حول ما لله

 القاهرة في ١٨ من يوليو سنة ١٩٢٥

أنَّ بعض بيوت الله من مساجد، ومعابد، وكنائس، بحدها فخمة البناء، عالية الأركان، فيها الزرابي المبثوثة، والآنية النفيسة، والتحف الثمينة. وفيها مظاهر الفن والزخرف، وما تشتهيه نفوس الطامعين. وقد يؤم تلك البيوت قوم من الناس، وهم في مظاهر وجاهتهم وأبهتهم، فتنتظرهم على أبوابها السيارات الفاخرة والخيول المطهمة.

وتجد في بعض الحقول، وعلى حافة بعض النهيرات التي تجري في هذا الوادي، مسطحًا صغيرًا من الأرض، فرشت عليه أعشاب وحشائش مجففة، وله شبه سياج من غضون الأشجار وفروعها. وهناك، في وقت الأصيل قد تجد فئة من عمال الحقول يستقبلون قبلة الإسلام، ويصلون لله في بساطة، ويسجدون لجلاله في خشوع، ويذكرون اسمه لا في عنت القول، ولا في تكلف البيان.

عندما أتمثل صورة تلك المعابد الضخمة، وبعض زوَّارها وروَّادها، ثمَّ أتمثل صورة ذلك المصلى الذي يهيئه الفلاحون في ناحية من حقل، أو على مقربة من غدير أتذكر بعض ما يروى من آثار اليونان الأقدمين من أمر الزلفى إلى الله ونية المتزلفين.

•••

يذكر «فرفريوس» أن أحد سراة «تساليا» قصد إلى معابد «دلفوس» ليتقرب إلى ربه، ومما أعده لذلك مائة من الثيران مذهبة القرون.

وبينما كان هذا الغني عند المعبد بمظاهر جبروته ووجاهته، إذ أتى رجل فقير من أهل «هرميون»، فاقترب من المذبح، وأخرج من جعبته الحقيرة قبضة من الدقيق، وألقى بها في لهب النار المتوقدة عند المعبد. عندئذ أعلنت السادنة، التي كانت ينتظر الناس قولها في أي القرابين كان عند الله أكرم، أنَّ ربها قد تقبل بقبول حسن قبضة الدقيق من فقير «هرميون»، ولم يكن ذلك نصيب القرابين التي ساقها سري «تساليا».

•••

ولقد يتخذ أهل الأخلاق من مثل هذه القصة بعض أدلتهم في الحكم على قيمة الأعمال بما يتصل بها من النيات. فذلك الذي كان يتزلف إلى ربه بمظاهر كبريائه دون أن تخلص نفسه من عوامل المفاخرة، كان أبعد من الله من ذلك الذي تقدم له بالقليل مخلصًا. وأحسب أن هذا العامل القروي الذي يفرغ من عمله، فيذكر ربه وحيدًا منفردًا لهو أدني إليه من هؤلاء الذين يقصدون إلى بيوته العالية؛ ليعلنوا للناس أنهم تقاة؛ وليظهروا للناس أنهم من الصالحين. وأخال أن كثيرًا من هؤلاء الذين يتظاهرون بغيرتهم على دين الله وعلى ما لله فيصيحون، ويهولون، وينادون لنجدته، ويحفزون لنصرته، هم أبعد من الله من شيخ مخلص، يرشد في السر، ويصلح في السكون.

•••

أن لله صدق النفوس، وأنه لفي غنى عن المساجد الفخمة والكنائس الضخمة، وأنه لفي غنى عمَّا يساق إليه من ابتهالات منمقة، وصلوات غير صادقة، وأنه لفي غنى عن ضجة تقام كأنها لوجهه، أو كأنها لنصرة دينه ما لم يلابسها حسن النية وإخلاص الضمير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤