الشباب المدبر والشعرة البيضاء

 شرنفاش في ٥ من نوفمبر سنة ١٩١٥

أيها القارئ الصديق الشاب:

إن الفتى الذي ألقى عليك قوله كان من هؤلاء الذين أعزهم الله بآية الشباب فقضى ربيع العمر بين لذة الحب ولذة الأمل، ولذة العمل، ولبث يعدو في ذلك السبيل الزاهي حتى اشتعلت في رأسه شعرة بيضاء أدرك بها أنه قطع في سبيل الله ما قطع. وأنه كاد يدخل في مسلك قفر من نعمة الصبا، ونعيم الغزل.

ظن الفتى أن تلك الشعرة هي نذير كاذب بفوات الشباب، وزعم أنها فوتت على نفسها غذاءها من لحمه ودمه فابيضت فخاطبها قائلًا: «ليس لك أن تزعجيني أيتها الشعرة، فما زلت بحمد الله فتيًّا أحب زهرة الربيع الوليدة العطرة، وأطرب من حديث الغانيات وأصبو لذكر كل عمل مجيد.»

ما زلت محبًّا للحياة أعانقها إجلالًا لما فيها من عظمة، وحرصًا على ما تظهر به من جمال، فيغشاني الليل، ويجود بفترة هادئة تقبل عليَّ فيها طوائف الرغبات، وإذا بخل الدهر برغبة جاد الليل لنا عنها بجميل العزاء.

يلحق الليل النهار فيشرق وجه الوجود، وتلقي شمس الصباح في نفسي قذيفة من القوة أتعقب بها كل عمل صالح. وهكذا اليوم الصالح إن أغلق في الليل عن عزاء، فإنه يفتح مع الفجر على نشاط ورجاء.

هذه يميني أيتها الشعرة البيضاء، محشوة بالعافية، وهاتان قدماي تحملاني على الأرض غير وجلتين ولا متخلخلتين، وهذا سمعي ليس به وقر، وهذا بصري حديدًا، فإذا كنت أيتها الشعرة نذير الهرم، والهرم نذير الموت، فاجعل اللهم يوم لقائي لك في أيام الشباب، فلقد نعمت به ولقد أحببته ووددت لو ألقاك اللهم فتيًّا.

يقولون: «إن في تلك الكواكب البراقة أودية وظلالًا، فأي فتاة من أهل السماء تنتظرني اليوم تحت كروم هذا النجم اللامع لأقبلها وأشرب من عصير تلك الكروم وأستأنف الحب في عليين، على مرأى من الملائكة والمطهرين.»

•••

وا أسفاه لو فلت الشباب، ولم نقض من الشباب إربته.

أن الحياة جميلة، وخير ما في الحياة ربيعها، وخير الربيع ما انقضى بين الحب والعمل والأمل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤