لهجة ابن الخاقان

 القاهرة في ٢٤ من يوليه سنة ١٩٢٦

لما مات السلطان الخليفة محمد وحيد الدين السادس، ناولني صديقي الأستاذ داود بركات جريدة من جرائد الشام لأقرأ فيها ما يأتي: «تلقينا من سمو البرنس محمد سليم أفندي الكلمة الآتية: يشكر البرنس محمد سليم باسم أعضاء البيت الملكي العثماني رجال المفوضية العليا والحكومة المحلية والشعب البيروتي والوفود التي أتت إلى بيروت من الجهات، وجميع من تفضلوا، فشاركوا آل عثمان في تشييع جنازة السلطان الخليفة وحيد الدين السادس طالبًا من الله ألا يريهم مكروهًا في عزيز. باسم العائلة الملكية العثمانية البرنس محمد سليم بن السلطان عبد الحميد خان الثاني».

لم يقدِّم إليَّ الصديق تلك الجريدة لأطلع على كلمة شكر مفيدة في جريدة سيارة، لكنه أراد أن التفت إلى كلمة قد لا تمرّ دون أن تترك في النفس أثرًا غير الآثار التي تتركها في النفوس كلمات الشاكرين المحزونين، كلمة شكر للناس ممن كانوا يقدرون أن من واجب الناس أن يشكروهم بعد الله، وأن من حقهم حيال الناس أن يقبلوا الشكر، أو يردوه. كلمة شكر ممن كانت تنخفض لهم أرفع الرؤوس، وتتضاءل عند عزهم أعز النفوس. كلمة شكر ممن كانت الجباه والأنوف تتضع عند حشمهم، وترغم عند خدمهم، كلمة شكر يكتبها ابن الخاقان الأعظم في جريدة سيارة، وفى نهر من أنهارها التي تتسع لأكثر ما تخطه أقلام الكاتبين، ولأكثر ما يروى من أخبار الناشرين، ولأكثر كلمات الآخرين. فسبحان من يهز العروش، ولا يهتز عرشه، ويضع الأعلياء، ويرفع الأذلاء، وهو باقٍ في عظمته وملكوته، لا يداني عزته عز، ولا تهز عرشه قوة.

أن الخواطر تدعو الخواطر، وبعض الذكريات تدعو الذكريات، وبعض العبر تدعو للعبر. ولقد تذكرت فيما تذكرت عندما قرأت كلمة الشكر زيارة لقصر من قصور قياصرة النمسا. عرضت فيه للزائر أمتعتهم الغالية وزخارف الدنيا التي كانوا بها ينعمون. ونعيمها الذي كانوا فيه يتقلبون. وفى القصر رأيت غرف نومهم ونعيمهم، وغرف أسمارهم وعظمتهم. وفي غرفة من الغرف قليلة الرياش رأيت سريرًا بسيطًا، ومحرابًا، ومنضدةً، وضعت عليها كتب مقدسة. ووقف بنا الدليل، عند هذا السرير الضئيل، وفي هذه الغرفة الساكنة التي تتجلى فيها آثار الزوال، ومظاهر الاضمحلال، قال: هنا مات فرنسيس يوسف القيصر، وبموته مات عهد القياصرة. وفي هذه الغرفة التي وقفنا بها وقفةً محيت كل مخايل العزة التي كانت تتجلى فيما رأت العين من غرف تخيل لنا الذل بعد العز، والإقلال بعد الإقبال، والشقاء بعد الهناء، والفناء بعد البقاء، وحول السرير الذي ذهب صاحبه إلى حيث لا يعود، وفى الغرفة التي خمدت فيها أنفاس كانت قوية، وخفت فيها صوت كانت تخفت عنده الأصوات، لم يبق إلا صدى يكاد يتردد حول المحراب. أن الملك ليس إلا لله، والعظمة الحقّة هي له دون سواه، ثمَّ هبطنا إلى حيث رأينا مكان مراكب القياصرة، وتصورنا الخيول المطهمات وجلالة الراكب، ورهبة المواكب، ولكن وقع نظرنا على المركبة التي حملت فيها الملوك إلى مقابرهم على مقربة من تلك المركبات التي كانوا يذهبون فيها إلى مواكبهم، فتذكرنا كذلك أنه يخلف الشقاء الهناء، وقد يخلف الفناء البقاء. فلو علم العاقلون من الملوك والأمراء والسادة والعظماء أن السماء في الأفق قد تتصل بالغبراء، ولو فطنوا أن الرفيع قد يسفل، وأن نجمه قد يأفل، لهونوا على أنفسهم نزعات الكبرياء، وخاطبوا الناس بلسان الناس، فإن لهم يومًا تستبدّ بهم فيه يد الحدثان، وتصير لهجتهم كما صارت لهجة ابن الخاقان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤