الفئران العملاقة
١
بعد ليلتَين من اختفاء السيد سكينر كان طبيب بلدة بودبورن يقود عربة الخيل الصغيرة الخاصة به بالقرب من بلدة هانكي في ساعة متأخرة. كان قد أمضى الليل كله ساهرًا ليساعد امرأةً في حالة مَخاض على إخراج نفسٍ أخرى إلى عالمنا العجيب. وبعدما أتمَّ مهمته قاد عربته مُتجهًا إلى منزله وهو يقاوم النعاس. كانت الساعة الثانية تقريبًا بعد منتصف الليل وقد أخذ القمر المُتناقِص يصعد في عنان السماء. تسرَّبت البرودة إلى هواء تلك الليلة الصيفية وخيَّم ضباب أبيض غير بعيد عن الأرض فتعذَّرت الرؤية بوضوح. كان الطبيب وحدَه تمامًا — فسائق عربته كان مريضًا — ولم يكن هناك ما يُرى على كلا جانبيه سوى طيفٍ عابر لسِياج من الأشجار يتسارع مع الوهج الأصفر المنطلق من مصابيح عربته، ولا ما يُسمع إلَّا صلصلة جيادِه وصرير عجلات العربة. كانت ثقتُه بجِياده لا تقلُّ عن ثقته بنفسه، فلا عجَبَ أنه استسلم لسُلطان النعاس.
تعلمون ذلك النعاس المُتقطع الذي يُلمُّ بالجالس، فيرتخي الرأس، ويُومئ مع إيقاع عجلات العربة، ويتدلَّى الذقن على الصدر، ثم لا يلبَثُ النائم أن يهبَّ من غفوته على الفور فجأة.
تتوالى سريعًا سلسلة من النقرات الخفيفة.
«ماذا كان هذا؟»
بدا له أنه سمِع صرخة رفيعة حادَّة من مكانٍ قريب، فتنبَّهت حواسُّه لبرهة، ووبَّخ حصانه بكلمةٍ أو اثنتَين، لم يستحقَّهما الجواد، ونظر حوله. حاول أن يُقنع نفسه بأن ما سمِعه كان عويل ثعلبٍ آتيًا من بعيدٍ أو لعلَّه صراخ أرنبٍ صغير أمسك به ابن مِقْرَض.
من جديد سُمعَ صوتُ نقراتٍ مصحوبًا بهَسْهَسة.
ماذا كان هذا؟
شعر الطبيب بأنه بدأ يتوهَّم أشياء، فهزَّ كتفَيه وأمر حصانه بمواصلة السير، وأرهف السمع فلم يسمع شيئًا.
أم لعلَّه سمِع؟
خُيِّل إليه أمر في غاية الغرابة؛ خالَ شيئًا ما قد اختلس نظرةً خاطفة إليه من خلف السياج، شيئًا ذا رأسٍ ضخم عجيب وأذنَين مُستديرتَين! أمعن النظر لكنه لم يستطع أن يُبصر شيئًا.
فقال: «هراء.»
اعتدل في جلسته وقد حسبَ أنه وقع في شِراك كابوس فنكز جواده بلمسةٍ خفيفة من سَوطه وخاطبه، ثمَّ أمعن النظر مُجددًا صوب السياج، لكنَّ وهَج مِصباحه إلى جانب الضباب جعلا الرؤية غير واضحة، فلم يستطع تبيُّن شيء. يروي الطبيب أنه خطر بباله آنذاك أنه لا صحة لما تخيَّله؛ لأنَّ جواده كان سيجفل إن كان هناك شيء. رغم كلِّ هذا ظلَّ مُنتبهَ الحواسِّ ومتوترًا.
ثم سمعَ بوضوحٍ تامٍّ صَوت خُطًا سريعة ذات وقْعٍ خفيف تتعقَّبه على طول الطريق.
لم يستطع أن يُصدق أذنَيه، ولا أن ينظر حوله؛ إذ كان أمامه مُنعطف، فضرب جواده بالسوط ثم نظر مُجددًا على جانبَيه، فرأى بوضوحٍ على ضوء شعاعٍ أسقطه مصباحُه فوق منطقة منخفضة من السياج ظَهْرَ حيوان ضخم لم يستطعْ تمييزه، ولمحَه يمضي بقفزاتٍ سريعة مُختلجة.
يذكُر الطبيب أنه تذكَّر عندئذٍ قصص السِّحر القديمة؛ فقد كان هذا المخلوق مُختلفًا تمامًا عن أيِّ حيوانٍ ألِفَه، فأحكم الرجل قبضته على زمام جواده خشية أن يجفل. رغم كونه رجلًا متعلمًا، فقد أقرَّ بأنه تساءل إن كان هذا المخلوق غير مرئي بالنسبة إلى حصانه.
بعد أن مضى قدمًا، دنَتْ تحت ضوء القمر البازغ ظلال قرية هانكي ببيوتها الصغيرة لتبعَثَ في نفسه الراحة، مع أنَّ الظلام خيَّم عليها تمامًا، فضرب الجواد بسوطه وحدَّثه ثانية، ثم ما لبثت الفئران أن انقضَّتْ عليه في لمح البصر!
كان قد عبر بوابة ومع عبوره لها قفز الفأر الموجود بالمقدمة قاطعًا الطريق. لقد انقضَّ بارزًا من الضباب ليتضح ملء العيان بوجهه الجامح المُتلهِّف وأذنيه المُستديرتين، وجسده الطويل الذي بدا أضخم بحركاته، وقدمَيه الورديَّتَين المُكفَّفتي الأصابع، وهو ما أذهلَ الطبيب بصورةٍ خاصة. لا شكَّ أن ما جعل الأمر أكثر ترويعًا بالنسبة إليه آنذاك هو أنه لم تكن لدَيه فكرة عن ماهية الكائن الذي يواجهه؛ فهو لم يُدرك أنه فأر بسبب حجمه. أجفل جواده والفأر يهبط على الطريق بجانبه، ودبَّ الاضطرابُ والصخَب في الطريق الصغير مع صوت ضربات سوط الطبيب وصياحه. وفجأةً جرى الأمر برمَّته سريعًا.
صلصلة، خشخشة، قعقعة، ثم خشخشة.
على حدِّ استنتاجي، نهض الطبيب وصاح في جواده وهوى على الفأر بسوطه بكلِّ قوته فأجفل الفأر مُبتعدًا من أثر ضربته، الأمر الذي هدَّأ من رَوع الطبيب تمامًا. على وهَج المصباح، رأى الطبيب فِراء الفأر يتجعَّد تحت صفعات سَوطه، فهوى بضربةٍ ثانية وثالثة غير مُنتبِهٍ للفأر الثاني الذي يتعقَّبه وقد دنا منه.
أطلق العنان لزمام الجواد ونظر خلفه ليجد الفأر الثالث في إثره.
قفز الجواد إلى الأمام وانتفضت العربة عاليًا عند حفرةٍ بالطريق، وفي لحظة محمومة بدا أن كل شيء يحدُث على عجل.
من حُسن الحظِّ أن الحصان سقط في قرية هانكي وليس قبل عمرانها أو بعدَه.
لا يعلم أحدٌ كيف سقط الجواد؛ أتعثَّرَ أم أتَتِ العضَّات التي سدَّدها الفأر الذي على ميمنتِه بأسنانه القاطعة (بثقله كله) بمفعولها. الطبيبُ نفسه لم يكتشف أنَّ الفأر عضَّه إلا عندما بلغ منزل صانع القرميد، وبالطبع لم يكتشف متى عضَّه الفأر، رغم أنه كان مُصابًا إصابة بالغة. كان على كتِفه اليسرى شقٌّ طويل كتلك التي تصنعها فئوس توماهوك المزدوَجة، وقد قُطِعَت مِزقتان مُتوازيتان من لحمه جرَّاء ذلك.
لم يلبَث الطبيب أن قفز من عربته على الأرض وقد التوى كاحله بشدَّة — ولو أنه لم يدْرِ بذلك — وظلَّ يضرب بسوطه في سخط فأرًا ثالثًا انقضَّ عليه مباشرة. يذكر الطبيب بالكاد أنه قفز فوق عجلات العربة وهي تنقلِب، فقد تلاحقت أفكاره ومشاعره بسرعة محمومة إلى حدِّ أنه لم يعُد قادرًا على تذكر تفاصيل الحادثة بدقَّة فيما بعد. أعتقد، من وجهة نظري، أن الجواد انتفض والفأر يُطبق أسنانه حول حلقِه مُجددًا، وهوى على جانبه لتنقلِب العربة بأسرها، وأنَّ غريزة البقاء قد دفعت الطبيب إلى القفز. تحطَّم وعاء المصباح إثر انقلاب العربة واندفع منه فجأةً وهَج زيت مُشتعل، وصدر صوت انفجار مكتوم نتج عنه لهب أبيض، في مسرح الحدث.
كان هذا هو أول ما أبصره صانع القرميد.
سمع الجلبة التي صاحبت اقتراب الطبيب وصيحاته الجامحة، رغم أن الطبيب لا يذكر أمر هذه الصيحات. نهض الرجل من فراشه مُسرعًا وبينما هو ينهض، سمع صوت تحطُّم المصباح وانبثق وهَجُه من خلف الستائر وهو يرفعها. كان «وهَجُه أقوى من ضوء النهار.» على حدِّ قوله. وقف صانع القرميد مُمسكًا بحبل الستائر وهو يُحدق من نافذته مُتأملًا التحوُّل المروِّع الذي حلَّ بالشارع أمامه. بدا للرجل ظِلُّ الطبيب متراقصًا أمام اللهب وهو يحمل سوطه الملتوي، وأخذ الجواد يركل بقدميه بلا تمييزٍ وقد توارى نصفه خلف الوهج والفأر قابض على حلقه. قُبالة جدار فناء الكنيسة، التمعتْ عينا فأرٍ شرس آخر في العتمة مُنذرة بالشر، ثم ظهر فأر ثالث — بدا كظلٍّ مُخيف ذي عينَين حمراوَين ويدَين ورديَّتَين — محاولًا التعلُّق بإفريز الجدار المائل الذي قفز إليه لحظة توهُّج المصباح الذي تفجَّر.
تعلمون كيف يبدو الفأر بوجهه المُتلهِّف وثنيتَيه الحادَّتَين وعينَيه القاسِيتَين. لا شكَّ أنه بدا مُريعًا لصانع القرميد الناعس وهو يراه وقد تضاعفتْ أبعاده إلى ما يقرُب من ستة أضعاف حجمه الطبيعي وتضاعَفَ حجمه أكثر بفعل الظلام والدهشة والخيالات المُتقافزة على ضوء اللهب المُتقطِّع.
انتهز الطبيب هذه الفرصة، وهذا الملاذ الخاطف الذي كشف عنه وهَج النيران، واختفى عن أنظار صانع القرميد وأخذ يدقُّ بيت الأخير بمؤخِّرة سوطه.
رفض صانع القرميد أن يسمح له بالدخول قبل أن يجلب مصباحًا.
البعض لامَ الرجل على ذلك، لكن إلى أنْ أعلم مدى شجاعتي، سأتردَّد في ضمِّ صوتي إليهم.
صاح الطبيب وطرق الباب.
قال صانع القرميد إنه كان يبكي رُعبًا عندما فتح الباب آخِر الأمر.
قال الطبيب لاهثًا: «القفل! القفل!» لم يستطع قول «أغلق الباب بالقفل.» حاول أن يقصد الباب لمساعدة صانع القرميد، لكنه عجز عن ذلك. أحكم صانع القرميد إغلاق الباب، ثم ألقى الطبيب بنفسه على المقعد المجاور للساعة وظلَّ جالسًا لبُرهة قبل أن يتمكن من الصعود إلى الطابق العلوي.
كرر الطبيب مرارًا: «لا أعلم ما هي! لا أعلم ما هي!» رافعًا صوته في «هي.»
كان صانع القرميد سيجلب له بعض خمر الويسكي، لكنَّ الطبيب أبى أن يُترَك وحدَه بلا شيءٍ سوى مصباح مُرتعش الضوء.
مضى وقتٌ طويل قبل أن ينجح صانع القرميد في إقناعه بالصعود إلى الطابق العلوي.
لمَّا خمدَت النيران عادت الفئران العملاقة وأخذت الجواد الميِّت وسحبتْهُ عبر فناء الكنيسة إلى ساحة صناعة القرميد وعكفتْ على الْتِهامه حتى الفجر، دون أن يجرُؤ أحد على إزعاجها.
٢
عرج ريدوود في قُرابة الساعة الحادية عشرة صباح اليوم التالي على بانزنجتن حاملًا الطبعة الثانية لثلاث صحف مسائية.
قطع بانزنجتن تأمُّله اليائس بشأن الصفحات المنسيَّة من الرواية الأكثر إلهاءً التي استطاع أمين مكتبة برومتون رود أن يجِدها له ورفع عينَيه سائلًا ريدوود: «هل من جديد؟»
فأجاب الأخير: «لُدِغ رجلان بالقرب من تشارثم.»
«كان عليهم أن يتركونا نطرد تلك الدبابير من أعشاشها بالدُّخان، وها قد خرجت بالفعل! هذا خطؤهم.»
فوافقَه ريدوود قائلًا: «إنه خطؤهم، بالتأكيد.»
«هل سمعت شيئًا فيما يتعلق بشراء المزرعة؟»
أجابه ريدوود: «سمسار العقارات شخص مُباهٍ صعْب المِراس؛ إنه يزعم أن هناك شخصًا آخر يسعى لشراء المنزل — دائمًا ما يزعم هذا كما تعلم — ولا يتفهم أن المسألة عاجلة. قلتُ له: «إنها مسألة حياة أو موت، ألا تفهم؟» فأخفض هذا الشيء جَفنه قليلًا ثم قال: «إذن لماذا لا تدفع مائتي جنيه إضافية؟» أُفضِّل أن أعيش في عالمٍ من الدبابير العملاقة على أن أُذعِن لمُماطلات هذا المخلوق البغيض. أنا …»
ثم توقَّف لبُرهة شاعرًا بأن جُملةً كهذه قد يُفسِد السياق الدائر معناها بسهولة.
فقال بانزنجتن: «من الصعب أن نتوقَّع أن واحدًا من هذه الدبابير …»
فقال ريدوود: «معرفة الدبابير بالمرافق العامة لا تتجاوز معرفة سماسرة العقارات بها.»
تحدَّث ريدوود لبُرهة عن سماسرة العقارات والمُحامين وغيرهم ممن على هذه الشاكلة، بالأسلوب المُتحامل وغير المنطقي الذي يسلُكه الكثيرون لدى التحدُّث عن المعاملات المُتَّبعة في هذه المهن «من بين كل غرائب هذا العالم الغريب، أجد أن أغربها على الإطلاق أن نتوقع من الطبيب أو الجندي أن يتصرَّف بشرفٍ وشجاعة ومهارة باعتبار أن هذا من البديهيات، لكننا في الوقت نفسه لا نسمح فقط للمُحامي أو سمسار العقارات أن يتصرَّف بحماقة مشُوبة بالجشع والخداع والطموح المُغالى فيه، بل نتوقَّع منه هذا.» وبعدما شعر بالارتياح الكبير، اتَّجَه إلى النافذة وحدَّق في الحركة المرورية بشارع سلون ستريت.
كان بانزنجتن قد وضع الرواية الأكثر إثارةً على الإطلاق فوق المنضدة الصغيرة التي تحمِل مصباحه الكهربي وشبَّك أصابع كفَّيه المُتقابلتين وتأمَّلها بإمعانٍ شديد.
ثم قال: «ريدوود، هل يتحدث الناس بشأننا كثيرًا؟»
«ليس بقدْر ما أتوقع.»
«ألا تُوجَّه لنا أية اتهامات؟»
«مُطلقًا، لكنهم من ناحية أخرى لا يؤيدون ما أشرتُ إلى وجوب فعله. لقد كاتبتُ صحيفة ذا تايمز كما تعلم شارحًا كل شيء …»
قاطعه بانزنجتن قائلًا: «نحن نبتاع صحيفة ديلي كرونيكل.»
«كتبت صحيفة ذا تايمز افتتاحيةً طويلة حول هذا الموضوع — افتتاحية حسنة الصياغة رفيعة المستوى، مكوَّنة من ثلاث فقرات مكتوبة بخط تايمز لاتين، منها فقرة تُوضح الوضع الراهن — تشعُر وأنت تقرؤها كأنك تسمع صوتَ شخصٍ ذي شأن يُعاني من دوار الإنفلونزا وهو يتحدَّث عبر طبقاتٍ من أغطية اللباد بدون أن يُشعِره ذلك بالراحة. يتَّضِح تمامًا من قراءة ما بين سطور الافتتاحية أن صحيفة ذا تايمز تَعتبِر تجميل الحقائق أمرًا غير مُجدٍ وتؤمن بوجوب اتخاذ إجراءٍ ما — غير مُحدَّد بالطبع — على الفور، وإلا فسوف نشهد تبعات أخرى غير مرغوب فيها — تعلم لغة الصحيفة الفصيحة، والمقصود هو المزيد من الدبابير واللدغات. مقال كتبه سياسي مُحنَّك من الطراز الأول!»
«وفي الوقت نفسه، تنتشِر ظاهرة العملقة هذه بشتَّى الطرق المُريعة.»
«بالضبط.»
«أتساءل عمَّا إذا كان سكينر مُحقًّا بشأن تلك الفئران الكبيرة!»
ردَّ ريدوود: «أوه لا! هذا سيكون أمرًا يفوق الاحتمال.»
ثم وقف بجانب مقعد بانزنجتن.
وقال، خافضًا صوته قليلًا: «بالمناسبة. كيف تعاملتْ؟»
وأشار إلى الباب المُغلق.
فأجاب بانزنجتن: «ابنة العم جين؟ إنها ببساطة لا تعلم شيئًا عن الأمر، ولا ترى علاقةً لنا به وترفض قراءة هذه المقالات. تقول: «دبابير عملاقة! لا صبر لي على قراءة الصحف».»
فقال ريدوود: «ذلك من حُسن الحَظ.»
«هل أفترض أن السيدة ريدوود …»
«لا. يُصادف أنها في الوقت الحالي شديدة القلق على صغيرنا؛ فهو، كما تعلم، لا يزال …»
«ينمو؟»
«نعم، ازداد وزنه في غضون عشرة أيام واحدة وأربعين أوقية؛ أي ما يقرُب من ٥٦ رطلًا، وعمره لا يتجاوز ستَّة أشهر! هذا بطبيعة الحال أمر مُقلق جدًّا.»
«هل يتمتَّع بصحة جيدة؟»
«مُفعَم بالحيوية، حتى إنَّ مُربيته ستترك العمل لدَينا لأنه يركُل بقوة شديدة. لقد ضاقت جميع ملابسه بالطبع بصورةٍ صادمة. كان لا بدَّ من إعداد أغراضٍ جديدة له، من ملابس وكل ما سواها. لقد انكسرت إحدى عجلات عربتِه — وهي عربة خفيفة — وكان لا بدَّ من إعادته للمنزل على عربة بائع اللبن اليدوية. أجل. شاهده حشدٌ كبير … وضعْنا جورجينا فيليس في فراشه النقَّال ووضعناه في فراش جورجينا فيليس. والدته قلقة بطبيعة الحال. كانت في البداية تشعر بالفخْر به وتميل إلى مدح وينكلز، لكنها لم تعُد كذلك الآن. صارت تشعُر بأن هذا النمو يستحيل أن يكون صحيًّا. كما تعلم.»
«تخيلتُ أنك سوف تُعطيه جرعات مُتناقصة.»
«حاولت هذا.»
«ولم يفلح الأمر؟»
«العواء. عادة ما يكون بكاء الطفل مُرتفعًا ومزعجًا. هذا لمنفعة الجنس البشري، لكنه منذ تعاطي الهرقليوفوربيا …»
فقال بانزنجتن وهو يتأمَّل أصابعه بمزيدٍ من الاستسلام: «إممم.»
«من الناحية العملية، لا شكَّ أن الأمر سينكشف. سيُسمع بأمر الطفل فيربط الناس بينه وبين الدجاجات وباقي الكائنات، وستصل المسألة برمتها إلى زوجتي. لا أدري على الإطلاق كيف سيكون وقع الأمر عليها.»
فقال بانزنجتن: «لا شكَّ أنه من الصعب وضْع أي خُطة.»
ثم نزع عنه نظارته ومسحها بعناية.
ثم أردف: «هذا مثال آخر لما يحدُث باستمرار. إن كنَّا نحن رجال علم — إن كان لي بالفعل أن أفترض أنَّ هذه الصفة تنطبق علينا — فنحن بالطبع نعمل دائمًا من أجل الوصول إلى نتيجة نظرية — نظرية بحتة. لكن يُصادف أننا بالفعل نُطلق بعض القوى — القوى الجديدة. يجب ألا نتحكَّم بها ولا يسع أي أحدٍ هذا. المسألة من الناحية العملية يا ريدوود خارج نطاق سيطرتنا. نحن نُنتِج المادة …»
فأكمل ريدوود وهو يلتفِت إلى النافذة: «وهم يعيشون التجربة.»
«فيما يتصل بهذه المشكلات الجارية في كِنت، فلا استعداد لديَّ للقلق أكثر من ذلك.»
«إلا إذا اضطرُّونا إلى القلق.»
«بالضبط، وإن كانوا يَودُّون خَوض المتاهات مع المستشارين القانونيين والمُحامين المُحتالين والعقبات القانونية والاعتبارات المُزعجة لهذا النظام الغبي، إلى أن يصير لدَيهم عدد من الفصائل الجديدة المُستقرة من الحشرات العملاقة. لطالما كان الوضع فوضويًّا يا ريدوود.»
كان ريدوود يتتبَّع بعَينه خطًّا مُلتويًا مُتشابكًا في الهواء.
ثم استطرد بانزنجتن: «موضع اهتمامنا الحقيقي في الوقت الحالي هو طفلك.»
فالتفتَ ريدوود ودنا من زميله وحدَّق فيه.
ثم قال: «ما رأيك في أمره يا بانزنجتن؟ بإمكانك أن تنظر إلى المسألة بموضوعية أكثر منِّي. ماذا عليَّ أن أفعل حياله؟»
«استمِرَّ في تغذيته.»
«بمادة الهرقليوفوربيا؟»
«بمادة الهرقليوفوربيا.»
«إذن سينمو.»
«وفقًا للحسابات التي يمكن أن أُجريها بناءً على نموِّ الدجاج والدبابير، سينمو حتى يصِل طوله إلى خمسٍ وثلاثين قدمًا — بقوام وأعضاء تتناسب مع هذا الحجم …»
«وماذا سيفعل عندئذٍ؟»
فأجاب السيد بانزنجتن: «هذا هو ما يجعل الأمر برمته مُشوقًا للغاية.»
«تبًّا لذلك يا رجل! فكِّر في ملابسه، وعندما يكبَر لن يكون إلا عملاقًا وحيدًا في عالم من الأقزام.»
كانت عَين السيد بانزنجتن تبدو من خلف إطار نظارته الذهبي مُحمَّلة بالدلالات.
ردَّ على ريدوود بغموض قائلًا: «ولِماذا يكون وحيدًا؟» وكرَّرها بغموضٍ مُتنامٍ: «لماذا يكون وحيدًا؟»
«لكنك لا تقصد …؟»
فقال بانزنجتن مَزهوًّا بنفسه كمن نطق بحِكمة مُؤثرة: «قلت: لماذا يكون وحيدًا؟»
«تعني أنَّنا قد نُنشئ أطفالًا آخرين؟»
«لا يحتمل سؤالي معنًى بخلاف ما أعنيه.»
بدأ ريدوود يسير في أرجاء الغرفة ثم قال: «بالطبع! يُمكننا أن … لكن! ما الهدف من وراء ذلك؟»
بدا واضحًا أن بانزنجتن مُستمتع بسَمْتِه الفكري المجرد، فأردف قائلًا: «أكثر ما يُثير اهتمامي في المسألة برمَّتها يا ريدوود هو اعتقادي بأن عقل الطفل — بناء على ما تقودني إليه استنتاجاتي — سيفوق مستوانا بخمسٍ وثلاثين مرَّة … ما الأمر؟»
كان ريدوود يقِف أمام النافذة ويُحدِّق في إعلانٍ في مُلصق إخباري على عربة صحف تُصلصل وهي تدخل الشارع.
فكرَّر بانزنجتن قوله وهو ينهض من مجلسه: «ما الأمر؟»
أطلق ريدوود صيحة ذهول عنيفة.
فقال بانزنجتن: «ماذا هناك؟»
فقال ريدوود وهو يتَّجِه نحو باب المنزل: «سأُحضر جريدة.»
«لماذا؟»
«سأحضر جريدة. شيء ما لم أفهمه جيدًا … فئران عملاقة!»
«فئران؟»
«أجل، فئران. سكينر كان مُحقًّا رغم كل شيء!»
«ماذا تعني؟»
«كيف لي أن أعلم بحقِّ السماء ما الذي يَعنيه هذا قبل أن أقرأ جريدة؟ فئران ضخمة! يا إلهي! تُرى هل التهم أحدُهم سكينر!» ألقى نظرة خاطفة على المكان بحثًا عن قُبعته، ثم قرَّر أن يُغادر بدُونها.
استطاع وهو يُهرع هابطًا درجات السلم درجتَين درجتَين أن يسمع صياح باعة الصحف الصاخب بطول الشارع جيئةً وذهابًا وهو يدوِّي.
«حادثة مروِّعة في كِنت. حادثة مروِّعة في كِنت. طبيب تأكله الفئران … حادثة مروِّعة … حادثة مروِّعة … فئران. التهمَتْه فئران هائلة الحجم. اقرأ التفاصيل كاملة. حادثة مروِّعة.»
٣
عثَر المهندس المدني الشهير كُوسَار على ريدوود وبانزنجتن في مدخل البناية الضخْم وريدوود يحمل الصحيفة الوردية الرطبة وبانزنجتن يقِف على أطراف أصابعه يقرأ الصحيفة من فوق كتِف الأخير. كان كُوسَار رجُلًا ضخم البِنية ذا أطراف نحيلة غير متناسقة يُريحها بين الحين والآخر إلى جانبٍ من جسده، ووجه كأنه لِتمثال تُرِك في المراحل الأولى من نحتِه لكونه لا يستحقُّ أن يكتمل. كان أنفه مُربعًا وفكُّه السُّفلي بارزًا وله نَفَس مسموع. لم يرَه الكثيرون وسيمًا. كان شعرُه مُلتصقًا برأسه وصوته، الذي اقتصد في استهلاكه، ذا نبرةٍ عالية يشُوبها سُخط مَرير. اعتاد أن يرتدي بذلة رمادية وقبعة من الحرير في جميع المناسبات. دفع أجرة سائق العربة التي كان يستقلها ثم أقبل مالئًا جَيب سرواله العميق بكفِّه الحمراء الكبيرة وراح يصعد الدرَج بإصرارٍ لاهثًا، ممسكًا بنسخة من الصحيفة الوردية من منتصفها وكأنه يمسك بسهم.
قال بانزنجتن غير منتبه إلى اقترابه: «سكينر؟»
فأجاب ريدوود: «لم يُذكر شيء عنه. لا بدَّ أنه الْتُهِم. لا بدَّ أن كليهما الْتُهم. هذا أمر مريع … مرحبًا! كُوسَار!»
فسأل كُوسَار ملوحًا بالصحيفة: «هذا من صنيعكما؟»
ثم تساءل بحزم: «حسنًا، لِمَ لا تضعان حدًّا لهذا؟»
وأردف قائلًا: «لا يدهشني الأمر!»
ثم صاح: «تريدان أن تشتريا المكان؟ ما هذا الهراء! أحرِقاه! كنت أعلم أنكما ستتصرَّفان بحماقة. ماذا أنتما فاعلان؟ سأقترح عليكما!
أنت؟ ماذا ستفعل؟ اسلُك الشارع حتى تصِل إلى صانع الأسلحة. لماذا؟ من أجل شراء بنادق! أجل — هناك متجر واحد فقط لها. اجلب ثماني بنادق! بواريد. لا بنادق صيد الأفيال. كلا! إنها كبيرة للغاية. ولا بواريد الجيش، فهي صغيرة جدًّا. قُل إنها من أجل قتْل — قتْل ثور. قل إنها لقتل جاموس! فهمت؟ ماذا؟ فئران؟ لا! كيف سيتفهَّمون هذا؟ ولأننا نريد ثماني بنادق، اجلب الكثير من الذخيرة. لا تأتِ ببنادق بلا ذخيرة. لا! اجلُب الكثير منها في عربة أجرة واذهب بها إلى … إلى أين؟ آرشوت؟ مقاطعة تشارينج كروس إذن. ثم استقلَّ قطارًا. حسنًا استقلَّ أول قطار، الذي ينطلق بعد الساعة الثانية. هل تعتقد أن بوسعك فعل هذا؟ حسنًا. تحتاج إلى ترخيص؟ اجلب ثمانية تراخيص من مكتب البريد بالطبع. تراخيص حمْل سلاح كما تعلم. لا تراخيص صيد. لماذا؟ لأنها فئران يا رجل.
وأنت يا بانزنجتن، ألديك هاتف؟ أجل. سأتصل بخمسة من رجالي من إيلينج. لِمَ خمسة؟ لأن هذا هو العدد المطلوب!
إلى أين أنت ذاهب يا ريدوود؟ تجلب قُبعتك! هُراء! خذ قُبعتي. أنت بحاجةٍ إلى بنادق يا رجل، لا قُبعات. هل معك مال؟ هل هو كافٍ؟ حسنًا. وداعًا.
أين الهاتف يا بانزنجتن؟»
فاستدار بانزنجتن مُذعنًا للأمر وقاده إلى الهاتف.
استخدم كُوسَار الهاتف، وأعاده إلى موضعه، ثم قال: «وهناك الدبابير. الكبريت ونترات البوتاسيوم سيتكفَّلان بها. لا شك في ذلك. الجصُّ الباريسي. أنت كيميائي. من أين يمكنني أن أحصل على كميات هائلة من الكبريت في جوالات يمكن حملها؟ لماذا؟ عجبًا، ليرحمني الله! لطرد الدبابير من أعشاشها بالدُّخان بالطبع! أعتقِد أنه لا بدَّ من استخدام الكبريت، أليس كذلك؟ أنت كيميائي. الكبريت هو الأفضل. أليس كذلك؟»
فقال بانزنجتن: «بلى، أعتقد هذا.»
«ليس هناك ما هو أفضل منه، أليس كذلك؟ حسنًا. هذه مهمتك. جيد. أحضِرْ أكبر قدرٍ ممكن من الكبريت، ونترات البوتاسيوم لتشتعل فيها النيران. إلى أين ترسله؟ إلى تشارينج كروس. على الفور. احرص على أنْ يفعلوا هذا. وتابِع الأمر. هل هناك شيءٌ آخر؟»
ثُم فكَّر للحظة.
«الجصُّ الباريسي، أي نوع من الجصِّ. لتدمير الأعشاش، وصنع ثقوب بها كما تعلم. من الأفضل أن آتي أنا به.»
فسأل بانزنجتن: «كم يلزمك؟»
«من ماذا؟»
«من الكبريت.»
«طن. اتفقنا؟»
فأحكم بانزنجتن وضع نظارته بيدٍ مرتعشة وأجاب باقتضابٍ شديد: «حسنًا.»
فسأله كُوسَار: «هل معك مال؟ تبًّا للشيكات. قد لا يعرفونك. ادفع نقدًا. بالطبع. أين البنك الذي تودع فيه مالك؟ حسنًا. عرِّج عليه في الطريق واجلب أربعين جنيهًا من فئة العملات المعدنية والورقية.»
وبعد لحظة أخرى من التأمُّل قال: «إن تركنا تلك المهمة للمسئولين، سنجد كِنت قد دُمِّرت. الآن هل تبقَّى شيء؟ لا! مهلًا يا هذا!»
ومدَّ يدَه الضخمة إلى سائق عربة أجرة تملَّكت سائقها لهفة عارمة لخدمته إذ قال: «عربة أجرة يا سيدي؟» فأجابه كُوسَار: «بالتأكيد.» وهبط بانزنجتن، وهو ما يزال لا يرتدي قُبعته، درجات السُّلَّم واستعد للصعود على متن العربة، لكنه التفت فجأة إلى نافذة شقته وهو يمسك بحافة العربة ثم قال: «عليَّ أنْ أُخبر ابنة عمي جين …»
فقاطعه كُوسَار قائلًا وهو يدفعه إلى داخل العربة بكفِّه الكبيرة التي بسطها على ظهره: «سيكون أمامك مُتَّسع من الوقت لتُخبرها عندما تعود.»
ثم علَّق كُوسَار قائلًا: «رجُلان ذكيَّان، لكن روح المبادرة منعدمة لدَيهما. تريد أن تُخبر ابنة العم جين حقًّا! أنا أعرفها. ليذهب أمثالها إلى الجحيم! البلدة تعجُّ بهن. أعتقد أنه سيكون عليَّ أن أُمضي هذه الليلة اللعينة بأكملها لأتأكَّد من أنهما يفعلان ما يعلمان جيدًا أنه كان عليهما فعله منذ البداية. تُرى هل هذا صنيع الأبحاث بهما أم ابنة العم جين أم ماذا؟»
ثم صرف عن ذِهنه هذه المسألة المُعقَّدة، وتأمَّل ساعته لبرهة، ثم ارتأى أن هناك ما يكفي من الوقت للمرور بمطعمٍ وتناوُل الغداء قبل أن يبدأ رحلة البحث عن الجصِّ الباريسي ويذهب به إلى تشارينج كروس.
بدأ القطار رحلته في الساعة الثالثة وخمس دقائق ووصل كُوسَار إلى تشارينج كروس في الساعة الثالثة إلا الربع ليجد بانزنجتن يخوض جدالًا مُحتدمًا مع اثنين من رجال الشرطة وسائق عربة نقل البضائع التي استقلَّها خارج محطة القطار، فيما كان ريدوود في المكتب الخاص بأمتعة السفر مُنخرطًا في مسألة قانونية غامضة تتعلَّق بذخيرته. تظاهر الجميع بالجهل التام والافتقار إلى أي صلاحيات، كما يروق لمسئولي الشرطة في جنوب شرق البلاد أن يتظاهروا عندما يجدونك في عجلةٍ من أمرك.
فقال كُوسَار مُتنهِّدًا: «مِن المؤسف أنهم لا يستطيعون إطلاق الرصاص على كل هؤلاء الضبَّاط وإبدالهم بضباط جُدُد.» لكن قِصَر الوقت الشديد لم يكن يسمح باتخاذ أي إجراءات مُتطرفة؛ ومن ثم خاض سريعًا هذه المجادلات التافهة، واستعان بشخص، ربما كان ناظر المحطة أو ربما لم يكن، أتى به من مخبأ غامض، وسار في أرجاء المحطة في صحبته وراح يُملي الأوامر باسمه، ثم غادر المحطة والقطار يحمل على متنِه كل الركَّاب وكل الأمتعة قبل أن يتنبَّه ناظر المحطة إلى الانتهاكات التي خرق بها أكثر القواعد واللوائح قُدسية.
قال كبير مسئولي المحطة وهو يُربِّت على ذراعه التي كان كُوسَار مُتشبثًا بها، مبتسمًا وحاجباه مُنعقدان: «من كان هذا؟»
فأجابه أحد العتَّالين: «كان من النبلاء يا سيدي على أي حال. لقد رحل هو وكل من معه على متن الدرجة الأولى.»
فقال كبير مسئولي المحطة وهو على ذراعه شاعرًا بما يُشبه الرضا: «حسنًا. لقد أنزلناه من متن القطار هو وأمتعته بخشونة بالغة — أيًّا من كان.»
وفيما هو يسير ببطءٍ عائدًا إلى مُعتزَله الفخم الذي يحتمي داخله كبار المسئولين في تشارينج كروس من إزعاج السُّوقة ولجاجتهم، وهو يطرف بعينيه تحت ضوء النهار الذي لم يعتدْه، ظلَّت ابتسامته مُرتسمة على وجهه من أثر الطاقة غير المألوفة التي شعر بها؛ كشف له ما حدث عمَّا يتمتع به من إمكانيات، وهو كشْفٌ أشعرَه بالرضا والسرور، بالرغم من أن ذراعه كانت تُعاني التيبُّس. تمنَّى لو كان بعض هؤلاء الملعونين الذين ينتقدون إدارة السكك الحديدية وهم جالسون على الأرائك؛ حاضرًا ليرى ما أنجز.
٤
بحلول الساعة الخامسة مساءً من ذلك اليوم، كان كُوسَار المُذهِل قد جلب من آرشوت كل الأغراض اللازمة لحربه ضد الكائنات العملاقة، مُتجهًا بها إلى هيكليبراو. وصل من لندن برميلان من الكيروسين وكمية كبيرة من الأغصان الجافة كان قد ابتاعها في آرشوت كما وصل الكثير من جوالات الكبريت وثماني بنادق صيد كبيرة وذخيرتها وثلاث بنادق خفيفة تُملأ من مُؤخرتها مع ذخيرة من الطلقات النارية الصغيرة من أجل الدبابير، وفأس ومنجلان ومِعوَل وثلاثةُ جواريف وبكرتان من الحبال، وبعض زجاجات الجعة والصودا والويسكي ومائة وأربع وأربعون عبوةً تحوي سُمَّ فئران، وبعض الأطعمة الباردة التي تكفي لثلاثة أيام. كل هذه الأشياء بعثها كُوسَار بطريقةٍ عملية منظمة على متن اثنتَين من عربات نقل الفحم والتِّبن، عدا البنادق والذخيرة فقد حشرهما أسفل مقعد عربةٍ صغيرة تابعة لشركة ريد ليون كُلِّفت بإحضار ريدوود والرجال الخمسة المُختارين الذين قدموا من إيلينج بناءً على استدعاء كُوسَار.
اتَّخذ كُوسَار كل هذه الإجراءات بسلاسةٍ تامَّة وكأنها إجراءات طبيعية، رغم أن آرشوت كانت تعيش في فزَعٍ بسبب الفئران وكان لا بدَّ من دفع مبالغ إضافية للسائقين. جميع محالِّ البلدة كانت مغلقة والشوارع شِبه خالية من المارة. ولمَّا دقَّ كُوسَار أبواب المنازل، كانت تُفتَح نوافذها، لكن بدا أن كُوسَار اعتبر عقد الصفقات عبر النوافذ وسيلةً مشروعة وبديهية تمامًا. استقلَّ هو وبانزنجتن في نهاية الأمر عربة شركة ريد ليون الصغيرة وانطلقا بها ليلحقا بالأمتعة التي بعثها كُوسَار. نظرًا لأنهما انطلقا بعد تقاطع الطرق بقليل، فقد أمكنهم الوصول إلى هيكليبراو أولًا.
تبلورت في نفس بانزنجتن، وهو يجلس إلى جانب كُوسَار واضعًا بندقية بين ركبتَيه، دهشةٌ طال أمدُها. كان كل ما يفعلانه بلا شكٍّ — كما أكَّد كُوسَار — هو البديهي، ليس إلا! وفي إنجلترا نادرًا ما يفعل المرء ما هو بديهي. تتبَّع بنظراته كُوسَار الجالس إلى جواره، بدءًا من رِجليه إلى كفَّيه القابضتَين بجرأة على زمام الخيل. كان من الواضح أن كُوسَار لم يقُدْ عربةً من قبل؛ لذا آثر السلامة ولزم منتصف الطريق مُستعينًا بضوء مصباحٍ له كان بلا شك واضحًا لكنه قطعًا غير مُعتاد.
فكَّر بانزنجتن: «لماذا لا يفعل جميعنا ما هو بديهي؟ يا لها من نقلة سيمضي إليها العالم لو فعلنا هذا! أتساءل على سبيل المثال لماذا لا أفعل الكثير من تلك الأشياء التي أعلم أنه لا بأس من فعلها — الأشياء التي أودُّ فعلها. هل الجميع كذلك، أم أن تلك هي حالي أنا فقط!» استغرق في تأمُّلات مُحيِّرة عن مفهوم الإرادة وفكر في العبثيَّات المُعقدة والمنظمة التي نُمارسها في حياتنا اليومية، وفي المقابل، الأشياء الواضحة والبديهية، والسارَّة الرائعة التي يمكن فعلها، والتي لن تسمح بفعلها أبدًا بعض المؤثرات المُستعصية على الفهم. ماذا عن ابنة العمِّ جين؟ رأى بانزنجتن أنها تلعب دورًا هامًّا في المسألة، على نحوٍ خفي ومعقد نوعًا ما. لِمَ عليه، برغم كل شيء، أن يأكل وينام ويشرب ويظلَّ أعزب ويذهب إلى مكانٍ ما ويمتنع عن الذهاب إلى آخر مُراعاةً لرغبات ابنة العمِّ جين؟ لقد أصبحَتْ جين رمزًا لشيءٍ ما لم يفهمه قط!
لفت انتباهه مرقًى لعبور سور وممر بين الحقول ذكَّره بذاك اليوم المشرق، القريب زمانًا، البعيد حالًا، عندما سار من آرشوت إلى مزرعة التجارب ليرى الأفراخ العملاقة.
القَدَر يلعب معنا.
قال كُوسَار: «بانزنجتن، بانزنجتن. انهض.»
كان الجوُّ حارًّا عصر هذا اليوم؛ فقد سكنت الرياح تمامًا، وغطت الشوارع طبقةٌ سميكة من الأتربة. لم يكن هناك إلا القليل من الأشخاص بالجوار، فيما كانت الأيائل ترعى خلْف سياج المُتنزَّه في سكينةٍ تامة. رأى بانزنجتن وكُوسَار زوجَين من الدبابير العملاقة خارج هيكليبراو ينزعان عن أجمةِ مشمشٍ أوراقها، ودبورًا آخر يتسلق واجهة مَتجر بقالة صغير بشارع القرية صعودًا وهبوطًا مُحاولًا العثور على منفذٍ إليه. كان البقَّال ظاهرًا بالكاد للعيان داخل المتجر وهو يُمسك ببندقية صيد طيور عتيقة في يده ويُراقب محاولات الدبور الحثيثة. أوقف سائق عربة الذخيرة الصغيرة عربته خارج نزل جولي دروفرز وأخبر ريدوود بأن دوره في الصفقة قد انتهى. وفي غمرة هذا الجدَل الذي شبَّ انضمَّ إليه على الفور سائق عربة الفحم وسائق عربة التِّبن، ولم يُصرُّوا على موقفهم وحسب، بل رفضوا أيضًا أن يسمحوا لهما باصطحاب الجياد أبعدَ من ذلك.
ظلَّ سائق عربة الفحم يُردد: «هذه الفئران الكبيرة تعشق لحم الجياد.»
فتأمَّل كُوسَار هذا الجدال للحظة.
ثم قال: «أخرجوا ما بالعربة الصغيرة.» فأطاعه واحدٌ من رجاله، وكان مهندسًا طويلًا أشقر رثَّ الهيئة.
قال له كُوسَار: «أعطني هذه البندقية.»
ثم وقف بين السائقين وقال: «لا نريدكم أن تقودوا لنا العربات.»
ثم قال مُسلِّمًا بالأمر: «بإمكانكم أن تقولوا ما تشاءون، لكننا نريد هذه الجياد.»
فأخذوا في التجادُل، لكنه واصل حديثه.
«إنْ حاولتم الاعتداء علينا سأطلق الرصاص على أرجُلكم دفاعًا عن النفس. ستمضي الجياد قدمًا.»
تعامل كُوسَار مع الأمر باعتباره قد حُسِم، فقال لرجلٍ غليظ البِنية مفتول العضلات: «اصعد العربة يا فلاك.» ثم أردف: «خُذ عربة الفحم يا بون.»
صاح السائقان في ريدوود مُتوعِّدَين.
قال ريدوود: «لقد أدَّيْتم واجبكم نحو من استأجرَكم. امكُثُوا بهذه القرية إلى أن نعود. لن يلومكم أحدٌ. بما أننا نحمل الأسلحة، لا ننوي ارتكاب أي فعل جائر أو عنيف، لكن هذه مسألة مُلحَّة. سأتكفَّل بدفع التكاليف إنْ لحِق بالجياد مكروه، فلا تخشَوا شيئًا مُطلقًا.»
فأردفَ كُوسَار الذي كان نادرًا ما يُقدِّم وعودًا: «لا بأس.»
تركوا عربة الذخيرة خلفهم وسار كل من لا يقود عربة على قدميه، وقد حمل كل رجلٍ على كتِفِه بندقية. كانت تلك أغرب رحلة استكشافية صغيرة يشهدها طريق وسط الريف الإنجليزي؛ كانت أشبهَ برحلةٍ يقوم بها بعض أبناء الشمال الأمريكي في أيام قبائل الهنود الحمر الخوالي.
ساروا قُدمًا إلى أن بلغوا قمَّة التل بجوار السور ورأَوْا على مرمى البصر مزرعة التجارب، حيث وجدوا مجموعةً صغيرة من الرجال يحملون البنادق أو ما شابهها — ومن بينهم السيد فولتشر الأكبر وفولتشر الأصغر — ورجُلًا غريبًا من ميدستون يقف أمام الباقين وهو يتأمَّل المزرعة عبر منظار.
التفت هؤلاء الرجال وحدَّقوا في مجموعة ريدوود.
سألهم كُوسَار: «هل من جديد؟»
فأجابه فولتشر الأكبر: «ما تزال الدبابير تغدو وتروح. لا يسعُنا أن نرى إن كانت تجلب شيئًا.»
ثم قال الرجل المُمسك بالمنظار: «نبات الكناري الزاحف صار بين الأشجار الصنوبرية الآن. لم يكن هناك هذا الصباح. بإمكانك أن تلحظ نموَّه أثناء مُشاهدته.»
ثم أخرج منديلًا ومسح عدسات منظاره بعنايةٍ شديدة.
غامر سكيلمرزديل قائلًا: «أظنُّكم ستهبطون إلى هناك.»
فقال كُوسَار: «هل ستأتي معنا؟»
فبدا على سكيلمرزديل التردُّد.
فأردف كُوسَار: «إنها مهمة تمتدُّ طوال الليل.»
فقرر سكيلمرزديل ألا يذهب.
تساءل كُوسَار: «هل هناك فئران بالجوار؟»
فأجابته المجموعة: «نعتقد أنَّ أحدها صعد إلى الغابة الصنوبرية هذا الصباح، يصطاد الأرانب حسبما نظن.»
أسرع كُوسَار ليلحق بمجموعته.
لمَّا نظر بانزنجتن إلى مزرعة التجارب التي يمتلكها، أمكنه أن يُدرك قوة فاعلية طعام الآلهة. كان انطباعه الأول هو أنَّ المنزل بدا أصغر كثيرًا مما كان يحسب. وبعدَها شعَر أن النباتات الواقعة بين المنزل والغابة الصنوبرية قد غدَتْ جميعها في غاية الضخامة، حتى إن السقيفة القائمة فوق البئر ظهرت على استحياء من بين كُتَلٍ كثيفة من الحشائش بلغ طُولها ثماني أقدام. بالنسبة إلى نبات الكناري الزاحف، فقد التفَّ حول مدخنة المنزل وراح يُلوِّح بمحاليقه القاسية نحو السماء. كانت زهوره تبدو كبُقَع صفراء فاقعة، برزت بوضوحٍ كنقاط مُستقلة على امتداد الميل الذي فصل بينهم وبين المزرعة. لمح بانزنجتن ذراعًا خضراء غليظة تتلوَّى عبر السور الشائك الكبير الذي يُطوِّق حظيرة الدجاج العملاق دافعةً بسيقانٍ مُورِقة مُلتفَّة حول شجرتَي صنوبر عظيمتين. نما أيضًا بُستان من نباتات القراص، لا يقلُّ طولها عن أربع أقدام، وقد امتدَّت مُطوقةً السقيفة التي تُخزَّن بها عربات الخيل. مع اقترابهم من المزرعة، بدا المشهد أكثر فأكثر وكأنه هجوم لمجموعةٍ من الأقزام على بيتٍ للدُّمى تُرِك في ركن مهجور من حديقة شاسعة.
لاحظوا حركة الدبابير الدءوبة جيئةً وذهابًا من عُشِّها وقد تداخلت ظلالها السوداء وهي تطير أسرابًا في الهواء فوق التل البُنِّي الضارب إلى الحمرة خلف أشجار الصنوبر، بينما يندفع بين الفينة والفينة واحد منها في السماء بسرعة رهيبة ليُحلق بعيدًا خلف فريسةٍ ما. تنامى صوت طنينها إلى أن أصبح مسموعًا على بُعد أكثر من نصف ميل من المزرعة. فوجئ كُوسَار ورجاله بدبور ذي خطوطٍ صفراء يهبط دانيًا منهم ثُمَّ يرفرف في الهواء لبرهة وهو يتأمَّلهم بعينَيه الكبيرتين المُركبتَين، لكنه سرعان ما اندفع مبتعدًا لما أطلق كُوسَار طلقة لم تُصبه. في ركن أقصى يمين المزرعة، راحت عدة دبابير تزحف حول بعض العظام البالية التي كانت على الأرجح بقايا لحمَلٍ جلبته الفئران من مزرعة هاكستر. اضطربت الجياد وهي تقترِب من تلك الكائنات. ولمَّا لم يكن أي من الرجال خبيرًا في ركوب الخيل، اضطروا إلى تكليف رجل بقيادة كل حصان وتشجيعه بصوته.
لم يجدوا أثرًا للفئران وهم يتَّجهون صوب المنزل، وخيَّم السكون تمامًا على كل شيء فلم يُسمع سوى طنين الدبابير من أعشاشها وهو يعلو وينخفض.
قاد الرجال جيادَهم إلى فناء المنزل، ولمَّا رأى أحد رجال كُوسَار باب المنزل وقد نُخِر الجزء الأوسط منه دلف منه إلى الداخل. لم يلحظ أحد غيابه حينها؛ إذ كانوا مُنشغلين ببراميل الكيروسين، وأول ما نبَّههم إلى غيابه كان صوت بندقيته وأزيز رصاصته. طاخ! طاخ! دوى الرصاص من كلتا ماسورتَي بندقيته واخترقت رصاصته الأولى على ما يبدو برميل الكبريت الخشبي فحطَّمَت إحدى قوائمه من الناحية الأخرى منه وملأت الهواء بغبارٍ أصفر. كان ريدوود بدَوره قد أبقى سلاحه في يده وأطلق الرصاص على شيءٍ رمادي اللون قفز بجواره؛ لمح ساقًا خلفيةً كبيرة، وذيلًا حرشفيًّا طويلًا وباطن قدمَين خلفيتَين طويلتَين لفأر، فأطلق رصاص ماسورة بندقيته الثانية، ورأى بانزنجتن يهوي والفأر يختفي في إحدى زوايا المكان.
انشغل الجميع لبُرهة ببنادقهم، ولثلاث دقائق بدا ثمن الأرواح بخسًا بمزرعة التجارب، وملأ صوت دويِّ البنادق الهواء. هُرِع ريدوود في غمرة حماسته خلف الفأر غير مُبالٍ بما أصاب بانزنجتن، فارتطم رأسه في كَومةٍ من الطوب المتكسِّر والمِلاط والجبس وألواح خشبية متكسرة ومتعفنة اندفعت نحوَه مع اختراق رصاصة للجدار.
وجد نفسه يجلس على الأرض والدماء تُغطي يديه وشفتَيه، وقد أطبق صمتٌ شديد على كلِّ ما حوله.
بعدها علا صوتٌ رتيب من داخل المنزل: «يا للهول!»
فنادى ريدوود: «مرحبًا!»
فأجاب الصوت: «مرحبًا بك!»
ثم أردف: «هل نِلتُم منه يا رفاق؟»
هنا تنبَّه ريدوود إلى ما تُحتِّمه عليه صداقته لبانزنجتن، فسأل: «هل تأذَّى السيد بانزنجتن؟»
لم يسمعه الرجل الذي بداخل المنزل جيدًا، لكنه قال: «إن كان هناك مَلوم فهو أنا وحدي.»
اتَّضح لريدوود أنه قد أصاب بانزنجتن بلا شك، فتناسى جراح وجهه ونهض عائدًا إلى بانزنجتن ليجده جالسًا على الأرض يمسح كتِفِه، فتطلَّع إليه الأخير من خلف نظارته وقال: «لقد أمطرناه بالرصاص يا ريدوود.» ثم أردف: «لقد حاول أن يقفز عليَّ، وطرَحَني أرضًا، لكنني أصبتُه بكلتا ماسورتَي بندقيتي. يا إلهي! كم آذى هذا كَتِفي حقًّا!»
ظهر رجل عند مدخل المنزل وقال: «لقد أصبتُه مرة في صدره ومرة أخرى في جنبه.»
فسأل كُوسَار وهو يبرُز من وسط دغلٍ من أوراق الكناري الزاحف العملاقة: «أين العربات؟»
اتضح بادئ ذي بدء — وهو ما أدهش ريدوود — أن أحدًا لم يُصَب، وثانيًا أن عربة الفحم وعربة التِّبن قد تحرَّكتا خمسين ياردة، وصارتا تقفان وقد تشابكت عجلاتهما بين متاهات حديقة خضراوات سكينر المُتشابكة. كانت الجياد قد توقَّفت عن الوثْب وأمامهم برميل الكبريت الذي انفجر مطروحًا على الأرض وتعلوه سحابة من الغبار. أشار ريدوود إلى كُوسَار بهذا وسار نحوَ البرميل، فصاح الأخير وهو يتبعه: «هل رأى أحدكم هذا الفأر؟ لقد أصبتُه بين ضلوعه مرة ومرة في وجهه وهو يستدير نحوي.»
انضمَّ إليهما رجلان فيما هما يقفان عند عجلات العربات المتشابكة يُحاولان إصلاحها.
قال أحدهما: «لقد قتلتُ هذا الفأر.»
فسأل كُوسَار: «هل عثروا على جُثَّته؟»
فأجاب الرجل: «جيم بيتس عثر عليه خلف السياج. أرديتُه وهو ينعطف عند الركن بالضبط … أصبته خلف كَتِفِه …»
عندما صفَتِ الأجواء قليلًا عاد ريدوود وحدَّق في جثة ذلك المسخ الضخمة. كان الفأر مُمددًا على جانبه وجسده مُنحنٍ قليلًا، وأسنانه القارضة التي تبرُز من فكِّه السُّفلي المتراجع إلى الخلف جعلت وجهه يُوحي بالوهن الشديد والفتور. لم يبدُ على الإطلاق متوحشًا أو مُخيفًا. ذكَّرتْ يداه الأماميتان ريدوود بأكُفِّ الفقراء الهزيلة الضاوية. لم يُصَب الفأر إلا بثقبٍ صغير مُستدير ذي حافة مُحترقة على كلا جانبي رقبته. فكَّر ريدوود في هذا لبعض الوقت ثم قال آخِر الأمر وهو ينصرف: «لابد أنه كان هناك فأران.»
فقال أحدهم: «أجل، والفأر الذي أصبناه جميعًا فر.»
فقال آخر: «أنا مُوقن من أن رصاصتي …»
في الوقت نفسه انحنى نحوَ رقبته أحدُ محاليق نبات الكناري الزاحف، في بحثه الغامض عن شيء يتشبَّث به، مما جعل الرجل يبتعد بسرعة.
وتنامى طنين من عش الدبابير البعيد: «هووززززززززز، هووززززززززز.»
٥
تركت هذه الواقعة الجمْعَ في حالةٍ من الترقب، لكنهم حافظوا على رَباطة جأشِهم.
أدخلوا أغراضهم إلى المنزل الذي خرَّبتْه الفئران بعد فرار السيدة سكينر، واقتاد أربعةٌ من الرجال الحصانين عائدين إلى هيكليبراو. سحب الرجال الفأر الميِّت عبر السياج إلى موضعٍ تطلُّ عليه نوافذ المنزل، وصادفوا في طريقهم مجموعة من حشرات أبي مقص العملاقة في مصرف المزرعة. انتشرت هذه الحشرات سريعًا لكن كُوسَار أدرك عددًا لا يُحصى منها واستطاع أن يقتل العديد منها بحذائه ومُؤخرة بندقيته. شقَّ بعدَها رجلان طريقهما وهما يبتران العديد من سيقان نبات الكناري الزاحف — سيقان أسطوانية ضخمة يبلغ قطرها قدمَين وقد برزت بالقُرب من البالوعة في الخلف. وفيما كان كُوسَار يُهيئ المنزل للمبيت به ليلًا، جال بانزنجتن وريدوود وأحد مساعدي الكهربائي بحذَرٍ بالقرب من حظائر الدجاج بحثًا عن جحور الفئران.
داروا عن بُعد حول نباتات القراص العملاقة، فقد كانوا عرضةً للوَخْز بأشواكها السامَّة التي بلغ طول الواحدة منها بوصة كاملة. وما إن عبروا المرقى المنخور والمُحطَّم حتى فوجئوا بمنفذٍ كبير عميق يؤدي إلى جُحر للفئران العملاقة واقع أقصى غرب المزرعة. انبعثت من جوفه السحيق رائحة نتنة دفعتهم إلى الاصطفاف معًا.
قال ريدوود وهو ينظر إلى السقيفة التي تعلو بئر المزرعة: «آمل أن تخرج.»
فقال بانزنجتن وقد بدا عليه الاستغراق في التفكير: «إن لم تفعل …»
فاستغرق الجميع في التفكير لبرهة.
فبادر ريدوود قائلًا: «سيتعيَّن علينا أن نصنع وهَجًا إذا دخلنا.»
سلكوا طريقًا قصيرًا تفترشه الرمال البيضاء عبر الغابة الصنوبرية، ثم سرعان ما توقَّفوا وجحور الدبابير على مرمى أبصارهم.
كانت الشمس بحلول هذا الوقت تغرُب، وطفقت الدبابير تعود إلى أعشاشها لتمكُث بها وأجنحتها ترفرف تحت ضوء الشمس الذهبي صانعة هالات دوارة حولها. أمعن الرجال الثلاثة النظر من تحت الأشجار— إذ لم يريدوا التوجُّه مباشرة إلى أطراف الغابة — وشاهدوا تلك الحشرات الهائلة تهبط وتزحف لبرهة ثم تدخل إلى أعشاشها وتختفي داخلها. قال ريدوود: «ستسكُن الدبابير في غضون ساعتَين من الآن … وكأنَّني عُدت إلى الصبا من جديد.»
قال بانزنجتن: «علينا ألَّا نفقد أثر تلك الجحور، حتى إنْ حلَّ الظلام، بالمناسبة، فيما يتعلق بهذا الضوء.»
فقال الكهربائي: «القمر مُكتمل الليلة. لقد تحرَّيتُ الأمر.»
عادوا وتشاوروا في الأمر مع كُوسَار.
قال كُوسَار إنه من البديهي أنَّ عليهم جلب الكبريت ونترات البوتاسيوم والجص الباريسي عبر الغابة قبل مَغيب الشمس؛ ومن ثمَّ أنزلوا حمولاتهم على دفعاتٍ وحملوا الجوالات. بعد أن تصايَحوا ليُخبروا بعضهم بخطِّ سيرهم، لم ينبسوا بكلمة، وبعدما خفَتَ صوت الدبابير، بدا العالم مُغرقًا في سكونٍ تامٍّ لم يقطعه إلا وقْع أقدامهم، وأنفاسهم اللاهثة، وصوت ارتطام أحمالهم. تناوبوا الأدوار في حمل تلك الجوالات عدا بانزنجتن الذي كان من الواضح أنه غير مُلائم لهذه المهمة؛ لذا فقد اتَّخذ موقعه في غرفة نوم آل سكينر حاملًا بندقية ليراقِب جثة الفأر الميت. أما الباقون فتناوبوا الأدوار في حمل الأحمال ومراقبة جحور الفئران أزواجًا من خلف دغل نباتات القراص. كانت أكياس لقاح نبات القراص قد نضِجَت، وكان القائمون على الحراسة الليلية يفاجَئُون بين الفينة والأخرى بصوتِ تفجُّر هذه الأكياس، والذي يُشبه بالضبط صوت فرقعة الرصاص، وتساقُط حبَّات لقاح بحجم طلقات الرصاص مُطقطِقة على الأرض من حولهم.
جلس السيد بانزنجتن قُرب النافذة على مقعدٍ ذي ذراعين مَحشوٍّ بشَعر الخيل، يُغطي ظهره غطاءٌ مُتسخ أضفى لسنواتٍ لمسةً من الرُّقي الاجتماعي على غرفة جلوس آل سكينر. ظلت بندقيته غير المألوفة بالنسبة إليه مُستندةً إلى النافذة وراح يتأمَّل بنظارته جثة الفأر الميت الداكنة تحت ضوء الغسَق الداكن حينًا ويجُول بنظره متأملًا ما حوله في فضول حينًا آخر. انبعثت من الخارج رائحة كيروسين خفيفة؛ إذ تسرَّب بعضٌ منه من أحد البراميل، واختلطت برائحة ليست كريهة بالقدْر نفسه انبعثت من أجزاءٍ مَبتورة ومُهشمة من نبات الكناري الزاحف.
عندما أدار بانزنجتن رأسه داعبَ أنفَه خليط من الروائح المنزلية الخافتة؛ جعة وجبن وتفاح مُتعفن وحذاء قديم، كلها تفوح بذكريات آل سكينر المُختفين. تأمَّل الغرفة المعتمة بحثًا عن فراغ. كانت قِطَع الأثاث مُبعثرةً تمامًا — ربما بفعل فأر فضولي — لكنَّ معطفًا على شماعة فوق الباب وموسًى وبعض قصاصات الورق المُهترئة وقطعة من الصابون التي تحجَّرت بفعل سنوات من عدم الاستعمال فتحولت إلى مُكعب صُلب، تفوح جميعها بشخصية سكينر المميزة. خطر ببال بانزنجتن خاطر لم يُساوِره من قبل قط؛ لقد قُتِلَ الرجل وأُكِل على الأرجح، بعضه على الأقل، على يد الوحْش الذي يرقد الآن ميتًا في الظلام.
وفكَّر في كل تلك التَّبِعات التي قد يُسفر عنها اكتشافٌ كيميائي يبدو في ظاهره غير ضار!
فقد كان في وطنه إنجلترا لكن يُحدِق به خطر لا يعلم مداه، يجلس وحيدًا مُمسكًا ببندقية في منزلٍ مُظلم مُحطَّم، بعيدًا عن كل أسباب الراحة، وكتفه مُتورمة بشدَّة بسبب ارتداد البندقية فجأة و… يا إلهي!
استوعب الآن كيف تغيَّر نظام الكون تغيرًا جذريًّا بالنسبة إليه. وها قد أتي من فَوره ليشهدَ هذه التجربة العجيبة دون أن يتفوَّه بكلمة لابنةِ عمِّه جين!
ماذا عساها أن تظنَّ به؟
حاول بانزنجتن أن يتصوَّر لكن لم يستطع. لقد استولى عليه إحساس غريب بأنهما قد افترقا إلى الأبد ولن يلتقِيا ثانية أبدًا. شعر أنه اتَّخذ خطوة أدخلته إلى عالمٍ ذي أبعادٍ جسيمة لا عهد له بها. أيُّ وحوش أخرى قد تتكشَّف عنها هذه الظلال المُوغلة في الظلمة؟ برزت أطراف نبات القراص العملاق بِحدَّتها ولونها الأسود في مقابل سماء الغروب بلونَيها الأخضر والكهرماني الباهتَين. كان كلُّ شيء ساكنًا تمامًا؛ ساكنًا تمامًا بالفعل. تساءَل بانزنجتن لِمَ لَا يسمع أصوات رفاقه في الناحية الأخرى من المنزل؟ استحالت الظلال داخل سقيفة العربات ظلمةً حالكة الآن.
•••
طاخ … طاخ … طاخ.
سُمِع دويٌّ وصراخ.
ثم ساد صمتٌ طويل.
ثم دويٌّ وأصداء خفتَتْ تدريجيًّا.
ثم سكون.
بعدها، ولحُسن الحظ، خرج ريدوود وكُوسَار من الظلام الدامس بينما كان ريدوود يصيح: «بانزنجتن!»
«بانزنجتن! لقد أوقعْنا بفأرٍ آخر!»
«لقد قَتل كُوسَار فأرًا آخر!»
٦
عندما انتهت الحَملة من أخْذ قسطها من الراحة، كان الليل قد أرخى سُدوله كاملةً. كانت النجوم في ألمع حالاتها، وتنامى شحوبٌ في السماء صَوب بلدةِ هانكي إيذانًا بقُرب سطوع القمر. ظل الرجال يراقبون جُحور الفئران، لكنهم انتقلوا إلى مُنحدر التلِّ الذي يعلو الجحور باعتباره مَوقعًا أكثر أمانًا لإطلاق النار. جلسَ القائمون على الحراسة القرفصاء وسط الندى الكثيف، يُقاومون الرطوبة بشُرب الويسكي، أما الباقون فمكثوا داخل المنزل، وناقش القادةُ الثلاثُ المهامَّ الليلية مع الرجال. ارتفع القمر بحلول منتصف الليل، وما إن علا مُبتعدًا عن التلال حتى انطلقوا، عدا حرَّاس جحور الفئران، في صفٍّ واحد بقيادة كُوسَار مُتوجِّهين نحو وكر الدبابير.
فيما يتعلق بوكر الدبابير، وجدت المجموعة مهمتها سهلةً بصورة استثنائية — سهلة على نحوٍ مدهش. فبِخلاف أنَّ الأمر تطلب وقتًا أطول، لم يكن الوكر يفُوق في خطورته أيَّ وكرٍ عادي آخر. كان ثَمَّ خطرٌ يهدد الحياة بلا شك، لكنه لم يُطلِل برأسه أبدًا من جانب ذلك التل الضخم. شرع الرجال في حشوِ الوكر بالكبريت والنترات وسدُّوا الفتحات تمامًا، وأشعلوا فتيل البارود، ثم استدار الجميع عدا كُوسَار وركضوا مُتجاوزين ظلال أشجار الصنوبر الطويلة، وبعد أن وجدوا كُوسَار واقفًا لم يتحرك توقفوا جميعًا على بُعد مائة ياردة، قُرب خندق يوفر الحماية. عجَّت الليلة القمرية المضيئة، التي سادها اللونان الأبيض والأسود، لدقيقةٍ أو اثنتَين بأزيز الدبابير المُختنقة الذي تعالى ليتحوَّل إلى زئيرٍ عميق بلغ ذُروته ثُم تلاشى، ثم عادت الليلة ساكنة وكأنَّ شيئًا لم يكن.
قال بانزنجتن فيما يُشبه الهمس: «يا إلهي! لقد تم الأمر!»
وقف الجميع في ترقُّب. وبدا جانب التلِّ أعلى ظلال أشجار الصنوبر مُضيئًا كما النهار وشاحبًا كما الجليد. ولمع الجصُّ الموضوع في الفتحات بشدة. رأوا ظلَّ كُوسَار مُقبلًا نحوَهم.
ابتدر كُوسَار قائلًا: «إلى الآن …»
كراك … طاخ!
سُمِع دويُّ طلقٍ ناري من مكانٍ قريب من المنزل ثم عاد الهدوء.
تساءل بانزنجتن: «ما هذا؟»
ردَّ أحد الرجال مقترحًا: «أخرج أحد الفئران رأسه.»
قال ريدوود: «بالمناسبة لقد تركْنا بنادقنا هناك.»
«بجانب الجِوالات.»
بدأ الجميع يسيرون باتجاه التلِّ من جديد.
قال بانزنجتن: «إنها الفئران بالتأكيد.»
قال كُوسَار وهو يعَضُّ أظافره: «على ما يبدو.»
طاخ!
قال أحد الرجال «مرحبًا!»
وفجأة سُمعت صيحة، وطلقتان ناريَّتان؛ صيحة عالية تكاد تكون صراخًا، وثلاث طلقات في تتابُعٍ سريع وتحطم لوح خشبي. كل هذه الأصوات كانت واضحةً تمامًا وصغيرة جدًّا بالنسبة إلى هدوء الليل. ثم مرَّت بضع لحظات لم يُسمع خلالها إلا ضجيجٌ مكتوم ناحية جُحور الفئران، ثم سُمعت صيحة هائجة مرة أخرى … لم يشعر الرجال بأنفسهم إلا وهم يُهرعون نحوَ بنادقهم.
سُمعت طلقتان ناريَّتان.
ووجد بانزنجتن نفسه مُمسكًا بالبندقية يجري مُسرعًا عبر أشجار الصنوبر بعد التقهقُر عدَّة مرات. الغريب أن الفكرة التي سيطرت على عقله حينها هي الرغبة في أن تراه ابنة عمِّه جين. انطلق حذاؤه المشقوق المُنتفخ في خطواتٍ جامحة، وكان وجهه قد ارتسمتْ عليه بسمة دائمة؛ إذ ساعدت هذه الابتسامة على تجعُّد أنفه وثَبات نظارته في مكانها. وجَّه بانزنجتن فوهة بندقيته إلى الأمام وهو يركض تحت ضوء القمر. بينما هم يركضون قابلَهم الرجل الذي هرب وهو يُهرع بأقصى سرعة، وكان قد ألقى بندقيته.
بادَرَه كُوسَار وهو يتلقَّاه بين ذراعَيه: «مرحبًا. ما هذا؟»
ردَّ الرجل: «لقد خرجت معًا.»
«الفئران؟»
«نعم، ستَّة منها.»
«أين فلاك؟»
«أُصيب.»
أقبل بانزنجتن لاهثًا وسأل كُوسَار: «ماذا قال؟»
«أُصيب فلاك؟»
«لقد سقط.»
«لقد خرجت واحدًا تلوَ الآخر.»
«ماذا؟»
«لقد أقبلت مُسرِعة. أطلقتُ كلتا الطلقتَين أولًا.»
«تركتَ فلاك؟»
«لقد هاجمتنا.»
ردَّ كُوسَار: «تعال. تعال معنا. أين فلاك؟ أرِنا.»
تقدَّمَت المجموعة كلها إلى الأمام، وأخذ الرجل الهارب يقصُّ المزيد من تفاصيل الهجوم، فتجمَّع الآخرون حوله إلا كُوسَار، فقد مضى قُدمًا.
«أين هي؟»
«ربما عادت إلى جُحورها. لقد هربتُ في البداية، ثم انطلقتُ نحو جحورها.»
«ماذا تعني؟ هل تعقَّبتمُوها؟»
«لقد دَنَونا من جُحورها ورأيناها تخرج فحاولنا مُحاصرتها. كانت تثب كالأرانب، فركضْنا وأطلقنا عليها نيران بنادقنا، فهاجت وماجت وراحت تركض في كل مكانٍ بعد أول طلقة، ثم توجَّهت نحوَنا فجأة. لقد حملت علينا حملةً شرسة.»
«كم عددها؟»
«ستَّة أو سبعة.»
قاد كُوسَار المسير إلى حدود غابة الصنوبر وتوقَّف.
سأل أحدهم: «أتعني أنها قتلت فلاك؟»
«كان أحدُها يُطارده.»
«ألم تُطلق النار؟»
«وكيف عساني أن أفعل ذلك؟»
ردَّ كُوسَار مُلتفتًا إليهم: «كلُّ الأسلحة مُعمَّرة؟»
سرَتْ بينهم إيماءة دالَّة على الإيجاب.
قال أحدهم: «لكن فلاك …»
وقال آخر: «أتعني أن … فلاك …»
قال كُوسَار مُقاطعًا: «لا وقتَ لنُضيعه.» ثم صاح مُناديًا: «فلاك!» وهو يقود المسير. تقدَّمَت القوة كلها باتجاه الجُحور، وبقِيَ الرجل الهارب قرب المؤخرة بقليل. تقدَّموا عبر الحشائش الكريهة الرائحة المُفرطة الضخامة مارِّين بجسد فأرٍ نافق آخر. اصطفَّ الرجال في صفٍّ مُنحنٍ، وكل منهم يُصوِّب بندقيته إلى الأمام، وبحثوا حولهم في ضوء القمر الساطع عن أيِّ جسدٍ مُكوَّم ينذر بالشؤم، عن أي جسد جاثم. لم يجدوا إلا بندقية الرجل الذي هرب إليهم سريعًا.
صاح كُوسَار مُناديًا: «فلاك! فلاك!»
تطوَّع الرجل الهارب قائلًا: «لقد ركض مُتجاوزًا نبات القراص ثم سقط.»
«أين؟»
«هناك تقريبًا.»
«أين سقط؟»
تردَّد ثم قادهم عبر الظلال لبرهة ثم التفتَ وقال مُخمِّنًا: «هنا على ما أظن.»
«حسنًا، إنه ليس هنا الآن.»
«لكن بندقيته …؟»
ردَّ كُوسَار: «اللعنة! ما الذي حدث؟» وسار بضع خطوات باتجاه الظلال التي تُغطي الجحور على جانب التلِّ ووقف مُحدِّقًا، ثم تفوَّه بالسباب ثانيةً وقال: «إن كانت قد سحبته إلى الداخل …»
وقف الجمع يتبادلون أفكارًا غير مُكتملة، وراحت نظَّارة بانزنجتن تُومض كالألماس وهو ينتقِل بنظره من رجلٍ إلى آخر. تبدَّلت وجوه الرجال من الوضوح الجافِّ إلى الغموض المُبهَم وهي تلتفتُ باتجاه القمر أو تتحوَّل عنه. تحدَّث الجميع، لكن لم يُكمل أحدهم جملة واحدة. ثم قطع كُوسَار هذه الحيرة وحسم أمره. راح يلوِّح بكفَّيه ويصدر أوامره. كان من الواضح أنه يحتاج إلى مصابيح. تحرَّك الجميع عدا كُوسَار نحو المنزل.
سأل ريدوود: «أستدخل إلى الجحور؟»
ردَّ كُوسَار: «بالطبع.»
كرَّر كُوسَار أوامره مرة أخرى بأن يُؤتى إليه بمصابيح عربة الخيل وعربة الفحم.
استوعبَ بانزنجتن ما قيل ثم انطلق على الطريق المُجاور للبئر. التفتَ ونظر خلفه فرأى كُوسَار بهيئته الضخمة يقف كما لو كان يتأمل الجحور بإمعان. توقف بانزنجتن لمَّا رأى ذلك لبرهة والتفتَ نصف التفافة. لقد كانوا جميعًا يتركون كُوسَار.
كان كُوسَار قادرًا على الاعتناء بنفسه، بالطبع!
عندَها لمح بانزنجتن شيئًا جعله يصيح: «انتبه!» وخلال ثانية ظهر ثلاثة فئران من بين أجمة الكناري الزاحف واتجهت صَوب كُوسَار. وقف كُوسَار لثلاث ثوانٍ غير مُدرك لوجودها، ثم انتبه بعدَها وانتابته فَورة من النشاط حتى يُخيَّل إليك أنه أنشط رجل في العالم. لم يطلق النار من بندقيته. من الواضح أنَّ الوقت لم يسمح له بالتصويب أو التفكير في التصويب؛ رآه بانزنجتن وهو يتفادى فأرًا مُنقضًّا ثم يضرب مُؤخرة رأسه بعَقِب بندقيته. قفز الوحش قفزةً واحدة وسقط صريعًا.
هوى جسد كُوسَار مُختفيًا عن الأنظار بين الحشائش الكثيفة، ثم نهض ثانيةً وجرى باتجاه فأرٍ آخر رافعًا بندقيته إلى الأعلى. التقطت أُذنا بانزنجتن صرخةً خافتة، ثم رأى الفأرين الباقِيَين يفرُّ كلٌّ منهما في اتجاه وكُوسَار يُطاردهما صوبَ الجحور.
كان الأمر كله يجري بين الظلال الضبابية؛ كان حجم الوحوش الثلاثة مُفرطًا وزائدًا عن الحجم الحقيقي نظرًا لخداع الضوء الساطع. بدا كُوسَار في بعض اللحظات عملاقًا وفي بعضها الآخر غيرَ مرئي، وكانت الفئران تمرُق أمام الناظر بقفزاتٍ غير متوقعة، أو تركض بسرعة فائقة وكأنها تجري على عجلات. انتهى الأمر في نصف دقيقة، ولم يشهدْه أحد سوى بانزنجتن. استطاع أن يسمع الآخرين من ورائه وهم يتقهقرون نحوَ المنزل، فصاح بشيءٍ غير مفهوم ثم جرى عائدًا إلى كُوسَار، بينما اختفَتِ الفئران.
وصل بانزنجتن إلى كُوسَار خارج الجحور، وكانت الظلال المُوزَّعة على وجه كُوسَار تحت ضوء القمر مُوحيةً بالسَّكينة. قال كُوسَار: «أهلًا. عدت بالفعل؟ أين المصابيح؟ لقد عادت جميعًا الآن إلى جحورها. كسرتُ عنق أحدها وهو يمرُّ بي … أترى؟ هناك!» وأشار بإصبع نحيلة.
أعجزَتِ الدهشة بانزنجتن عن الحديث.
بدا أن المصابيح استغرقت دهورًا لتصِل، وأخيرًا ظهرت؛ أولها كان مصباحًا مُضيئًا ذا وهَجٍ أصفر متقطع ثم ثبَتَ ضياؤه، تبِعه مصباحان يسطَعان بين الحين والآخر قبل أن يشتدَّ وهَجُهما ويثبُت. ومن حول المصابيح برزت أطياف ضئيلة خفيضة الصوت سرعان ما تحوَّلت إلى ظلالٍ ضخمة. ظهرت هذه المجموعة كما لو كانت جذوةً من نار فوق أرض الأحلام الشاسعة المُمتدَّة تحت نور القمر.
نادت الأصوات: «فلاك، فلاك.»
وجاء الردُّ معلنًا: «لقد حبس نفسه في العلية.»
أتى كُوسَار بما زاد من دهشة بانزنجتن؛ فقد أعدَّ كميات كبيرة من قِطع القطن وسدَّ بها أُذنيه — فتعجَّب بانزنجتن مُتسائلًا عن السبب — ثم عمَّر بندقيته برُبع كمية البارود. من كان سيفكر في هذا؟ بلغ العجب ذُروته مع اختفاء نعلَي كُوسَار داخل الجُحر الأوسط.
زحف كُوسَار ومعه بندقيتان، تتدلَّى كلٌّ منهما على كل جانبٍ برباطٍ تحت ذقنه، وتبِعَه أخلص مُساعديه، وكان رجلًا ضئيلًا أسمر البشرة جادَّ الملامح، مُنحنيًا ومُمسكًا بمصباحٍ فوق رأسه. مضى كل شيء على نحوٍ منطقي ومُرتَّب وواضح كما لو كانت وقائع حلم مجنون. كان القطن على ما يبدو بغرَض امتصاص ارتجاج البندقية، وكان المساعد يحمل بعضًا منه أيضًا. بديهي! إن أدارت الفئران ظهرها لكُوسَار فلا يمكنها أن تؤذيه، وإن واجهته فسيرى عينَيها ويُطلق النار بينهما، وبما أنها ستضطرُّ إلى أن تهبط الجُحر، فمن الصعب أن يُخطئها كُوسَار. أصرَّ كُوسَار أن تلك هي الطريقة البديهية، ربما شاقَّةٌ بعض الشيء، لكنها مؤكَّدة النتائج. بينما مساعِد كُوسَار ينحني ليدخل الجُحر، رأى بانزنجتن نهاية كُرَة من الحِبال المجدولة مربوطة إلى ذَيل معطفه، فمن المفترض أن يستخدِم الحبال إن احتاج إلى سحب جثث الفئران خارج الجُحر.
اكتشف بانزنجتن أنَّ الشيء الذي تُمسِك به يداه هو قبعة كُوسَار الحريرية.
كيف وصلت إلى يديه؟
ستكون شيئًا يُذكِّره به على الأقل.
ووقفَ على كلِّ فتحة جُحر مجاور مجموعة من الرجال يحملون مصباحًا ليضيء الجُحر ورجلٌ مُصوِّب سلاحه على الفتحة أمامه في انتظار أي شيءٍ قد يخرج.
وسادت حالة من الترقُّب الطويل.
ثم سمعوا أولى طلقات كُوسَار كما لو كانت انفجارَ مَنْجم.
انقبضتْ أعصاب الجميع وعضلاتهم لدى سماعهم ذلك، وتلا ذلك صوتُ رصاصاتٍ أخرى. حاولت الفئران الفرار، وقُتِل منها اثنان. عندها هزَّ مساعد كُوسَار الحبل، وقال بانزنجتن: «لقد قتَلَ واحدًا بالداخل ويريد الحبل.»
شاهد بانزنجتن الحبل وهو يُسحَب إلى داخل الجُحر وكأنه حيَّةٌ تسعى، حيث أخفى الظلام الجديلة. وأخيرًا توقَّف الحبل وساد صمتٌ طويل، ثم خرج ببطءٍ من الجُحر ما بدا لبانزنجتن أنه أغرب وحشٍ رآه على الإطلاق، فتراجع المهندس الضئيل، ثم خرج حذاءا كُوسَار مُخلِّفَيْن آثارًا عميقةً في الأرض، ومن بعدهما برز ظهرُه الذي أضاءته المصابيح.
لم يتبقَّ سوى فأرٍ واحد الآن، وهذا البائس آل به الأمر إلى الانكماش داخل أقاصي الجُحر إلى أن دخل إليه كُوسَار بمصباحه وقتلَه. وأخيرًا، مسحَ كُوسَار، ذلك القطُّ البشري الماكِر، كل الجُحور ليتأكَّد من أنه قضى على تلك المخلوقات.
توجَّه إلى رفاقه الذين كاد الرُّعب ينال منهم وقال لهم أخيرًا: «لقد نِلنا منهم. ولو كنت أبلَهَ وقحًا لخلعتُ ملابسي حتى الوسط. تحسَّسْ أكمامي يا بانزنجتن! إني أتصبَّب عرقًا. من الصعب التفكير في كل شيء. لن يُنقذني من البرْد إلا نصف قدحٍ من الويسكي.»
٧
مرَّت لحظاتٌ في هذه الليلة الرائعة بدا فيها لبانزنجتن أنه قد قُدِّر له أن يعيش حياة مليئةً بالمُغامرات المدهشة، وقد سيطر عليه هذا الشعور لساعةٍ أو نحو ذلك بعدما احتسى بعض الويسكي المُركَّز، فأسرَّ إلى المهندس الطويل الأشقر الرثِّ الهيئة قائلًا: «لن أعود إلى شارع سلون ستريت.»
«لن تفعل بالفعل؟»
أومأ بانزنجتن بغموضٍ قائلًا: «بالطبع لن أفعل.»
غرق بانزنجتن في العرَق بعد الجُهد الذي بذَلَه في سحْب الفئران السبعة الميِّتة إلى محرقة الجُثث بالقُرب من أجمة القراص، وأشار كُوسَار إلى مفعول الويسكي كعلاج يَقِيه من البرد المُحتَّم. عُقدت مائدة عشاء كموائد قُطَّاع الطرق في المطبخ القديم المطوَّب، بينما اصطفَّت الفئران الميتة تحت ضوء القمر أمام أعشاش الدواجن بالخارج، وبعد حوالي ثلاثين دقيقةً من الراحة، وجَّههم كُوسَار إلى الأعمال التي لم يزل ينبغي إتمامها.
وقال إن عليهم «بالتأكيد تنظيف المكان. لا فضلات ولا أدلَّة، مفهوم؟» ثم غيَّر رأيه، ووجَّههم لفكرة تدمير المكان تمامًا؛ فحطموا ودمَّروا كل قطعة خشبية في المنزل، وأنشئوا صفوفًا من الأخشاب المُحطمة حيثما وُجِدت النباتات الكبيرة، وصنعوا محرقةً لجثث الفئران وأغرقوها في الكيروسين.
عمل بانزنجتن كعامل حفرٍ همام، وبلغ الانتشاء والنشاط منه مبلغهما في حوالي الساعة الثانية؛ وعندما ضربَ بفأسه أثناء عمليات التدمير تجنَّب أشجع الرجال جواره ثُم تراجع نشاطه قليلًا نتيجةً لفقدانه المؤقَّت لنظارته التي وُجدت في النهاية في جيب مِعطفه الجانبي.
مرَّ الرجال جيئةً وذهابًا من حوله — رجال شُعث مُفعمون بالنشاط — وتحرَّك كُوسَار وسطهم كالسيِّد.
ذاق بانزنجتن لذَّة هذه الرفقة التي تحلُّ على أفراد الجيوش والحملات الباسلة، لا على الذين يعيشون حياة سكَّان المدن المُتعقلين. بعد أن أخذ كُوسَار فأسَه وكلَّفه بحمل الخشب صار يروح ويجيء قائلًا إنهم جميعًا «خير صحبة.» واستمرَّ في عمله طويلًا حتى بعد أن أحسَّ بالإجهاد.
في النهاية كان كلُّ شيءٍ جاهزًا، وبدأت عملية التغطية بالكيروسين. علا القمر لامعًا مع بزوغ الفجر، بعدما تجرَّد من حاشيته الهزيلة من النجوم.
قال كُوسَار وهو يروح ويجيء بينهم: «أحرِقوا كل شيء، أحرقوا الأرض ولا تتركوا أيَّ أثر. مفهوم؟»
استطاع بانزنجتن تبيُّن ملامح كُوسَار مع بزوغ خيوط الصبح الأولى، فبدا مروِّعًا شديد النحافة، يمرُّ مسرعًا بفكِّه السُّفلي البارز وشُعلته المُلتهبة في يدِه.
قال أحدهم وهو يسحَب يدَ بانزنجتن: «ابتعد!»
وفجأة امتلأ الفجر الهادئ — إذ خلا من الطيور المُغردة — بقرقعة الأخشاب المُحترقة وسرى اللهَب الأحمر الخافت عبر قاعدة المَحرقة مُتحوِّلًا إلى اللون الأزرق فوق الأرض وصاعدًا رويدًا رويدًا من جُذور نباتات القراص الضخمة، مُلتهمًا أوراقها ورقةً ورقة. وتداخل مع صوت القرقعة صوتُ غناء.
سارع الرجال بالتقاط بنادقهم من رُكن حجرة معيشة آل سكينر، وخرج الجميع يَجْرُون، وتَبِعهم كُوسَار بخطواتٍ واسعة صاخبة …
بعدها وقفوا والتفتوا ليُلقوا نظرةً على مزرعة التجارب. كانت تغلي وتتطايَر منها ألسنة اللهب والدخان، كحشدٍ من المفزوعين، من الأبواب والنوافذ وآلاف الشقوق والفتحات في السقف. ثِق بكُوسَار ليصنع نارًا! انطلقَ نحوَ السماء عمودٌ عظيم من الدخان مُمتزج بألسنة اللهب القانية والوميض المُندفع. كان المشهد أشبهَ بعملاقٍ جبَّار نهض فجأةً وتقدَّم ناشرًا ذراعَيه العظيمتَين على حين غِرة مُحتضنًا السماء، حاجبًا وهَج الشمس ومُحيلًا النهار ليلًا موحشًا. سرعان ما رأى سكان هيكليبراو كلهم عمودَ الدخان الهائل، فخرجوا عن بكرة أبيهم بملابسهم المنزلية إلى ذُرى التل ليشاهدوا المَحرقة.
بدا في خلفية المشهد عمود الدخان كأنه يتراقَص ويتموَّج، كفطر خيالي، ويعلو أكثر فأكثر في عنان السماء، حتى تضاءلت بجانبه تلال داونز الطباشيرية وتقزَّمَت سائر الأشياء، أما في مقدمته، فقد شقَّ صانعو هذا الدمار، بقيادة كُوسَار، طريقهم، فخرجوا كأطيافٍ ثُمانية قاتمة مُتثاقلين عبر المرْج حامِلين بنادقهم.
لمَّا نظر بانزنجتن خلفه، خطر على باله المُنهك قولٌ مأثور وراح يتردد صداه في أذنه. ما هو؟ «لقد أشعلتُ اليوم …؟ لقد أشعلت اليوم …؟» ثم تذكَّر كلمات لاتيمر: «لقد أشعلنا اليوم شمعةً في إنجلترا لن يُطفئها أحدٌ أبدًا …»
ما أعظم كُوسَار، حقًّا! لقد أُعجِبَ بانزنجتن بمنظره الخلفي لوهلة، وكان فخورًا بإمساكه تلك القُبعة. فخورًا! على الرغم من أنه كان باحثًا مرموقًا، أما كُوسَار فليس إلا مُشتغلًا بالعلوم التطبيقية.
فجأة انتابته رجفةٌ شديدة وتثاءب مُتمنِّيًا لو أنه مُتدثِّر في دفء سرير شقته الصغيرة المُطلة على شارع سلون ستريت (لم يُفكر حتى في ابنة عمِّه جين) أصبحت ساقاه كخيوط القطن، وقدَماه كالرصاص. تساءل إذا كان هناك من قد يجلب لهم بعض القهوة في هيكليبراو. لم يسبق له طوال ثلاثةٍ وثلاثين عامًا أن ظلَّ مُستيقظًا طوال الليل.
٨
وبينما كان هؤلاء المُغامرون الثمانية يقاتلون الفئران في محيط مزرعة التجارب، كانت في قرية تشيزينج آيبرايت، على بُعد تسعة أميال، سيدة عجوز ذات أنفٍ طويل تلقى صعابًا جمَّةً على وهَج شمعة مُتراقص. أمسكت بفتَّاحة عُلَب السردين في إحدى يديها الخَشِنتين، وفي اليد الأخرى أمسكت بعلبة من الهرقليوفوربيا كانت قد قرَّرت إما أن تفتحها وإما أن تموت. كانت تُكافح بلا هوادة، تشهَق مع كل محاولة جديدة، بينما يتعالى نحيب الطفل كادلز.
قالت السيدة سكينر: «فليبارك الربُّ قلبه الصغير.» ثم قالت وهي تعَضُّ بسِنَّتها الوحيدة على شفتِها في نشوة الإصرار: «هيا انفتحي!»
«تاك!» سرعان ما انفتح مَدَدٌ جديد من طعام الآلهة ليبسُط قوته المُعَملِقة على العالَم.