يمين رولان

 القاهرة في ٣ من نوفمبر سنة ١٩٢٢

أرأيت إذ تمر في أحياء المدينة الكبرى متسعًا من الأرض عليه أكوام من الرمل، وألواح من الحديد والخشب، وأكداس من الحجر والجير، وعليه ما تعلم وما لا تعلم من المواد ومن آلات التشييد والتعمير؟

تلك المواد وتلك الآلات أكثر ما يستخدمها أهل المعمار من مهندسي الغريبين أمثال رولان وغيره، ممن يعيشون بيننا.

أرأيت هناك آلة يحركها البخار مسلطة على ذراع من الصلب، كأنه ذراع النمرود، وهل رأيت هذا الذراع العاتي الجبار يرفع من الأرض كتلة حديدية ضخمة، فإذا قطع بها إلى السماء سبيلًا تركها تهوي، فترتعد حينئذ فرائص البطحاء حتى إذا بلغت الكتلة مقرها اهتزت منها جوانب الأرض اهتزازًا، واندكت منها دكًا، وكادت من هولها تمور؟

تلك الآلات وذلك الذراع هو ما أعنى به «يمين رولان»، وإن شئت فسمه «يمين المعمار الغربي».

•••

طالما وقفتني تلك العدد مع نفر من الضاربين في السبيل. طالما وقفت لأشهد جبروتها، وطالما أخذت الخواطر تنعطف على رأسي، وترسل معها على وجهي وشفتي ابتسامة وادعة بريئة من كل ذنب.

•••

أغدًا — أقول في نفسي — يصبح ذلك المتسع من الأرض الذي تضرب فيه أثقال الحديد، وتحفر فيه فؤوس الفعلة، وتخطه بنان المعمار. أغدًا يصبح ذلك الفضاء عامرًا، فيرتفع فيه البيت الشامخ العديد الطبقات، العديد الشرفات؟

أغدًا تطمئن في تلك الدور الآباء والأمهات والبنون والبنات والعروس وعروسه، والحبيب والحبيب، لهم فيها مسكن ونعيم، وقد أمر من وراء حجراتها وأقطع طريقي في طول أسوارها، ولا يصيبني إلا ما شاء الله من هناء الطرف بالقصر المنيف والدار الشامخة، وقد يفلت إلى سمعي من إحدى نوافذه نغمة شادية، أو دقة عازف تطير من تحت أصبعه رنة ينشرح لها صدري، ويرتاح لها قلبي، وتجري بها مهجتي؟

•••

وحقًّا يا أخي ما هي إلا أيام معدودة حتى يستقيم البيت، ويتنفس العمار في أرض كانت بالأمس خرابًا، وكل ذلك يرجع أكثر الفضل فيه إلى تلك الآلات التي جهزها العلم، والتي اصطلحت بيني وبينك على أن نطلق عليها اسم «يمين رولان».

•••

إلا أنني لا أخفي عنك أيها الصديق القارئ أنه على إعجابي بتلك العِدد والأدوات، ومع إكباري لكثير من مظاهر المدينة الحديثة في تخطيط المدن وتصوير المنازل، فإن حسرة تستولي على نفسي عندما تضرب «يمين رولان» على وجه أرضنا من غير رحمة ولا إشفاق، فتزول من آثارها رسوم مدننا، وتضمحل أشكال هندستنا، وتتحول أنظمة بيوتنا، وتتغير أساليب عيشنا وعاداتنا الخلقية، وكثيرًا ما تتناسب العادات والأحوال النفسية مع ظروف المكان والمحيط.

وا حسرتاه على منازلنا التي نبتت فيها طبائع الكرم، وشيم الوداعة، تستحيل إلى بيوت غريبة تملأها آلاف من الناس؛ كأنها ثكنات الجنود، أو مكامن النمل العديد.

وا حسرتاه على تلك «المناظر» التي كان يغشاها أجدادنا وآباؤنا، فيصرفون فيها سمرهم، وينشرون في جوها أنسهم، ويفيض في جوانبها جودهم المطبوع، وحسبهم المرفوع.

وا حسرتاه على تلك الدور ذات «الحيشان» والغرف الوسيعة، التي لا تضيق فيها الصدور، وينطلق فيها المحيى بالبشر والإيناس.

وا حسرتاه على كثير من المعالم الشرقية، يطغى عليها سيل الغرب الجارف فيغرقها، وكم فيها من جمال!

•••

إن في مظاهر عيشنا ومدنيتنا الطيب الصالح، فلنستمد له من مدينة الغرب دون أن نضيعه، ولنعمل على ألَّا تستبد بنا المدنية الغربية في كل أمر، ولنعمل على أن تترفق بنا «يمين رولان» العاتية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤