أنت أنت الله

 الإسكندرية في ١٨ من سبتمبر سنة ١٩٢٧

إذا ما اتجه الفكر في السموات حيث انتشرت النجوم في الليل، وإذا ما كلَّ البصر فيما لا نهاية له من الآفاق المظلمة، وإذا ما خشعت النفس خشعتها من رهبة السكون الشامل، فإنك تشرف بوجهك الكريم من خلال هذه الآفاق، وتسمع صوتك في ذلك السكون، وتمس بعظمتك النفس الخاشعة المطمئنة. حينئذ تبدو الآفاق المظلمة كأنها باسمة مشرقة، ويتحول السكون إلى نبرات مطربة، تنبعث من كل صوت، وحينئذ تتغنى النفس الخاشعة لتقول أنت أنت الله.

•••

وإذا ما كان المتأمل على شاطئ البحر الخضم، وأرسل الطرف بعيدًا بعيدًا حيث تختلط زرقة السماء بزرقة الماء، وحيث تنحدر شمس الأصيل رويدًا رويدًا كأنها الإبريز المسحور؛ لتغيب في هذا المتسع الملح الأجاج، وحيث تتهادى الفلك ذات الشراع الأبيض في حدود الأفق الملون بألوان الشفق، كأنها طائر يسبح في النعيم. إذ ذاك يشعر المتأمل بعظمة واسعة دونها عظمة البحر الواسع، وإذ ذاك تقر العين باطمئنان الفلك الجاري على أديم الماء الممهد، وفى رعاية الله الصمد حيث تكون مظهر العظمة، وحيث تطمئن النفس لرؤية ما تطمئن إليه في منظر جميل، إذ ذاك يدق الفؤاد بدقات صداها في النفس: أنت أنت الله.

•••

وإذا ما انطلقت السفينة بعيدًا بعيدًا في البحر اللجي وهبت الزوابع، وتسابقت الرياح، وتلبَّد بالسحب الفضاء، واكفهر وجه السماء، وأبرق البرق، وأرعد الرعد، وكانت ظلمات بعضها فوق بعض، ولعبت بالسفينة الأمواج، وأجهد البحار جهده، وأفرغ الربان حيلته، وأشرقت السفينة على الغرق، وتربص الموت من كل صوب وحدق، إذ ذاك يشق ضياؤك هذه الظلمات والمسالك، وتحوط رأفتك حول هذه الأخطار والمهالك، وتصل بحبال نجدتك المكروبين البائسين، وإذ ذاك يردد القلب واللسان: أنت أنت الله.

•••

وإذا ما اشتد السقم بمن أحاطته عناية الأطباء، وسهر الأوفياء، ونام بين آمال المخلصين ودعوات المحبين، ثمَّ ضعفت حيلة الطبيب، ولم ينفع وفاء الحبيب، واستحال الرجاء إلى بلاء، إذ ذاك تظهر جالسًا على عرش عظمتك، والنواصي خاشعة، والنفوس جازعة، والأيدي راجفة، والقلوب واجفة لتقول: أنا قضيت، ويقول الطبيب والقريب والحبيب: لك الأمر أنت أنت الله.

•••

وإذا ما باين الدنيا إنسان وباينته، إذ ينظر إلى المال فيلقاه فانيًا، وإلى الجاه فيلقاه فانيًا وإلى الأماني فيلقاها زائلة، وإلى الآمال فيجدها باطلة، وإلى الشهوات فيلقاها خادعة كاذبة، وإلى المسرات فيجدها آفلة غاربة، إذ ذاك يستغنى عن الجاه والمال، ويشل في نفسه حركة الآمال. وبين جاه يدول وأمل يزول، لا يملأ فراغ النفس إلا ذكرك أنت أنت الله.

•••

وإذا ما وقعت العين على زهرة تتفتق في الأكمام، أو تلاقت العين بعين يملأها الحسن والابتسام، وإذا ما أعجب المعجبون بجمال الفجر المتنفس، وتغريد الطير المتربص، وعاود الصدر انشراحه، وملأ القلب ارتياحه. إذ ذاك يشرق جبينك النوراني الجميل، فنراك أنت أنت الله.

•••

فبينما يمس النفس من مظاهر العظمة ومظاهر الوسعة ومظاهر الرحمة ومظاهر القدرة والقضاء، ومظاهر الدوام والبقاء ومظاهر الجمال، والجلال، اعتاد الناس أن يصفوك بالعظيم، والواسع، والرحيم، والقادر، والدايم، والجميل، والجليل، وأوتار القلوب تردد أنت أنت الله أنت أنت الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤