للعام الهجري الجديد

 القاهرة في ١٧ من يوليه سنة ١٩٢٦

في ليالي هذا الأسبوع الأول من شهر المحرم رسمت على صفحة السماء أهلة؛ كأنها شقق اللجين تتزايد، ثمَّ تتزايد حتى تصبح بدورًا، كلما تقدمت ليالي الشهر إلى منتصفه، ثمَّ تتناقص هذه البدور حتى تغيب، وهكذا تنشأ الأهلة، وتنمو في كل شهر عربي، وهكذا تتضاءل البدور وتضمحل وتغيب.

ولقد اعتاد الناس أن يستبشروا ببزوغ الهلال، أول كل شهر عربي، ويدعوا ربًّا طالما تقبل دعاء المستبشرين أن يهله بالأمن والإيمان والبر والسلامة، وأن يجعل الشهر مباركًا عليهم، وعلى آلهم وعشرائهم ومن يحبون.

•••

وفى هذا الأسبوع من هذا الشهر كم من دعوة عرجت إلى السماء من قلب يملؤه الرجاء، وكم من قبلة ساذجة طاهرة ألقتها أم رءوم على جبين ولدها وهى تنظر إلى الهلال باسمة مستبشرة، وكم من صديق نظر إلى وجه صديقه وفاض من عيونهما البشر بعد أن لمحا القمر الناشئ في الأفق، وإن وراء هذه الدعوات وإن حول هذه القبلات، وإن خلال هذه البسمات، قد يتجلى عطف الله على الناس ورحمته السابغة عليهم، والله يحب الآملين، ويرأف بمن يحسن به الظن من عباده، ولا يرضى عن القانطين منهم الذين لا يرجون ولا يتشوقون.

•••

في الأخبار أن الله أوحى إلى داود عليه السلام أن أحبني، وأحب من يحبني، وحببني إلى خلقي، فقال داود: يا رب كيف أحببك إلى خلقك؟ قال: اذكرني بالحسن الجميل، واذكر آلائي وإحساني، وذكرهم ذلك، فإنهم لا يعرفون مني إلا الجميل.

وقيل ليغفرن الله يوم القيامة مغفرةً ما خطرت على قلب أحد، حتى أن إبليس ليتطاول لها رجاء أن تصيبه.

وعلى ذلك نستقبل العام الهجري، ونحن نذكر الله ذا الآلاء والرحمة والإحسان. نذكره راجين الخير متفائلين طامعين في إحسانه وغفرانه، وما الحياة القيمة إلا بشر ورجاء وطموح للخير والعلاء. فأقبل أيها العام الهجري إذن على بركة الله ورحمته وحنانه، فالرحمة يا رب هي أحب صفاتك إليك، وحسن الظن بك أحب ما تطلبه إلى عبادك، وأنَّا لنرجو رحمتك، ونحسن الظن برحمتك ورأفتك، ونرجو عفوك عمَّا سلف.

•••

اعتاد الناس أن يهنئ بعضهم بعضًا عند دخول السنة الجديدة، وليت شعري علام يتبادل الناس تلك التهانئ؟ ألأن عامًا أضيف إلى العمر، فكان كأنه الحجر الجديد، يسمو به لتلك الحياة هيكلها؟ أم لأن العام الجديد مجموعة من التجارب تذكي النفس، وتعينها على أن تتكمل؟ أم يهنئ الناس بعضهم بعضًا في مستهل الأعوام؛ لأن المرء يجتاز من سبيل العمر مفازة، فخرج من مخاوفها سالمًا، وقطع طريقًا، فلم يضل فيها، ولم يك فيها من العاثرين؟ أم يهنئ الإنسان الإنسان بالزمن الذي انقضى من العمر، فأصبح ما سوف يتحمله الإنسان من سني العيش وأنصبه أقل عددًا وأخف أحمالًا وإثقالًا؟!

لو أنصف الناس لحبسوا التهانئ على ما في الحياة من قِيم، وإن عامًا جديدًا يفتح سبيله في عمر الإنسان العاقل الحكيم لهو نعمة من الله، قد يستفيد المرء من بركاتها، ويثقف بعظاتها، ويرفع النفس بتجاربها وآياتها.

•••

إذا كان لنا أن نستقبلك أيُّها العام الهجري الجديد بنوع من أنواع العبادة عملًا بوصية أهل التقى، الذين يستحب عندهم بناء السنة على الخير؛ لكي يكون ذلك أحب وأرجى لدوام بركة الله، فتقبل منَّا ربَّنا دعاءً خالصًا، نرفعه إلى وجهك الكريم مخلصين.

اللهم لقد قطعنا من العمر مراحل فيها كبونا، وزلت النفس، وعثرت القدم، فأعنا على أن نستفيد لبقية طريقنا من كبوة كبوناها فيما مضى، وعثرة عثرناها، فيما انقضى. اللهم لقد كتبنا بأعمالنا صحفًا تشهد عندك علينا بما أحسنا وبما أسأنا، فأعنَّا على أن تكتب في صحيفتنا الجديدة ما يزيد فيها الحسنات على السيئات.

اللهم تقبل منَّا دعوةً صالحةً لبلدنا الذي نعيش في ظله، ونستمتع بخيره، ولأحبابنا الذين ننعم بعطفهم وودادهم، وأنا لنحمدك دائمًا، ونأمل في برك وخيرك. آمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤