الفصل الثاني

العملاقان العاشقان

١

في هذه الأيام وَقتَ أنْ كان كاترام يَحشِد التَّأييد الشَّعبي ضِدَّ الأطفال العملاقة قُبَيل الانتخابات العامة التي ستَمنَحه سُلطَة الأمور في ظِلِّ تلك الظُّروف المأساويَّة والمُرِيعة، حدث، ومن بَابِ المُصَادفة، أنْ قَدِمَت سُمو الأميرة العملاقة، من مملكتها إلى إنجلترا في مُناسَبةٍ ذات أهمية. تِلك الأميرة التي كَانت مُدَّة تغذيتها المُبَكِّرة إحدى ركائز المَسِيرة المِهنية اللامِعة للدكتور وينكلز. خُطِبَت الأميرة لأميرٍ ما لأسبابٍ سياسيَّةٍ، وكان يُفترض أن يكون العُرسُ حدثًا ذا أهمية بالغة على الصَّعِيد الدولي، ولكن واجهتْهما بعض التَّأجيلات الغَامضة. رُوِّجَت الشَّائِعات وكان لها ولخَيال النَّاس دورٌ كبيرٌ في القِصَّة وأحداثها. كان البعضُ يتداول تفسيرًا لما حدث بأن الأمير أعرض عن تِلك الزِّيجة وقرَّر أنَّه لن يجعل من نفسه أضحُوكة إلى تلك الدَّرجة. تعاطف النَّاس معه، وهذا هو أهمُّ جانبٍ في تِلك القصَّة.

رُبَّما يبدو الأمر غريبًا، ولكن لن يكون كذلك إذا عَرَفنا حقيقة أن الأميرة العملاقة عندما أتت إلى إنجلترا كانت تَجهل جَهالةً تامَّةً أنَّ هُناك عمالقة آخرين من أيِّ نوع. كانت تعيش في عالمٍ حيث الذَّوق شِيَةٌ لا غِنى عنها والتَّحَفظُ أساسٌ راسخ؛ لذلك أخفَوا الأمر عنها ورَاوغُوها فلم يسمحوا لها بالاطلاع على أي شيءٍ مُتَعَملِق أو حتَّى أن تَجِد مَجَالًا للشَّك في الأمر حَتَّى حان موعد مجيئها إلى لندن. قَبل أن تُقَابل ريدوود العملاق، لم يَخطُر لها على بالٍ أن هُناك كائنات عملاقة مثلها في هذا العالم.

في مملكة وَالِد الأميرة، كانت هناك أراضٍ واسعةٌ تملؤها الجِبال والمُرتفعات حيث اعتادت الأميرة أن تتجوَّل بحُرِّيَّة. كان لديها ولعٌ بمشاهدة شروق الشَّمس وغُروبها كما كانت مشغولة بما يجري في السماوات من أحداث درامية، ولكن وجودها وسط شعبٍ كان في يومٍ من الأيام يَتَّسم بالديمقراطية والولاء الشَّدِيد مثل الشَّعب الإنجليزي؛ كان مُقيِّدًا لحُرِّيتها. كان النَّاس يذهبون بقِطارات التَّنزُّه في مجموعاتٍ مُنَظَّمة كي يشاهدوها؛ كانوا يقودون الدَّراجات لمسافاتٍ طويلةٍ ليُحَدِّقوا إليها؛ لذلك كانت تستيقظُ مُبكرًا إن أرادت التَّجول في سلام. كان الليل في دُجَاه وقد اقتربَ الفَجر عندما ظَهر ريدوود الشاب ورأته للمرة الأولى.

كانت الحديقة الكبيرة المُجَاورة للقَصرِ حيث أقامت الأميرة، مُترامية الأطراف؛ تمتَدُّ لمسافة عشرين ميلًا أو يزيد غربي بوابات القصر الغربية وجنوبها. كان شَجر البُندُق يصطَفُّ على جوانب طُرُق الحديقة ويرتفع عاليًا مُتجاوزًا رأسها، وكُلَّما مَرَّت بشجرةٍ وجدتْها تَحمِل ثمارًا أكثر من سابقتها. كانت راضيةً بمَرأى الشَّجَرِ ورائحته، ولكن أخيرًا ضَعُفَت أمام تِلك العروض السَّخيَّة وانكَبَّت على الشَّجر تنتَقِي ثماره وتقطفها بهِمَّةٍ حتَّى إنَّها لم تَلحظ وجود ريدوود إلى أن دَنا مِنها.

أخذت تتنقَّل بين أشجار البُندُق شجرةً بعد الأخرى بينما كان الحَبِيبُ الذي خطَّته لها صُحُف القَدَر يقترب منها شيئًا فشيئًا دون أن يُثير انتباهها أو شكوكها. كانت تَمُدُّ يدَيها بين أغصان الشَّجرِ لتقطفَ حَبَّات البُندُقِ وتكَسِّرها ثمَّ تجمعها. كانت وحيدةً في هذا العالم. ثُمَّ …

نَظَرت لأعلى لتلتقيَ عيناها بعينَي شريك حياتها في تِلك اللحظة.

حتى نرى الجَمَال الذي رآه ريدوود، علينا أن نُطلِق العِنانَ لمُخَيِّلاتنا وأن نَنظُر من خلال عينَيه. كانت واقفةً هُنَاك؛ أول مخلوقٍ على وجه الأرض تَرَاءى له كرفيقٍ. فتاةٌ وَديعةٌ، هيفاءُ الجَسدِ رشِيقةٌ، ترتدي ثيابًا رِقَاقًا. هَبَّ نسيم الفَجرِ العليل على فُستَانِها ذي الطَّيَّات الدَّقِيقة فتَجَسَّدت تَحتَه تَعاريجُ قوامِها المَمشُوق، وكانت تُمسِك بحُزمَةٍ من أغصان شجر البُندُق في كِلتَا يدَيها. حَرَّك الهَواءُ طَوقَ فُستَانِها فكَشَف عن بياضِ رقبتها النَّاصِع وعن استدارةٍ نَاعمةٍ تَوَارت في الظِّل باتِّجاه كتِفَيها. كمَا بَعثَر النَّسيمُ خُصلَةً أو خُصلَتَين من شعرها البُنيِّ بأطرافِه الحَمراء فتَهَادَى على خَدِّها. كان لها عينانِ نَجلَاوَانِ زَرقَاوَانِ، وشَفَتانِ على أهبَةِ الاستعداد لتَرسُم ابتسامةً عندما تَناولت أغصان البُندُق بيديها.

التفتت باتجاهه ثُمَّ تَطَلَّعت إليه، وأخذ كلٌّ منهما يتأمَّل الآخر لبعض الوقت. رَأته وكان هو في عينيها بديعًا عَجِيبًا، ولبعض اللحظاتِ على الأقل كانت رؤيته أمرًا رهيبًا. سَبَّبَ ظهوره صدمةً لها كأنَّها رأت طَيفًا أو شيئًا خارقًا للطبيعة؛ حَطَّم كل قوانين عالمها الخاص. كان شابًّا يبلغ من العمر واحدًا وعشرين عامًا حينها، ذا جسدٍ رفيع. كانت سُمْرَة والده وجاذبيته بَاديةً عليه. كان يرتدي حُلَّةً جِلديَّةً نَاعمةً وضَيِّقةً ذات لونٍ بُنيٍّ هادئ، وسِروالًا بُنيًّا يلتصق به التصاقًا، وكان رأسه مكشوفًا في كلِّ مواسم السَّنة. ظَلَّا واقفين يُمَحِّص أحدهما الآخر؛ كانت تنظر إليه بعينٍ فَاحِصَةٍ وكان قَلبُه يخفِق خفقانًا سريعًا. كانت لحظةً من غير مُقدِّماتٍ؛ كان أهم لقاءٍ في حياتِهما.

بالنسبة إليه كان الأمر أقلَّ إدهاشًا؛ فقد كان يبحث عنها منذ مُدَّة، ومع ذلك أخذ قَلبه يخفق سريعًا. اقترب نحوها ببطءٍ وعيناه مُركَّزتان على وجهها.

قال لها: «أأنتِ الأميرة؟ أخبرني والدي عنكِ. أنتِ الأميرة التي غُذِّيت بطعام الآلهة.»

ردَّت وقد بَدَت الدَّهشَة في عينيها: «نعم! أنا الأميرة، ولكن مَنْ أنت؟»

«أنا ابن ذاك الرَّجل الذي صَنَع طعامَ الآلهة.»

«طعام الآلهة!»

«أجل! طعام الآلهة.»

«ولكن …»

عَلا وجهَها ارتباكٌ شديدٌ.

«أنا لا أفهم! ما هو طعامُ الآلهة؟»

«ألم تسمعي به من قبل؟»

«لا! لم أسمع بطعام الآلهة من قبل!»

شَحَب لونُها ودَبَّت رَعشَةٌ شديدةٌ في جسدها وقالت: «لم أكن أعرف. هل تقصد …؟»

لم يَنبِس ببنتِ شَفةٍ وانتظرها لتُكمِل.

«هل تعني أنَّ هُناك آخرين؛ عمالقة أمثالنا؟»

كَرَّر ما قاله: «ألا تعرفين ذلك؟!»

ردَّت عليه وقد بَدأت تستوعِب الأمر في دهشة: «لا!»

كان العَالم بأسره يتبدَّل في نَظرها، العَالم وكل ما يعنيه.

انسَلَّ غُصنُ بُندقٍ من يدها، ثمَّ كرَّرت سؤالها ببلاهة: «هل تقصد أن تقول إن هناك عمالقة آخرين في هذا العالم؟ وإنَّ طعامًا ما …»

لاحظَ مدى دَهشتها.

قال مُتعجِّبًا: «ألا تعرفين شيئًا؟ ألم تسمعي بنا من قبل؟ وأنتِ التي أطعموكِ الطَّعام نفسه الذي أطعمونا إيَّاه!»

كانت الرَّهبَة ما زالت بَاديةً في العينين اللتَين حدَّقَتا إليه. رَفعَت يدها إلى رقبتها ثم ما لبثت أن أنزلتْها مُجدَّدًا وهَمَست قائلةً: «لا!»

بَدَا لها أن عليها أن تَبكي أو تَخِرَّ فاقدةً وعيها، ولكنها استعادت رباطة جأشِها واتِّزانها وصار ذهنها صافيًا وكلامها واضحًا وقالت: «كلُّ هذا أُخفِي عنِّي! الأمر أشبه بحُلم. حلمتُ في الماضي بأشياء مثل ذلك، ولكن أن أراها وأنا يَقِظةٌ؛ هذا أمرٌ عُجَاب. أخبرني! أخبرني مَنْ تكون؟ وما هو طعامُ الآلهة؟ أخبرني ببطءٍ وبكافة التَّفاصِيل. لماذا أخفَوا الأمر عنِّي؟ لماذا لم يُخبروني بأنَّني لستُ وحيدة؟»

٢

قالت الأميرة العملاقة: «هَيَّا أخبرني!» دَبَّت رَعشةٌ فَحَماسٌ في جسد ريدوود الشاب، وهَيَّأ نَفسه ليُخبرها. كان الحديث فَاتِرًا ومُتَقَطِّعًا بعض الوقت، ولكنَّه أخبرَها عن طعام الآلهة وعن الأطفال العمالقة المُبعثرين في أرجاء الأرض.

لن يصعُبَ عَلى أحدٍ تَصَوُّر وجهَيْهما المُتَورِّدَيْن ودَهشتهما التي أثَّرت فيما يصدر عن جسديهما من حركاتٍ وإيماءات، كان يُحاول كلٌّ منهما فهْمَ الآخر من خلال عِبَاراتٍ متقطعة، لا تُستكمل إلى نهايتها في كثيرٍ من الأحيان أو يُتفوَّه بها في همسٍ لا يكاد يُسمَع، عِبارات مُكرَّرة ولحظات صمتٍ مُربِكة ثُمَّ بِدايات جديدة؛ كان حديثًا عَجيبًا أفاقت فيه الأميرة من سُبَاتِ الجَهل الذي كانت فيه طوال حياتها المَاضية. تَبيَّن لها تَدريجِيًّا أنَّها لم تكن حالة استثنائية من النَّوع البَشَري؛ ولكن واحدة من جَمَاعةٍ مُبعثرةٍ في كل مكان أكلوا من الطَّعام المُكبِّر ونَمَوا حَتَّى جَاوزَ نُمُوُّهم الحدود الضَّيقة لهؤلاء الأقزام عند أقدامهم. حَدَّثها ريدوود الابن عن أبيه وعن كُوسَا، وعن الإخوة المُشتَّتِين في أنحاء البلاد، وحَدَّثها عن بُزُوغِ فجرٍ جديدٍ ذي معنى أشمَل سُطرت ملامحه أخيرًا في تاريخ هذا العالم. قال لها: «نحن ما زلنا في بداية الأمر. ذلك العالم خَاصَّتهم هو مجرد مُقَدِّمة للعالم الذي سيصنعه الطَّعام المُكبِّر.

يُؤمن أبي، وأنا أصدِّقه، بأنه سيأتي زمانٌ تختفي فيه الضَّآلة من هذا العالم اختفاءً لا رجعة فيه، زمانٌ يَجُوب فيه العَمالقة هذه الأرض، التي هي الآن أرضهم، بحُريةٍ ويُكمِلون فِعل الأشياء العظيمة والبَاهِرة. ولكن كلَّ هذا قادم في المُستقبل، فنحن لسنا حَتَّى أول جيلٍ في هذا المضمار؛ وإنما نحن نتاجُ أول تَجربة.»

قالت: «أنا لم أكن أدري شيئًا عن كلِّ تِلك الأشياء!»

قال: «تَمُرُّ عَليَّ أوقاتٌ يبدو لي الأمر فيها أنَّنَا جئنا لهذا العالم مُبكرًا. أتصَوَّر أن أحدًا كان يجب أن يأتي أولًا، لكن العالم كان غير مُهيأ لقُدُومِنَا ولقُدوم كل تلك الأشياء المُحتَقَرة التي صارت عظيمة الحجم بسبب هذا الطَّعَام. هناك حماقاتٌ ارتُكِبَت وتأجَّجَت صراعاتٌ جراء ذلك. أولئك البَشَر الأقزام يكرهوننا.

يكرهوننا لأنهم أقزام بالمقارنة بنا؛ لأن أقدامنا ثقيلةٌ حين نخطو على الأشياء التي تقوم بِها حياتهم. على أي حالٍ هم يمقُتُونَنَا الآن ولن يُرَحِّبوا بأيٍّ منَّا بين أظهرهم أبدًا؛ سَيُسامِحُونَنا فقط إذا كُنَّا نستطيعُ أن نتَقَلَّص إلى مِثل أحجامهم.

فهم سُعَداء في تلك المنازل التي هي لنا زَنَازِين، هُم سُعَداء في مُدُنِهم الصَّغيرة لمن في مِثل أحجامنا، ونَذوق العَذاب ونحن نَمشِي في طرقَاتِهم الضيقة، ولا نستطيع التَّعَبُّد في كنائسهم.

نحن طوالٌ؛ نَرَى من فَوق أسوارهم وحُصُونهم، وننظُر سَهوًا إلى نوافِذ طوابِقهم العُليا. نَنظُر إلى عَادَتِهم وقَوانِينهم فنَراها ما هي إلَّا شِباكٌ بالكاد تَلتَفُّ حول أرجلنا.

نَسمَع صُراخَهَم كُلَّما تَعثَّرنَا، أو تخَطَّينا حدودهم، أو سَاقتْنا أقدامُنا إلى فِعل شيءٍ لم يعتادوه.

خُطُوَاتنا البطيئة المُتَثاقِلة هي مسافاتٌ طَويلةٌ مُترامِيةٌ بالنسبة إليهم، وكُلُّ ما يعتبرونه عظيمًا ومُبهرًا ما هو إلا دُمى أطفالٍ في نَظَرنا. تَفَاهَة أساليبهم وبَسَاطة مُعَدَّاتِهم وضَحَالة مُخَيِّلاتِهم تُعِيقُ قوانا وتَقهَرها، فلا آلات نستَغِلُّ بها قوة أيادينا، ولا مُساعدات تكفي حاجتنا. هم يُسَيطِرون على أحجامنا العملاقة هذه بالاستعباد بألفِ قيدٍ وقيدٍ لا يُرَون. رجلٌ منَّا لرجلٍ منهم، نحن أقوى مئات المرَّات، ولكننا عُزَّل لا سِلاحَ لنا؛ ضَخامتنا تلك تجعلنا مَديونين؛ فهم يمتلكون الأرضَ التي نَقِف عليها، ويفرِضُون علينا العَملَ مُقَابلَ حاجَتِنا لحِصَصِ الطَّعام الكبيرة والمأوى الضَّخم. وكلُّ هذا العمل المُضنِي يجب علينا أن نؤديه بتلك المُعدَّات التي يصنعها لنا هؤلاء الأقزام ليُشبِعوا أحلامَهَم المُتَقَزِّمة.

حَبَسونا وحَظَروا وجودنا في كل مكان، حتَّى إنَّه لكي تعيشي، يجب عليكِ أن تَتَخَطَّى تِلك الحدود التي رسمُوها لا مَحَالة. اضطُرِرتُ أن أتخَطَّى أحد تِلك الحدود لآتي وأقابلكِ اليوم. كُلُّ ما هو مَقبولٌ ومَرغوبٌ فيه في الحياة جعلوه خارجَ نطاقِ المسموح لنا به. فنحن محظورون من دخول المُدنِ وعبور الجُسُور كما يُحظَر علينا أن نَخطو على الحقول المحروثة أو أماكن الطَّرائد التي يصطادونها. أنا معزولٌ الآن عن جميع إخوتي العمالقة ما عدا أبناء كُوسَار الثلاثة، وحتَّى طريقي إليهم أخذ يَضِيق يومًا بعدَ يوم. أحيانًا أظنُّ أنَّهم يتَصَيَّدون الفُرَص حتَّى يكيدوا لنا كيدًا خبيثًا …»

قالت له: «لكننا أقوياء!»

رَدَّ قائلًا: «نَعم، علينا أن نكون أقوياء! كُلُّنا يشعُر أن بداخله طاقةً وقُوَّة، لا بدَّ أنَّكِ شَعرتِ بالمثل أيضًا، طَاقة لفعل أشياء عظيمة، طَاقة ثائرة تَفُور وتَغلِي، ولكن قبل أن نتمكن من فِعل أي شيءٍ …»

ثُمَّ لَوَّح بيده بحركةٍ بَدت أنَّها قد سَحقَت العالمَ سحقًا.

قالت بعد لحظة صَمتٍ: «ورُغمَ اعتقادي بأنِّي وحيدة في هذا العالم؛ فقد فكَّرت مَليًّا في تلك الأشياء. عَلَّموني مُنذ صغري أنَّ القُوَّةَ خطيئة، وأنَّه من الأفضل أن تكون ضئيلًا على أن تكون ضخمًا عملاقًا. عَلَّموني بأن الدين الحق جاء ليَنصُر الضُّعَفاء ويُؤْويهم، ويُبَارِكهم فيتكاثروا حَتَّى تُملَأ بهم الأرض ويزحفوا بعضهم فوق بعضٍ من كَثرَة عددهم. عَلَّموني أن نُضحِّي بكل قوتنا في سبيل الضُّعفاء، ولكن دائمًا ما كان الشَّك يُساورني حيال تِلك التَّعاليم.»

قال: «لم تُخلَق حياتنا وأجسادنا هذه لتَموت هكذا!»

«أجل!»

«ولا أن نَحيا عَبَثًا بلا هدف. وإن كنَّا سَنُرغم على ذلك، فالأمر واضحٌ وضوح الشَّمسِ لكلِّ إخوتنا العمالقة بأنَّ الصِّراع وَشِيك. ولا عِلمَ لي بماهية المرارات التي سيجلُبها هذا الصِّراع حتمًا قَبل أن يَترُكنا هؤلاء الأقزام نَعِيش كما نُرِيد. كلُّ إخوتنا العمالقة تَفَكَّروا في هذا الأمر. حتَّى كُوسَار الذي أخبرتكِ عنه، فَكَّر في هذا أيضًا.»

قالت: «هم ضَئِيلو الحَجم وضُعَفاء.»

«هذا هو ظاهرهم، لكن جميع آلات الموت والدَّمار في حوزتهم ومُصَنَّعة لأياديهم فحسب. مُنذ آلاف السنين، تَعَلَّم هؤلاء الأقزام، الذين نغزو عالمهم اليوم، أن يقتل أحدُهم الآخر. فهم لدَيهم القدرة على ارتكاب هذا الفِعل وبطرقٍ عِدَّة. بجانب أنَّهم مُخادِعون ويتغَيَّرون فجأةً … لا أدرى … ولكن هناك صِراعًا وشيكًا. ربَّما حَالُكِ مختلفٌ عنَّا. بالنسبة إلينا، فإن الصِّراع وشيكٌ لا محالة. هذا الشيء الذي يسَمُّونه حربًا؛ نحن نعرفه ونُعِدُّ له بطريقةٍ ما، ولكن أتعرفين شيئًا! نحن لا ندري كيف نقتل هؤلاء الأقزام! أو على الأقل لا نُريد أن ﻧﻘﺘﻠ…»

قَاطَعت حديثه: «انظر!» وسَمِع صوت نَفِير بُوق.

حوَّل وجهه شَطر الاتجاه الذي تَنظُر فيه الأميرة، ووَجَد سَيَّارة صفراء فَاقِعًا لونُها، سائقها رجلٌ يرتدي نَظَّارة قَاتِمة ويجلس معه عددٌ من الرُّكَّابِ يرتدون معاطف الفِراء. كانت السَّيارة تَزأر وتَشهَق وتُطَنطِن عند قَدَمه. أزَاح قَدمَه فاستكمل مُحَرِّك السَّيارة بَعد ثلاث زَفَراتٍ غَاضِبة مسيرته الصَّاخبة نحو المدينة.

قال أحدهم: «انظر! هل رأيت ذلك؟ هناك أميرة عملاقة وراء الأشجار!» واستدارت جميع الوجوه تحدق فيما تراه وقد جحظت عيونها.

قال آخر: «هذا لن …»

قالت: «كل هذا أروع مما كان يمكنني تصوره.»

قال لها: «ما كان ينبغي أن يخبروك …» وصمت دون أن يكمل عبارته.

«قَبل أن تَظهَر أنتَ لي؛ عِشتُ حياتي في عَالَمٍ كنتُ فيه ضخمةً ووحيدة. صَنَعت لنفسي حياة تُنَاسِب ذلك، وكنت أظنُّ أنِّي مَسخٌ من مُسُوخِ الطَّبِيعة الغَريبة.

أمَّا الآن، فقد تَهَدَّم ذلك العالم في نِصفِ ساعةٍ، وصِرت أرى عالمًا آخر بأحوالٍ أخرى واحتمالاتٍ أكثر … وصارت لديَّ رفقَة.»

ردَّ عليها: «رفقَة!»

قالت له: «أريدُك أن تُحدِّثني أكثر وأكثر. ما تقوله يُشعِرُنِي كأنِّي أستمع إلى قِصَّةٍ خياليةٍ قديمة. حتَّى أنت … رُبَّما أصَدِّق بعد يومٍ أو عدَّة أيام أنَّك حقيقي. أمَّا الآن، فأنا في حُلم … صه!»

اخترق صوتُ أول دَقَّات سَاعَة القَصرِ البَعِيد الهواء قاطعًا كلامهما، ثمَّ عَدَّ كلٌّ منهما دَقَّات السَّاعة التي تُخبرهما بأنَّها السَّابِعة.

قالت: «هذه هي سَاعة رجوعي. سيُحضِرون إناء قهوتي إلى الردهة التي أنام فيها. لا يُمكنك تَخَيُّل عُبُوس هؤلاء الموظَّفين والخَدَم الأقزام وهم يؤدُّون مَهَامَّهم التَّافِهة تلك.»

قال لها: «أعلم أنَّهم سيتساءلون، ولكنِّي أرغب في الحديث معكِ.»

فَكَّرَت للحظةٍ وقالت: «ولكنِّي أريدُ التَّفَكُّر في الأمر. أريد أن أفَكِّر منفردةً في تلك التَّغييرات التي طالت كل شيء، وأن أنسى أمر عُزلَتي القديمة وأن أفكِّر فيكَ وفي العمالقة الآخرين في هذا العالم … سأعود الآن، سأعود اليوم إلى بيتي في القلعة وغدًا فجرًا سآتي إلى هُنا مرةً أخرى.»

قال: «سأكون هنا مُنتَظِرًا!»

قالت: «سأظلُّ أحلُم وأحلم طوال اليوم بهذا العَالَم الجديد الذي منحتَهُ إيَّاي اليوم! حتى الآن، أكاد لا أصدِّق أنَّ …»

خَطتْ خطوة إلى الوراء وأخذت تتفحَّصه من مَنبَت شعره حتَّى أَخْمَص قدميه. التقت عيناهُما وظلَّتا مُعلقتين لِلَحَظات.

«حَقِيقي!» قَالتها بضحكةٍ على استحياءٍ. «أنتَ حَقِيقي! ويا له من شيءٍ رائع! هل تَظُنُّ؟ ماذا لو جئتُ غدًا لأجدَك قزمًا كبقية البَشَر … أجل! عليَّ أن أفكِّر في الأمر. أمَّا اليوم، فكما يفعل البَشَر الأقزام! …»

مَدَّت يدَها وتلامَسَا لأول مرة. تَصَافَحا بقوةٍ والتقتْ عيناهما مرةً أخرى.

قالت له: «إلى اللقاء. وداعًا اليوم. وداعًا أيُّها الأخ العملاق!»

تَردَّد وهو يُهَمهِم بكلامٍ لم يَنبس به، وفي النهاية ردَّ عليها قائلًا: «وداعًا!»

ظل كلٌّ منهما مُمسكًا بيدِ الآخر، وهو يُمعن النَّظَر في وجه صاحبه. وعندما افترقا ظَلَّت تلتَفِت إلى الوراء وتنظر إليه في شكٍّ المَرَّة بعد المَرَّة، بينما كان هو ما يزال واقفًا في مكانه الذي التقَيا فيه.

أوتْ إلى الرَّدهة التي تُقيم فيها عَبرَ ساحة القصر الكبيرة تَتَهَادى كشخصٍ في حُلمٍ وأغصان شجرة البُندُق ما تَزال في يديها.

٣

تقابل الاثنان أربع عشرة مرَّة قبل بِداية النِّهاية. كانت لقاءاتهما في الحديقة الكبيرة أو على المُرتَفَعات أو بين وُديان الأراضي الجَرداء والمُنخَفَضات ذات الطرُق المهجورة التي كان بها غابة من أشجار الصنوبر امتدَّت باتجاه الجانب الجَنوبي الغَربي. تقابلا مرَّتين في جادة أشجار البُندُق، وخمس مراتٍ قُربَ نَافُورة الماء الكبيرة التي بناها جَدُّ جَدِّها المَلِك. كان هُناك مكانٌ ذو أرض مُعشَوشِبةٍ تَنمو بها أشجار الصنوبر الطَّويلة، تنحَدِر انحِدارًا خفيفًا حتَّى تُلاقِي صَفحة الماء. هُناك كانت تجلس الأميرة وهو مُضَّجِعٌ بجوار ركبتيها وينظر إلى وجهها ويُحدِّثها عن كلِّ ما حَدَث وعن الأعمال التي أوكلها له أبوه وعن أحلامه الوَردِية والجريئة عن حَالِ العمالقة يومًا ما في المستقبل. عادةً ما كانا يتقابلان هُناك مع مَطلعِ الفجر، ولكن ذات مرةٍ تقابلا عند الظَّهيرة ليجدا جمعًا غفيرًا من المُتَطَفِّلين يُحدِّقون إليهما ويحاولون استراق السَّمع؛ قائدو درَّاجاتٍ ومَارَّة طريقٍ يختلسون النَّظر من بين الشُّجيرات، وتَطَأ نِعَالهم أرضَ الغابة المفروشة بأوراق الأشجار الجافَّة مُصدِرةً خَشخَشةً كخَشخَشةِ عصافير الدُّورِي في مُتنزَّهات لندن، كانوا يركبون القوارب في البُحيرَة حتَّى يصِلوا لموقعٍ أفضل للمُشاهدة ويحاولون الاقتراب أكثر فأكثر ليتسَمَّعوا حديثهما.

تلك كانت أول إشارةٍ إلى الفُضُول الهائل لدى أهل الرِّيف حول ما يدور في لقاءاتهما. وفي مرةٍ من المرَّات، كان الموعد السَّابع والذي عَجَّل بالفضيحة، تقابلا عند أحد السُّهولِ، وتحت ضوء قمرٍ ساطعٍ ونسيمٍ عليلٍ أخذا يتهامسان ويتهامسان، لِما كان لتِلك الليلة من طقسٍ دافئ وهواءٍ لطيف.

لم يَمضِ الكثيرُ حتَّى جَاوزَا في حديثهما فِكرة أنَّ بوجودهِما ومن خِلالِهما سيكون هناك عالمٌ جديدٌ من العمالقة على الأرض؛ جَاوزَا التَّأمُّل في هذا الصِّراع المُحتَدِم بين الضَّخَامة والضَّآلة؛ ذلك الصراع الذي كُتب عليهما أن يخوضاه، ولَاحَ في حديثهما اهتماماتٌ شخصيةٌ وأكثر أمَلًا. في كل مرة تقابلا فيها وتبادلا أطراف الحديث وأشبع كل واحدٍ منهما عينيه من رؤية الآخر، كان هناك شعورٌ يَزحف ببطءٍ من اللاوعي ليفرض نفسه كواقعٍ ملموس؛ شعورٌ بأنَّ هناك شيئًا أكثر حَمِيمِيَّة ودِفئًا من رابطة الصَّداقة التي تجمعهما؛ شعورٌ يُرفرِف فوقهما ويُدنِي بعضهما من بعض. وما لَبِثا أن تَمَكَّن ذلك الشُّعور منهما ليُصبِحا عَشِيقَين؛ كأنَّ آدم وحَوَّاء هَبَطا على الأرض مُجددًا ليكونا بذرةً لسلالة جديدة من البشر.

جَلسَا وأقدامهما تتجاور جنبًا لجنبٍ في وادي الحُب الدَّافئ ذي الأراضي الهادئة والخَفِيضة. تغيَّر العَالَمُ في أعينهما بتَغَيُّر حالهما وصَار لِلِقَائهما جَمالٌ قُدسِي؛ استحالت النَّجومُ أزهارًا مُضيئةً تُضيء سماء العاشقين، وكان مشهد الشَّمس في مَطلعها البَهِيِّ ومَغرِبها المَهِيب أشبه بلوحةٍ تُزَيِّن طَريقهما. لم يعودا كائنين من لحمٍ وعظمٍ بجانبِ بعضهما، وصارا نسيجًا جسديًّا واحدًا من الرقة والرغبة. تناوبت اللحظات التي قضياها معًا بين همسٍ وصمت، وتحت غِطاءِ الليلِ السَّبْط، دَنا كُل واحدٍ منهما من الآخر ونظر إلى وجه صَاحبه الذي انعكس عليه شيءٌ من ضِياءٍ جَادَ به القَمر، بينما كانت أشجار الصنوبَر السَّودَاء السَّاكِنة تَقِف حولهما خَفَرًا وحَرَسًا.

سَادَ الصَّمتُ وخَيَّمَ، وخُيِّلَ إليهما أنَّ الكَونَ قد سَكَن واستَكَان، ومَعه تَوقَّفت عَقَاربُ الزَّمَان، فلا صوتٌ مسموعٌ إلا صوت قَلبَيهِما يخفِقان. بَدَا لهما أنَّهما يَحيَيانِ في عالمٍ لا موتَ فيه، وقد كان كذلك حينها! استشعرا مدى جمال وفخامة ما يُحيط بهما من أشياء، وقد استبدَّت بهما المشاعر على نحوٍ غير مسبوق. إن للحُبِّ رَونقًا وبَريقًا خَلَّابًا يتجلَّى حتَّى عندما تُحِبُّ الأرواح الشحيحة الضئيلة، فكيف الحال بالنسبة إلى عَشِيقَين عملاقين أكلا من طعام الآلهة؟!

•••

لك أيُّها القارئ حُرِّية تخيُّل ما ألمَّ بهذا العَالَم النِّظَامي من فزعٍ عندما انتشر خبر أنَّ الأميرة التي خُطِبت للأمير، الأميرة؛ صَاحبة السُّمُو! ذات الدَّم المَلَكي يَجري في عروقها! اعتَادَت سِرًّا أن تُوَاعِد أحد الأبناء المُتَضَخِّمِين لأستاذ كيمياء من عامة النَّاس؛ شَخص بلا حَسَبٍ ولا نَسبٍ؛ بلا ألقابٍ ولا ثَروَةٍ، وتُحدِّثه كما لو لم يكن هُناك مُلوكٌ ولا أُمراء؛ كما لو لم يكن هناك نظامٌ واحترامٌ وتبجيلٌ ومَهَابة. لا شيءَ سوى عَالَم به عَمالِقةٌ وأقزام؛ كانت تتحَدَّث معه والأكيد أنَّها كانت تَتَّخِذه عَشِيقًا.

تَلَفَّظ السير آرثَر بُودِل بُوتليك لاهثًا: «ماذا لو عَلِم هؤلاء الصحفيون بهذا الخبر؟!»

هَمَسَ الأسقُف العجوز ذو الملابس القَديمة الطِّراز: «لقد أخبِرتُ بأن …»

قال الخَادم الأول بينما كان يُقَدِّم الحَلوى: «يبدو أنَّ الأخبار لن تنقطع ما دامت الأميرة العملاقة لا تزال تمكث هنا.»

قالت المرأة التي تَقِف في مَتجَر القِرطَاسِيَّة بجانب بَوابة القصر الرئيسِيَّة حيث يشتري الأمريكيون الصغار تَذَاكر زيارة قَاعات القَصر المُزَيَّنَة: «يقولون …»

ثُمَّ بعد ذلك:

قال كاتبٌ بمجلة «جوسِب» يُدعى «بِيكارُون»: «لدَينا إذنٌ بأن نُنكر …»

وهكذا بدأت المَتَاعِب بالظُّهور.

٤

قالت الأميرة لحبيبها: «يقولون إنَّ علينا أن نفتَرِق!»

قال لها بحُرقَةٍ: «ولكن لماذا؟ ما هي الكَذِبة الجديدة التي أقنعكِ بها هؤلاء النَّاس؟»

سألته: «هل تَعلم أن حُبَّكَ لي يُعَدُّ خيانة عظمَى؟»

أجابها صارخًا: «يا عزيزتي! ما الذي يهمُّ في ذلك؟ ما هو حقُّهم في هذا؟ فليس لديهم أي منطق يبرر موقفهم! وما قيمة خِيانَتهم أو ولائهم لنا؟»

قالت له: «سأخبِرك!» وأخبرتْه عن كلِّ ما قِيل لها.

«جاء إليَّ أغربُ رجلٍ ضئيلٍ رأيتُه، وأخذ يُحدِّثني بصوتٍ عذبٍ ورقيقٍ ومُرَنَّم. كان رجلًا رشيقَ الحركة، دَلَف إلى الغُرفةِ برَشَاقةِ قِطٍّ وكان يرفع يده ناصعة البياض عاليًا كلَّما أراد أن يقول شيئًا مهمًّا. كان أصلع الرأس ولكن ليس أصلع الرأس تمامًا، وكان ذا أنفٍ ووجهٍ ممتلئَين يميل لونهما إلى اللون الأحمر. أمَّا لحيتُه فكانت مُهَذَّبة تَهذِيبًا أنيقًا. تَظَاهر غير ذاتِ مرةٍ بالانفِعال والمَشاعِر المُصطَنَعة التي جَعلَت عينيه تَلمَعَان. أنت تعرف أنَّه صديقٌ مُقَرَّب من العائلة الملكية هنا وقد نَادَانِي ﺑ «سيدتي الشَّابة العزيزة.» وكان عَطُوفًا ومُتعاطِفًا منذ البداية. قال لي مراتٍ عدَّة: «يا سيدتي الشَّابة العزيزة، أنتِ تعرفين أنَّه لا يَجدُر بكِ فِعل ذلك.» ثمَّ قال لي: «أخشى عليكِ أن تتعرضي للمُساءلة».»

قال لها مُتعجِّبًا: «أيُّ صِنفٍ من الرجال هذا؟»

ردَّت عليه: «إنه مُتعاطفٌ معي …»

قال: «ولكني لا أفهم …»

قاطعته وقالت: «لقد أخبرَني بأشياء شديدة الخطورة!»

انتقدَها فجأة قائلًا لها: «هل تُصدِّقين حقًّا ما أخبركِ به هذا الرجل؟!»

ردَّت عليه: «أعتقد أنَّ ما أبلغني به على درجة كبيرة من الأهمية!»

قال لها: «هل تقصدين …؟!»

أكملت حديثها: «أعني أنَّنا كنَّا نَدعَسُ بأقدامنا دون علمٍ أقدَسَ المُسَلَّماتِ عند هؤلاء البشر الضئيلين. فنحن الذين يجري في عروقنا دمٌ ملكيٌّ طبقةٌ معزولة، نحن أسرى يُعبَدون ودُمًى تُزَيِّن المَواكِب. نحن ندفع حُرِّيتنا الأساسية ثمنًا ليعبُدَنا النَّاس. كان يتعيَّن عليَّ الزواج من ذلك الأمير. أنت لا تعرف شيئًا عنه؛ إنه أميرٌ قَزْم ولا يَعنِي لي شيئًا. كان هدفُ ذلك الزَّواج أن يُقَوِّي الأواصِر بين دولتي ودولة أخرى. وتلك الدولة كانت لتستفيد هي أيضًا! تَخَيَّل! أتزوَّج لتَعزيز العلاقات!»

قال لها: «وماذا سيفعلون الآن؟»

ردَّت عليه: «يُريدون مِنِّي أن أمضي قدمًا في الأمر كما لو لم يكن بيني وبينك شيء.»

قال لها: «هل أخبرَكِ بهذا؟!»

قالت: «أجل! وهذا ليس كلَّ شيء! قال لي أيضًا …»

قاطعها: «أتقصدين ذلك الرَّجل المَاكِر نفسه؟»

أجابته: «نعم! قال لي إنَّه من الأفضل لكَ ولكل العمالِقة أن نمتنع نحن الاثنين عن الحديث معًا! هكذا قال لي!»

ردَّ عليها: «وإنْ لم نفعل، فما الذي يُمكِنُهم فعله؟»

قالت له: «قال لي إنَّكَ ربما تُمنَح حُريَّتَك.»

قال: «أنا!»

ردَّت عليه: «قال لي وهو يُشَدِّد على كلامه: «يا سيِّدتي الشابة العزيزة، سيكون من الأفضل والأكرم إذا افترقتُمَا طَواعِيةً.» كان هذا قوله وهو يُشَدِّد على كلمة «طَواعِيةً».»

قال لها: «ولكن ما شأن هؤلاء الصَّعَالِيك الأقزام في أي مكانٍ نتَواعَد أو كيف نَتَواعَد؟ ما الذي يعنِيهم ويعنِي عالمهم فيما نفعله؟»

«هم لا يُفَكِّرون كذلك.»

«أخبريني أنَّكِ قد تَجَاهلتِ كلَّ هذا؟»

«كلُّ ذلك الكلام هو محضُ حماقة بالنسبة إليَّ.»

«قوانينهم التي تَغُلُّ أيادينا! بأننا نحن اللذَين في ريعان الشَّباب ومقتبل العمر، يجب أن نُقَيَّدَ بالتزاماتهم البَالِية وعاداتهم وتقاليدهم العشوائية! لا! لن نتمسَّك بها!»

«أنا مِلكٌ لقَلبِك؛ حَتَّى الآن!»

«حتَّى الآن؟ أليس ذلك كلَّ شيء؟»

«ولكنَّهم إذا أرادوا أن يفَرِّقوا بيننا …»

«ما الذي يُمكِنُهم فعله؟»

«لا أدري! ما الذي يُمكِنُهم فعله؟»

«لا أحدَ يهتمُّ ما الذي يُمكِنُهم فعله أو ماذا سيفعلون! أنا لكِ وأنتِ لي، ما الذي نُرِيده بعد ذلك؟ قَلبِي لكِ وقَلبُكِ لي، للأبد. أتظُنِّين أنَّ تِلك القوانين والمَحظُورات التَّافِهة ستَردَعُني، أو تِلك اللافِتاتِ الحُمر ستُوقِفني وتُبعِدني عنكِ؟»

«ولكن يبقى السؤال، ما الذي يُمكِنُهم فعله؟»

«تعنِين، ما الذي سنفعله نحن؟»

«نعم!»

«نحن؟ يُمكننا أن نَمضِي.»

«وماذا إن حاولوا منعنا؟»

ضَمَّ قبضة يدِه وأخذ ينظُر حوله كأنَّ البشر الأقزام قادمون لمَنعِهم، ثم خَطَا مُبتعِدًا عنها ومَدَّ بصره في الأفق وقال: «نعم! كان سؤالك هو السؤال الصحيح! ما الذي يُمكِنُهم فعله؟»

قالت: «هنا في هذا البَلد …» ثمَّ توقَّفَت.

قال وهو يَمسَحُ الأرض من حوله بنَظَره: «إنهم في كُلِّ مكان!»

ثُمَّ أكمل: «ولكن يُمكِننا …»

«إلى أين؟»

«يمكننا أن نرحل. يمكننا أن نعبر البِحَار معًا، ووراء تِلك البحار.»

«ولكنِّي لم أذهب إلى ما وراء البِحار من قبل.»

«هناك جِبالٌ ضَخمةٌ عظيمة ولا يسكنها أحد، بينها سَنَشعُر بالضَّآلة كأننا بشر أقزام. وهناك قُرًى قَاصِية ومهجورة، وهناك بحيراتٌ مَخفِيَّة ومرتفعاتٌ تُغَطِّيها الثُّلوج لم تطأها قدم البَشَر. هناك …»

«ولكن حتى نشقَّ طريقنا إلى هناك علينا أن نُواجِه الملايين والملايين من البشر يومًا بعد يوم.»

«إنها أملُنا الوحيد! ففي هذا البلد المُكتَظِّ، لا استقرارَ ولا ملجأ لنا ولا حياة. أيُّ مكانٍ لنا نعيش فيه بين تلك الحشود؟ هؤلاء الأقزام يُمكنهم أن يَتَوَاروا عن بعضهم بعضًا، ولكن أين نَتَوَارى نحن عن أعينهم؟ لا مكان نأكل فيه ولا مَخدَع ننام فيه. وإذا فَررْنا، سيقتَفون أثرَنا ليلًا ونهارًا.»

ثمَّ وَرَدت بخَاطِره فكرة.

قال: «هناك مكانٌ وحيد على هذه الجزيرة!»

«أين هو؟»

«المكان الذي بناه إخوتنا هناك. لقد بنَوا ضِفافًا هائلة الحجم حول البيت من كل اتجاه، الشَّرق والغرب والشَّمال والجنوب؛ وحفروا سَرادِيب عميقة وأماكن مَخفِيَّة. زَارنِي أحدهم مُؤخرًا وقال لي، لا أذكر بالضبط ما قاله حينها، ولكنه كان يُحدِّثُني عن أسلحة؛ لذلك أظنُّ أننا يجِب أن نذهب إلى هناك طلبًا للمأوى.»

أكمل كلامه بعد لحظاتٍ من الصمت وقال: «لم أرَ إخوتنا مُنذ مُدَّة طويلة … يا إلهي! لقد كُنتُ هائمًا نَاسيًا … مَرَّت تِلك الأيام ولم أفعل شيئًا إلا انتظار رؤيتكِ مرة أخرى. يجب أن أذهب وأتشاور معهم وأخبرهم عنكِ وعن كل الأخطار المُحدِقة بنا. لو ساعدونا، فيمكنهم حقًّا أن ينقذونا! وقتها يُمكننا أن نَأمُل خيرًا. لا أعلم مقدار قوة المكان، ولكن لا بُدَّ أنَّ كُوسَار قد حَصَّنه تحصينًا قويًّا. أتذكَّر الآن أنَّه قبل كل هذا، وقبل أن ألقاكِ، كانت هناك مَتَاعِب تلوح في الأفق؛ كانت هناك انتخابات؛ وهي طريقةٌ يُسَوِّي بها البَشَرُ الأقزامُ الأمورَ بِعَدِّ الرُّءوس. لا بُدَّ أنَّها قد انتهت الآن. كانت في تلك الانتخابات تهديدات لنَوعِنا بالكامِل؛ نَوعنا عن بَكْرة أبيه، عَدَاكِ. يجب أن أرى إخوتنا وأن أخبرهم بكل ما بيننا، وبكل ما يحُوم حولنا من مَخاطِر.»

٥

في لقائهما التَّالي، تأخَّر فظلَّت تنتَظِره حَتَّى أتى إليها بعد مُدَّة. كانا قد اتَّفقا أن يتقابلا عند الظَّهِيرة في بُستَانٍ فَسيحٍ ضَمَّه بين رِحَابِه أحد اعوجَاجَات مَجرى النَّهر. ظَلَّت طوال مُدَّة انتظارها تُحَدِّق جهة الغرب، ودَار في خلدِها ما دَار من الأفكار عن سكون هذا العَالم الذي كان في حالة من السكون الكئيب في واقع الأمر. ثُمَّ انتبهت إلى أنَّه على الرُّغم من تَأخُّر الوقتِ، لم يكن هناك أثرٌ لتلك الحاشية المعتادة التي كانت ترافقها أينما ذهبت والتي كانت تتلصَّص عليها أيضًا. نَظَرت عن يمينها ثم عن شِمَالِها ولم تَجِد أي أحدٍ منهم في مَرمَى بصرها، ولا حتَّى ذلك القارب عند المُنحَنى الفِضِّي لنهر التِّيمز. حاولت أن تَفهم سبب ذلك السكون الغَريب المُزعِج …

وفجأةً، لَمَحَت ما أدخل سرورًا مفاجئًا عليها، رأت ريدوود بعيدًا عبر فُرجَةٍ بين غابَات الأشجار الكثيفة.

سرعَان ما أخفَته الأشجار عن الأنظار، ثمَّ ظَهَر مجدَّدًا وهو يَشُقُّ طريقه من بينها مُقتَحمًا ليظهر مرةً أخرى في مَرمى بصرها. كانت تَرى بجلاءٍ أنَّ هُناك شيئًا قد تَغَيَّر، ثمَّ رأتْه يُهَرولُ هَرولةً لم تَعهَدها ثمَّ بدأ يَعرُج. لَوَّح إليها بيده فَمَشت إليه. اقترب أكثر واتَّضَح وجهه فرأته مُكفَهِرًّا فيه تَألُّمٌ ووجع يَظهر مع كلِّ خطوة يخطوها.

هَروَلت إليه وقد مُلِئ عقلها أسئلةً جَمَّةً ممزوجة بخوفٍ مُبهَم. توقَّف بجانبها وتَكلَّم دون أن يُحيِّيَها.

سألها لاهثًا: «هل قَرَّرتِ أن نفترِق؟»

أجابته: «لا! لماذا؟ ماذا ألَمَّ بِك؟»

«أمَا وإنَّا لن نفترق، فقد حان الوقت!»

«ما الذي حدث؟»

«أنا لا أريد أن نفترق، فقط …» ثم سكت فجأة وسألها: «هل تَعديني أنَّكِ لن تَهجُريني؟»

نَظرت في عينَيه نظرةً مُلئتْ إصرارًا وقالت وهي تُشَدِّد كلامها: «ما الذي حدَث؟»

«لن تَهجُريني مهما طَال الوقت؟»

«أيُّ وقت؟»

«سنوات ربَّما.»

«لا! لن نفترق!»

سألها مؤكِّدًا: «أفَكَّرتِ في الأمر مَليًّا؟»

أمسكتْ بيدِه وقالت: «لن أفَارِقك! حتَّى ولو كان الموتُ مصيرنا، فلن أتركَك.»

قال لها وقد شَعَرتْ بأصابعِ يدَيه تَضغط على يديها: «حتَّى ولو كَان الموتُ مصيرنا.»

نَظَر حوله خائفًا من أن يَرى البشر الأقزام يَلتفُّون حولهما وهو يتكلَّم ثمَّ قال: «قد يكون الموتُ مصيرنا.»

«أخبِرني ماذا حدثَ الآن.»

«حاولوا مَنعِي من المجيء.»

«كيف؟»

«عند خروجي من المعمل الذي أُعد فيه طعام الآلهة للإخوة كُوسَار ليُخَزِّنوه في مُعسكَرِهم، رأيتُ شرطيًّا قَزْمًا، رجلًا رداؤه أزرق اللون وذا قفَّازاتٍ ناصعة البياض، أشَار إليَّ لأقف وقال: «هذا الطَّريق مُغلق!» فَكَّرت قليلًا ثمَّ ذهبتُ مُستَديرًا من خَلف المَشغَل حيث هناك طريقٌ آخر باتجاه الغَرب لأجدَ شرطيًّا آخر يقول لي: «هذا الطَّريق مُغلق!» ثمَّ أضاف: «كلُّ الطرقِ مُغلقة!»»

«ماذا حدَث بعد ذلك؟»

«تَجَادلتُ معه جِدالًا قصيرًا وقلتُ له: «هذه طُرقٌ عامَّة!»

قال لي: «هذا صحيح! أنتَ قُلتها بلسانك! أنت تُفسِد الطرق التي يستخدمها العامَّة.»

قلتُ له: «حسنٌ! سَأشُقُّ طريقي بين الحقول!» فرأيتُ مجموعة أخرى من رجال الشُّرطة وقد قفزوا من فوق سياج الشُّجيرات وقالوا: «هذه حقولٌ ذات مِلكيَّةٍ خاصة.»

قُلت لهم: «سُحقًا لكم ومِلكيَّتِكم الخاصة والعامَّة. أنا ذاهبٌ لأميرتي!» ثمَّ انحنيتُ وحملته برفقٍ وهو يرفُسُ ويَصرُخ ثمَّ أنزلته بعيدًا عن مسار طريقي. وفي أقلِّ من دقيقةٍ امتلأتْ جميع الحقول من حولي برجالٍ يركضون. رأيتُ واحدًا منهم على ظهر حصانٍ يعدو به بجانبي وهو يقرأ شيئًا ما ويصيح بما يقرأ. أنهى ما يقرؤه ثمَّ استدار وأخذ يعدو بعيدًا عنِّي مُطأطئًا رأسه. لم أدرك الأمر وقتها، ولكن بعد ذلك سمعتُ أصوات البَنَادِق من خَلفي.»

«بنادق!»

«بنادق كالتي يصطادون بها الفئران. اخترقتْ رَصاصَات البنادق الهواء من حولي وكان لها صوتٌ كصوت شيءٍ يتمزَّق؛ أصابتني إحداها في رجلي.»

«وماذا فعلتَ أنت؟»

«جئتُ إليكِ هنا وخَلَّفتُهم من ورائي يركضون صارِخين ويُطلقون الرَّصاص. والآن …»

«ماذا الآن؟»

«هذه هي البِداية. لقد عَقَدوا العزم على أن يُفرِّقونا، وهم قادمون خَلفِي الآن.»

«نحن لن نَفتَرِق.»

«أجل، ولكن إن كنَّا لن نفتَرِق فيجب أن تأتي معي إلى مُعسكَر إخوتنا.»

قالت له: «أي طريقٍ سنسلك؟»

«الذين يُلاحقونني قادمون من الشَّرق؛ لذلك يجب أن نَسلُك هذا الطريق على طول تلك الجَادة ذات الأشجار. سأذهب أنا أولًا لأرى إذا ما كانوا يترصدون …»

خَطا خطوةً كبيرةً ولكنها أمسكت بذراعه.

صرخت: «لا! سأكون بقُربِك، وأُمسِك يَدك! ربَّما يَردعهم أنَّي ذاتُ دَمٍ مَلَكي، ربَّما يَردعهم أنِّي مُقَدَّسة. إذا أمسكت يَدك ستحرُسُك عِناية الرَّب وتَطوف حولك! فقد لا يطلقون عليك الرَّصاص …»

قَبَضت على كتفه وأمسكت ذراعه وهي تتكلم ثُمَّ اقتربت بجسدها إليه ورَدَّدت: «قد لا يطلقون عليك الرَّصاص …» ثُمَّ وبعَاطِفةٍ جَيَّاشةٍ مُفاجِئةٍ ضَمَّها برِفقٍ بين ذِراعَيه حَاضِنًا لها وطَبعَ قُبلةً على خَدِّها. ظلَّ ضامًّا لها هكذا لِلَحظاتٍ.

هَمَست له: «حَتَّى ولو كان الموتُ مصيرنا.»

لَفَّت يدَيها حول عُنُقه ورَفَعت وجهها قُبَالة وَجهه.

«أيا حبيبي الغالي، قَبِّلني قُبلةً أخرى.»

جَذبها باتِّجاهه وقَبَّلَ شَفَتَيها في صمتٍ، ثُمَّ بعد لحظاتٍ زَادَها قُبَلةً أخرى. أمسكا بيد أحدهما الآخر وكانت هي تحرِصُ على أن تُبقِي جَسَدها مُلاصِقًا لجسده، وانطلقا للأمام آمِلَين أن يَصِلا إلى ملاذهما؛ المُعسكَر الذي بناه أبناء كُوسَار قبل أن يُدرِكَهم مُطاردوهم من الأقزام.

وهم يقطَعون المساحات الشَّاسعة للبُستان خلف القلعة، ظَهَر فارسٌ على صهوَة حصانه يعدو بين الأشجار ويحاول عبثًا أن يُواكب سُرعة خطواتهما العملاقة الواسعة. وظَهرت أمامهما مَنَازِل يخرج منها رجالٌ يحملون البنادق. وبرؤية هذا المنظر، وعلى الرُّغم من أنَّه قد حَزَم أمره أن يُكمِل وهيَّأ نفسه أن يُقاتل ليُكمل طريقه، ولكنَّها حَمَلته على الانعطاف والمُضِي باتِّجاه الجنوب.

وهما يُسرعان بالهرَب، تمكَّنا من تفادي رصاصة أعلى رأسيهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤