الكأس المرة

 القاهرة في ٩ من يونيه سنة ١٩١٥

قرأت في صحيفة من صحائفه ما يأتي:

«كان الحر في ذلك اليوم شديدًا. والسائر في أنحاء المدينة يستر وجهه من هبوب ريح سخينة محملة رمالًا مصفرة يخشى الصدر أن يصيبه أذاها فيستنشق نصيبه من الهواء بتؤدة وأناة وكان الناس يحاربون هذا الوجود الشاق على الأجسام باستمرار المثلجات لترطيب دمائهم ترطيبًا. ولما آذن النهار بالانصراف كأن ملائكة في السماء خلطت أنفاسها الطيبة في ذلك الجو فطفئ لهيبه شيئًا فشيئًا وترك القوم مضاجعهم إلى القهوات يستقبلون ليلة حلوة من ليالي القاهرة.

خرجت إلى القهوة في بدء المساء وكنت أكاد لا أجد لنفسي مكانًا لوفرة الجالسين فانتحيت جانبًا بين ذلك الجمع وكأنهم كانوا من الذين لم تحل بينهم هموم الأيام وصروفها وبين ساعة سرور تقضى في لذة الشراب.

الجعة الصفراء، مرغية، نقية، خالصة ينم عن برودتها بخار الماء المحيط بزجاج الكأس، ونسيم الليل المنعش يحمل رائحة حببها الخمرية إلى المشامِّ ليثير رغبة الشاربين، ونور الغاز شديد يظهر صفاء تلك الكؤوس المرصوصة صفًا صفًّا والساقون يروحون سراعًا بأكواب فارغة ويعودون بها ملأى والبؤساء من صغار الباعة، أو السائلين ينسلون دون أن يشعر بهم أحد؛ لأن السقاة شغلوا بعملهم والناعمين يلهون بنعيمهم وكأن هؤلاء البؤساء كانوا رسائل من عند الله يذكرون بتفاوت حظوظ الناس.

لفت نظري رجل بائس واهن القوى. نحيل الجسم ضعيف البصر، يحمل على كتفه العانية فتاة توسدته فنامت، وأسدل شعرها أصفرًا هملًا جميلًا على كتفيها الصغيرتين.

تنام الطفلة في الساعة التي من حق الطفل فيها أن ينام على فراش لين هادئ، ولكن المنكودة تنام في غير مأوى. يطوف بها والدها المجرم الجاني حيث فصلها من دمائه المعذبة لتنال نصيبها من الشقاء. لا أدري لماذا يلد الناس إذا لم يكن لأولادهم سهم في النوم الهنيء، ولا في الطعام المريء!

نظرت إلى الرجل فاضطرب رأسي بأفكار متناقضة وفؤادي بعاطفة ليست محدودة ولا مضبوطة، فكان يدفعني عامل من الشفقة والحنان، ويهزني عامل آخر من القسوة والظلم، ولربما كان في القسوة والظلم كيان هذا الوجود.

نظرت إلى الرجل نظرة متنمرة، ورفعت الكأس في يدي، وكأني كنت أتخيل نفسي جنديًا مظفرًا في معمعة كبيرة هائلة، قد نسى من لذة النصر ما تحت بصره من هول الموقف وبشاعة المنظر.

رفعت الكأس لأشربها في صحة الظافرين أمام من لا يجد خبزًا، أشربها صرفة أمام من يتجرع الذُّل والهوان، ولكن فرائصي كادت ترتعد من بقايا شفقة كانت في نفسي، ولم يكن ما ألقى من عسف العيش، وظلم الوجود، ومر الحياة لينزعها من ذلك الفؤاد.

شربت الكأس دفعة واحدة، على أن مذاقها قد كان وا أسفاه مرًّا …»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤