صغير آل كادلز في لندن
١
جاهلًا بمُستَجَدَّات الأحداث والقوانين التي تُحكِم قَبضَتَها على كل الإخوة العمالقة، وجاهلًا بالتَّأكيد أنَّ هناك أخًا له يعيش على الأرض، اختار صَغِيرُ آل كادِلز هذا الوقت ليخرج من المَحجَر الطباشيري ويَرى العالَم من حوله؛ هذا ما هَدَاه إليه تفكيره في النِّهاية. فأسئلته لم تَجد لها جوابًا في تشيزينج آيبرايت؛ فالقسُّ الجديد كان أقلَّ تألقًا واستنارة حتى من القَس الرَّاحِل، فأخذ لغز عَمَله العَبَثِي ينمو حتَّى بلغ به الأمرُ حَدَّ السخط عليه. تساءل قائلًا: «لماذا يتعيَّن عليَّ أن أعمل في هذا المَحجَر يومًا بعد يوم؟ لماذا يتعين عليَّ أن أعيش مُقَيَّدًا مَكتُوفًا وأُحرَم من رَوعَة العالَم وعجائبه وراء تِلك الحدود؟ ماذا اقترَفتُ لأكون مُدانًا هكذا؟»
وفي أحد الأيام نهضَ ونَصَبَ ظهره مُعتدلًا وصَرخ وقال: «كَفَى!»
قال: «لن أستمرَّ في ذلك بعد الآن!» ثمَّ أخذ يَلعن المَحجَر بحُرقةٍ شديدةٍ.
وبعد أن نَبَس بعدَّة كلماتٍ، رأى أن يُعَبِّر عمَّا يدور برأسه بالفِعل لا بالقول. اتَّجه إلى عَرَبةٍ ممتلئة إلى نصفها بالصخر الطباشيري ثمَّ رفعها وقذفها باتِّجاه شاحنةٍ أخرى لتُهَشَّم. أخذ قطارًا كاملًا من العَرَبات الفَارغةٍ وأدَارَه ورَمى به على إحدى الضِّفاف، ثُمَّ قَذفَ بجُلمُودٍ طباشيري عليه ليُحطِّمه نهائيًّا. وبرَفسَةٍ عَاتِيةٍ بقدمه، اقتَلَع ما يَقرُب من اثنتي عشرة يَاردة من قَضِيب السِّكة الحديدية. وهكذا أخذ يُدَمِّر المَحجَر بإخلاصٍ وتَفانٍ.
قال: «هل أقضي كلَّ أيام حياتي في العمل بهذا المكان؟!»
كانت تلك الدقائق الخَمس مُثيرةً للغاية بالنسبة إلى عالِم طَبقات الأرض الضئيل الجسم، والذي كان يَشهد انهماك العملاق في تدمير المَحجَر. تَفَادَى هذا المخلوق المسكين الصغير حجرَين عملاقين بمقدار شَعرَة، وخَرج من الجانب الغربي وفَرَّ من جَانِب الوادي وعلى ظهره حقيبة تَصطَفِق مع كلِّ خطوة من خطوات ساقَيه المُسرعتَين اللتين غطَّاهما سروالٌ قصير. ترك خَلفه آثارًا من حفريات العصر الطَّباشيري. بينما انطلق صغير آل كادِلز، الذي شَفَى غَلِيلَه بذلك الدَّمار الذي خَلَّفه، ليُحقِّق غايته في هذا العالم.
«هل كُتِبَ عليَّ أن أكدح في هذا المَحجَر البائس ليلَ نهار حتَّى أموت وأتعفَّن؟! ماذا كانوا يظنُّون بعملاقٍ مثلي أنَّه فاعِل؟ ينحِت الحجر الطباشيري لأهدافٍ حمقاء لا يعلمها إلا الله؟! لا! لستُ أنا!»
ربَّما كان اتِّجاه الطرقِ والسِّكَّة الحديدية هو ما جعله يُولِّي وجهه شَطر لندن، وربَّما كانت محضَ صدفة. أخذ يعدو في هذا الاتجاه مَارًّا بالمنخفضات وبجانب المُرُوجِ طوال الظَّهيرة يصبو إلى كل عجيبٍ في هذا العالم. لم تعنِ له تِلك المُلصقات المُمَزَّقة ذات اللونَين الأحمر والأبيض شيئًا. كان مطبوعًا عليها أسماء مختلفة وتتدَلَّى مُرَفرِفَةً من جميع الجُدران والحظائر. كان لا يدري شيئًا عن الصِّراعات الانتخابية التي تمخَّضت عن تولِّي كاترام، جَاك قاتِل العمالقة، رأس السُّلطَة. ولم يهتم مُطلقًا أنَّ كل مَخَافِر الشُّرطة التي مرَّ بها في طريقه كان قد وصلَها ظهيرة ذلك اليوم ما سُمِّي «مَرسُوم كاترام الرَّسمي» وثُبِّتَ على لوحة إعلانات المَخفَر. كان يَنُصُّ هذا المَرسُوم على أنَّه لا يُسمَح لأحدٍ كائنًا مَنْ كان، وقد بَلغ من الطُّول ما يزيد عن ثماني أقدامٍ، أن يقترب لأكثر من خمسة أميالٍ من مَحَل إقامة كاترام دون إذنٍ خاص. ولم يهتمَّ باللافتات التحذيرية التي أخذ ضباط الشرطة المُتأخِّرين، الذين لم يكونوا يشعُرون بالكثير من الارتياح إزاء تأخُّرهم، يُلوِّحون باللافتات التحذيرية له كي يعود. كان يمضي في طريقه ليرى ما الذي ينتظره في ذلك العالم الخارجي، ويا له من فضوليٍّ أبله. لم يُعِرْ وهو ماضٍ في طريقه أولئك الأشخاص المُتَحمِّسين لرؤيته أي اهتمامٍ وهم يصيحون «مرحبًا!» أتى على قريتَي روشستر وجرِنيتش وباتِّجاه تَجَمُّعٍ كثيفٍ من المنازل لم يَرَ مثله قط، أخذ يمشي ببطءٍ وهو يتفَحَّصه بعينيه ويُؤرجِح فأسَه بيده.
سَمِع أهل لندن شيئًا عنه قبل ذلك؛ كيف أنه كان أبلَهَ لكنه وديع، وكيف رَوَّضه كلٌّ مِن وكيل الليدي وَندرشُوت والقس ترويضًا تُضرَب به الأمثال، وكيف عَبَّر العملاق بطريقته الكئيبة عن تَبجِيله واحترامه لأولئك الأشخاص، وعن امتِنانِه لرعايتهم له وما إلى ذلك؛ لذلك عندما قرءوا في لوحة إعلان الجَرِيدة ظهيرة ذلك اليوم أنَّه «مُضرِبٌ عن العمل» استنتج الكثير من النَّاس أن هذا الإضراب هو فعلٌ مُتَعمَّدٌ ومُدَبَّر.
قال أحد المسافرين العائد إلى بيته من رحلة عملٍ على متن القِطار: «إنَّهم يحاولون أن يختبروا قوَّتنا.»
«نحن محظوظون أنَّ بيننا رجلًا مثل كاترام.»
«هذا الأمر هو ردٌّ على تصريحاته.»
أمَّا الرِّجال في النَّوادي، فقد كانوا أكثر اطلاعًا؛ كانوا يلتَفُّون حول أسطوانات الموسيقى أو يتحدَّثون في مجموعاتٍ داخل غُرَف التَّدخين.
«هو لا يملِك أيَّ أسلحة. كان سيتَّجِه إلى سيفينوكس لو كانوا حرَّضوه على ذلك.»
«سيتَولَّى كاترام أمره …»
قَصَّ البَاعَة الأمر على زبائنهم، وخَطَف النُّدُل في المطاعم لحظاتٍ بين تقديم طعامٍ وآخر ليقرءوا عنه في جريدة المساء، كما أثار الأمر اهتمام سائقي سيارات الأجرة فقرءوا عنه في جريدة المساء أيضًا.
كانت العناوين الرئيسية لجريدة المساء الرَّسمية للحكومة تُبرِز جملة: «لنقتَلعَ الشَّجَرة من جذورها.» واعتمدت باقي الجرائد على عنوان آخر لجذب القُرَّاء: «ريدوود العملاق ما زال يُوَاعد الأميرة.» أمَّا جريدة «إكو» فقد جاء عنوانها كالتالي: «شائعاتٌ عن ثورةٍ للعمالقة في شمال إنجلترا. عمالقة سَندرلاند يزحفون نحو اسكتلندا.» بينما اكتفت جريدة وِست مينستر جازيت بعنوانها التَّحذِيري المعتاد: «احذروا أيُّها العمالقة!» وهي تَهدف من ورائه أن تُوَحِّد صفوف الحزب الليبرالي الذي مُزِّق بين سبعةٍ من القَادة المغرورين. وجاءت الجرائد اللاحقة بعنوانٍ موحَّدٍ يقول: «العملاق في طريق نِيو كِنت.»
قال شابٌّ شاحب اللون في الحانة: «ما أريد معرفته هو، لماذا لا نعرف أي أخبارٍ عن الإخوة كُوسَار؟ كان من المتوقع أن يشاركوا في الأمر أكثر من غيرهم.»
قالت النادلة وهي تُنَظِّف قدحًا: «يقولون إن هناك آخرين مثلهم؛ عمالقة صغار، قد فَرُّوا. لطالما كنتُ ولا أزال أرى أنَّهم يُمثلون خطرًا كبيرًا ويتعيَّن علينا ألَّا نُبقِيَهم بالقرب منَّا. كان يجب أن نُوقفهم من البداية، ولكن على أي حال، آمُل ألَّا يمرَّ ذلك العملاق بالقُرب من هنا.»
قال الشَّابُّ الواقف على المَشرَب باستهتارٍ: «أمَّا أنا فأودُّ أن ألقِي نظرةً عليه.» ثُم أضاف: «لقد رأيتُ الأميرة.»
قالت النادلة: «هل تظنُّ أنَّهم سيؤذونه؟»
قال الشَّاب الواقف على المَشرَب وهو يتجرَّع ثُمالة كأسه: «ربَّما يضطرون لذلك.»
وفي خِضَمِّ همهماتِ عشرة ملايين شخصٍ يُثرثرون حول هذا الموضوع، وَصَل صغير آل كادِلز إلى لندن.
٢
عندما أذكُر صغير آل كادِلز أذكُره يوم كان سائرًا في طريق نِيو كِنت والشَّمس تُلهِب وجهه المُرتَبك وعينيه المُحملقتَين. كان الطَّريق مكتظًّا بكل أنواع البَشَر والمَركَبَات؛ الحافلات العامَّة وعربات النَّقل الجماعية والقطارات الكهربائية والشَّاحنات الصَّغيرة وعربَات الخيل وراكبي الدَّراجات والسَّياراتِ وحشدٍ من الناس فاغِرِي أفواههم من الدَّهشةِ. كان هذا الحشد يتألَّف من المُتسكِّعِين والنِّساء والمُرَبِّيات والمُتسوقات والأطفال والمُراهِقين المُتَهوِّرين الذين تجمَّعوا جميعًا خلف قدمَيه اللتين تتحرَّكان بحذرٍ وحيطة. كانت اللافتات الإعلانية مُبعثرة أينما حَلَّ البَصر وكانت تَعلوها مُلصَقات الانتخابات المُمَزَّقة. ارتفع صوتُ هَمهَمات الحشدِ يُحدِّث بعضهم بعضًا حول أمر هذا العملاق. يَرى الرَّائي أصحابَ المتاجر وزبائنهم مُكدَّسين عند الأبواب، والوجوه تَتردَّد جيئةً وذهابًا على نافِذات المنازل، والصِّبية في الشَّوارع يركضون ويصرخون، ورجال الشُّرطة يتعاملون مع الأمر بحزمٍ وهدوء، والعُمَّال على السِّقالات وقد أوقفوا العمل. يَرى الرَّائي هذا الخليط الهائج وهم يصرخون عليه؛ تارةً يصرخون بجُمَلٍ تشجيعية غامضة، وتارة أخرى ينهالون عليه بالسباب غير المفهوم وبأكثر الألفاظ البلهاء شيوعًا في ذلك الوقت. خَفَضَ بصره وأخذ يُحَدِّق بهذا الجَمع الغفير من الكائنات الحية الذي لم يتخيل من قبل وجوده في هذا العالم.
وعندما صار على أعتابِ لندن، بدأ يُخَفِّف من سرعة سيره شيئًا فشيئًا. تجَمهَر البشر الأقزام حوله تجمهُرًا كثيفًا، وازدادت كثافتهم مع كل خطوة يخطوها. وفي النهاية أتى على مكانٍ يلتَحِم فيه طَريقان عظيمان معًا فتَوَقَّف وتَبِعه حَشد الأقزام الذين اقتربوا أكثر فأكثر منه ثم التفُّوا من حوله.
وقف هناك وبين قدَمَيه فُرجَةٌ صغيرة وظهره باتجاه بُنيَانٍ ضخمٍ شاهق الارتفاع. كان ذلك البنيان حانة ضخمة لبيع المشروبات الكحولية؛ كان ارتفاع الحانة ضعف طول صغير آل كادِلز وكانت تعلوه لوحة بارزة. حدَّق في هؤلاء الأقزام أسفل منه وتعجَّب، وحَاوَل، ولا أشكُّ في هذا، أن يُقارنهم ويربط بينهم وبين غيرهم من الأشياء في حياته؛ بالوادي الواقِع بين المُنخَفَضات، وبالعُشَّاق الليليين وبغناء التَّرانيم في الكنيسة، وبالحجَر الطباشيري الذي يَقطَعه يوميًّا، وبالغريزة والموت والسَّماء. كان يحاول أن يُوَفِّق بين كل تلك الأشياء جميعًا وأن يراها في تناغُمٍ واتِّساق. عَقَد حاجِبيه ضيِّقًا ورفع راحة يده الضَّخمة ليَحُكَّ شعره الأجعَد وهو يتَأوَّه بصوتٍ عالٍ.
قال: «الأمرُ غير مفهوم!»
كانت لهجتُه غريبةً غير مألوفة، فارتفع صوتُ ثرثرة الحَشد؛ ثرثرة وسط أجراس القطارات الكهربائية، التي حاولت أن تشقَّ طريقها بصعوبةٍ بين الحشود، كأزهار الخشخاش المنثور وسط حقول الذُّرة. «ماذا قال؟» «قال: الأمرُ غير مفهوم!» «بَل قال أين البحر؟» «لا، قال إنه يُريد كرسيًّا!» «ألَا يقدر هذا الأبله أن يقعد على سقفِ بيتٍ أو ما شابه؟»
«ما الذي خُلِقتم لأجله أيُّها الأقزام المُحتشدون؟ ماذا تفعلون في حياتكم؟ ما الذي خُلِقتُم لأجله؟
ما الذي تفعلونه هُنا أيُّها الأقزام المحتشدون، بينما أقطِّع لكم الحجر الطباشيري هناك في المَحجَر؟»
أسكتَ صوته النشاز، الذي كان سببًا في حرمانه من الاستمرار في مدرسة تشيزينج آيبرايت، تلك الحشود الضَّخمة وغشيَتْهم حالة من الصمت ما لبثتْ أن صارت ضجيجًا. كان بعض العُقَلاء يصيحون في النَّاس بصوتٍ عالٍ: «صمتًا! صمتًا!» وكان السؤال الذي يشغل عقول النَّاس هو: «ماذا يقول؟» وذهب الكثيرون منهم إلى أنه كان ثمِلًا. كان سائقو الحافلات العامَّة يصيحون في النَّاس: «أفسحوا الطريق!» وهم يشُقُّون طريقهم بحذر. كان هناك بحَّارٌ أمريكي مخمور يتجوَّل بين النَّاس متسائلًا وعيناه دامعتان بفِعل ما أصابه من سُكرٍ: «ما الذي يُريده في النِّهاية؟» وصاح بائع خُردَةٍ — كان وجهه خشنًا وكان يركب عرَبة يجُرُّها فَرَسٌ صغير — بصوته بحيث علا فوق كل ضجيجٍ من حوله وقال: «ارجع إلى بيتك يا عملاق قرية برستِد! عُد إلى بيتك أيُّها الكائن المُرعِب ضخم الجُثَّة! ألا ترى أنَّك تُخِيف الفرَس؟ اذهب لبيتك! ألم يُفَكِّر أحدهم في أن يخبرك بما ينصُّ عليه القانون؟» ورغم كل ذلك الصياح، ظلَّ صغير آل كادِلز يُحَملق مُرتبِكًا مُتَرَقِّبًا ولم ينبس ببنت شفة.
ومن طريقٍ جانبي؛ ظَهَر صَفٌّ من رجال الشُّرطَة الوقورين واخترقوا الحشد بسلاسة، وكانوا يقولون بصوتٍ خفيضٍ: «تنَحَّ جانبًا!» «استمر بالحركة من فَضلك!»
تَنبَّه صغير آل كادِلز إلى جسمٍ صغير ذي لون أزرق داكن وهو ينهال ضربًا على قَصَبة ساقه. نظر للأسفل ليرى يدَين بيضاوين يُشيران إليه، فانحنى بجسده للأمام وقال: «ماذا تريد؟»
صاح مُفتِّش الشُّرطة قائلًا: «لا يُمكنك الوقوف هنا.»
ثمَّ كرَّر ما قاله: «لا! لا يُمكنك الوقوف في هذه المنطقة!»
ردَّ صغير آل كادِلز وقال: «ولكن أين أذهب؟»
قال له مُفتِّش الشُّرطة: «ارجع إلى قريتك! عُد إلى موقع عملك! في جميع الأحوال، لا يمكنك الوقوف هنا. تحرَّك الآن، فأنت تُعَطِّل حركة السير.»
«أيُّ حركة سير؟»
«حركة سير هذا الطَّريق.»
«وإلى أين يقود هذا الطريق؟ ومن أين يأتي؟ وماذا يعني؟ لماذا كل هؤلاء النَّاس حولي؟ ماذا يريدون وماذا يفعلون؟ أريد أن أفهم. أنهِكتُ من قَطع الحجر الطباشيري وسَئمتُ الوحدَة. ماذا يفعل هؤلاء النَّاس لأجلي بينما أقطِّع الحجر الطباشيري لأجلهم؟ أريد أن أفهَم، وسأفهَم الآن وهنا كما في أي مكانٍ آخر.»
«للأسف نحن لسنا هنا لنُفَسِّر مثل تلك الأمور. أنا هنا لآمرك بمغادرة المكان، تَحرَّك رجاءً!»
«ألا تعرف الإجابات؟»
«من فضلك! يجب أن تتحرَّك الآن. كما أنصحك أن تعود إلى المنزل! فلا تُوجَد لدَينا أي تعليماتٍ خاصة بمثل هذا الأمر ولكنَّه مخالفٌ للقانون. أخلوا الطريق هناك! … أخلوا الطريق!»
أُخلِيَ الرَّصيف عن شماله وصار مُشجِّعًا له ليتحرَّك، فبدأ صغير آل كادِلز يتحرَّك ببطءٍ مُبتعدًا عن الطريق، ولكنَّه انطلق متحدثًا.
همهم قائلًا: «أنا لا أفهم! لا أفهم أي شيء!» كان ينظر إلى الحشود السَّيَّارة في كلا الاتجاهين؛ أمامه وخَلفه، ويُهَمهِم مُستعطِفًا إيَّاهم وهو كسير: «لم أكن أدري أنَّ هناك أماكن مثل هذه على الأرض. ما الذي تفعلونه في حياتكم أيُّها النَّاس. وما الغاية من كل هذا؟ ما هو الهَدف وراء كل هذا؟ وما شأني بكل هذا؟»
وهكذا، أطلق العملاق الصغير عباراتٍ أخذ يتفوَّه بها الشباب الخفيفو الظلِّ في سُخريةٍ: «مَرحبًا يا فُلان الفُلاني. ما الغاية من كل هذا؟ ها؟ ما هو الهدف اللعين وراء كل هذا!»
ومن هنا انفجرت نافورةٌ من الرُّدودِ الألْمَعِيَّة على تِلك الأسئلة وقد كان جُلُّها ردودًا وَقِحةً غير مهذَّبة. وقد كانت أشهرها وأكثرها مُناسبةً للاستعمال العام: «أطبِق فَمَك!» أو بصوتٍ فيه ازدراءٌ: «كفى هذيانًا!»
كانت هناك عباراتٌ أخرى راجت بالقَدْر نفسه تقريبًا.
٣
ما الذي كان يسعى وراءه؟ كان يريد شيئًا لم يُعطِه له عالم الأقزام، أراد غَايَةً منعَه عالمُ الأقزام من بُلوغِها، منعوه حتَّى من رؤيتها بوضوحٍ، ولم يكن ليراها بوضوحٍ مُطلقًا. لقد كان الجانب الاجتماعي العملاق لهذا الوَحشِ الأبله الوحيد هو ما جعله يُنَادِي ويبحث عن أبناء جنسه من العمالقة أمثاله، ويتطلَّع إلى الأشياء التي تُشبهه، وأن يصبو إلى شيءٍ يُحبُّه وشيءٍ يخدمه. كان يبحث عن غايةٍ يفهمها وأوامر يستطيع امتثالها، كان كلُّ ذلك مكبوتًا يغلي في صدره. لم يكن يستطيع أن يبُوح بما في داخله إذا حدث وقَابَل أحد أقرانه العمالقة، كانت حياته حتَّى تلك اللحظة مُنحَصِرة في تِلك القرية الرَّتيبة، كان كلُّ الكلام الذي يتَفَوَّه به مقصورًا على الكلام الذي يقوله ويسمعه في الكوخ، والذي أخفق وتداعى أمام احتياجاته الأساسية كعملاقٍ. كان لا يعرف شيئًا عن النُّقود؛ ذلك الشيء التَّافه ذي القيمة الضَّخمة، ولا يعرف شيئًا عن التِّجارة ولا عن التَّظاهر والتَّباهي اللذَين يُشَكِّلان أساس النَّسيج الاجتماعي لهؤلاء البشر الأقزام. كان محتاجًا؛ وأيًّا كان ما احتاجه فَلَم يجِده أبدًا.
أخذ يتجوَّل طوال ذلك النَّهار وتِلك الليلة الصيفية، بدأ يشعر بالجوع ولكنه لم يكن قد وصل حدَّ الإرهاق بعد. كان يُراقِب حركة السير المتنوعة في الشَّوارع المُختلفة، ويحاول فَهم المصالح المُشتَركة والغامضة لهؤلاء المخلوقات الضَّئيلة. وفي النِّهاية لم يُوصله ذلك إلى نتيجةٍ سوى مزيدٍ من الارتباك …
يُقال إنَّه أخرج سيدةً من عربتها في كنجستون، كانت تَرتَدي ثوب سهرةٍ أنيقًا لينظر إلى عظام كتفها وذيلِ ثوبها فاحِصًا ماحِصًا، ثُمَّ أرجعها مكانها بلا مُبالاة وهو يتَنَهَّد بعمقٍ. لا يمكنني أن أجزم بهذا. ظَلَّ قُرابة السَّاعة وهو يُشَاهِد النَّاس يتشاجرون على أماكن الجلوس في الحافلات العامة في نهاية طريق بيكادِلِّي. رآه بعض النَّاس في الظَّهيرة وهو يَحُوم حول ملعب كننجتون أوفال لبضع لحظاتٍ، وما إن رأى آلافًا من البشر مُنخَرطين في مُجرَيَات مُباراة الكِريكِت غير عابئين بوجوده، أكمل طريقه مُبتعدًا وهو يئن.
عاد إلى شارع بيكادِلِّي سِركِس ليلًا بين السَّاعة الحادية عشرة والثَّانية عشرة ليجد نوعًا آخر من الحُشُود. كانوا مُنكَبِّين على أمورٍ مُنشَغِلين بها وأمورٍ أخرى خَلَّفوها وراء ظهورهم؛ وكلُّ ذلك لأسبابٍ غامضةٍ لم يفهمها. حدَّقوا إليه واستهزَءوا ثُم مضَوا في طريقهم. أمَّا سائقو سيَّارات الأجرة ذوو الأعيُن الحادَّة والثَّاقِبة كعيون نسرٍ، فقد سارت عرباتهم واحدةً تِلوَ الأخرى بجانب حافة رصيف المُشاة المُكتَظِّ بالنَّاس. كان الناس يخرجون من المطاعم أو يَلِجون فيها إمَّا بوقارٍ واتِّزانٍ ورَزَانةٍ، وإمَّا مُتَمَهِّلين تملؤهم السَّعادة، وإمَّا مُنتَبِهين يَقِظِين أكثر ممَّا سيحتاجون إن كانوا يُخطِّطون لخِدَاع أكثر النُّدُل حِرصًا ودهاءً. كان العملاق الضَّخم جالسًا في رُكنِه يَرمُقهم جميعًا. تَمتَم بصوتٍ خافتٍ مُلِئ حُزنًا: «وما الغاية من كل هذا؟ ما الذي يكدحون من أجله؟ ما الشيء المفقود الذي لم أفهمه بعد؟»
بَدَا أنَّه لا أحدَ منهم يستطيع أن يرى، كما يرى هو، تَعَاسة تِلك العاهرات اللاتي ذَهَب الخمر بعُقُولِهن عند الزَّاوية، ذلك الشَّقاء الذي غمر كلَّ شيءٍ حتى صار كلُّ شيء أجوفَ لا قيمة له. لم يكن يشعر أحدٌ بما يحتاج إليه هذا العملاق، مثلما لا يعلمون شيئًا عما ينتظرهم في المستقبل.
على الجانب الآخر من الطريق، عَلَت حروفٌ غامضةٌ تُومِضُ وتخبو، والتي لو كان استطاع قراءتها لكانت أوضَحَت له — رُبما — أبعاد اهتمامات البشر ولكانت أخبرته بشيء عن تصوُّرات هؤلاء الأقزام عن الاحتياجات والمَلامح الأساسية للحياة. في البداية كانت تلك الحروف تُومِض.
الحرف «ﺗ».
ثم يتبعه الحرف «ا».
ثم الحرف «ﺑ».
ثُمَّ الحرف «ر».
لتكتمل الكلمة «تابر».
وهكذا حتَّى تكتمل العبارة بارزةً في الأفق؛ كرسالةٍ تبعَث البَهجَة في وجه كلِّ من أضنَتْه الحياة وكَدُّها:
خمر تابر الفَوَّار لمزيد من القوة والحيوية.
وفي لمح البَصَر، اختفت العبارة مرةً أخرى وراء سِتار الليل، ثم تبعتها عبارة أخرى تكوَّنت بالبُطء نفسه حرفًا بعد حرفٍ لتُخَاطب ثاني أكبر اهتمامات البشر:
صَابون الجَمَال.
ستُلاحظ أنه ليس مُجرَّد خليطٍ من مواد كيمائية تُستخدم في التنظيف، ولكنَّه كما يُسَوِّقون له الصابون «المِثَالي». ثُمَّ تأتي عبارة أخرى ليكتمل ثَالوث تِلك الحياة التَّافهة:
أقراص تانكر الصَّفراء.
انتهت العبارات عند ذلك ثم أخذت حروفها تُومِض مُجدَّدًا بلون قِرْمِزي، ثمَّ تختفي، ثم تُومِض من جديد ثم تختفي، وهكذا.
«ﺗ ا ﺑ ر» …
في ساعاتٍ قلائل، كان صغير آل كادِلز قد ذهب إلى حديقة ريجنت الهادئة والظَّليلة، دَهَسَ السِّياج بقدمه ثم استلقى على مُنحَدرٍ مُعشَوشِبٍ قُرب مكانٍ يتَزَلَّق فيه النَّاس في فصل الشتاء، وهناك غَطَّ في النَّومِ قُرابَة السَّاعة. وفي السَّاعة السَّادسة صباحًا تقريبًا، كان يتحَدَّث إلى امرأةٍ مُتَرَنِّحةٍ وجدها تَغُطُّ في النَّوم في حفرة قُربَ مبستِد هيث، ويسألها عمَّا تَظُنُّه غَاية وجودها في الحياة.
٤
في صباح اليوم الثَّاني، بلغ الجوع بصغير آل كادِلز الذي كان يجول في أرجاء لندن مَبلغه. تَردَّد ماذا يفعل عندما شَمَّ رائحة الخُبز الطَّازَج الزَّكية وهو يُطرح في العَرَبة، ولكن لم يلبث أن خَرَّ على ركبتيه سريعًا كي يسرق الخبز. أفرغ العَرَبة تمامًا بينما فَرَّ الخَبَّاز يستنجد بالشُّرطة. لم يكتفِ بالعَرَبة ومَدَّ يده داخل المَخبَز ليَستَولي على الخبز الموجود على الطاولة وفي الصناديق. اعتدل وقَبضَة يدِه مملوءة بالخُبزِ وفَمه مليء به، وأخذ يبحث عن مخبزٍ آخر ليُكمِل به وجبتَه. كان هذا الوقت هو أحد مواسم السَّنة التي يَشحُّ فيها العمل ويرتفع ثَمَن الطَّعام ويَندُر، لكن سُكَّان ذلك الحي كانوا عطوفين للغاية؛ فقد تعاطفوا مع عملاقٍ سَرَق الطَّعام الذي يشتهيه كلُّ فردٍ منهم. صَفَّقوا له وهو يتناول الجزء الثَّاني من فَطُوره، وضَحِكوا منه وقد لَوَى قَسَماتِ وجهه مُستهزئًا برجل الشُّرطة.
قَال وفَمه مُمتلئ بالطَّعام: «أنا أتَضَوَّر جوعًا!»
صاح الحشد: «أحسنت!» «مَرحَى!»
وعندما هَمَّ باقتحام المخبز الثَّالث، أوقفه مجموعةٌ من رجال الشُّرطة انهالوا بهراواتهم على مُقدِّمة ساقيه. قال له الضَّابط المسئول: «انظُر هنا أيُّها العملاق اللطيف، تعالَ معي! فأنت ليس مسموحًا لك أن تبتعد عن البيت كلَّ هذه المسافة. تعالَ معي إلى البيت!» لقد فعلوا ما بوسعهم للقبض عليه. أخبرَني أحدُهم أنَّه كان هناك قطارٌ كهربيٌّ يقطع الشَّوارع جيئةً وذهابًا في ذلك الوقت وعلى مَتنِه لِفافَات من السلاسل وأحد كابلات السُّفن كي يستخدموها جميعًا كأصفادٍ في عملية الاعتقال الضخمة هذه. لم يكن هناك أي نيةٍ لقتله، فقد قال كاترام: «لا دَخل له بالمؤامرة المَحُوكة ضِدَّنا! لن ألطِّخ يديَّ بدماءٍ بريئة!» ثم أضاف: «حتَّى نستنفد كلَّ الخيارات المُتَاحة أمامنا!»
في البداية، لم يفهم كادِلز الصَّغير سببَ كل ذلك الكلام اللَّيِّن اللطيف، وعندما أدرك الأمر، قال لرجال الشُّرطة ألَّا يكونوا سُذَّجًا وانطلق هاربًا بخطواتٍ واسعةٍ خَلَّفتهم جميعًا وراءه. كانت المَخَابز في شارع هارو، وانطلق هو هاربًا من خلال قناة لندن ليصل إلى شارع سانت جونز وود، وجَلَس في حديقةٍ خاصةٍ ليُنَظِّف أسنانه ولتلحَق به إلى هناك فِرقةٌ أخرى من رجال الشُّرطة على وجه السُّرعة.
صَرَخ فيهم: «اتركوني وحدي!» وأخذ يَترنَّح في أرجاء الحديقة مُفسِدًا عدَّة مروجٍ خضراء وساحقًا تحت قدمَيه سياجًا أو سياجَين، بينما كان رجال الشُّرطة الهائجون يتبعونه؛ البعض من بين الحدائق والبعض الآخر يتبعه على الطَّريق أمام المنازل، وكان هُناك شرطيٌّ أو شرطيَّان يحملان البنادق ولكنهما لم يستخدماها. وعندما وصل إلى طريق إدجوير، كان هناك حركة ونبرة جديدتان وسط الحَشد كما دهست خيول يمتطيها رجال الشرطة على قدمَيه، وقد انزعجوا لأنَّه تَألَّم.
قال كادِلز الصَّغير وهو يُواجه ذلك الحَشد من الناس والشرطة الذين حُبسَت أنفاسهم خلال مطاردتهم له: «اتركوني وشأني! لن أؤذيَكم!» كان في تلك اللحظة أعزلَ دون سلاحٍ، فقد ترك مِعوَله في حديقة ريجنت. أمَّا الآن فيا للمسكين التَّعِس، شَعَر بأنَّه بحاجةٍ إلى سلاحٍ ما. الْتفَّ باتِّجاه سَاحة البَضَائع في محطة جريت وِست للسِّكة الحديد، واقتلع عمود إنارةٍ طويلًا، كان كصولجانٍ ضخمٍ بالنِّسبة إليه وأراحه على كَتِفه. وَجَد رجال الشُّرطة ما يزالون يُلاحقونه ليُزعِجوه، فعَاد من طريق إدجوير باتِّجاه كريكلوود ثمَّ سار غاضِبًا باتِّجاه الشَّمال.
مَشَى بعيدًا حتَّى وصَل إلى ولثَم ثُمَّ اتَّجه غربًا ثمَّ رجع باتِّجاه لندن مرةً أخرى. ومع انتصاف النَّهار تقريبًا، مَرَّ بالمَقابِر فوق قِمَّة هاي جيت ليرى أُبَّهَة المدينة وعظمتَها مرةً أخرى. انعطف وجَلَس في حديقةٍ وأسنَدَ ظهرَه إلى بيتٍ يَطُلُّ على لندن كلِّها. كان لاهثًا مُكفَهِر الوجه، ولكن لم يحتَشِد النَّاس حوله كما فعلوا أول مرةٍ ذهب فيها إلى لندن، بل تسَلَّلوا عبر الحدائق المُجاورة يسترقون النَّظر بحذرٍ وقد فَطِنوا إلى أنَّه مُتَجَهِّمٌ الآن أكثر ممَّا ظَنُّوا. صرَّح صغير آل كادِلز مُتذمِّرًا: «لماذا لا يتركوني وشأني! أنا يجِب أن آكُل. لِمَ لا يترُكني النَّاس وحدي؟»
جلس والكآبة تملأ وجهه يَعَضُّ على مَفاصِل أصابعه ويُحدِّق في الأفق حيث لندن. أحسَّ أنَّه وصل إلى ذُروَة التَّعَبِ والقلقِ والارتباكِ والعَجزِ عن التَّنفيسِ عن غضبه خلال تَجوُّلِه. هَمَس وقال: «هُم لا يقصدون شيئًا! لا يقصدون شيئًا ولن يذَرُوني وشأني وسيعترِضون طريقي!» ثُمَّ أخذ يُحدِّث نفسه ويُردِّد مرارًا وتكرَارًا: «هم لا يقصدون شيئًا!»
«أُفٍّ لهؤلاء البشر الأقزام!»
عضَّ بنواجِذِه على مفاصل أصابعه وقَطَّب جبينَه وحاجبَيه وقال مُحدِّثًا نفسه: «أقطِّع لهم الطبشُور، ومع ذلك فالعَالَم كله مِلكٌ لهم! لا مكانَ لي فيه. لا مكان!»
وما إنْ رأى رجال الشُّرطة الذين ألِفَ مظهرهم يتسلَّقون أسوار الحديقة، حتَّى انتابتْه نَوبَةُ غضَب عَارمٍ وقال بصوتٍ يُشبه النَّخير:
«اتركوني وشأني! اتركوني وشأني!»
قال رجل الشُّرطة الضئيل بوجهِه الأبيض الحازِم: «أنا هُنا لأؤدِّي واجِبي!»
«اتركوني وشأني! فأنا أُريد أن أعيش كما تعيشون! وأُفكِّر كما تفكِّرون! وآكل كما تأكلون. اتركوني وشأني!»
قال رجل الشُّرطة الضئيل: «إنَّه القانون! لسنا نحن من يضَع القوانين!»
ردَّ عليه كادِلز الصَّغير: «ولا أنا! أنتم أيُّها البشَر الأقزام من وضَع كل تِلك القوانين قبل أن أولد. أنتم وقوانينكم حدَّدتم ما المَفروض وما المحظور! لا طعامَ لي إلا إذا عَمِلت كعبدٍ، لا راحة ولا مأوى … لا شيء! والآن أخبرني …»
قال رجل الشُّرطة: «لا دَخلَ لي بكل هذا، فأنا لستُ الشَّخص المُناسِب لتُجادِله. عَمَلي هو تَطبيق القانون وحسب.» ثمَّ بدا وكأنه يستعد للنُّزول داخل الحديقة، وظهر من خلفه رجال شرطةٍ آخرون.
قال العملاق: «لا أريد العِراك معكم! احذروني!» وقد قَبضَ بيده على صَولَجَانه الحديدي الضَّخم وشَحبَ وجهه وأشار بإصبعٍ ضخمٍ وباهتٍ إلى رجل الشُّرطة محذِّرًا: «أنا لا أريد الشِّجار معكم! لذا، اتركوني وشأني!»
حاول الشُّرطي أن يبدو هادئًا وطبيعيًّا وهو يَرى بعينَيه مأساةً رهيبةً على وشْك الحدوث، قال لأحد زملائه المُتَوارين: «أعطني البَيَان!» فسلَّمه ورقة بيضاء صغيرة.
قال صغير آل كادِلز وقد تجهَّم وبَدا عليه التَّوتُّر والانزعاج الشديد: «اتركوني وحيدًا!»
قال رجل الشُّرطة قبل أن يقرأ البَيَان: «هذا يعني أن تذهب إلى بيتك! اذهبْ إلى المحجَر الطباشيري وإن لم تفعل فسوف تُعاقَب.»
تَمتَم صغير آل كادِلز بكلامٍ غير مفهوم.
بعد أن قُرِئ البَيَان، أشار الضَّابط بيدَيه، فظَهَر أربعة رجالٍ يحملون البنادق الآلية وتَمركزوا على طول الجدار في مَواضِع مناسبة. كانوا يرتدون زِيَّ شرطة الفئران. وبرؤية البنادق، ثَارت ثَائِرة صغير آل كادِلز وانفجر غضبًا وتَذكَّر لسعات بنادق صيد المُزَارعين في رِكستُون وقال لهم: «هل ستُطلِقون الرَّصاص عليَّ من تلك البنادق؟» وأشار إليها، وقَد انتاب الضَّابط خوفٌ من كلامه ذاك.
«إن لم تعُد أدراجك إلى مَحجَرك.»
وفي لَمح البصر، ألقى الضَّابط بنفسه خلف الحائط ومن فوقِه بسِتِّين قدمًا كان عمود الإنارة يُطوَّح به في الهواء فأصاب ذلك الضابط فلقي حَتفَه! انطلقَتِ الرَّصاصات من البنادق! طاخ! طاخ! طاخ! وتحطَّم الجدار وطارت في الهواء أجزاؤه والتُّربة التي تحته وما تحت التُّربة. شيءٌ ما طار معها في الهواء خلَّف قَطَراتٍ حمراء على يد أحد الرُّماة الذين رَاوَغوا هنا وهناك حتَّى استقرُّوا في مكانٍ وشَرعوا يطلقون الرَّصاص مُجدَّدًا. وقتها كان صغير آل كادلز قد أصيب بطَلقَتي رصاصٍ في جسده، والْتفَّ ليرى مَن الذي أصابَه في ظهره تلك الإصابة البَالِغة. طاخ! طاخ! كانت هناك بيوتٌ ودَفِيئاتٌ في مجال رؤيته، وأناسٌ يُراقبون في حذرٍ عند نَوافذ تلك البيوت. انتاب الجَميعَ حالةٌ من الرعب والفَزع. تَرنَّح صغير آل كادِلز وخَطَا ثلاث خطواتٍ أفقدته توازنه، رَفَع صولجانه الضخم وأسقطه ثُمَّ أطبَق بيدِه على صَدره؛ فقد أصابته رَصَاصة وبدأ يتَلَوَّى ألمًا.
«ما هذا الشيء الدافئ والرطب الذي يَسِيل على يَدِه؟!»
هكذا علَّق أحد الرِّجال الذي كان يراقب ما يحدُث من نافذة غرفة نومه؛ رأى وجهه وقد علاه الفزع ودمعَت عيناه عندما رأى الدَّم يَسِيل على يده. لم تقوَ قدَماه على حَملِهِ فخَرَّ على ركبتَيه وارتَطَم بالأرض جُثَّة هامدةً. أولُ عملاقٍ من شجرة العمالقة يَسقط في قَبضَة كاترام الحَازِمة. ذلك العملاق كان آخر من يظنُّ كاترام أن يبطش به.