الرضا

 القاهرة في ٥ من أغسطس سنة ١٩٢٦

… في الأرض زهرة ناضرة، تشع من حولها هالة من الحسن والبهاء، قد تحسبها ابتسامة لمَّاعة كالأمل. وقد تحسبها مراحًا تطمئن إليه العين، ويستريح إليه النظر. وقد تحسبها نورًا ينبعث من الأرض ليضئ بأشعة البشر ناحية من نواحي الوجود، وقد تحسبها عينًا تتجه إلى السماء. ويلوح من حولها الرجاء.

وفى الأرض كذلك زهرة ذابلة قد تحسبها مثالًا للانقباض والكآبة. وقد تحسبها النجم الآفل، والحسن الزائل، وقد تحسبها كلمة الانقطاع، أو تحية الوداع.

وربما كان السبب إلى نضرة الزهرة الباسمة ذلك الشباب الذي يتسلط على حياتها. وربما كان في ماء الحياة الساري في أنسجتها، وربما كان في محيطها المندي الذي يدفع عنها أعراض الذبول، ويبعد عنها زمن الأفول، ولكن أيًّا كان السبب، فإن الزهرة الناضرة تظل رمزًا للبشر والرضا.

وربما كان سبب انكماش الزهرة الذابلة مرضًا أصابها، أو قيظًا لفحها، أو هرمًا بلغ منها، ومهما تعددت الأسباب فإنها تظل رمزًا للانقباض والعبوس.

•••

مثل الإنسان الذي يفيض البشر في وجهه، وينطلق الرضا من محياه، مثل الزهرة الناضرة تبعث الأنس إلى النفوس، والقرة إلى العيون، والانشراح إلى الصدور، ومثل الإنسان المكفهر الوجه، المقطب الجبين، مثل الزهرة الذابلة، إذ يدعو النظر إليها إلى الأسى والسآمة.

أن الأول ليفهم لغة الإشراق، ويحن إلى السرور. أما الثاني فلا يعرف إلا الظلمة، ولا تنطلق نفسه إلا إلى الديجور. الأول يطرب للغناء، ويتشوق لحنين الحداء. أما الثاني فلا يتسمع من الوجود إلا صيحة الشوم، ونعقة البوم. الأول يأنس لزقزقة الأطيار، وحفيف الأشجار. أما الثاني فيعبس للأقدار، وتسود في نظره أضواء الأقمار.

قد يجد العبوس لحالته تلك من الانقباض أسبابًا. فتارة يحسبها من ضنك العيش، وتارة يتوهم لها أسبابًا من السقام، وأوهامًا من الآلام، وتارة يحسبها في خيبة الرجاء، أو في شدة البلاء، لكن لعلَّ أدقّ الأسباب إلى سر حالته استعداده للجزع من الوجود، وخلوه من درع الرضا ووقاية التسليم.

لو علم الإنسان حق العلم أن في قوة الإيمان بالأزل وقوانينه ما قد يخفف شدة شقائه، ووطأة ضرائه، لما تردد في أن يأخذ طريق الفلاسفة الرواقيين، فآمن بما تنزل به إليه سنن الكون بأرضه وسمائه وقبل الأمور بالرضا.

•••

روي أن النبي العربي سأل طائفة من أصحابه ما أنتم؟ قالوا: مؤمنون. فقال: ما آية إيمانكم؟ فقالوا: نصبر على البلاء، ونشكر عند الرخاء، ونرضى بمواضع القضاء. فقال النبي: مؤمنون ورب الكعبة.

وروى الغزالي فيما روى أن عابدًا عبد الله دهرًا، فأرى في المنام أن فلانة الراعية تكون رفيقة له في الجنة، فسأل عنها العابد إلى أن وجدها، ثمَّ استضافها لينظر إلى عملها الذي تستحق عليه نصيبها من الجنة والخلود، لكن العابد كان في دهشة من أمرها عندما كان يبيت قائمًا وتبيت نائمة، ويظل صائمًا وتظل مفطرة، فقال لها العابد: أما لك عمل غير ما رأيت؟ فقالت الراعية: ليس لي والله إلا ما رأيت. فألح العابد عليها في أن تتذكر ما لها من سجايا وخصال، فقالت المرأة: لي خصيلة واحدة، هي أني إن كنت في شدة لم أتمن أن أكون في رخاء، وإن كنت في مرض لم أتمن أن أكون في صحة، وإن كنت في شمس لم أتمن أن أكون في الظل، فوضع العابد يده على رأسه عندئذ وقال: هذه والله خصلة يعجز عنها أكبر العبَّاد.

•••

وصفوة القول أنه إذا كان من حق الإنسان أن يضجر بما هو واقع، ويعبس ويثور مما يؤلمه من الحياة ويؤذيه، وإذا كان من حقه كذلك أن يكون طموحًا إلى ما ينبغي أن يكون، غير قنوع بما هو كائن، فإن من واجبه أيضًا أن يبتسم للعيش، ويعرف البشر والرضا، في حوادث الدنيا وأمور القضاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤