قرابين الانتخاب

 القاهرة في ٨ من يوليه سنة ١٩٢٣

كان الناس في قديم الزمان يقدمون القرابين والضحايا رغبة في رضاء آلهتهم، أو لاستغفارهم من الذنوب، أو ليجعلوا مما يقدمون وسيلة لمعرفة شيء من علم الغيب، والوقوف على كل شيء من أسرار الإلوهية وعزتها.

وقد كانت تقدم هذه القرابين وهذه الضحايا من خير ما تحرص عليه الناس من لحوم الحيوانات الغريضة، ومن الفاكهة الطيبة، ومن خير ما تنبت الأرض من بزر وحب، ومن خير ما يحتسيه الإنسان من خمر يلذ الشاربين، ومن خير ما يتطيب به الإنسان من دهن، ومن خير ما يحرقه من بخور!!

كانت الناس تجود بأغلى من هذا وذاك. كانوا يجودون بضحايا من البشر عندما يحسبون تلك الضحايا البشرية ترفع مقت آلهتهم، وتزيل غضبهم، وتمنع نقمتهم. وكم من حيوان أغرقه اليونان في اليم إرضاءً لآلهة البحار! وكم من تراب خلفته النيران من عظام ولحوم ليختلط ذلك التراب بباطن الأرض زلفى لمن يسكن جوف الأرض من الآلهة!! وكم من دم غاص في التراب ليروى منه سكان الأرض الأقدسون!! ولكن مرت العصور على هؤلاء الأجيال من البشر فتهذبت عقولهم شيئًا فشيئًا، ورقت نفوسهم رويدًا رويدًا، وضعف سلطان الأساطير والخرافات فيهم، فقلت الضحايا، واستبدلت بضحايا البشر دُمى وتماثيل قد تلقى في الماء. وقد يرمى بها في النيران فداء لتلك العذارى التي كانت الآلهة تشرب من دمائها وتنهش لحومها!!

•••

استبدلت كثير من التقاليد والطقوس الدينية بتقاليد وطقوس حديثة هي خير من الأولى. فأبطلت عادات ممقوتة. ونزلت أرباب عن عروشها. وأنقذت الأذهان من سلطان آلهة موهومة. على أن ربًا من الأرباب لم يزل مسيطرًا على أغلب نفوس البشر. لا يرتدع برادع الدين، وقد لا ينهاه زاجر العقل، وقد لا تزحزحه عن عرشه زلزلة العواطف المتيقظة!

أتدري من هذا الرب القدير؟ أتدري من هذا المسيطر الجبار القهار؟؟ …

أنه رب المصلحة الشخصية. وأنه أجشع الأرباب في طلب القرابين!

لا يقنع من اللحوم. ولا يثمل من الدماء. ولا يستمرئ الفاكهة، ولا يستطيب الشراب. ولا يرغب في طيب الدهون.

أن ربَّ المصلحة الشخصية يريد أن يتقدم له القوم في الانتخاب بقرابين من الضمائر!! …

ويل له!. ويل لهم من ربِّ الأرباب! …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤