على مسرح الإدارة

 القاهرة في ٢٣ من يونيه سنة ١٩١٦

قرأت في صحيفة من الصحف ما يأتي:

من زمن غير بعيد، وأنا أمثل دوري على مسرح أعمال الإدارة، وكنت قبل ذلك أشتغل بالزرع، وأدير شؤون فئة من العمال يسعون تحت عيني في أعداد الأرض، وتهيئتها؛ لتنبت رزقنا جميعًا. كنت أساجلهم الحديث، وكأني بهؤلاء الفقراء لا شكاة لهم من الفقر، ولا يتذمرون منه؛ لأنهم يملكون متاعًا طيبًا غير المال بجانب رزقهم الضئيل، يملكون الهواء الطلق، ورئتين واسعتين تخرج قهقهة الضحك عالية، وتهز الهواء هزًا. يملكون زهر الربيع، ودرّ الندى، ونور الفجر المنبثق، وجمال الأصيل، وهدآت الليل الساكن، وكواكب الصيف الريفي الجميل.

كنت قرير النفس بأعمال الحقول، وكادت تنسيني الحياة الريفية الرتيبة، التي قلَّ ما يتناولها التغيير كثيرًا مناظر العوز والفقر الفاشي بين سكان المدينة، على أنني لما عدت إلى القاهرة، واستبقاني صحابي بينهم، وساقني القضاء المحتوم إلى عمل عام في منصب من مناصب الإدارة، تبينت إذ ذاك صورة جديدة من أحوال البشر. صورة التنافس في السلطة، والمكر السيئ والمكر المحمود، والخديعة، والحسد، والجبن، والتشفي، والنفاق، والرياء، وغير ذلك من صفات تلصق بالجماعات التي تتعدد فيها الوظائف، وتتفاوت فيها مراتب الموظفين.

بين هذه الوجوه كنت أرى الوقت بعد الوقت وجهًا شاحبًا خجولًا وجلًا، يلعب به الرجاء، ويصرعه اليأس. وجه الفقير يلتمس عملًا ليأكل خبزًا، ويحمل ملتمسه على قرطاس جميل بخط جميل واهمًا أن جمال الطلب وسيلة لقبوله.

كنت في بدء حياتي الإدارية كثير العناية بهذه الطلبات أقرأها، واستعيد قراءتها، وأحملها مسرعًا إلى رؤسائي آملًا أن تصيب قبولًا، فأحمل البشرى عن ارتياح وسرور.

تكررت هذه الطلبات، وتكرر رفضها من الرؤساء، وألفت شيئًا فشيئًا قساوة هذا الرفض، وبعد أن كنت أحمله إلى أربابه متلطفًا متأسفًا أصبحت أحمله إليهم، كما أحمل أي نبأ لا يتحرك له الفؤاد.

سافر رؤسائي إلى مصايفهم وزودوني ضمنًا بنزعاتهم ووكلوا إليّ بعض الأعمال، فمن أيام تناولت كتاب رجل من القوم الذين يمضون نهارهم في البحث عن عمل صغير في المصالح، أو كتابة خطابات لرؤسائها يسترحمون ويتظلمون إليهم من الفقر وحمل العائلة.

كان لهذا الكتاب ميزة تظهره على أمثاله، كان مرسومًا على ورقة نزعت من كراسة تلميذ في بدءِ سني دراسته، والورقة مصفرَّة والمداد الذي كتب به، كأنه مداد طفل طالما خلطه الطفل بالماء.

واليد التي خطته هي يد عانية، لا تجيد رسم الحروف، والقلم الذي صاغه لا يحسن صوغ الجمل. ليس في الخطاب أكثر من المعنى الذي تعوَّدنا وعيه من مثل ذلك الكتاب.

الرجل فقير وذو عائلة، ويلتمس من مراحم صاحب السعادة عملًا ليأكل منه الخبز، وهو يدعو لصاحب السعادة عند الله بطول العمر.

كان ذلك الخطاب في مجموعه كالأمل الشاحب الضعيف وضعته أمامي، وغمست الريشة في الحبر الأحمر، ورسمت عليه كلمة الإهمال التي علمنيها أصحاب السعادة الرؤساء!

رسمت الكلمة بغير رفق فتمزق من الخطاب شيء ونثرت الريشة قطيرات حمراء، كأنها دم الفقير انتثر من قلب ممزق.

ناديت الكاتب ليحمل هذا الأمل الضعيف المهزوم.

ناديته ليحمله ويقبره في أضمامة الأوراق المهملة مع أشباهه، ولعله هناك يتضامّ إليها ليشكو إلى الله حال صاحبه فإن الله رحيم، ولكنًّه نزع الرحمة من نظام الأعمال الاجتماعية، فليست الرحمة من قواعدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤