الإغراق في المجاملة

 القاهرة في ١٧ من إبريل سنة ١٩٢٧

من الناس من تفيض الطبيعة على نفوسهم، وتلامس فعالهم مظاهر الظرف والحياء، فيكرمون من ليس بكرمهم جدير، ويتلطفون مع من ليس بلطفهم أهلًا، فإذا كان من قواعد الظرف والكرم أن يتلطف المرء بمن لم يجعل نفسه موضعًا للكرامة والإحسان، فمن العدل أن نكافئ أهل الخير بوفرة الإقبال عليهم، وأهل الشر بمظاهر الانصراف عنهم.

قال المتوكل لأبي العيناء: إلى كم تمدح الناس وتذمهم؟ فقال: ما أحسنوا وأساؤا.

ولقد يكون في الإقبال على من لا يستحق الإقبال والمجاملة تفريط في حق الجماعة وفي حق من يجامل. أمَّا في حق الجماعة فإن وضع الدنيء الوضيع في حسن المعاملة مكان الرفيع، فمن شأنه أن يعمل في تقديم الأشرار وتأخير الأخيار. ومن حق الأمم أن يتقدم أخيارها، ويتوارى أشرارها.

وأمَّا في حق الشخص الذي يجامل؛ فذلك لأن صاحب العيب إذا لم يشعر بعيبه ربما زادت نفسه مع الزمن سوءًا. وإذا لم يذكر الكريم بمحامده ربما ضعفت في نفسه محامده.

قال خالد بن سالم: دخلت على أسامة بن زيد فأثنى عليَّ ثناءً حسنًا، ثمَّ قال لي: إنما حملني على أن امتدحك في وجهك أني سمعت النبي يقول: إذا مدح الإنسان في وجهه ربا الإيمان في قلبه، ولقد قيل في الحديث: اذكروا الفاسق بما فيه. ولم يكن ذلك من الاغتياب.

•••

ولربما كان من أجمل ما اعتمد عليه الدين المحمدي في إصلاح الجماعة، أنه جاء بقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى كان في الإسلام بذلك نظام الحسبة، واشترط بعضهم في المحتسب الذي يحق له أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر أن يكون مأذونًا في ذلك من الحاكم، ورأى بعض العلماء فساد هذا الشرط، فاثبتوا لآحاد الرعية من عقلائها حق الحسبة من تعنيف الغير في سبيل المصلحة، ومن كسر الملاهي ومن إراقة الخمور وما إلى ذلك مما كان السلف الصالح يستبيحون عمله للخير والمصلحة.

•••

روي عن حيان بن عبد الله قال: تنزه هرون الرشيد بالدوين ومعه سليمان بن أبي جعفر فقال له هرون: قد كانت لك جارية تغني فتحسن، فجئنا بها. قال: فجاءت الجارية فغنت، ولكن الخليفة لم يحمد غناءها. فقال الخليفة ما شأنك يا جارية؟ فقالت الجارية: ليس هذا عودي، فقال هرون: للخادم جئنا بعودها. قال: فجاء الخادم بالعود، ولكنه وجد في طريقة شيخًا يلقط النوى، فصاح الخادم به ليفسح له الطريق، فرفع الشيخ رأسه فرأى العود، فأخذه من الخادم، فضرب به الأرض فكسره. حينئذ أخذ خادم الخليفة الشيخ إلى صاحب الشرطة، وطلب إليه أن يحتفظ به؛ لأنه طلبة أمير المؤمنين، ثمَّ ذهب إلى مولاه الخليفة، وقص عليه الخبر، فاستشاط الخليفة وغضب، واحمرت عيناه فقال له سليمان ابن أبي جعفر: خفف عنك الغضب يا أمير المؤمنين، وابعث إلى صاحب الشرطة بضرب عنق الشيخ فقال الأمير: لا، ولكن نبعث إليه ونناظره، فلما أحضر الشيخ أمام الخليفة قال له: يا شيخ، ما الذي حملك على ما صنعت؟ فقال الشيخ: إني سمعت آباءك وأجدادك يقرأون هذه الآية على المنبر: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ وأنا رأيت منكرًا فغيرته … فلم يكن من الخليفة الكريم بعد ذلك إلا أن أمر له بجائزة.

•••

إذًا لم نستطع وفقًا لآداب عصرنا وعرفنا أن نكون في شجاعة الشيخ المحتسب لنجهر للعائب بعيبه، فلا أقل من ألا نسوي في مظاهر المجاملة بين الأخيار وبين الأشرار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤