شكوى إلى الله

 القاهرة في ٢٤ من أغسطس سنة ١٩١٧

كثيرًا ما تكيدني الأيام والليالي، فتحول بيني وبين كل عمل أتسلى به، وتصرف إلى نفسي ضجرًا وإلى رأسي طائفة من الأفكار لا أسيغ معها القراءة، ولا يلذ لي معها الحديث. عند ذلك أفر من سكون الدار فرارًا، وأفر من وجوه الإخوان إلى حيث تقودني قدماي في الأسواق، فأقف أمام الحوانيت أتسلَّى بالنظر فيها إلى ما يباع ويشرى، واليوم وقفت عند حانوت ورَّاق بالأزبكية، وطلبت إلى البائع الفتى أن يعرض عليَّ صنفًا من البطاقات عليه رسم الوجوه الحسان.

لبَّى البائع الطلب، وقدَّم لي منها عددًا وفيرًا، فرأيت على واحدة رسم جندي يقبل فتاة جميلة، وكتب تحت الصورة: من وهب حياته للمجد حقَّ له أن يسعد بقبلة من تلك الشفاه.

وعلى ثانيةٍ رسم جندي يبسم لفتاة تودعه، وكتب تحت الصورة: سأخضع العدو كما أخضعت قلبك.

ورأيت على ثالثة رسم فتاة وفتى تدل سحنتهما على اختلاف بينهما في الجنس. في شمال الفتاة زهرة، وفي يمينها يمين الفتى، وكتب تحت الصورة: كما اتَّحدت أوطاننا نتحد على الحب طول الحياة.

ثم رأيت على رابعة صورة زوج تقدم لزوجها الجندي هدية عيد الفصح من حلواء وزهر وكتب تحتها: هذه الحلواء وهذا الزهر الذي يباركه الله في عيده، أرجو أن يكون من شأنه أن يرفع مجدك، ويبقي لي قلبك.

أخذت أقلِّب البطاقات واحدة بعد واحدة، وفي داخل النفس أنةً تنفر من الحسرات فتمزق الفؤاد تمزيقا وفي العين دمعة تترقرق من الذكرى ويمنعها الحياء من السقوط.

أخذت أقلب البطاقات واحدة بعد واحدة، وأقول في نفسي أي بطاقة يكون فيها العزاء لمن أصبح لا يجد حبيبًا يبثه كلمة الحب. ومن لا زوج له تشاركه بإخلاص في هموم الحياة. ومن هو من جنس قد تغمطه حقّه الأجناس، ومن ليس له حول يدفع عن وطنه به الأذى؟

يا صاحب الحانوت يا صاحبي هل من بطاقة ترسم عليها السماء دليلًا للعزة الإلهية، ويكتب تحتها: إلى الله يرسلها من تملا نفسه الشكوى؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤