الإيثار

 القاهرة في ٦ من فبراير سنة ١٩٢٧

في مثل هذا اليوم، من الأسبوع الفائت، أشرت على صفحة هذه الجريدة، إلى أن المنقِّب في أطلال القديم يجد بين الترب تبرًا، وفى مبعثر الحصا ذهبًا. وكنت أحقق لنفسي ما أشرت إليه، فأخرجت من خزانة كتبي بعض الأسفار ذات الورق الأصفر. ذات الطبع الكريه، ذات الهوامش والحواشي، وكلها، أو أكثرها مما وضع المتقدمون عليهم الرحمة ولهم الفضل. وكلما فسحت لي مشاغل الحاضر، تناولت هذه الأسفار لأسمع منها بعض نغمات الغابر، واليوم أحببت أن أشرك معي القراء في بعض ما سمعت.

•••

قرأت للغزالي ما يأتي: «قال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك، أطلب ابن عم لي، ومعي شيء من ماء، وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، ومسحت به وجهه، فإذا أنا به، فقلت أسقيك؟ فأشار إلي أن نعم، فإذا رجل يقول آه، فأشار ابن عمي أن انطلق بالماء إليه. قال: فجئته، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك؟ فسمع به آخر، فقال آه. فأشار هشام أن انطلق به إليه. فجئته، فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات. رحمة الله عليهم أجمعين».

ثم قرأت ما يلي: «قيل: خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له، فنزل على نخيل قوم فيه غلام أسود يعمل به، فإذا أتى الغلام بقوته دخل الحائط كلب، ودنا من الغلام، فرمى إليه الغلام بقرص فأكله، ثمَّ رمى إليه الثاني والثالث فأكلهما، وعبد الله ينظر إليه. فقال: يا غلام كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت. قال: فلم آثرت به هذا الكلب؟ قال: ما هي بأرض كلاب، أنه جاء من مسافة بعيدة جائعًا، فكرهت أن أشبع وهو جائع».

•••

وإن الفكر لتسوق الفكر، كما أن الذكريات تبعث الذكريات، فرحم الله ذلك الزمن الذي يروي لنا أن من أهله من كان يؤثر حياة غيره على حياة نفسه، فبمثل هؤلاء سادت الشعوب. ورحم الله ذلك الزمن الذي كان يعتقد الناس فيه بالفضائل، ويؤمنون بأن الله يبوئ جنته من ينكرون الأثرة، ويعملون للإيثار؛ بل رحم الله ذلك الزمن الذي فيه كان يرى بعض أهله، أن الجدير بأمر من الأمور أولى به أن ينزل عليه هذا الأمر، وأن الأحق بشيء أولى به أن يصيب ذلك الشيء؛ لأنه حقَّه. رحم الله ذلك الزمن الذي قدر فيه الإيثار قدره.

والآن نجد الأثرة تسمع صوتها، فيخفت صوت الإيثار. يزاحم عديم الكفاءة الكفء ليقصيه بمختلف الحيل الدنيئة عن منصبه، وينزل بالفارس المغوار بأحط الأساليب عن مركبه. لا يقنع الغني الميسور بيسره، فيتلمس بناء ثروة من مال الفقير ويزيده عسرًا على عسره. وأين ذلك الزمن الفائت وأين فضائله أين؟

•••

بمثل أساليب الغابر الفاضلة، تعتز الدول وتسمو الأمم، وبمثل الأثرة والأنانية الحاضرة تذل الحكومات، وتضمخل الشعور، ولو فشا في الناس خلق الإيثار لما تنازعوا في وزارة، ولا تنافسوا في إمارة!!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤