الاكروبوليس

 القاهرة في ٣ من أغسطس سنة ١٩٢٣

وقفة بالحصن المقدس

من نحو ثمانية وخمسين حولًا، جاء إلى هذه الهضبة العالية التي تشرف من الجنوب على مدينة آثينا، رجل كان قد بلغ من العمر وقتئذ سن الرجولة، محيط بتاريخ البشر، عالم بتطور المدنيات، فوقف ساعة على سطحها بين معابدها البالية التي شهدت نحو خمسة وعشرين قرنًا خلت وقفة أنزلت على نفسه كلامًا صافيًا نقيًّا نيِّرًا، أشبه بكلام المأخوذين المسبحين بجلال الكون وعظمة الله.

اسم هذا الرجل رينان، وكان من أكابر البشر، ولقد تضمن قوله عن معابد «الاكروبوليس» نوعًا من التمجيد لذوق الإغريق وفنّهم وعلمهم وتاريخهم، حتى صغر عنده حيال عبقرية اليونان كل أثر من آثار الشعوب الأخرى، وقل في نظره أمامها كل جليل من مجهود القرائح.

جئت إلى هذه الصخرة، ولست متدرعًا بما تدرع به رينان من العلم، ولا أملك قلمًا كقلمه يسيل بالعذوبة والبيان. ولكني جئت إليها بقلب هيأته الظروف لأن يحس بما يحس به فؤاد صحيح. لأن يحس المؤثرين الخالدين الجمال والألم

أسجل اليوم بعض ما مرَّ بنفسي عند زيارة تلك المعابد، والإمعان في دقائقها، خضوعًا لما توحيه إلى الخاطر عبر التاريخ من غير حرص على ما يحرص عليه الواصفون، ومن غير عناية خاصة بما يعني بذكره المؤرخون. وإن ما يسجله هذا القلم لضرب من التصوير لبعض حالات النفس عندما يسمو بها إلى عالم آخر معنى من معاني العظمة والكمال.

الجمال المهمل

أثينا في ٣ يوليه سنة ١٩٢٣:

… وبكرت إلى «الاكروبوليس» فلمَّا بلغت باب الجنوب، اندفعت بسرعة لست أدري لها سببًا، ثمَّ أخذت أسير رويدًا رويدًا في طريق مصعدة، تنبت عليها أعشاب برِّية، أزهر بعضها، وعلى جانبي الطريق شجيرات من الصنوبر والزيتون قصيرة هزيلة مصفرة، وقد يرى الناظر قطعًا كثيرة من أعمدة وحجارة وصفائح من المرمر، على بعضها نقوش وكتابة، وقد ألقيت هذه البقايا جميعًا على الطريق هملًا من غير نظام. وبينما كنت أتلفَّت تارة يمنة، وتارة يسرة، وتارة للأمام، إذ قيد البصر رأس عمود رفيع ملقى بين هذه الأحجار، نحتت عليه أوراق نوع من نبات الشوك. جلست عند هذه القطعة الحجرية الصغيرة التي كنت أستطيع أن أرفعها بيدي من غير جهد. وفي هذه الجلسة كنت أتصور كل ما يستطيع أن يتصوره الإنسان من معاني الحسن، ثمَّ أسلمت نفسي مسحورًا بجمال هذه القطعة التي قد يمر أمامها السائر من غير أن ينتبه إليها، وهكذا الحال في كل جمال مهمل.

كنت أقول في نفسي كيف لا يعني القوم بهذه القطعة، فلا يمنعون عنها مسّ الرياح، ولا يحمونها من صيب السماء، ولا يحولون بينها وبين قيظ الصيف، ولا يضنون بها على عوادي الدهر والغير؟!، ثمَّ كنت أعود إلى نفسي وأحاورها، فأقول: أكان إسلامي لجمال هذا الحجر المنحوت ضربًا من التأثر بما كان يلقي في روعي من جمال فن اليونان، أم كان فهمًا صحيحًا للحسن قذف الله به في قلبي بعد عمر، لم أعرف فيه نفسي مفتونًا بالجمال؟!

وبينما كنت أتخيل صورة الأوراق على هذه القطعة أطول مما هي، وبينما كنت أتخيلها أقصر مما هي، وبينما كان خيالي يمد في أنحاء هذه القطعة طولًا وعرضًا، ويتعرض أوراقها صغيرة وكبيرة، قليلة وكثيرة، كان كل ما يهيئه الخيال حقيرًا، إذا قيس بما هي عليه في الحقيقة والواقع، وكأني كنت أقرأ عليها كلمتين صافيتين من كل إبهام: البساطة والجمال.

•••

ما الجمال؛ وماذا أقول في الجمال!

الجمال خطيب صامت، لا يرغب أن يتحدث الغير عنه، إذ في صمته كل فصاحة وفي سكوته كل بيان.

الجمال نسب وأوزان قد تحسه النفس أحيانًا بوساطة العين بعد خلوصه مما يعلق به من مادة وأضواء. وقد تسمعه النفس أحيانًا بوساطة الأذن دون أن يلبس أحرفًا، أو تكون له لغة تحفظ في المعجمات.

الجمال متكبر قاهر، متكبر؛ لأنه يجل عن أن يقدمه للنفوس أحد، فهو يعرف نفسه بنفسه. قاهر؛ لأنه يغلب الأنفس القوية على أمرها، فيوقع في أسره من شاء، ويتخير لرقه من شاء.

الجمال كالله وكالقوى الخفية من حيث أنها لا تعرف بذواتها، ولكنها تعرف بآثارها.

الجمال صحراء واسعة لا حدود لها يضلّ فيها الساري من أي ناحية سار، ولكنه أينما سار وجد فيه جنات ونعيمًا.

الجمال كتاب عظيم وضعه مزين السموات والأرض القادر على كل شيء.

الجمال ضرب من الأدب، فهو رواية طويلة لا تنتهي فصولها، ولا يتعب ممثلها، ولا يمل شاهدها.

الجمال ضرب من المنطق والمعقول مقدماته العين، أقيسته الفؤاد، ونتائجه الوجد والهيام.

الجمال عبده صالح لله، فلا يطلب إليك في حضرته إلا أن تسبح لمولاه.

الجمال معنى طلق، لا يريد أن يحد، ولا يريد أن يعرف؛ لأن الحدود والتعاريف من سفاسف الأمور، والجمال لا يتصل بهذه السفاسف.

الجمال معرفة، والله أعرف المعارف، وبينما كنت مغرقًا في شدة الإعجاب بهذا الفن، تاركًا لذاكرتي أحيانًا أن تتمثل بعض أوان من المرمر، أخرجت من مصر أخيرًا من مقابر الملوك، وحبست في دار الآثار في قفص من زجاج، بينما أنا كذلك أنعم النفس بمقارنة الجمالين، وأتخيل شيئًا رأيته على ضفاف النيل، وأمعن النظر في شيء أراه على جانب صخرة (الأكروبوليس). إذ أقبل الحارس الأعرج، وكان ينبغي أن أشعر بمقدَمه من بعد؛ لما يحدثه صوت قدمه وهو يمر بتثاقل على حصى الممشى لولا إغراقي في ضرب من الخيال.

ضحك الحارس في وجهي، ودمدم بكلمات يونانية، فهمت منها عبارة الجمال، وأشار بالانصراف. تبًّا لك أيها الحارس، لقد قطعت عليَّ عبادة حارة خالصة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤