رغيف الشفاء

بين الواقع والخيال

 شرنفاش في ٨ من أكتوبر سنة ١٩١٥

في الحياة ناس ممتعون يحويهم الوجود وهو كاره. يدنون إلى النعيم من طرقٍ يكره الله أن يسير فيها البشر الصالح؛ لأنها مسالك الأدنياء والأشرار، ويقول أهل العبادة والتوكل بأن الله لا يطرح البركة في عيش هؤلاء الناس وصدق السادة المتوكلون.

إن الرجل الذي آتيك بحديثه، أيها القارئ، هو شبيهك في نوعه الحيواني، وأرجو أن تكون أعلا منه في إنسانيتك، وأرقى مطمحًا.

عاش هذا الرجل حينًا من الدهر بين الناعمين، يطعم كما يطعمون من ألوان مختلفة، وينام كما ينامون على لين الفراش، ويخلع الحرير، ويلبس الحرير. وكان يشتغل قليلًا، ويظفر من عمله بأجر غير قليل وجاه جزيل، وينال من هذا الجاه تحيَّات وافرات.

ظل على هذا الحال حتى تولاه مس سيء من حياة النعومة، التي ليست من حقه؛ فأصبح شاحب اللون، شحيم الأعضاء، أجش الصوت، مرتجف القلب، مضطرب الضمير.

هال الرجل أمر مصيبته، ففزع إلى التداوي، فجيء له بصفوة الأطباء.

نصح له الطبيب بالملاهي ليستريض بأنوارها وحسناتها وحسانها، فلم يزده اللهو إلا سقمًا على جسمه، وسعيرًا في نفسه.

نصح له الطبيب أن يتعدى البلاد، ويجوز الشرق للغرب، وينعم هناك بأرض حيا الله رباها، وجدَّد بهجتها، فلم تزده بلاد البهجة والنعيم إلا همًّا.

وصف له الطبيب إكسير البحار، وهواء الجبال، وعصير القلوب والأكباد. وصف له الطبيب ما وصف، فلم يبق من الأدوية ولم يذر، ولكن ظل فيه الداء.

وبينما هو ذات يوم يفكر في حاله، ملقى على مقعده، إذ ساقه النوم إلى عالمه، فرأى فيما يرى النائم كأن الحائط قد انشقت، وظهر له من خلفها شبح نوراني، يكاد يكون وجهه كالشمس، أو كالقمر، وسمع صوتًا ينادي بأن العلة لا تزول إلا بغذاء من رغيف طاهر معجون بدم الناس، بدم لا ينبع من جرح، ولا يرشح من مرض.

ذعر الرجل من هذه الرؤيا، وضرب في الأرض يسأل كل عالم بتأويل الأحلام؛ حتى التقى بشيخ من أهل الله صالح، قال له: أنا آتيك بتأويل رؤياك، فاتبعني وسار به بعيدًا بعيدًا عن المدينة، وانتهيا إلى شجرة عجوز، بارك الله في ظلها لمن يلجأ إليه من عملة المزارع الواسعة القريبة إليها، وجلسا يرقبان رجلًا عليه ثوب خلق أزرق، يعمل بجد في الأرض.

ولمَّا كادت الشجرة تنتقل ظلالها، وتتوسط الشمس في السماء، مال العامل عن عمله، واتجه نحو الشجرة والعرق يتصبب من جبينه، وإشراق الجهد الصالح يتألق على وجهه، وانتحى ناحية في ظلها الواسع، وأخرج من جعبةٍ حقيرةٍ رغفانًا تكاد تكون سوداء ومعها نبات يؤكل، ودعا الشيخ وزميله دعوة الكريم، فتقدم الشيخ إلى الطعام، وأشار على زميله العليل بإتباعه، وأكلا من طعام العامل وشربا من مائه.

شعر العليل بنوع من الرغبة في الطعام، لم يكن يشعر به من قبل، وبدأ يفكر في أمر الحياة واختلاف جهد الناس فيها ونصيبهم منها، وأخذت تتسرب إلى فكره طائفة من الخواطر من شأنها أن تكسر حدة الطمع، وتحقر النعيم المكتسب من وراء الذلة والدناءة، وتهدي إلى حياة الرضا، والبساطة، والحلال. وكان في ذلك اليوم بدء الشفاء.

•••

أنَّ رغيف العامل الفلاح معجون بدمه وعرقه، وبينما هو يهيئه تنقض على كتفه غربان من البشر، يختلسون من لحمه الطاهر طعامًا هنيئًا، فيئن وهو صابر، ولكن الله عدل شهيد يعطف على الفقير المظلوم جزاء صبره، ويصيب الغربان بمرض في الجسم، ووخز في الضمير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤