في نعيم الفن

 القاهرة في ١٦ من مارس سنة ١٩٢٣

… ثمَّ ذهبت إلى الملهى.

وهناك عزف العازفون، وتضاءلت الأنوار. وامتلأ المكان نغمًا. وتشبع الجو أريجًا.

ثم تطاولت الأعناق، وتوجهت الأبصار، ثمَّ عمَّ السكون، وحقَّ الإنصات، فلا تسمع حسيسًا.

ثمًّ انحسر الستار عنهن. وكنَّ نسوة كثيرات ومعهن رجال، ثمَّ انصبت الأضواء ذات الألوان من الثريات والآلات على تلك الأجسام ليظهر كل جزء من أجزائها. وكل حدٍّ من حدودها وتقاسيمها. وكأنهن كنَّ يسبحن في لجج من شموس وأنوار.

ولقد ذكروا لي خيرًا كثيرًا عن «الجوقة» الروسية الراقصة التي وفدت إلى مصر قريبًا، وكان الحق فيما ذكروا. وكنت أتمادى في التردد إلى الذهاب لأشهد هذا الفن خضوعًا لصوت كان يدبُّ في نفسي، وخضوعًا لما يستكن في القلب من عادات وعقائد قد نشأت من آدابنا القومية وأخلاقنا. فكنت أقول: أأذهب إلى مجالس الرقص، وطالما أحببت أن أكرم نفسي بمجالس الكمال. وكنت أقول: أأغشى مطارح الأهواء والمجون، وطالما ألفت أن أعرض نفسي للجدِّ والعمل. على أنني علمت بعدئذ أن في اللهو ما قد يدفع للجد، وأن في مجالس المجون ما قد يستفز للكمال، وأن في المسارح ما قد يرفع الإنسان من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح. وكذلك رأيت من رقص «أنابافلوفا»، وكذلك ما سمعت من نغم. أحقًّا كانوا من نسوة ورجال يذهبون ويجيئون على مسرح التمثيل؟ أم تلك طيور كانت تتهادى؟ أم غضون كانت تتمايس، أم تلك أزاهر كانت تطوح بها النسمات؟ أم تلك إشارات من السحر علمتها الملائكة للبشر، فكانت توجِّه النفس إلى التسبيح والتقديس؟ أم تلك إشارات إلى الملأ الأعلى تدل على أن في الفن الجميل معراجًا إلى الله

تالله ما ألم بنفسي فحش عندما تمايلت المتمايلات، واهتزت القدود، وتوردت الخدود.

وتالله ما ألم بها فحش عند ما درج الدارجون، ووثب الواثبون.

وتالله ما ألم بها فحش عندما تخاصر المتخاصرون، والتفت الغصون بالغصون. كأن أذرعًا وأيديًا عند إشارتها تستخرج من الفضاء حسنًا كامنًا، فتنثره إلى الأبصار، فتشعر به القلوب. وكأن أرجلًا تحجل على نغمات القيثار والأعواد تقطع في الفضاء مسلكًا من الحسن، تتبينه عند تلك الخطا. ذلك كان رقصهم، ولقد أصبحت أستنكر أن أطلق اسم الرقص على تلك الحركات عندما أتذكر مراقصنا التي رأيتها تدعو إلى الفجور، وتناجي النفوس بالفحشاء والمنكر.

كانت الراقصة طيرًا تمثل أجمل ما على الطير. وكانت الراقصة زهرًا تمثل خير ما تتلون به الزهور وتتشكل به الورود؛ بل كانت الراقصة خفة ورشاقة؛ بل كانت الراقصة نسيمًا.

أتظن أن في حركة الطير، وفي صورة الزهر، وفي هَبَّة النسيم، وفي ملاحة الرشاقة، ما يدعو إلى البغي والفحشاء؟

كلا. وتالله ما مر بنفسي فحش، فإن في جمال الفن ما يسمو بالنفس عن وساوس السوء، وطالما قيَّد الجمال نفوس الناظرين عند هيكله المقدس، فلا يعرفون عنده لغوًا ولا كذبًا، ولكنهم يعبدون، وقد يعشقون.

خِفِّي وارقصي يا راقصة الروس، وعلمينا من تلك الحركات التي تدعو للعبادة والتقى. إن الله هو ذلك الفنان الأعظم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤