أيام العيد

 القاهرة في ١٠ من إبريل سنة ١٩٢٧

أيام الأعياد هي دورات للفلك كغيرها من دورات الفلك. لا يتغير فيها نظام السماء في شيء، ولا تتغير حركة الأرض قيد شعرة عن مجراها. الكواكب تسير في الأفق الأعلى وفق قانونها، كما شاء الله أن تسير، والأرض كما كان الأمر منذ الأبد، ما برحت تستقبل الجديدين، فتعبس تارة لوجه الليل، وتبتسم أخرى لوجه النهار. وما زالت الشمس كما يتصورها الناس، تبرز من خلف ستارة الأفق من فجر كل يوم، ثمَّ تسبح لتتوسط السماء، ثمَّ تنحدر رويدًا رويدًا حتى تغوص وتغيب، ثمَّ تعود، فتطفو مرة أخرى؛ لتري الناس وجهها كأنه أصفر رهبةً من عمق الفضاء وملكوت الله لا يذرع ولا يحد.

•••

لكن إذا كان عالم الأفلاك لم يتخلف عن نواميسه في أيام العيد، فهناك عالم آخر ظهر فيه التغير واضحًا جليًا. ذلك هو عالم النفوس.

توافق الناس في أيام العيد أن تهتز نفوسهم هزات شديدة، اصطلحوا على تسميتها بالسرور أو الفرح. ومن شأن تلك الهزات أن تحدث في أمور الناس غير ما ألف الناس في كل يوم. تحدث في المدن والقرى حركة أشد، وتحدث في لباس الكثيرين أناقة وكياسة، وتحدث في وجوههم زهاءً وبشرًا، وتجري على ألسنتهم دعوات وشكرًا.

•••

في مسافة من الطريق لا تزيد عن الميلين شهدت أكثر مظاهر العيد. رأيت بعض الأصدقاء يقبلون على بيت صديق لهم. وجميعهم يحملون على ألسنتهم دعوة لأعزب الدار، أن يهيئ له الله ما تصبو إليه نفسه من عروس صالحة، ولتلميذ الدار أن يعينه الله على أداة الامتحان ونيل الشهادة، ولشيخ الدار أن يتقبل الله منه تقواه، ويمتعه بزيارة حبيبه الرسول، ولعريس الدار أن يرزقه الله بخير الخلف.

الناس جميعا يعلمون أمر الدعوات في كل يوم من أيام العام؛ لكنهم قد توافقوا أن يرسلوها في العيد حارة صادقة، كأن الله قد خصص ذلك اليوم لدعوات عباده ليتقبل منها ما يتقبل، وكأن الناس ينتظرون في هذا اليوم أكثر منه في كل يوم رحمة الله عليهم ورأفته بهم.

ثم رأيت بعد ذلك عربة فيها صبية يصيحون ويصخبون، ويضجون، وكل دلائل السرور بادية عليهم. أوردتهم بالدماء مترعةً، وأنفاسهم مسرعةً، وحركاتهم كثيرةً ومنوعةً وضحكاتهم غزيرةً، ووجوههم مشرقةً مستديرةً، وكل ذلك من آثار الفرح. والناس تعلم حقًّا في كل يوم من أيام العام، ما السرور والفرح، لكنهم توافقوا في أيام العيد على أن يستعينوا بمظاهر الفرح على خلق الفرح.

ثم رأيت بعد ذلك عائلة تتكوَّن من أبٍ يسير آخذًا بيد طفله يجري وراءه، ووراءهما أمٌّ يتقدمها ابنتان لابستان جلبابيهما الحمراوين الجديدين، وفي أيديهما بعض ما يبيع المرتزقة من حلوى ولعب. وما كان أشد هذا المنظر وقعًا في نفسي، إذ بدت لي عين الأم الرءوم لا ترى في هذه الطرقات الهائجة المائجة إلا غبطة أبنائها في ثيابهم الجديدة فرحين مستبشرين. آه لو علم الذين يخلعون كل يوم ثيابهم الغالية ليستبدلوها بغيرها من الثياب الجديدة الغالية قيمة الثوب الجديد عند من يجددونه لأبنائهم مرة في كل عام!!

ثم رأيت كذلك عربة يركبها شباب من المستهترين يرقصون، ويطربون، ويشربون، ويتمايلون ويترنحون، وفي القول يبتذلون، والناس حقًّا يعلمون في كل يوم من أيام العام رذيلة الاستهتار؛ لكنهم توافقوا إكرامًا للعيد أن يتسامحوا في بعض مظاهر الاستهتار.

•••

أيام العيد إذن تتجلَّى في عالم النفس في نزعات مشتركة، وتوافق بين الناس على أن يبتهلوا ويفرحوا ويوسعوا على أنفسهم ويتسامحوا.

والناس يهيئون أعيادهم لأنفسهم بأنفسهم دون أن تتغير الأرض والسماء بما يعملون، ففي الكون تظل مواطن اللذة، وفيه تظل مواطن الألم. وأنك حيث ترى في يوم العيد الموسر يتبختر في جديد كسائه مطمئنًا في فرحه وغبطته، قد ترى المعسر الكادح في ثيابه البالية لا يفكر إلا في عسره وشقوته!

وإنك في النهج الذي يجتمع فيه المجتمعون، ويعيد فيه المعيدون، قد تجد مكانًا يفترق فيه المفترقون، ويشيع فيه المشيعون!!

إن أشد الناس استفادة من الحياة من استطاع أن يجعل جلبة آمالها وأفراحها، تستر ضجيج آلامها وأتراحها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤