واسع الرحمة

 القاهرة في ١٦ من أكتوبر سنة ١٩١٦

سرت من نحو ثلاثة أيام في جنازة متوفاة على دين المسيح ابن مريم، وقد ألفت كما ألف غيري مرأى جنازات النصارى، فليست غريبة عندي الرسوم التي يتخذونها في تشييع أمواتهم، ولكن كانت تلك هي المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى مقابرهم في تشييع راحل عن هذه الدنيا.

رأيت في قبورهم حسن النظام، وتصوير الأبدية في صورة تجمع إلى جلال الموت جمال السكون. على أن ذلك لم يكن ليغرب عني، فإن الرقى المدني الذي اختلطت به حياة الفرنج، لا بُدَّ أن يكون له أثر في جميع نظمهم في الحياة وعند الممات.

وصل المشيعون إلى المقبرة. وهناك خفَّ وطؤهم، وخشعت أبصارهم، ونزلت عليهم السكينة وحيًا من عظمة الموت؛ بل من جلال الأبدية وعظمة الفناء.

لفت نظري، بين هذه المناظر المرهوبة قوم من السائلين المسلمين، ينتظرون عند الباب العطف والرحمة.

لقد أحسن هؤلاء البائسون في اختيارهم تلك المواقف عند أبواب القبور، فإن المرء بعد زيارته هاتيك المواطن المحترمة يخفض من كبريائه ويرق قلبه، ويصبح رءوفًا بالضعيف، حنَّانًا على السائل المحروم.

لفت نظري ذلك؛ لأن عاطفة الرحمة تمثلت لي في هذا المكان وفي تلك الساعة في أجمل صورة يجب أن تكون عليها الرحمة. عاطفة تخرج من جانب القلب في سبيل الله إلى كل عاجز ضعيف. عاطفة طاهرة لا تبصر إلا الضعف والحرمان.

رأيت على باب مقبرة النصارى سائلين من المسلمين. وما أحسبني رأيت قط في مقابر المسلمين مسيحيًا يطلب الإحسان.

يا ليت شعري! أراجع ذلك إلى طبائع الجماعتين في فهم معنى الرحمة، وفي الجود بها، أم أحسن المسلمون إذ فهموا أنًّ الرحمة لا دين لها، فأصبحوا يلتمسونها عند مقابر من ليسوا على دينهم، وأساء النصارى القيم، فزعموا أن الرحمة لا تخرج خالصة لهم من بين مقابر المسلمين، فلم يطلبوها لدى أبوابها؟

أما آن للناس أن يفهموا أن في الصدور عواطف تودُّ لو تعيش فوق المذاهب والاختلافات، وأن أحقّ العواطف بالرعاية في نزعاتها الحرة عاطفة الرحمة. كتبها الله على نفسه، وهو واسعها لعباده جميعًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤