الليلة التاسعة

حي الأموات بلوزان

زارني الروح الحائر، فلمَّا هدأ رَوعي بُعيد رؤيته قال: «إنني قادم من مكانٍ بعيد.» قلت: «من أين؟» قال: «تاقت نفسي لرؤية المقابر، فلَم أشتهِ رؤية مقابركم؛ فذهبت إلى بلدٍ جميل فيه قبور إن لم تُحبِّب بحُسنها الموت للقادمين عليه فهي لا تُنفِّرهم من مضاجعهم الأبدية، وطُفت بها، وذكرتُ يومًا من أيامي على الأرض؛ إذ كنتُ أطوف بمقبرة أخرى تشبه هذه في الحزن، فقد جالت في نفسي أفكار شتَّى، وكسبتُ من اللحود عظاتٍ عُظمى.» قلت: «حدثني — أيها الروح — بحديث المقابر.»

قال: كنت يومًا في بلدٍ من بلاد الغرب، فخرجت ألتمس فرجًا من ضيقٍ عراني، وسِرتُ على غير هُدًى، ولست أدري كيف وجدتُ نفسي في طريقٍ مهجورة لا يرى فيها عابر السبيل سواه إلا كما يرى الضالُّ في الفلاة ضالًّا مِثلَه، غير أنَّني كنتُ استخرتُ النظر في اختيارها، ولمَّا كان بين العين والنفس رابطة وكانت نفسي تشعُر بحزنٍ وانقباض؛ فلا غرابة إذا حسُن لعيني أن تسير حيث لا أرى أحدًا، وقد شعرت بالانفراد في تلك الطريق حتى خُيِّلَ لي أنني أول من سار فيها من بني البشر، وأوشكتُ أن أُصدق الخيال لولا ما أراه حولي من الأشجار المُنزرِعة على حافتيها، ثم رأيت في منحدر من الطريق لوحة كُتِبَ عليها Chemin de La Solitude؛ أي: طريق الوحدة، فقلت: أشهد أنَّ من اختار الاسم حكيم.

سرتُ في طريق الوحدة وقد هدأ رَوعي قليلًا بعد أن علمتُ أنه سبقني غيري إلى هذا السبيل، وشعر السائرون به قبلي بالوحدة حتى جعلوها اسمًا عليه، وما زلتُ سائرًا حتى بلغتُ فسحة كبيرة تلتقي لديها ثلاث طرقٍ وتفترِق، فإحداها تبلُغ براكبها شاطئ بحيرة ليمان، والثانية تقوده إلى بعض قرى «الكانتون ديفو»، والثالثة دلَّتني على غِرَّةٍ منِّي إلى حديقة كبيرة حسبتُها في مبدأ الأمر تابعة لقصرٍ من القصور أو مُتنزَّهًا جاد به مجلس المدينة على الغرباء.

لمَّا توغَّلتُ في ذلك البستان رأيتُ أعمدةً من المرمر الأبيض وأخرى من الرخام الأسود وألواحًا من حجرٍ عليها أسماء وألقاب وآيات من الإنجيل والتوراة، فوقفتُ بغتةً باهتًا دهشًا وقلتُ بصوتٍ سمِعَه ألوف الألوف ممَّن يسمعون ولا ينطقون: «إنني أجوس خلال المقابر!» وعند ذلك شعرتُ بعواطف مُتضاربة في صدري، فخالَجَني السرور في أول الأمر؛ لبلوغي على غير عِلمٍ مكانًا كنتُ أود زيارته، ثم اعتراني حزن؛ لأنني ذكرتُ نفسًا أعز عليَّ من نفسي ودَّعتها منذ أمدٍ بعيد وحُقَّ لي أن أعُدَّها — وا أسفي — في عداد الأموات، ثم ذكرتُ في الحال أنني في يوم من الأيام — ولا أظنُّه بعيدًا — سأرقُد رقدةً كتلك الرقدات يكون فيها بيني وبين الأرض صخور وأحجار تمنع أصوات الأحياء أن تستأذن على أذني، وتعوق جلبتَهم أن تُقلق راحتي أو تُكدِّر عليَّ وحدتي وتقطع أحلامي في رقدتي.

ثم هدأتْ تلك العواطف المُضطربة وعُدت لنفسي، وساد سلطان العقل على جنود الخيال، فأول ما حوَّلتُ نظري إليه كان الجمال الشامل والسكون الكامل؛ لأنَّ الوقت كان بعد الغروب بقليل، وكان الجو غاية الاعتدال، وإذا اعتدل الجوُّ في هذه البلاد سكنتِ الرياح وهدأتِ الطير في وكناتها، وصفا وجه السماء. ولمَّا كانت المقابر على مُرتفع من الأرض، فالواقف في وسطها مِثلي يملك منظر البحيرة التي كانت كمرآةِ الحسناء نقاءً، ومنظر الحقول الخضراء المُبرقشة بأشجارٍ ذات قطوفٍ دانية وثمارٍ آن لها أن تُجْنَى، ومنظر المدينة عن بُعدٍ سحيق بجلبتها وضوضائها. وبعد أن حوَّلتُ نظري من البحيرة إلى الحقول ومن الحقول إلى المدينة ومن المدينة إلى المقابر شعرتُ للحال برهبةٍ أوشكتُ من شدتها أن أخِرَّ ساجدًا، ثم أحسستُ بأن السكينة دخلت على نفسي، وأن نزواتها قد كمنتْ ونزعاتها سكنت، وكنتُ قد آليتُ على نفسي أن أرقُب ما يدور فيها وما يطرأ عليها؛ ولذا استطعتُ أن أُفرِّق بين العاطفة الأولى التي جالَتْ في صدري وبين العاطفة الثانية التي تلتْها، ثم شعرتُ باختفاء الثانية عن عين العقل وقد تلتْها غيرها، وكانت هذه العاطفة ناشئةً عمَّا قرأته في صباي في الكتب عن عبرة الموت وعِظاته وآلامه، وكنت قد بلغتُ منتصف المقبرة وأنا أسير في طريقٍ مرصوف بالصفا، وكلما سمعتُ وقع أقدامي حسبتُ أنني أقترف جرمًا لا يُغتفر؛ فقد تزعج مشيتي هؤلاء الراقدين، ففيهم من هو حديث العهد بعالَم الأحياء، وإزعاجه بوقع الأقدام مُحرِّك لآلامه، ومنهم قديم العهد بالأرض فإنْ هو شعر بقادم تأفَّف وتضجَّر.

انتصف الطريق ورأيتُ أنني كلَّما توغَّلتُ ساد السواد، فكأنني كلما سرتُ خطوة ودَّعت الضياء واستقبلتُ الظلام، فعجبتُ لذلك، ونظرتُ ورائي فظهر لي أن التوابيت وُضِعَتْ بحيث يكون أقدمها عهدًا في آخِر الطريق التي أعبرُها وأحدثها في أوله؛ لذا كنتُ أمرُّ في سبيلي بموتى هذا العام ويتلوهم موتى العام الغابر وبعدهم موتى العام الذي قبله. ولمَّا كان على كل قبرٍ شجرة تُزْرَعُ يوم الرقدة الأخيرة؛ فالأشجار التي زُرعت منذ مائة عامٍ أكبر وأعظم وأغزر غصونًا وأورَفُ ظلًّا من الأشجار التي زُرعت منذ نصف قرن؛ لذا كنتُ كلما سِرتُ إلى الأمام سِرتُ في ظلال تلك الأشجار التي تحجب عني أغصانها نور النهار.

هذا قبر جميل من المرمر الأبيض مُحاط بسياج من المعدن الأبيض، وحوله شجيرات ذات زهور مختلفة الألوان، وبآخره عمود صغير مكتوب عليه «تذكار ولدي العزيز شارل، وُلِدَ عام ١٨٩٩، وتوفي ١٩٠٠.» إذن هذا طفل صغير عاش سعيدًا ومات سعيدًا، وهذا والد من والدَيه رآه وليدًا وودَّعه فقيدًا وتركه في الفقر وحيدًا، وليس لديه إلا تلك الكليمات!

هذا قبر كبير غير مُحاط بسياج، عليه آلة من آلات الموسيقى مصنوعة من الرخام، ولَوح كبير من الحجَر الأزرق كُتِبَتْ عليه هذه الكلمات «إلى هنري بوزيه من رفقائه وأبناء حرفته.» إنه قبر موسيقي عاش يُطرِب الناس بأنغامه حتى دعاه داعي الرَّدى فلبَّاه. ولكنني أرى ألفاظًا أخرى حُفِرَتْ في الصخر على عجلٍ ثم مُحِيَتْ على عجل، فما هي؟ دنوتُ من تلك الكلمات وقرأتها بعد تعَبٍ طويل، فقلتُ في نفسي: تبًّا لك أيها المازح، حتى مراقد الموتى لا تخلو من هذر المازحين. يظهر أنَّ هنري هذا كان موسيقارًا في ملعب، وكان له صديق يُحب المزاح فاسترق ساعة كتب فيها على القبر «لعل الله يختارك ويدخلك أركستر الجنة.»

سرت إلى الأمام قليلًا، ثم رأيتُ عطفةً تميل بي إلى طريق آخَر، فمِلتُ معها، ولم أوشِك أن أسير طويلًا حتى رأيتُ عجوزَين من النساء في ثياب الحداد وعليهما سيما الحزن الشديد وهما تسيران صامتتَين والأسى يتكلَّم، فلمَّا أن بلغتاني حيَّتْني إحداهما على غير المألوف، وهمسَتْ إحداهما في أُذن الأخرى؛ فدعاني ذلك أن أتبعهما بنظري، فرأيتُهما تسيران مُتلفِّتَتَين، فخُيل لي أنهما حسبتاني صديقًا قديمًا نسيَهُما، ولكنني رأيتُ واحدة تمسح دموع عينيها بمنديلها، فظننتُ أنَّ فقيدَها يُشبهني، فلمَّا رأتاني قالت واحدتهما للأخرى: ليتَه لم يمُت! وقالت الأخرى: لو كان هذا هو!

هنا بلغت العِظة الكبرى، ورأيتُ أجلَّ القبور، وهو جدث عالٍ عليه جلال وليس حوله زهور ولا سياج، إنما نُحِتَ من صخرةٍ تمثالُ كتابٍ ذي صفحات، وكُتِبَ على إحدى الصفحتَين الباديتَين بأحرُف سوداء واضحة: «إنني أنتظرك ١٨٩٩، بيير بيلي»، وعلى الثانية: «ها أنا ذا لوربيلي ١٩٠١.» وقفتُ باهتًا أمام ذلك القبر العجيب، بل ذلك الكتاب الحجَري الذي قرأتُ فيه آيةً من آيات الحياة، وإنها لأبلغ من آيات الحِكمة، وأي حكمةٍ أجلُّ من حكمة الموت! هاتان نفسان اتَّحدتا في العالَم الفاني، واتَّحدتا في العالَم الثاني، وكما كان يضمهما فراش واحد أصبح يضمهما جدَث واحد، وبعد أن كان قلب أحد هذَين الإنسانين يخفق وينقبض لفراق أليفِهِ هدأ بعد أن اطمأنَّ من شرِّ البعد؛ لأن اللَّحد لا يخرج من يدخله! ولكن كيف قضيتَ يا بيير هذين العامين مُنتظرًا؟! لقد لحِقك الضجر لا محال إذا كان الموتى يضجرون، كنتَ تُسلِّي نفسك بأن صاحبتك لن تُخلف الميعاد مهما كان أمد الانتظار طويلًا، وأنتِ يا لور كيف قضيتِ هذين العامين؟ أكنتِ تذكُرين كلمة رفيقك العزيز في كلِّ يومٍ فتفكِّرين في الموت صباح مساء وتستبطئين الفزع الأكبر، وتودِّين لو يأتي سراعًا لتلحقي بزوجك المسكين؟ أم كنتِ تنفرين من الذِّكرى إذا عرضتْ لك وتُفضِّلين ألا تزوري المقابر لئلا تدعوك الزيارة لوفاء الدَّين؟

هذه مقبرة الإنجليز وصلتُ إليها! فإذا هي على حدة. قاتلهم الله! يُحبون الاستقلال حتى في الموت ويُنكرونه على غيرهم في الحياة! قبر طفل وُلِدَ في أستراليا وتُوفِّي في لوزان، ما أبعد الشقَّة يا هذا الصغير! لقد نشأت في تلك القارة السحيقة المُحاطة ببحار الجنوب ذات السهول الشاسعة والصحاري القاحلة والوديان العميقة والأنهر المُتدفِّقة والحقول الغنية والأحراش التي لم تطرقها قدَم إنسان ولم يَجُسْ خلالها إلا الكنجرو ووحش البقر، ولربما ولدوك في كوخٍ بديع مُحاط ببستانٍ أنيق تُغرد على غصونه بلابل الصباح، ولربما كنتَ تلعب في طفولتك الأولى على ضفاف نُهير تسيل أمواجه عسجدًا، وحمَلوك إلى بلادٍ قصية قطعتَ في البلوغ إليها أشهرًا، شققتَ عباب تلك البحار، وقطعت أوصال تلك القفار؛ لترقُد على ضفاف بحيرة ليمان في ظلال الجبال الشاهقة، فلو علمتَ أنك سائر إلى حيث يُخَطُّ لك مضجعك الأخير أفلا كنتَ تفضل أن يُشقَّ لك لَحْد في أرض الذهب؟

هذا قبر إنجليزي آخَر كُتِبَ عليه: «عاش حرًّا، ومات حرًّا.» إيه لك أيتها الحرية، فإنهم يتغنَّون باسمك حتى في الموت، ويودُّون أن يُنْسَبُوا إليك ولو في القبور!

وهاك قبر نيكولا روسي، مات في عام ١٨٤٠ شهيد وطنه، جاهد في سبيل توحيد بلاده، ومات وهو يذكُرها بقلبه ولسانه «نمْ هادئًا يا روسي؛ فقد وُحِّدَتْ بلادك واستقلَّت، وأصبح علَم الحرية يخفق على ربوعها، وكمَنَ عدوُّكم في قصره لا يخرج من بابه، وقد مجَّدوا ذِكر أستاذك العظيم، فبلَغَه ذلك إن كنتم تلتقون، لقد وُفِّق غيرُكم — رجلان — من بني جنسك إلى تحقيق أمانيكم، إنك لم ترَ بلادك حرة مُتحدة، ولكن رآها غيرك، فهنيئًا لك ولأمثالك المجاهدين، تبذلون نفوسكم في سبيل أوطانكم وغيركم يبذلون أوطانهم في سبيل نفوسهم، إنهم الخاسرون! نمْ يا رُوسِّي؛ فإن أمثالك كثيرون، رحمة الله عليكم أجمعين.»

•••

سمعتُ خلفي صوت فأسٍ تشقُّ فؤاد الأرض، فنظرتُ فإذا أنا أرى على بُعدٍ رجلَين يحفران قبرًا. أهلًا بك أيها القادم الجديد، لقد ودَّعت عالمًا كله نفاق وشقاق، عالمًا كله مَعاصٍ وذنوب وجرائم تشمئزُّ منها النفوس النقية، لا يُسْمَعُ فيه إلَّا اللغو، ولا تُذَاقُ في جواره سوى الآلام والأحزان، يُهْضَمُ فيه الحق، ويُدَاسُ فيه الضعيف ويُهمل، ويفوز فيه القوي ببطشِهِ وبأسِه، عالمًا يسود فيه الأنذال والجهَّال وتقوم لهم دولة وصولة، ويُحقَر فيه أهل الفضل؛ لأنهم عاجزون عن مُجاراة الأسافل الأشرار في ميادين الخُبث والدهاء، لقد ودَّعتَ عالمًا يبحثون فيه منذ نشأته عن الحقيقة ولن يجدوها، ويتَّقون فيه الباطل ولكنهم يجدونه في كل زمان ومكان، عالمًا يُسْتَعْبَدُ فيه الحرُّ باسم الإنسانية، ويُقتل فيه العاجز؛ تحقيقًا لمذهب القائلين ببقاء الأنسب، وتُقْتَرَفُ فيه الآثام باسم الجهاد في سبيل الحياة، هذا هو العالَم الذي ودعته، ولستُ أدري كيف يكون العالَم الذي أنت عليه قادم، ولكنني أعلم أنك هنا ترقُد هادئًا تُظلُّك الأشجار وتهبُّ عليك نسيم الصبا حاملة روائح الزهور والرياحين، فنم واعلم أن في عالَم الأحياء من يحسدونك على تلك النعمة كثيرون.

دنوت ممَّن يحفر القبور، وهو لا شكَّ شخص مُخيف في نظر بعض البُله والمجانين، وبعضهم يتشاءم إذا رآه في الطريق أو مرَّ بداره ظنًّا منه أنه رسول الموت وحامل لواء عزرائيل، لا يدبُّ إلا ويقتفي أثرَه قابض الأرواح، ولا يزور قومًا في الغسَق إلا والموت ببابهم قُبيل الصباح، فنظرتُ في وجه الرجل كأنني أبحث عن آثار الشؤم، فإذا هو وجهٌ حسَن التقسيم، ولولا خوفي من تُهمة الإغراق قلتُ إنه وجهٌ مُبارك مَيمون. فقلتُ له: عِم مساءً يا أخي، أيُغْلَقُ الباب هنا عن قريب؟

قال: يُغْلَقُ الباب عند الغروب لولا ما دعانا اليوم إلى التأخير، وها أنت ترانا نحفُر لحدًا.

قلت: وهل يجوز أن يُدْفَنَ الموتى بعد الغروب؟

قال: إنها وحشةٌ ابتدأت منذ أمس ولن تنتهي، فلا فرْق بينها فوق الأرض وتحتها.

قلت: نِعم ما تقول، أتسمح لي أن أسألك سؤالًا يتردَّد في نفسي من زمنٍ طويل؟

قال: سلْ ما بدا لك.

قلت: أتعيش هنا في المقبرة؟

قال: وُلِدْتُ ونشأت في هذا البيت، وأشار بيدِه إلى كوخٍ صغير في مُنتهى الطريق مُحاط بغصون الصفصاف وعلى بابه شجرتان من السَّرو كأنهما حارسان لا يغفلان.

قلت: أَوَتقيم هنا طول حياتك؟

قال: وطول مماتي إنْ كان للموتِ طول.

قلت: وما هي العواطف التي تجول في صدرك؟ أتحزن إذا وارَيْتَ التراب عروسًا غضَّةَ الشباب؟

قال: كنتُ في بداية أمري أبكي على بعض القبور، أما الآن وقد حفرتُ بفأسي هذه خمسة آلاف قبر إلا قليلًا، فهيهات أن أبكي أو أتحسَّر!

قلت: «وكيف حالك في بيتك؟ ألا ترتعِب إذا جاء الظلام؟!»

قال: «ليس في الراقدين لصٌّ يتسلَّق الجدران، ولا غادِر يخون القوم وهم نيام، وإني هنا في مأمنٍ من شرور المدينة ومتاعبها.»

ثم سمعنا صوتَ قومٍ يتكلَّمون، وبَصُر الرجل بنعشٍ محمول، فقال لي: لقد شغلْتَني يا سيدي عن حفر مرقد ضيفي الجديد. ثم انحنى بالفأس على الأرض، فودَّعتُه وانصرفت، وكان الظلام قد خيَّم حتى إنَّ القادِمين كانوا يحملون مشاعل وأنوارًا، فأسرعتُ حتى بلغتُ الباب، وسِرت وطريق الوحدة، مُطرق الرأس، مفكرًا فيما رأيتُه وسمعتُه في مدينة الأموات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤