لذكرى الأديب١

 ليون (فرنسا) في ١٨ من أغسطس سنة ١٩٣٠

… وفي الليل تتألق نجومٌ في السماء، وعلى الغصون زهورٌ تبتسم، وعلى الصدور لآلئ تداعب النور، وفي القصبة وحي ودرر بين أصابع الأديب …

•••

ويسألون ما الأدب؟ ويسألون من الأديب؟ …

الأدبُ عالم معنوي تتغذى منه العواطف الرقيقة، والأفهام الدقيقة؛ بل هو معراج ترقي به النفس إلى السماء لتشعر بالجمال، وتعقل الكمال.

والأديب إنسان يعلم كيف يتحدث إلى النجوم المتألقة، وكيف يخاطب الغصون المياسة والزهور، وكيف يجعل من صرير القلم نغمًا شجيًا.

يكدح ويكد، وقد يسهر الليل وراء لفظ من الألفاظ؛ بل قلْ وراء درة ليسكن فيها المعنى الظريف …؛ بل وراء أحرف إذا هي امتزجت، فكأنما هي أوتار تسمعك صوت المعاني عاليًا رنانًا؛ بل وراء قبس من نور يضيء حول الخفيَّ المستور في زوايا النفوس، فتراه واضحًا جليًّا …؛ بل عن صور من الفزع والجزع والغبطة والهناء، ليرمز بها لمعاني الفزع والجزع والغبطة والهناء …

•••

وبينما يكون في مجالس الناس إذ يقص القصاصون، ويتحدث المتحدثون، ويتسامر المتسامرون، فتنظر في وجهه، فترى حدقتيه كأنهما اتجهتا إلى عالم آخر. وكثيرًا ما تطير نفسه إلى حيث تناجي الملائكة، إلى حيث تتخاصر المعاني والكلم.

وبينما قوم يلهون في مآكلهم ومشاربهم، ومتاجرهم، وترهاتهم، ودسائسهم، يلهو الأديب بما يهبط عليه من عالم البيان، وما يستوحيه من عالم السحر الحلال.

وبينما قوم يعيشون بجسومهم ونفوسهم على الأرض وحول المادة، يعيش الأديب بنفسه في السماء وحول ما في السماء …

وطالما تحول ذهنه المكدود وإكسير دمه وخلاصة عصبه إلى تلك السطور التي تقرءونها، وتقولون: إنه يكسب منها ثناءً أو مالًا. ولكن كل ما يكسبه الأديب من مادة يتحول عنده معنى وأدبًا، تتنفسون من نسماته، وتتنسمون من شذاه.

يعيش الأديب من العمر ما شاء الله أن يعيش، ولكنه يعيش في الفن وللفن. وتصادفه في حياته آلام وأوصاب، ومع ذلك تمر عليه ساعة هناء لا يعدلها عنده أي متاع وهناء. ساعة يتزوج المعنى من لفظ، ساعة يحضر هذا الزفاف المحمود.

•••

يعيش الأديب في أدبه، ثمَّ يأتيه الموت! … الموت!!. حينئذ ينضب الحوض الزلال الذي كنتم منه ترتشفون. حينئذ يسكت البلبل الذي كنتم بأغاريده تطربون. حينئذ لا تجد الطيور من كان يداعبها في غدواتها وروحاتها. حينئذ لا تجد النجوم من كان يسامرها في داراتها وعوالمها. حينئذ لا تجد الحسان من كان يعلم كيف يناجي الحسان، ويفهم قدر الحسن والغزل.

حينئذ تفقد المعاني من كان يدق لها الطبول لتتخاصر مع الألفاظ، وتسألون أين الذي كان يخاطب الغصون إذا ماست، والفاتنات إذا دللن، ويحرك الأفئدة العاطفة، ويطمئن القلوب الواجفة … وتسألون أين الذي كان يحرق البخور ويعطر الهواء؟

إنه الآن في الثرى وتحت التراب …

•••

يا صاحب الجبين الندي، والذهن المكدود: أنك تموت بعد الحياة، وتسكت بعد الخطاب، وأنك تجد الملائكة تهيئ لك عقودًا مما ثقبته من لآلئ ودرر. فإذا كان في عقد منها خرزة صغيرة من خزف، فاعلم أنها دليل هذا اليوم الذي هبطت فيه من عالم الأدب الرفيع، فشاركت الناس لحظة في ترهاتهم وأباطيلهم. على قبر الأديب تحية وسلام.

١  كتبت لذكرى المرحوم السيد مصطفى لطفي المنفلوطي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤