عيد آمنة

 القاهرة في ١٩ من مايو سنة ١٩٢٣

إنها قطعة من النسيج الرقيق في نحو المترين، ولم تكن لتصلح لشيء مذكور، تلك القطعة التي بقيت من جلباب لسيدة من سيدات الدار. اتفقت فتيات البيت على أن يجعلن من تلك القطعة رداء لآمنة لتلبسه في يوم العيد.

•••

آمنة فتاة صغيرة في نحو الثامنة من العمر، قصيرة القامة، مليئة البدن، بسَّامة الوجه، مشرقة الجبين. ولقد أبقتها أمّها القروية عندنا لتترعرع في حضانة مَن في الدار، فهي أصغر مَن في البيت سنًّا، وهي صديقة للبيت ولمن في البيت. وهي ابنة للجميع، وخادمة أمينة للجميع.

ولمَّا علمت الفتاة الصغيرة بمشروع سيداتها من أنهن يحتلن ليجعلن لها من قطعة النسيج جلبابًا تتزين به في العيد، ولما تبينت صحة الخبر إذ رأت تفصيل الثوب وخياطته، فاض على وجهها السرور، وفاض في نفسها النشاط. فتطوعت لكل عمل من الأعمال التي تقدر عليها. بكرت على غير عادة، فأطعمت دجاج الدار وحمامه، وملأت أوعية الماء، ونشطت كل النشاط على غير ما ألفنا منها، ولم يكن لهذا من سبب إلا أنها تحققت أنها تلبس الثوب الجديد غدًا، وأنها تلبس حذاءها وتستقبل العيد.

•••

لقد كان الأمر، فجاء العيد، وارتدت الفتاة ثوبها القشيب، وزينت جيدها بعقدها الخشبي، ووضعت في جيبها كل ما اقتصدت من ملّيمات لا تتجاوز عدد الأصابع. وأذن لها أن تلعب في الحارة أمام الباب.

ولم يكن في البيت إنسان إلا آمنة والشيخ الأسود العجوز. أمَّا نحن أهل البيت، فكنا ذهبنا إلى المقابر، وكلنا قد بلغنا من العمر ما يؤهلنا لذكر أعزاء لنا قد غابوا في الثرى. فمنا من يذكر زوجًا، ومنا من يذكر أمًّا، أو أخًّا، أو أختًا، ومنَّا من يذكر والدًا، أو جدًا، ومنَّا من يذكر إخوانًا وأصدقاء.

ذهب الكل إلى القبور ليذكروا في يوم العيد موتاهم. ولقد تحمل نفسي فوق تذكار الموتى أثقالًا من شئون الحياة ومشاغلها. عدت من المقبرة وقضيت بعض ما اصطلح الناس عليه من واجب المجاملة في العيد، ثمَّ قصدت الدار لأستريح فيها، فوجدت على الباب آمنة تمرح وتلعب.

وجدتها إشراقًا وبهجة. وجدتها غبطةً وسرورًا. وجدتها وكأن جميع أعضائها الصغيرة تشير إلى أن أنظر إليها في جلبابها الملون الجميل. أمَّا الشيخ الأسود فكان على مقعده أمام الباب. منحنيًا على مسبحته، لا يكترث بشيء إلا بدمدمة الأذكار التي قد تعود ذكرها عندما ترتاح نفسه للعبادة.

لم تكن آمنة لتشعر بما أشعر به من حزن، ولم تكن آمنة ليمر بخاطرها ما يشق على نفسي من المشاغل والواجبات. ولم تكن آمنة لتقدر من الحياة إلا أنها ظفرت بالثوب الجديد، وأنها نالت من بين قريناتها حظوة وبهجة في هذا العيد. لم تكن آمنة لتقدر إلا ذلك. وحرام على الأيام أن تدس في تلك القلوب الغضة إلا ما يلائمها، ويريد الله أن يجعله نصيبها من غبطة وفرح.

•••

حرام على الأيام أن تسوق الحزن إلى الصغار. وحرام على الأهل أن يشركوا أبناءهم في أحزانهم، فيصحبوهم معهم إلى المقابر، وقلوب الصغار لم تهيَّأ إلا للسرور والأفراح.

حرام على هؤلاء الأهل أن يصدعوا تلك الأفئدة التي لا تريد إلا أن تدق ببهجة الحياة، فيحولوا بينها وبين بهجة الحياة. حرام أن نشرك الصغار في آلامنا، وحسب الصغار ما تعده لهم السنون والأيام من شدة ومحن.

•••

لقد حاولت أن أفرح بالعيد كما تفرح آمنة، ولكن هيهات هيهات! فقد حالت السن؛ بل وقد حالت المشاغل بيني وبين سذاجة المسرة. لم يعد للذين جف ماء الفرح من قلوبهم إلا أن يستفيضوه من نفوس الفرحين. وهل أدنى إلى الفرح من قلوب الصغار والآملين والأصحاء المعافين والمنعمين الذين غفلوا عن حوادث الدهر، وغفلت عنهم عيون الأيام! إن هؤلاء هم الذين تنجذب إليهم من الوجود مظاهر السرور، كما تنجذب إلى الحديد الكهرباء، فلننتفع بخصائصهم، ويجب أن ننال عنهم قسطنا من السرور، ويجب أن نمهد لهم حياة الأفراح حتى يفيض علينا شيء من بهجتهم يسرى عن نفوسنا سحائب الألم.

لم يبق لي ولا مثالي من أيام الأعياد إلا ابتسامة نأخذها مما يفيض من شفتي أمثال آمنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤