة: «ألم تكن بمنزلك اليوم؟»

فقال السيد ويذرسبون: «لو أمسكَتْ إحدى تلك الدجاجات اللعينة بها …» ثم ترك للحاضرين تخيُّل كلِّ ما تحمِله عبارتُه من رعب.

بدا للمُجتمعين في الحانة آنذاك أن الذهاب مع سكينر للتحقُّق مما إن كانت السيدة سكينر قد أصابها مكروه سيكون ختامًا مُثيرًا ليومهم الحافل بالأحداث. لا يسع المرء أبدًا أن يُدرك ما الذي قد يُخبئه الحظ له عندما تتلاحق الحوادث، لكنَّ سكينر كان غافلًا عن تلك الخواطر وهو يقِف عند مشرب الحانة يحتسي شراب الجنِّ الساخن والماء وإحدى عينَيه تجُول خلف المشرب والعين الأخرى تُحدق في العدَم.

سأل سكينر بلا مُبالاة أتقن إظهارها: «أعتقد أنه لم يكن هناك مشاكل اليوم هنا مع أيٍّ من تلك الدبابير العملاقة. أليث كذلك؟»

فقال فولتشر: «كنا مُنشغلين للغاية بمواجهة دجاجاتك.»

«أعتقد أنها اختفت جميعًا الآن.»

«ماذا؟ الدجاجات؟»

«كنتُ أفكر بالأحرى في الدبابير.»

ثم أضاف بحذَرٍ يوقِظ الشكَّ لدى طفل عمره أسبوع وهو يضغط على أغلب الكلمات التي انتقاها: «أعتقد أنه ليث هناك من ثمِع بأشياء أخرى عملاقة بالجوار. أليث كذلك؟ ككلب عملاق، أو قطة عملاقة، أو أي شيء من هذا القبيل. يبدو لي أنه إن كان هناك دجاج عملاق ودبابير عملاقة …»

ثم ضحك مُتظاهرًا بأنه غير جادٍّ فيما يقول.

لكن نظرة تأمُّل قلِقةً علَتْ وجوه سائر الحاضرين عندئذٍ. كان فولتشر هو أول من صاغ أفكارهم المُحتشدة في هيئة كلمات.

بادر فولتشر قائلًا: «قطة بحجم هذا الدجاج.»

فأردف ويذرسبون: «أجل! قطة بحجم هذا الدجاج.»

علَّق فولتشر: «ستكون كالنمر.»

فأضاف ويذرسبون: «بل أكبر.»

كان سكينر وحيدًا عندما سلك في النهاية الطريق المهجور الممتدَّ عبر أرض الحقل المُرتفِعة التي تفصل هيكليبراو عن الوادي المُعتم الذي تُظلُّه أشجار الصنوبر، حيث يتصارع تحت ظلاله القاتمة نبات الكناري الزاحف العملاق في صمتٍ مع مزرعة التجارب ليُحكم قبضته حولها.

شُوهِد سكينر بوضوحٍ في الأفق وهو يصعد أرض الحقل المرتفعة وفوقه سماءُ الشمال الصافية برحابها الشاسعة — إذ تبعته أعين الناس إلى ذلك الحين — ثم ينحدِر مُجددًا في جَوف ظلام الليل إلى المجهول الذي بدا أنه لن يخرج منه قط. لقد مضى في طي المجهول ولقي مصيرًا غامضًا. لا يعلم أحد إلى اليوم ما الذي حدث له بعد أن هبط هذه الذُّرى. عندما قادت خيالاتُ السيد فولتشر الأكبر والسيد فولتشر الأصغر والسيد ويذرسبون الرجال الثلاثة إلى صعود التل والبحث عنه، كان الظلام قد ابتلعه وغاب عن الأنظار تمامًا.

وقف الرجال الثلاثة على مقربة من بعضهم البعض. لم يصدُر أي صوت من ظلام الغابة الذي توارت خلفه مزرعة التجارب.

قال السيد فولتشر الأصغر واضعًا نهايةً للصمت الذي خيَّم على رءوس الثلاثة: «حسنًا.»

فقال السيد ويذرسبون: «لا أُبصر أية أضواء.»

فقال الأول: «لن تستطيع ذلك من هنا.»

فأضاف السيد فولتشر الأكبر: «الجوُّ يملؤه الضباب.»

ثم استغرق الرجال الثلاثة في التأمُّل لِبُرهة.

ثم قال فولتشر الأصغر: «كان سيعود إلينا لو أنَّ مكروهًا قد وقع.» بدا هذا الأمر بديهيًّا وحاسمًا حتى إن فولتشر الأكبر قال: «حسنًا.» وعاد الرجال الثلاثة إلى منازلهم وخلدوا إلى النوم، لكن عليَّ أن أقرَّ أن أذهانهم باتت مُنشغلة بالتفكير في الأمر.

سمع راعي غنَمٍ بالقرب من مزرعة آل هاكستر عويلًا شقَّ الليل حتى إنه حسبه عويل ثعالب، وفي الصباح وجد أحد حُمْلانه مَيتًا بعد أن جُرَّ جسده حتى منتصف الطريق إلى هيكليبراو والْتُهِم جزءٌ منه.

ما لا يمكن تفسيره من بين كل هذه الوقائع هو اختفاء أي أثرٍ مؤكَّد للسيد سكينر!

بعد عدة أسابيع، عُثِر على شيءٍ بين أطلال مزرعة التجارب المُتفحِّمة قد يكون أو لا يكون عظم كتِفٍ بشرية. وفي ناحية أخرى من الأطلال عُثِر على عظمةٍ طويلة مشكوك في أمرها هي الأخرى وقد نُخرت بشدَّة. واكتُشفت عينٌ اصطناعية بالقرب من مرقًى يقود إلى حقول العرقون. ومن هنا اكتشف الكثيرون أنَّ جاذبية سكينر كانت ترجع في جزءٍ كبير منها إلى تلك العين. كانت تُحدِّق في العالم بتلك النظرة ذاتها المُترَعة باللامبالاة وذلك الشعور نفسه بالكآبة المُوحشة، اللذين أضفَيا عُمقًا عوَّضه عن هيئته البسيطة.

ظهرت، بالبحث المضني بين هذه الأطلال، الحلقات المعدِنية والأغطية المُتفحِّمة لاثنَين من الأزرار الكتَّانية وثلاثة أزرار ذات حلقات تُشبك بها وكانت سليمة، وزر معدني من الأزرار المُستخدَمة بين الشرائح الاقتصادية الأدنى. أقرَّ المسئولون بأن هذه البقايا تُعدُّ أدلة قاطعة على هلاك سكينر. أما أنا فأُومِن تمامًا — بالنظر إلى هيئة سكينر المميزة — أنَّ الدليل يجب أن يتمثل في عددٍ أكبر من العظام وأقلَّ من الأزرار.

لا شك أن العين الاصطناعية مقنعة تمامًا، لكن إن كانت حقًّا لسكينر — مع أنَّ السيدة سكينر نفسها لم تكن تعرف بالتأكيد أنَّ عينه التي لا تتحرك كانت اصطناعية — فقد تبدَّل لونها من البُنِّي اللامع إلى لونٍ أزرق هادئ يُوحي بالثقة. أما عظم الكتِف فهو دليل مشكوك تمامًا في أمره، وأودُّ أن أضعَهُ جنبًا إلى جنبٍ مع عظام الكتِف التي نُخرت لبعض الحيوانات الأليفة قبل أن أُقرَّ بأنه لبشري.

وأين على سبيل المثال حذاء سكينر؟ مهما كانت شهية الفئران شاذَّةً وغريبة، هل يُعقل أن الكائنات نفسها التي لم تلتهم إلا نِصف حَمَلٍ ستُجهِز على شَعر سكينر وعظامه وأسنانه وحذائه؟

استجوبتُ بعناية أكبر عددٍ مُمكنٍ ممَّن جمعَتْهم معرفة وثيقة بسكينر، وجميعهم أجمعوا على أنهم لا يستطيعون تصوُّر أيِّ شيءٍ يلتهِم سكينر؛ إذ كان الأخير — كما أخبرني أحد البحارة المتقاعدين الذين يسكُنون أحد أكواخ السيد دبليو دبليو جيكوب في دانتون جرين بحذَرٍ يشيع في هذه الأرجاء — «عديم القيمة على أي حال.» وحتى أجزاؤه الجديرة بالالتهام «لا تلتهِمُها النيران، بل هي التي تخمد النيران.» رأى البحَّار أن سكينر سيكون بمأمنٍ في أي مكان. وأضاف أنه لا يرغب في التحدُّث بسوءٍ عن سكينر لكنَّ الحقائق هي الحقائق، وقال إنه يفضل أن يُحبس في منزله على أن يعهد إلى سكينر بصُنع ثيابه. هذه الملاحظات بلا شك لا تجعل سكينر يبدو مَطمعًا لأيِّ حيوانٍ مفترس.

تَحرِّيًا للصراحة مع القارئ، فإني لا أُصدِّق أنه عاد قطُّ إلى مزرعة التجارب. أعتقد أنه ظلَّ يحُوم في تردُّدٍ طويل حول الحقول التابعة لأبرشية هيكليبراو، ولمَّا بدأ الهرَج والمرَج، آثر السلامة واختار العيش في الخفاء تحت وطأة حيرته واضطرابه.

وفي الخفاء، سواءٌ أكان في هذا العالم أم كان في عالمٍ مجهول بالنسبة إلينا، لا يُخامرني أدنى شكٍّ أن سكينر تشبَّث بالبقاء حيًّا إلى يَومنا هذا …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤