السماء

 القاهرة في ٢٩ من فبراير سنة ١٩٢٤

ترسل السماء أضواء في الليل والنهار. وطالما أحيت السماء الخلائق بأنوارها وحرارتها. وطالما هدت كواكب السماء سفنًا ضالة إلى بر النجاة. وطالما أمدَّت السماء عواطف البشر بخير ألوان الشعر والخيال، فأسكنوا آلهتهم أفخم ما تخيلوه في السماء من أبراج وطبقات، ثمَّ نقلوا على الأرض أمثلة مما تصوروه، فعملت الفنون إذ ذاك شئونها: فشيدت المعابد الضخمة، والبيع الزاهرة، والمساجد العامرة.

إن الزهور والحقول لتنتعش انتعاشًا عند ما تشرق عليها الشمس من سماواتها في الصباح. وأن أرواح الأفراد والأمم لتنتعش كذلك إذا أشرقت عليها شموس المثل السامية.

•••

المثل الأسمى هو سماء صافية تستخرج البصيرة من كبدها كل خير؛ بل هو أفق رفيع يستنهض العواطف إليه، فتتحرك النفس دائمًا للرقى والعروج؛ بل هو معنى إذا امتلأت به نفس الإنسان استصغر أكثر ما يشغل الناس من سفاسف الأمور؛ بل هو إشراق ساطع كابتسامة الحور العين يملأ لألاؤه النفس غبطة وارتياحًا؛ بل هو ذلك الرقيب القوى الذي يسدد الخطى، ويوفق الفعال إلى حيث يريد الخير والحق أن تكون تلك الخطى وتلك الفعال. ذلك هو المثل الأسمى. ذلك هو سماء النفوس الصافية.

•••

في تلك السماء المعنوية — سماء المثل الأسمى — كواكب تهتدي بها النفوس الرشيدة التي تعلم كيف تهتدي بها، كما يهتدي الملاح بنجوم السماء، وهو يسير في البحر الزاخر. فيها كواكب للعدل، وللرحمة، وللمحبة، وللعطف، وللكرامة، وللخير، وللحق، وكم فيها من كواكب الخصال الحميدة، والشيم الكريمة.

وفي تلك السماء ترسم أشباح الأنبياء والقديسين والعظماء والصالحين من الناس والأبرار والصابرين والشاكرين والذاكرين. كلهم كواكب، وفي تذكرهم نور يهتدي به البشر.

فليجتهد كل إنسان في أن يصل بين حياته الأرضية المادية بتلك السماء المعنوية. وليربط بسبب بين عالم الحقيقة الحاصلة وبين عالم الخيال الجميل المنتظر، وليعلم أن الحياة الدنيا لا تطيب إلا إذا مزجت بحياة روحية عالية مداها المحبة بين الناس، وغرسها السلام، وأفقها السماء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤