التسامح

 القاهرة في ١٩ يونيه سنة ١٩٢٦

في هذا الوقت الذي يحلّ فيه كدح العام وكده على الجسوم، وتقع فيه ضروب من الأوصاب على العضل والأعصاب؛ بل في هذا الوقت الذي قد يشتد فيه القيظ أحيانًا، فتذبل الزهور على العيدان، ويشرد فيه الكرى عن الأجفان؛ بل في هذا الوقت الذي قد تعرض فيه لنوَّابنا الكرام ألوان الآراء، ويطلب إليهم أنواع الإفتاء؛ بل في هذا الوقت الذي يذهب فيه الفحول من شيوخنا مذاهب الجدال، وتظهر في مجالسهم مظاهر النضال؛ بل في هذا الوقت الذي تضجر منه النفوس، وتسأم، فتهيج من الجليل، وتهيج من القليل. أقول: في هذا الوقت يطلب إلى عزيز عليَّ أن أتحدث إلى القرَّاء في معنى التسامح — وآه لولا التسامح وبلسمه الشافي؛ لالتهبت النفوس من كل مجادلة، أو من كل مبادلة، ولولاه لجرحت نفوس الناس من التشاد، وتورمت أفئدتهم من الأحقاد، ولولاه لتقطعت أوصال المحبين، وتفرقت جموع المتواصلين، فهو نعمة لولاه لما ظل الخير بين الناس.

ولقد يكون للتسامح غدَّة روحية، جعلها الله في القلوب لتفرز فيها عصيرًا طاهرًا، يرهمها كلما قرحت من أمور الحياة الاجتماعية وشئونها القاسية، ولقد يكون التسامح أدنى الخلال بجدارة ابن آدم الذي سوَّاه ربه وسوَّى معه ضعفه ونقصه.

يقول أهل الأخلاق: إذا كان من حق الإنسان أن يقيد نفسه، ويربط عقيدته بما يبدو له حقًّا، وأن يميل عمَّا يظهر له باطلًا، فمن واجبه كذلك حيال غيره أن يحترم آراء هذا الغير فيما يبدو له حقًّا أو باطلًا دون أن يلزم بالاقتناع بحقه، أو مطاوعته في باطله. ولا يقصر الأمر في احترام رأي الغير على الرأي المستكن في النفس، أو الملابس اللينة، وما تخفي الصدور، لكنه يتناول مظاهر هذا الرأي من قول ينطلق من النفس انطلاقًا إلى الحياة الظاهرة، أو من عمل يتحقق به أمر من أمور هذا الوجود على أن يكون هذا القول، أو هذا العمل غير متعارض وحق الغير، أو معطل لمسعاه.

ويقول أهل الأخلاق أيضًا: ينبغي ألَّا يتخذ الإنسان وسائل العنف، ولا يستخدم ضروب التأثير القاهر ليحول شخصًا عن آرائه وعقائده لعقيدة أخرى، ولو كانت تلك العقيدة صحيحة سليمة، وما كان عليها ذلك الشخص معتلة سقيمة، لكن لكي يأخذ أحدنا غيره إلى رأيه ينبغي أن يسلط عليه الحجة برفق، ويرسل إليه البرهان متينًا لينًا؛ ذلك لأن الأدلة والحجج تعمل في النفوس عملها، ولو كانت مصفحة بالمكابرة؛ لأن الحق ضياء، والضوء جذاب بطبعه، والباطل ظلام، والظلام بطبعه منفر ممقوت مهما دفعت إليه الأهواء التي تطمس على البصائر وتعمي الأبصار.

قد يخيَّل للمرء أحيانًا أن الاقتناع برأي من الآراء يحمل المقتنع به على الدعاية له بنوع من المغالاة، يمت إلى عدم التسامح، وقد يخيَّل للمرء أحيانًا أن الذي يقتنع برأي ولا يبشر به بشدة، هو مفرط في حق عقيدته وإيمانه، مستخفٌّ بمبدئه ورأيه، لكن لو تأمل الإنسان قليلًا لوجد أن الحرص على تأييد رأي صحيح لا يقتضي الشدة في وسائل ذلك التأييد؛ لأن خير مؤازِرٍ للحقيقة نورها الساطع، وإن الحق لشديد بنفسه، قوي بأثره وتأثيره.

ولطالما أدَّى التعصب لرأي من الآراء وعدم التسامح فيما عداه إلى القطيعة بين الخلان؛ وحسب الإنسان — لكي يتسامح — أن يذكر أنه مهما بلغ من الوصول إلى الحقائق، فإن جوهرها المطلق ليس في حيازته، وإنما هو في حيازة الله، وحسبه أن يتذكر كذلك أن بعض الحقائق التي تحكمنا ببراهينها، وتبهرنا بضيائها قد يسطع من خلفها نور يتضاءل عنده كل ما نرى من ضياء.

ولطالما أدى كذلك تمسك أهل النفوذ والسلطان والحكومات برأي من الآراء مع عدم مراعاة التسامح فيما يخالف هذا الرأي إلى تقسيم الأمم شيعًا، وتمزيقها ألفافًا، ورياضة بعض على الخنوع والذلة، وبعض على النفاق، وبعض آخر على الجمود. وسر عظمة الأمم في الإباء يبت في أفرادها، والصراحة تفيض بين بيئاتها، والتفكير الحرّ يعمّ رؤوس مفكريها.

•••

والتسامح في درجة من درجاته فد يتشكل بصورة العفو عن بعض الزلات والذنوب، وصفة التسامح من الصفات التي ينسبها السادة أهل الدين والتقوى إلى الله واسع الرحمة الغفور. وقد أتخذ الأنبياء والصالحون من التسامح والعفو ما جملوا به شمائلهم، فاتصف بالتسامح موسى، وقدَّس التسامح عيسى، وعمل بالتسامح محمد حتى لقد ورد فيما يروى من الآثار الإسلامية أن رسول الله العربي لمَّا قدم مكة، وضع يديه على باب الكعبة والناس حوله وقال: لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.

ثمَّ قال: يا معشر قريش: ما تقولون، وما تظنون؟ فقال قائلهم: نقول خيرًا، ونظن خيرًا. أخ كريم وابن عمّ رحيم، وقد قدرت. فقال الرسول: أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم، اليوم يغفر الله لكم.

وجدير بالمرء أن يذكر قول من قال:

وخذ من الناس ما تيسر
ودع من الناس ما تعسر
فإنما الناس من زجاج
إن لم ترفق به تكسر

فتسامحوا وتصافوا، إن الله يحب المتصافين المتسامحين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤