مآتمنا

 القاهرة في ٣٠ من يوليه سنة ١٩١٥

مآتمنا تذهب برهبة الموت ووقار الأسى، فهي ممقوتة عند الله، وهي عار علينا في مظاهرها.

يزعم أهل النظر والعلم أن السرور أدعى إلى صنوف الحركات، وأن الحزن أدعى إلى السكينة. وذهب ابن خلدون إلى أن «طبيعة السرور هي انتشار الروح الحيواني وتفشيه وطبيعة الحزن انقباضه وتكاثفه»!

نعم. صدق في نتيجة رأيه الإمام، فالفرح والوجد أمران مقدوران على البشر من قديم يغشيان الأفراد والأمم. فأما الأول، فآيته الحركة وأما الثاني فآيته السكون. وإذا كان الأول يخلع على الوجوه بهجة ونضارة، فإن الثاني يلقي عليها صنفًا من صنوف الحسن أبلغ معانيه الصبر على احتمال المكروه، والشجاعة على احتمال الألم.

إذا صح لي الشك في قول الأمثال السائرة أن الكلام من فضة والسكوت من ذهب، فلقد آمنت أن صمت الأسى أفصح من كلامه، وإشارته أوقع في النفس من عبارته.

ألا أن الموت لا يطلب إلينا إلا أمرًا واحدًا، هو أن نتعظ به، فإنه أفصح خطيب، ونحفظ الوفاء لمن يموت في الحزن الصادق. وما مظهر الحزن الصادق إلا غمامة جميلة تعلو الوجه، ودمعة حارة تروي الوجنات، وتأوه صامت ينتزع من أعماق الفؤاد.

روي أن النبي أتى ابنه إبراهيم، وهو في حجر أمه يجود بنفسه، فأخذه النبي فوضعه في حجره، ثمَّ قال يا إبراهيم: «إنَّا لا نغني عنك من الله شيئًا»، ثمَّ ذرفت عيناه، ثمَّ قال يا إبراهيم: «لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق أولنا لحزنا عليك حزنًا هو أشد من هذا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكي العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب.»

•••

اللهم ارحم قومنا، فإنهم لا يعلمون كيف يجلون وقار الموت، ولا ينعمون ببهجة الحياة!!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤