دار ودار

 القاهرة ٢٠ من يونيو سنة ١٩٢٥

أعرف في بعض مناهج القاهرة، غير بعيد من إحدى دور الحكومة، منزلًا صغيرًا محيلًا شاحب اللون. ومكانته بين المنازل الفخمة التي تحيط به، وتواجهه كمكانة الرجل الهزيل الرث بين قوم ذوى نضرة وبهاء، فلا يلفت النظر حالهم بمقدار ما تلفته رثاثة ذلك المسكين.

•••

لقد سكن هذا المنزل صديق لي كان فيما مضى متوسط الحال. ولمَّا فتح الله عليه، وشال في جو المراتب تركه إلى منزل آخر كبير، منبسط العرض منبعج البطن، واضح اللون، نقي البشرة.

•••

لعل صديقي لم يخالف سنة المألوف، فأوسع على نفسه إذ أفاض الله عليه الخير، وخلى المسكن القديم لمن يتناسب حاله مع حاله من تواضع وإقلال. ولعل ذلك المنزل لم يطرأ عليه منذ عرفته شيء يذكر، لا في صورته، ولا في شأن أهليه، ولا في أمر أصحابه، فلم يصب ببتر، أو شق، أو تحويل، أو تغيير، حتى يحسن قوامه، ويجمل منظره. ولعل كل ما أصيب به هذا المنزل منذ عرفته كان مرض الرطوبة، فكان يعالج باستبدال أحجار غير التي بليت. وكان لا يغادره ساكن متواضع إلا ليحل محله ساكن يشبهه تواضعًا. وكان لا يبيعه مالك مقل إلا ليشتريه مالك مقل. ومجمل القول في تاريخ ذلك البيت أنه ذو بقاء طويل متشابه يحيط به الذكر الخامل.

•••

لكن على مقربة منه قصر فخم، هو الآن دار لإحدى مصالح الحكومة. وأذكر أني عرفته من نحو ربع قرن، إذ أتيت لأول مرة من الريف إلى مدينة القاهرة، ودخلته مع صديق طفل يتصل بوشائج القربى مع خادمة من خادمات ذلك القصر الذي كان يسكنه وقتئذ أهل الغز والإقبال.

أجلسنا في غرفة صغيرة، وكان ذلك أول عهدي بنور الكهرباء، فأخذت أعبث وألعب كما يعبث الطفل الريفي، وأتسلى بإصدار ذلك النور، فأدير الزر الكهربائي، وأنظر وأدقق حتى جاءت قريبة زميلي الصغير، وأخذت قسطها من مسامرته ومداعبته، ثمَّ انصرفت عنَّا، وانصرفنا إلى حيث كنَّا نبيت.

•••

مرت أيام وأيام، وللأيام أدوات ومعاول تعمل بها في الكون إصلاحًا وإفسادًا، وتشييدًا وهدمًا. فهدمت في تلك الدار مظاهر العز والإقبال، وورثها غير أهلها الأولين، ثمَّ تقادم العهد، فوصل إليها الخراب، فاغبرت وأصبحت لا تشرق بما كانت تشرق به من بهجة وسعادة، ثمَّ مرت أيام تلو أخرى، فأغلقت أبوابها وخزائنها على ما كان فيها من رياش وأثاث، ثمَّ مرت أيام تلو أخرى، ففتحت تلك الخزائن، وعرضت طنافسها وزرابيها وأنساب في غرفاتها المساومون والدَّلالون، ثمَّ مرت أيام تلو أخرى، فابتاعتها الحكومة، ودخل فيها المهندسون والبناءون، وشقوا في جوانبها، وبدَّلوا في أوضاعها، ثمَّ مرت أيام تلو أخرى، فسكنها مستخدمو الدولة من العمال والكتاب والحجاب، وأصبحت موضعًا تطؤه أقدام الخاصة والعامة، وكلهم يرى فيه له حقًا.

ومجمل القول أن هذه الدار تغيرت من حيث معالمها، وتغيرت من حيث أقوال أصحابها! وتغيرت من حيث زوَّارها وقاصدوها، وفعلت بها الغير ما لم تفعله بالدار الضئيلة الأولى.

•••

سبحان من لا يتغير …

نظرة إلى هاتين الدارين المتجاورتين تذكرك أن للمجد أجلًا، وإن طال وأخال أن الرفيع الذي دل ثمَّ ذل، واشمخر، ثمَّ اندثر، وشال به الإقبال، ثمَّ حط به الإقلال، قد يحسد المتواضع الذي يبقى على حاله طوال الأيام صابرًا ولربه شاكرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤