سعادة الباشا أو صورة من صور التصنع

السبت في ١٩ من ديسمبر سنة ١٩٢٥

من الناس من يهيِّئ له القضاء أسبابًا ليتصف بصفات النبالة والشرف. فما يبطنه مما تخفي النفوس نبيل، وما يظهره مما تبديه الجوارح لطيف ظريف، وهؤلاء هم الأشراف حقًّا ولو لم يكونوا من طبقة الأشراف عرفًا واصطلاحًا.

ومن الناس من ينشأ فظًّا فيما يعلن، مرذولًا فيما يسر، فتعاف مظهره ومخبره معًا. فهو حقًّا من الطغام رغم وفرة نعمه، وكثرة خدمه، وحسن ثيابه. ومختلف ألقابه.

وذلك لأن النبالة الحقّة صفة من صفات النفس، وإن مظاهرها من الحركات الخارجية لا تؤثر أثرها الصالح في الناس، ولا تقع وقعها الحسن إلا إذا كانت ترجمة مطابقة لما في النفس الشريفة من معاني الشرف وبواعثه.

•••

وإليك وصف نبيل من نبلاء العرف، لم يجعله الله ليكون نبيلًا، ولكن الزمان الأعمى حشره في زمرة ذوي الألقاب من أهل الشرف!

عرفت ذلك الباشا منذ كان طفلًا، فكان يأكل كما تأكل الأطفال من أبناء طبقته، ويفرح كما يفرحون، ويحزن كما يحزنون، فيه وداعة البساطة، فإذا حزن ظهر عليه حزنه، وإذا غضب بدا عليه غضبه.

ذهب إلى المدرسة وجدَّ واجتهد، وجاز عليه كل ما يجوز على التلاميذ من حيل، وفوز، وآمال، ومثوبة، وعقوبة. وبعد أن جاز دور التلمذة ارتقى سريعًا إلى درجات أرباب المناصب المميزين، ثمَّ حبي الرتب، ثمَّ منح الألقاب. وخلاصة القول: إن صديقنا الطفل الوديع المتواضع حسبًا وحالًا أصبح شخصًا آخر. أصبح مولاي الباشا …

ومولاي الباشا تعلم من غير حذق كيف يهتز في مشيته معجبًا، وكيف يحيي أقرانه القدماء من أصحاب «الحضرة» بنوع من البسمات الحائرة التي توهمك أنها تهبط عليهم من الأفق الأعلى، وكيف أصبح يحيي زملاءه أصحاب «السعادة» بنوع من الابتسامات المترققة المتظرفة التي لا تطابق في صناعتها صناعة الله لوجهه القاتم وشفتيه الغليظتين!

أصبح لمولاي الباشا بطن، ولقد كان رفيقي الطفل لا بطن له، وأصبح صوت سعادته يتشعب عند خروجه، فبعضه يخرج من الأنف الشامخ، وبعضه يخرج من حلق مقبوض العضلات، وقد تسمع من صوته المتوزع بين نبرات الغرور، والادعاء، والتعاظم، رنات تشبه نغمة التؤدة والرزانة والوقار، كان مولاي يوهمك في تباطؤ أن كلماته ذهبية تتثاقل في تتابعها لما فيها من النفاسة والحكم …

أين ذلك الصوت الماضي الذي لم يكن فيه تكلف ولا صناعة، وكان يخرج كأنه حديث القلب السليم؟ وأين تلك المشية الخفيفة التي حلَّت مكانها المشية المتثاقلة؟ وأين ذلك الاطمئنان والسكون الذي كان لعضلات رقبته ووجهه، فحلَّ محله التقلص والتصعير؟ وأين ذلك الهندام البسيط، وقد حلَّ محله نوع من الأناقة والتجمل، لا يتناسبان وسحنته البغيضة.

•••

أشفق على مولاي الباشا أن تعتاد حنجرته وأرجله وعضلاته ونظراته ما لا يلائمها من الطبع، ويصبح مثله مثل الذي يدع صنعه الذي يليق به ويشاكله، ويطلب غيره فلا يدركه؛ ولذلك أعيد عليه ما قرأه وقرأناه في كتاب «كليلة ودمنة» في باب «الناسك والضيف»

«زعموا أن غرابًا رأى حجلة تدرج وتمشي، فأعجبته مشيتها، وطمع أن يتعلمها، فراض على ذلك نفسه، فلم يقدر على إحكامها، وأيس منها، وأراد أن يعود إلى مشيته التي كان عليها، فإذا هو قد اختلط، وتخلع في مشيته، وصار أقبح الطيور مشيًا.» …

•••

مولاي: خفف عن نفسك غلواء شخصيتك الموهومة، وكن كما أراد الله أن تكون عليه مما يلتئم مع شكلك، ومما يتفق مع ما راضك عليه آباؤك وأجدادك، واعلم أن من لبس ثوبًا ضافيًا فقد يتعثر، ومن لا يحذر مخاطر التعالي فقد يتدهور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤